أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء

الجزيئات الصنعية ذاتية التكرار

الجزيئات الصنعية ذاتية التكرار

تستطيع الجزيئات المصنَّعة في المخبر أن تُنشئ نُسَخًا عن ذواتها وأن “تَطْفُر”

وتتنافس على الموارد وتتجمع على نحو يعطي مثالا للحياة

J. ريبيك، جونير

 

تخيل جزيئا يحب شكله بالذات: فعندما يجد نسخة أخرى عن ذاته يتواءم معها بسلاسة ويكوّن كيانا مكتملا لبرهة من الزمن. وإذا تلاقى الجزيء الأصلي مع الأجزاء المكونة لذاته، فإنه يجمعها في مكرَّرات إضافية. وتستمر هذه العملية طالما استمر توافر المكونات.

 

لقد قمتُ مع زملائي [في معهد ماسّاتشوستس للتقانة (MIT)] بتصميم واصطناع (تركيب) جزيئات كهذه قادرة على التجمع الذاتي في المخبر (المختبر). وقد كان الهدف من محاولتنا إلقاء الضوء على الطرق التي يمكن أن تكون قد أدت إلى ظهور الحياة. فلربما تكون الحياة قد بدأت عندما ظهرت للوجود جزيئات قادرة على تكرار نفسها. وتساعد جزيئاتنا العضوية، بالرغم من أنها تعمل خارج نطاق المنظومات الحية، على إيضاح بعض المبادئ الأساسية للتكرار الذاتي.

 

ومازالت محاولات تقليد الحياة في غاية الصغر مقارنة ببدايات ظهور الحياة على الأرض قبل ثلاثة بلايين ونصف البليون من السنين. ولا يعلم أحد، بشكل أكيد، طبيعة الظروف الجوية والأرضية التي كانت سائدة على سطح الكرة الأرضية في ذلك الزمان، كما لا يعلم أحد أيًا من الجزيئات عَبَر الحد الحرج الذي يفصل بين الكيمياء العضوية والبيولوجيا.

 

ففي عام 1953 أجرى <L .S. ميلّر> (الذي كان يعمل وقتذاك في جامعة شيكاغو) واحدة من باكورة المحاولات، إن لم تكن الأولى على الإطلاق، لتجديد هذا العبور (الانتقال) من الجزيئات العضوية إلى الجزيئات الحية، فصَنَع أحماضا أمينية من مزيج الماء والميثان والنشادر والهيدروجين (وهي مواد يعتقد أنها كانت موجودة على سطح الكرة الأرضية في الأزمنة الغابرة) وذلك عن طريق إخضاع المزيج لتفريغ كهربائي. وقد عزز هذا المطلب كل من <D .J. واطسون> و<F. كريك> من خلال اكتشافهما تركيب جزيء الدنا DNA عام  1953  أيضا.

 

لقد نسبت أكثر الافتراضات قبولا في العقود الماضية أصل الحياة إلى جزيئات الدنا والرنا RNA في الماء الدافئ المعتدل (ليس حامضيا ولا قلويا) إضافة إلى العوامل التي أعتقد أنها تشكل جزءا من جو الأرض البدائي. وقد قدم المختصون في كيمياء ما قبل الحياة مثل ميلّر و  (من معهد سالك للدراسات البيولوجية في سان دييگو بكاليفورنيا) تبصّرات عميقة بشأن التكرار (التنسُّخ)replication الجزيئي في هذه الظروف. وفي الواقع، فإن عددا لا يحصى من الأطنان من مادة الدنا يتكاثر بالتكرار كل يوم في المخلوقات بالطريقة ذاتها تحت إشراف حشد من الإنزيمات (الإنظيمات).

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004934.jpg
ARNI جزيء ذاتي التتام (التكامل) self-complementary (في الأسفل)، يجمع المكونات التي يحتاج إليها وهي أدنين ريبوز (الطرف الأيسر العلوي) ونفثالين إيميد (الطرف الأيمن العلوي) ليكرِّر نفسه. تشير الكرات الزرقاء إلى ذرات النتروجين والكرات الحمراء إلى الأكسجين، أما الهالات المحيطة بالذرات فإنها تشير إلى تلك الذرات الضالعة في الربط الهيدروجيني. (الجزيء ARNI هو مركب أدنين ريبوز نفثالين إيميد).

 

لكن الدلائل الحالية تشير إلى أن الأرض البدائية ربما لم تكن ملائمة تماما للتكرار الجزيئي مثلما هي الحال مع مثال البركة الدافئة [انظر:

“,…In the Begining”

by John Horgan

Scientific American, February 1991].

مثل تلك الشكوك اقترنت مع اكتشاف أحياء تعيش في حرارة الدم الفاسد المتخثر أو قريبا من الفتحات البركانية الكبريتية في قعر المحيطات، في الإيحاء للعلماء بأن الحياة ربما ظهرت باتباع طريق مختلفة كليا. وإن الخواص الوحيدة الضرورية لتشكل الجزيئات التي أصبحت حية قد تم تفصيلها في كتابين متميزين بقلم <R. داوكنز> تحت عنواني: صانع الساعات الأعمى The Blind Watchmaker والجين (المورِّثة) الأناني The Selfish Gene. ومع أنه تم تأليف هذين الكتابين منذ خمسة عشر عاما فإن رسوم داوكنز قد صورت على نحو مدهش النتائج التي حصلتُ عليها من عملي في السنوات الأربع الماضية حول التكرار الذاتي.

 

تكون الجزيئات الطبيعية أو الصنعية قابلة للتكرار (التنسُّخ) replicationعندما تكون أشكالها وبنيتها الكيميائية ذات ملمح يقال فيه إنه مُتَتامّ (متكامل)complementary. وبفضل الأسلوب الذي يشغل به  الجزيء  حيزا، وكذلك الأسلوب الذي تتوزع به ذراته أو زمر ذراته الجاذبة على طول أذرعه، يمكن لهذا الجزيء أن يتلاءم بإحكام في الزوايا والشقوق الكيميائية لجزيء آخر. وهكذا تعتمد “جودة الإحكام” بين مثل هذا الزوج من الجزيئات المتتامة لا على بنيتهما الحيزية (الفضائية) فحسب، بل وعلى الأنماط المختلفة للروابط الكيميائية التي تربط بينهما في مجموعات. وتتشكل مثل هذه المجموعات ـ أو “المعقدات” ـ وتتفكك في أجزاء من المليون من الثانية أو أقل من ذلك بكثير، وهو زمن وإن كان قصيرا جدا فإنه يعتبر كافيا في طوله لحدوث التفاعلات الكيميائية.

 

إن القوى التي تحافظ على ارتباط المعقدات أضعف بكثير من الروابط التساندية (التشاركية) covalent bonds  التي تربط بين الذرات في الجزيئات. وإن أبرز نمط من هذه القوى في المعقدات هو الرابطة الهيدروجينية. فهذه الرابطة تتشكل حينما تنجذب ذرة الهيدروجين الحاملة لشحنة إيجابية إلى ذرة الأكسجين الحاملة لشحنة سالبة على سبيل المثال. وتندرج أعم الانجذابات من هذا القبيل تحت اسم التآثرات القطبية polar interactions.

 

تعتبر قوى “ڤاندر ڤالز” van der Waals نمطا آخر من القوى الأقل: فإذا ما توضعت الإلكترونات في  الجزيء  بشكل صحيح فإنها تستطيع دفع إلكترونات جزيء آخر محدثة بذلك عدم توازن في الشحنة يسبب التجاذب. وثمة نمط ثالث من الانجذاب يدعى “التكديس العطري” aromatic stacking وهو ترتيب تتخذه الجزيئات العضوية المسطحة (التي غالبا ما تتمتع برائحة مستحبة، ومن هنا جاءت تسميتها). وتتخذ الجزيئات أحيانا هذا الترتيب حينما لا تحب المذيب الذي تجد نفسها فيه، فتتكدس سطوحها المنبسطة إلى جانب بعضها البعض وتعصر إلى الخارج جزيئات المذيب الموجودة بينها لتأخذ بنيانا أكثر استقرارا وتماسكا.

 

عندما يتشكل المعقد، فإن السطوح الجزيئية المتضاهئة تصبح أكثر حماية نسبيا. وبذلك فإن المذيبات المخربة والحموض المنحلة والأسس والمؤكسدات لا تستطيع بلوغها، وهكذا يتاح الوقت للروابط التساندية القوية لربط الأجزاء المتتامة فيما بينها. ويتصل في بعض الأحيان جزيئان في المعقد أو ثلاثة جزيئات بعضها مع بعض، ويقوم الجزيء الثالث عندئذ بتسهيل العملية.

 

تفضي مثل هذه المزاوجة coupling إلى مخطط شائع للتكرار (التنسُّخ)، أبرز مثال عليه هو الدنا. ويستخدم وصف بسيط لهذه الخطة أشكالا محدبة ومقعرة. فسطح  الجزيء  المقعر الذي يتحاذى مع ذرات منجذبة إليه بشكل مناسب يستطيع أن يتعرف متتامه المحدب وأن يحيط به. وعلاوة على ذلك، فإنه يستطيع القيام بدور قالب لتجميع  الجزيء  المحدب من المكوِّنات التي يتألف منها. وهذا بدوره يقوم كمرصاف template لحشد الأجزاء المكوّنة للجزيء المقعر ودمج بعضها مع بعض. إن حادثتي التكرار هاتين (على النحو الذي يشكل فيه كل جزيء  الجزيء  الآخر) تؤسسان ما يدعى “الدرّاجة bi-cycle. [انظر الشكل السفلي في الصفحة التالية]. وتبيّن تجاربنا الحديثة أن الدرّاجة هذه يمكن أن تكون على درجة كبيرة من الكفاية.

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004935.jpg

يحدث التعرّف الجزيئي عندما تتمّم الخواصُ الهندسية والكيميائية لقطعتين إحداهما الأخرى وتشكلان معقدا. تشير الإشاراتين (+) و (-) إلى التجاذب الكهربي الراكد. وعلاوة على ذلك يتم عصر المذيب نحو الخارج بين الجزيئات مما يساعد في استقرار المعقد ذي العمر القصير.

 

ثمة نموذج آخر للتكرار، يتصل فيه جزيئان متتامان في معقد ما عند موضع معين لا يقع على سطح التعرّف recognition surface، بحيث يشكلان جزيئا مفردا تكون إحدى نهايتيه متتامّة مع النهاية الأخرى، ويكون كامل الجزيء متمِّما لذاته [انظر الشكل السفلي في الصفحة التالية]. وهنا تبقى سطوح التعرّف عند نهايتي هذا الجزيء الجديد المتمم لنفسه متاحة المنال لجزيئات أخرى. ويستطيع كل من النهايتين الاجتماع بقطعة مماثلة لتلك الموجودة عند النهاية الأخرى.

 

هذا ولا يستطيع المكوِّنان الجديدان بعد اجتماعهما أن يتحركا في الحيز بحرية وأن ينتقلا مترادفين أحدهما خلف الآخر، إذ إن فرص ارتباط أحدهما بالآخر تتعزز كثيرا. وبذلك يشكل هذا الكيان المتتام ذاتيا نسخة بل وعدة نسخ عن ذاته بأسلوب مماثل من دون الحاجة إلى إنزيمات؛ لأن الجزيء يحفز catalyze تشكيل ذاته.

 

لقد استخدمنا هذه الطريقة بالذات في المخبر لصنع جزيئات قادرة على التفاعل فيما بينها بطرق تذكر بالحياة. ومن بين هذه الجزيئات، جزيئات تبدي شبها كبيرا بالمادة الوراثية وعلى وجه التحديد بمكونات الحموض النووية التي تعرف بالأِدنينات adenines. وهذه الأخيرة جزيئات مسطحة ذات ذرات هيدروجين ونتروجين تستطيع تشكيل روابط هيدروجينية مع ذرات الأكسجين والهيدروجين التابعة للجزيئات المتتامة والتي تدعى الإيميدات imides. وتنشأ إيميداتنا من جزيئة حدباء تسمى حمض كمب الثلاثي Kemp triacid يتطوّى هيكلها على نفسه بطريقة تسمح بإعطاء بنى مقعرة كبيرة انطلاقا منها بكل سهولة. وبذلك فإن الإيميد يصوغ موضع ربط هيدروجيني يتصل بشكل متلوٍ بسطح تكديس عطري. وتتلاءم هذه التركيبة بشكل محكم مع موضع الربط الهيدروجيني والسطح التكديسي المنبسط للأدِنين.

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004936.jpg

تتضمن درّاجة التكرار جزيئين متصفين بشكلين متتامين (متكاملين) على شكل سدادة (A) وكمّ (B) متلائمين. ففي الدائرة اليسرى تجمع السدادة (في الوسط) جُزْءَي الكم (في الأسفل) حولها لتصنع معقدا (في اليسار). تتفاعل الأجزاء بعد ذلك لتشكيل الكم بكامله (في الأعلى). يتم انفكاك السدادة والكم بسرعة. أما في الدائرة اليمنى فإن الكم يقوم بتجميع أجزاء السدادة وبذلك فإن الجزيئين المتتامين يحفز أحدهما تشكيل الآخر.

 

عندما يتصاحب الأدنين والإيميد في معقد ما يغدوان متصلين أحدهما بالآخر برابطة تساندية ويشكلان جزيئا ذاتي التتام self-complementary. ولقد أُحبطت محاولاتنا المبكرة للحصول على تكرار ذاتي لهذا  الجزيء  بسبب تثنّيه غير المتوقع. ومع أن بعض المرونة يفيد في التعرّف الجزيئي فإن المزيد من المرونة قد يجعل الملاءمة أمرا صعبا للغاية. فبقدر ما يسهل لبس الحذاء الجلدي مقارنة بالحذاء الخشبي يصعب لبس الجراب من دون استخدام اليدين.

 

تغدو الجزيئات رخوة التثنّي floppy إذا كانت ذات روابط منفردة تتضمن إلكترونين فقط لكل رابطة. فمثل هذه الرابطة تسمح للأجزاء التي تربطها بالانفتال بعضها حول بعض، بحيث تعطي عددا من الأشكال المختلفة. فعندما وصل أحد تلامذتي <T. تجيڤيكوا > (من ناميبيا) الأدنين بالإيميد برابطة تساندية كان عليه أن يتعامل مع سلسلة من ذرات الكربون. وكانت السلسلة طويلة ومرنة لدرجة أدت إلى تضاعف البنية الحاصلة (ذات التتام الذاتي) وانطوائها على نفسها كالمطوى عندما يرتد منغلقا. وكان من نتيجة مطابقةfitness الأدنين للإيميد بشكل محكم أن جعل  الجزيء  المكتفي ذاتيا لا يعبأ بمصاحبة أي جزيئات أو بالتكرار فقط.

 

ولحسن الحظ فإنه يمكن رأب هذا الموقف بعلاج يستدعي إدخال جزيء أكبر وأكثر صلابة ليحل مكان السلسلة المفردة بغية الحيلولة دون تطويها. وقد وقع اختيارنا على سطح تكديس أكبر (هو النفثالين naphthalene) تَسْنِده وصلة أقل مرونة بين المكونين مؤلفة من زمرة الريبوز الحلقية.

 

لقد قدم لنا الجزيء ذو الشكل J المكوّن من (الأدنين ـ ريبوز ـ نفثالين ـ إيميد) 6 (اختصارا ARNI) أول حالة من حالات تكرارنا. وباستخدام الكروماتوگرافيا (التسجيل الصباغي) السائلة العالية الأداء للتحري عن التبدلات الطفيفة في التراكيز الكيميائية تمكّن تجيفيكو و (وهو أستاذ زائر من مايوركا) من تحقيق النتيجة ـ فقد أجريا مقارنة بين نسبة تشكل  الجزيء  ARNI في المحلول الحاوي على مكوناته فقط وبين نسبة التشكل لدى إضافة بعض من هذا  الجزيء، فتبين لهما أن وجود  الجزيء  ARNI قد زاد سرعة التشكل، وهو دليل واضح على  وجود منظومة تكرار ذاتي.

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004937.jpg

يمثل المنحنى S (اللون الأحمر) تفاعل تحفيز ذاتي عندما يجري رسم مخطط ناتج التفاعل بدلالة الزمن. يتشكل  الجزيء  في البداية ببطء، وبينما هو يحفز اصطناع نفسه يتسارع التفاعل فجأة ثم يتباطأ فقط عندما تُستهلك المواد المتفاعلة وتنضب. وتأخذ التفاعلات التقليدية (اللون الأزرق) ببساطة شكل القَطْع المكافئ.

 

إذا رسم أحدنا مخططا بيانيا لمسيرة التفاعل بدلالة الزمن فإنه يستطيع اشتقاق منحن يتخذ شكل قَطْع مكافئ ينحني نحو الخلف. وتكون أكبر سرعة لتشكل الناتج في البداية حينما تكون المواد المتفاعلة في أعلى تراكيزها، ثم تتباطأ سرعة التشكل كلما زاد استهلاك المواد المتفاعلة وانخفض تركيزها. وبالنسبة لتفاعل ذاتي التحفيز autocatalytic  على شاكلة مستحضرنا  الجزيء ARNI الذي يحفِّز تشكيل نفسه فإن منحني نمائه لا بد أن يكون على شكل الحرف S، أو “منحنيا أُسِّيًا” [انظر الشكل أعلاه]. إذ يبدأ التفاعل بطيئا، ثم يتسارع عندما يظهر الناتج ويبدأ عمله كمحفز catalyst  ليأخذ مظهر منحن نحو الأعلى. وأخيرا يَخْفُت التفاعل ويتوقف عندما تُستهلك المواد المتفاعلة وتنضب.

 

تعتمد درجة الانحناء الأُسِّيّ على بضعة عوامل أهمها كفاية الخطوة التحفيزية. فإذا ما كان التفاعل القاعدي (تفاعل الخلفية) background reaction، الذي تتحد فيه المكونات بعضها مع بعض من دون مساعدة  الجزيء  المتكرر ذاتيا، يتم بقوة كبيرة فإنه يستطيع إغراق الإشارة الناتجة من عملية التكرار الذاتي. وقد بين  ومساعدوه (في گوتنگن) أن الحمض النووي الذاتي التكرار يستطيع أن يبدي مثل هذا النماء الأسّي مما يثبت أن الاصطناع (التركيب) الذاتي التحفيز ـ في هذه الحالة ـ هو أكثر فاعلية من التفاعل العشوائي.

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004938.jpg

يحدث التكرار الذاتي عندما يتصل جزيئان متتامان (A و B) أحدهما بالآخر في موضع فعال آخر (في اليسار) عوضا عن أن يتلاءم أحدهما مع الآخر على نحو ما يحدث في مثال دولابي (عجلتي) الدراجة، ونتيجة ذلك الاتصال يشكل الجزيئان جزيئًا ذاتي التتام (في الوسط). يجمع هذا  الجزيء  بعد ذلك نسخا من المكونات الأصلية (في أعلى اليمين) ويضمهما إليه بحيث يستطيع أحدهما أن يتفاعل مع الآخر وتكون النتيجة تشكيل نسخة منه (في أسفل اليمين).

 

على الرغم من أن  الجزيء  ARNI لم يبدِ تناميا أسّيا فإن تجربتنا الثانية على  الجزيء  ARBI حققت ذلك. فلقد خفضنا سرعات التفاعل القاعدي عن طريق إعطاء  الجزيء  ARBI عنصر تكديس أطول نسبيا كالبيفينيل biphenylبدلا من النفثالين. فأصبح لدينا الآن بيّنة لجزيء صنعي حقيقي ذاتي التكرار.

 

هل يُعتبر  الجزيء  ARBI جزيئا حيا؟ لا يصح ذلك حسب التعاريف الدارجة. ولقد سارع منتقدونا للدلالة على وجود قيود صارمة في وجه اعتبار  الجزيء ARBI شكلا من أشكال الحياة. فهذا  الجزيء  يستطيع أن يصنع نسخا عن ذاته فقط. ولاكتساب أهمية تطورية، يجب على  الجزيء الذاتيّ التكرار أن يكون قادرا على “صنع أخطاء”، بحيث يصطنع من حين إلى آخر جزيئات أخرى قد تكون أكثر كفاءة في تكرار ذاتها. إن النقاد العلميين (بعكس نقاد الفن والموسيقى) يبيِّنون على الأقل الاتجاه الذي يمكن أن تكمن فيه التحسينات. وقد استجبنا للنقد باستنباط جزيئات قادرة فعلا على صنع أخطاء، ولا تقدر إلاّ أن تفعل ذلك.

 

يحدث “الخطأ” في الكيمياء العضوية عندما تُفتقد الاصطفائية بين شركاء التفاعل. ويتطلب ذلك توافر جزيء لا يحفِّز تشكيل نفسه فقط بل ويحفِّز كذلك تشكيل جزيء ذي شكل مشابه. وعلاوة على ذلك يجب أن يكون أحد هذين الجزيئين على الأقل قادرا على أن يتحول إلى مُكَرِّر replicator فعّال.

 

يمكن التعامل، بسهولة، مع  الجزيء  لينخرط في صنع مكرَّرات replicas من جزيء ينافسه، ولكن إضفاء صفة المقدرة على “التطور” evolution يتطلب المزيد من التخطيط. وفي سياق بحثنا عن حل، ركزنا على بعض الاكتشافات السابقة المتعلقة بمواضع الربط الهيدروجيني للأدنين. فثمة طريقتان لربط الإيميد بالأدنين. فقد يجد الإيميد موضعا للارتباط على طول حافة “واطسون ـ كريك” الضالعة في تكرار (تنسُّخ) الدنا أو قد يرتكز على حافة هوگستين Hoogesteenedge، وهي منطقة مكشوفة عادة في الدنا (على الرغم من أنها تتلاصق أحيانا بأشكال غريبة لتعطي لوالب (حلزونات) helices ثلاثية).

 

لقد سبق أن بيّنا أن الأدِنينات البسيطة تستطيع أن ترتبط بإيميداتنا على طول أي من الحافتين. وعلى سبيل المثال، تتكوّن كميات متساوية تقريبا من معقدات واطسون ـ كريك ومعقّدات هوگستين عندما يرتبط الإيميد بسطح نفثاليني. لكن الموقف يتبدل إذا ما استُبدل أحد الهيدروجينين في الزمرة الأمينية (NH2) للأدنين، التي تسهم في الربط الهيدروجيني، لتحل محله زمرة جزيئات أكبر. فهذه الزمرة الجديدة تضع
نفسها في موقع يجعلها تحول دون الوصول إلى حافة واطسون ـ كريك في حين تترك حافة هوگستين مكشوفة إلى حد كبير. فعندما ترتبط زمرة مثيل صغيرة بالأدنين. على سبيل المثال، فإن أكثر من 85% من مستقبلاتنا الإيميدية الصنعية ترتبط على طول حافة هوگستين.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004939.jpg

تتشكل “جزيئات طافرة” عندما يتصل الأدنين الحامل لزمرة إضافية R مع بيفينيل إيميد لتشكيل جزيء ذاتي التتام. ويمكن أن تكون الزمرة R ذات Z (بنزيل أوكسي كربونيل) أو ذات Z-NO2لتعطي على التتالي الجزيئين ZARBI و ZNARBI. ويستطيع  الجزيء  الأخير أن يجمع الأدنين على حافة هوگستين [تحصر الزمرة R الحافةَ واطسون ـ كريك] ويدمجه مع بيفينيل إيميد محفزا تشكيل نفسه وتشكيل صنوه (أي منافسه) أيضا. تشير الأشكال البيضاوية الحمراء إلى الربط الهيدروجيني.

 

لقد قررنا استثمار هذا التبدل في سرعة التكرار الناجم عن سدّ (إحصار) حافة واطسون ـ كريك. لذلك فقد حضّرنا أدِنينَيْن مختلفيْن يحمل أحدهما زمرة بنزيل أوكسي كربونيل benzyloxy  carbonyl أو اختصارا الزمرة “Z” (وهي زمرة شائعة لوقف الأصطناع البروتيني)، ويحمل الآخر زمرة Z  مع زمرة نتروجينية إضافية (على شكل Z-NO2). وكانت الخطة تتلخص بما يلي: يتجمع الأدنين المعدل والإيميد على مرصاف template  المستحضر كما هي الحال سابقا، لكن الزمر السادّة (المُحْصِرة) blocking groups  ستكون متدلية خارج  الجزيء  في مواضع بعيدة تماما عن مواضع تشكل الروابط التساندية. وبذلك فإن الزمرة Z في إحدى النهايتين لن تعرف ما إذا كانت الزمرة السادة عند النهاية الأخرى هي الزمرة Z أو الزمرة Z-NO2. فلا بد أن يحدث الاصطناع بغض النظر عن هويتي الزمرتين.

 

“شجرة عائلة” المكرِّرات

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004940.jpg

يستطيع محلول يحتوي على قطع جزيئية متتامة أن يولد بضعة جزيئات ذاتية التتام متنوعة. يصنع الأدنين ريبوز والبيفينيل إيميد، عادة،  الجزيء  ARBI. وإذا ما احتوى المحلول، إضافة إلى ذلك، على ثنائي أمينو تريازين وكزانتين وثايمين فإنه يتم تصنيع الجزيئات ART و DIXT و DIXBI كذلك. ولا يقوى  الجزيء الأخير على التكرار في حين أن الأول هو  الجزيء  المُكرِّر الأخصب بين الأربعة.

وعلاوة على ذلك يسمح سد حافة واطسون ـ كريك باقتصار الربط الهيدروجيني على حافة هوگستين. وبذلك فإن المكرِّرين المعدَّلين ZARBI  وZNARBI المصنوعين من الأدنين المحتوي على الزمرتين Z و Z-NO2  على التوالي لا بد أن يتكررا ببطء. ويصبح في هذه المرحلة اختيار الزمرة السادة حرجا. فبالرغم من أن عدة زمر مرتبطة تستطيع أن تؤدي إلى تشكيل مكرِّرات تصنع أخطاء (طفرات)، فإن زمرة النترو (NO2) تتمتع بخصوصية لحد ما. فقد عرف الباحثون منذ ثلاثين عاما أنهم يستطيعون إزالة هذه الزمرة بسهولة عن طريق التشعيع بأطوال موجية معينة من الضوء فوق البنفسجي. وما إن يتم استئصال الزمرة Z-NO2  حتى تتحرر حافة واطسون ـ كريك ويستطيع  الجزيء  الجديد الخفيف أن يتلاءم على طول هذه الحافة وكذلك على حافة هوگستين مما يجعله كما رجونا ذا فعالية تعادل ضعفي فعالية الجزيئات التي تم اشتقاقه منها.

 

لقد أخضعنا الأدِنينَيْن المحتوييْن على الزمرة Z أو الزمرة Z-NO2 لاختباراتنا القياسية على التكرار الذاتي. فعندما ارتبط الأدنينان بالمستقبلات البيفينيلية لتشكيل الجزيئين ZARBI و ZNARBI، فإن الجزيئات الجديدة سلكت حقا سلوك مكرِّرات وإن وصفت بدرجة غير عالية من الفعالية. لكنها عوَّضت عن خَبَلِها بقابليتها على إحداث أخطاء (طفرات). فكان جزيئنا ZARBI  يحفِّز تشكيل ذاته من جهة ويعمل مرصافًا لتجميع منافسه الآخر ZNARBI من جهة أخرى. وهذا الأخير رد على ذلك بتحفيزه تشكيل ذاته وتشكيل  الجزيء  ZARBI كذلك.

 

يأتي الآن دور التحدي في تبيان الصيغة الكيميائية للطفرة. والطفرة تبدل بنيوي مستديم وقابل للتوريث يؤثر في مقدرة الكائن الحي (المتعضية) على البقاء على قيد الحياة أو يؤثر (بالنسبة لحالتنا) في نظيره الذي هو جزيء يتكرر ذاتيا. وقد تنتج التبدلات في بنية الجزيء المتكرر ذاتيا من تبدل درجة الحرارة أو الحموضة أو الملوحة أو عوامل متعددة أخرى. أما نحن فقد اخترنا عامل التشعيع بالضوء.

 

وضعنا في باديء الأمر الجزيئين ZARBI و ZNARBI في وضع تنافسي مباشر فيما يخصّ الحصول على المصادر المنتجة. فقد سمح طالبان من طلابي (أحدهما في الدرجة الجامعية الأولى< Q. فينگ> والآخر في الدراسات العليا ) بقيام منافسة بين مشتقات الأدنين الحاملة للزمر Z والأخرى الحاملة للزمر Z-NO2  للحصول على كمية محدودة من المستقبل البيفينيلي التتامي. وقد أثبت  الجزيء  ZNARBI أنه مكرِّرٌ replicator أفضل قليلا من نظيره الآخر. وعندما نضب جميع المستقبل، عرضنا وعاء التفاعل للتشعيع بالضوء فوق البنفسجي بطول موجة مقدارها 350 نانومتر. وبعد ساعات قليلة من التشعيع أزيلت جميع الزمر السادة من الفئة Z-NO2 من مكررات  الجزيء  ZNARBI ومن أسلافها الأدنينية كذلك. أي أن جميع الجزيئات ZNARBI تم تحويلها إلى الجزيئات ARBI في حين تم تحويل الأدنينات الحاملة للزمر Z-NO2 إلى أدنينات بسيطة. لقد حدثت “طفرة” سببها تبدل في الوسط وبقي  الجزيء  ZARBI والأدنين المرتبط بالزمرة ZZ من دون تغيير.

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004941.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004942.jpg

 

أضفنا بعد ذلك مزيدا من المستقبل البيفينيلي فوجدت الجزيئات ZARBI أن ناتج التشعيع،  الجزيء  ARBI، هو المنافس لها. وبما أن هذا  الجزيء  المخادعARBI يتصف بميزة التكرّر حسب أسلوب هوگستين أو أسلوب واطسون ـ كريك سواء بسواء فإنه سرعان ما استولى على جميع مصادر هذه المنظومة.

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N4_H01_004943.jpg

يدان راسمتان (صوّرهما (1) عام 1948) توضحان  مبادئ التتام الذاتي والتكرار الذاتي.

 

يمكن رسم مخطط لتفسير تطوريّ بسيط لهذه التجربة. فإذا ما اعتبرنا  الجزيء  ZARBI هو  الجزيء  الأصلي في هذه المتتالية، فإن تكراره يتطلب وجود الأدِنينات المرتبطة بالزمرة Z والمستقبل البيفينيلي. فإذا ما أضيف حمض النتريك فإنه يحدث استهلاك بعض الأدِنينات المرتبطة بالزمرة Z لتشكيل الأدِنينات المرتبطة بالزمرة Z-NO2، وهذه الأخيرة تؤدي إلى تشكل الجزيئاتZNARBI. ويمتاز  الجزيء  ZNARBI بأفضليته على سلفه  الجزيء  ZARBI في خاصية التكرار. وعندما يجري تشعيع المنظومة بالضوء فوق البنفسجي يحدث تبدل آخر إذ يتحول  الجزيء  ZNARBI إلى الجزيء ARBI  الأبسط والأكثر كفاءة منه. وقد أثبت هذا  الجزيء  الأخير أنه المكرِّر replicator الأفضل بين الثلاثة.

 

ومع أن الطفرة تعتبر القوة المحركة لمعظم التبدلات التطورية، فهناك نموذج مهم آخر للتبدل التطوري هو التآشب (إعادة الارتباط) recombination. إذ يستطيع صبغيان أن ينفصما وأن يتبادلا طيقانا strands من الدنا ومن ثم يتصلا من جديد، وبذلك يجمعان خصائصهما الوراثية. وكذلك تحاول برامج حاسوبية معينة أن “تعلِّم” طيقان المعلومات حلَّ مشكلة معينة. فإذا ما سمح لهذه الطيقان أن تنفصم وتتآشب بشكل عشوائي فإنها سرعان ما تعطي حلولا مفضلة للمشكلات المطروحة. فالطفرة تسمح بحدوث تبدلات صغيرة منفردة في حين يسمح التآشب من جهة أخرى بتشكل هجناء hybrids تختلف كليا عن  أسلافها.

 

لقد أدى اهتمامنا بإيضاح التآشب على المستوى الجزيئي إلى إيجاد مجموعة جديدة كليا من الجزيئات المكرِّرة لذاتها. وكان المبدأ هو نفسه: أي وصل جزيئين متتامَّيْن برابطة تساندية لإعطاء كيان ذاتي التتام يستطيع تركيب نفسه بنفسه. وقد استنبط فينگ وطالب آخر هو منظومة تكرارية replicating systemمبنيّة على مكون آخر مختلف للحموض النووية هو الثايمين thymine. وكان پارك قد طور في وقت سابق مستقبِلا صنعيا يستطيع تعرّف نواة إيميد الثايمين ويتوضع كذلك على السطح العطري المنبسط للثايمين. ويبدي هذا المستقبِل هيكلا جزيئيا على شكل الحرف U تتمثل قاعدته بفاسِح spacer عطريّ قاسٍ يعرف بالكزانتين. وتتألف إحدى ذراعي الحرف U من أمين في حين تتألف الذراع الأخرى من ثنائي أمينو تريازين وهو مستقبل الثايمين. وعندما يتصل المكونان الأخيران أحدهما بالآخر برابطة تساندية، تتولد وحدة ذاتية التتام تدعى ثنائي أمينو تريازين كزانتين ثايمين أو اختصارا DIXT. وقد تمكنا من إثبات أن  الجزيء  DIXT كان ذاتي التكرار كذلك.

 

والآن تهيأت الأمور للقيام بتجربة تآشب. فهل تستطيع المكرِّرات المبنية على الأدنين لتصنعا اتحادات جديدة؟ لقد فعلتا ذلك حقا وقد أدهشتنا النتائج، إذ كان أحد جزيئات التآشب وهو ART  (أدنين ـ ريبوز ـ ثايمين) أكثر المكرِّرات التي تم الحصول عليها إنتاجية وإخصابا، في حين أن  الجزيء  الآخر وهو DIXBI(ثنائي أمينو تريازين كزانتين بيفينيل إيميد) لم يقوَ على التكرار إطلاقا، فقد اتصف “بالعقم”.

 

كيف نتج هذا الاختلاف في المقدرة على التكرار؟ لقد كان من اليسير تفسير نجاعة  الجزيء  ART كمكرِّر. فهذا الأخير يشبه، إلى حد كبير، تركيب قطعة من الدنا الذي يمكن اعتباره أفضل المكرِّرات في الوجود. إضافة إلى ذلك فإن جزءه الريبوزي يجعل سطوح التعرّف موازيا بعضها بعضا وهذه هيئة مفيدة جدا. إن ذلك، إضافة للألفة الكبيرة بين الأدنين ومُتَمِّمه الثايمين، يؤدي إلى تجميع سهل لمعقد يمثل المرحلة الانتقالية في التكرار.

 

كما يمكن أن يُعزى عدم كفاية  الجزيء  DIXBI إلى شكله الجزيئي الإجمالي. فهو يتألف من جزيئين على شكل الحرف U يرتبط أحدهما بالآخر بفاسِح spacerغير مرن من البيفينيل. وتستطيع بنيته الإجمالية أن تتحد فتأخذ الشكل C أو الشكل S. أما سطوح التعرّف فتكون مكشوفة داخل الشكل C حيث لا يوجد حيِّز كاف لتشكل معقد تكراري. أما في الشكل S فإن سطوح التعرف تكون متباعدة جدا بحيث إنه عندما يتشكل المعقد فإن القطع المتفاعلة تكون على درجة من التباعد لا تسمح لها بالترابط تسانديا. لذا فإن  الجزيء  DIXBI  لا يستطيع  تحقيق التكرار على الرغم من أنه مركب ذاتي التتام.

 

تمكنا بهذه التجربة من أن نبيِّن أن مجموعة صغيرة نسبيا من المكونات تستطيع إنشاء “شجرة عائلة” من المكرِّرات. إن ثلاثة من هذه الجزيئات تعتبر فعالة جدا في التكرار الذاتي، ولكن أحد فروع هذه الشجرة يضمحل ويتلاشى. وإذا ما أردنا إبراز هذا التماثل بشكل أكبر فإنه يكون من المناسب تقطيع  الجزيء  العظيم وتحويله إلى أجزاء تستطيع المكررات الفعالة أن تستخدمه لصالحها. لقد أحرزنا بعض التقدم في هذا الاتجاه. ويتطلب ذلك منا أن نزود جزيئاتنا بالحموض والأسس التي تستطيع منابلة (معالجة) manipulatingالجزيئات الأخرى بصورة أكثر فعالية مما يسمح به التعرف البسيط.

 

ومع أنه كان من الممتع أن نتتبع التكرار وحتى التطور باستخدام الجزيئات الصنعية فقد تطلّعنا إلى الخطوة التالية في التعبير عن الحياة كسلسلة من التفاعلات الجزيئية. ونشعر بهذا الصدد كما يشعر باحثون آخرون أن مفتاح المشكلة يكمن في الحدودية boundary التي تتمثل في الجدار الخلوي الذي يفصل بين داخل الخلية وخارجها ويمنع انسياب الجزيئات المرغوب فيها وضياعها مع صدّ الجزيئات غير المرغوب فيها.

 

لقد تمكنا من إنجاز خطوات مبدئية صغيرة في هذا الاتجاه بإيحاء من الأغشية الطبيعية. فالڤيروسات تستخدم محفظة بروتينية تحيط بها كوعاء. وتتكون هذه المحفظة من نسخ متعددة متماثلة لوحدة بروتينية مفردة. وتتصف هذه الوحدات أيضا بكونها ذاتية التتام لكن سطوح التعرّف فيها تكون موجهة بحيث تتجمع تلك الوحدات تلقائيا داخل محفظة مغلقة. في الحقيقة، لقد توقع كريك أن تؤلِّف نسخٌ متماثلة عديدة من البروتينات المعطفَ الڤيروسي طالما أنه لا توجد معلومات كافية في المجين (المجموع الجيني) genome  الڤيروسي لصنع  العديد من الجزيئات المتنوعة.

 

عندما استخدمنا التتام الذاتي دليلا لنا، خطر على بالنا تصميم مصغَّر يستند إلى بنية كرة المضرب. فإذا ما قطعت هذه الكرة عند خط التحامها فإنها تعطي نصفين متماثلين تكون فيهما الأطراف المحدبة متتامة في الشكل مع الأواسط المقعرة. وقد قام مؤخرا<R. وايلر> (وهو باحث سويسري تمتع بمنحة زمالة لما بعد الدكتوراه) باصطناع بنية تقلد شكل قطعتي كرة المضرب أثناء إضافة مواد تتامية كيميائية. وهنا تواءمت الوحدتان إحداهما مع الأخرى بروابط هيدروجينية على طول خط الالتحام.

 

ثمة دلائل جيدة تشير إلى إمكانية ملاءمة جزيء أصغر (مثل جزيء كلوروفورم مَذيب) ضمن كرة مضربنا الجزيئية. ولكن هذا  الجزيء  أصغر بكثير من أن يستوعب حتى أصغر مكرِّراتنا، ونحن نعمل الآن بالتعاون مع <J. دومندوزا> (من جامعة مدريد الحرة) لتطوير جزيء أكبر حجما يمكن أن يكون ذا اتساع داخلي يكفي لاحتواء بعض من مكرراتنا.

 

عندما نتمكن من تجاوز مشكلة الاحتواء، فإن العقبة الكبرى التي تواجه برنامج الحياة الجزيئية ستتمثل بالأسئلة التالية: كيف يستطيع كائننا الحي (متعضيتنا) الفتي تسخير الطاقة لصالحه؟ وهل تصدر هذه الطاقة عن ضوء الشمس أم عن الجزيئات الأخرى؟ وكيف يمكن استكمال قطع المكونات التكرارية وأوعيتها؟ هذه هي تحديات العقد المقبل من السنين. وسواء أوجِدت حلولٌ لها أم لا، فإن جهود الكيميائيين للإجابة عن هذه التساؤلات ستزودنا بالتأكيد بتبصر في أغوار الكيمياء العضوية للحياة: كيف بدأت وكيف استمرت في الازدهار.

 

 المؤلف

Julius Rebek, Jr.

ولد في المجر عام 1944. وبعد أن قضى الفترة بين عامي 1945 و 1949 في النمسا، استقرت أسرته في كنساس بالولايات المتحدة الأمريكية. حصل ريبيك على الإجازة من جامعة كنساس وعلى الدكتوراه من معهد ماساشوستس للتقانة حيث عمل مع دانيال كمپ على كيمياء الببتيدات. وقد طور (أثناء عمله أستاذا مشاركا في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس) طريقة الاختبار ثلاثية الأطوار لمعايرة المركبات البينية الفعالة. انتقل عام 1976 إلى جامعة بتسبورغ ثم عاد إلى معهد ماساشوستس للتقانة عام 1989 حيث شغل كرسي <كاميل درايفوس> للكيمياء. وهو عضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وقد انتخب مؤخرا عضوا في الأكاديمية الوطنية للعلوم.

 

مراجع للاستزادة 

CHEMICAL EVOLUTION: ORIGIN OF THE ELEMENTS, MOLECULES, AND LIVING SYSTEMS. Stephen F. Mason. Clarendon Press, 1991.

MOLECOLAR REPLICATION. Leslie Orgel in Nature, Vol. 358, No. 6383, pages 203-209; July 16, 1992.
A TEMPLATE FOR LIFE. Julius Rebek in Chemistry in Britain, Vol. 30, No. 4, pages 286-290; April 1994.

Scientific American, July 1994

(1) [انظر: “أشكال إيشر المجازية” العلوم ، العدد 3 (1995) ، صفحة36 ].                  (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى