أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلك وعلم الكونياتفيزياء نظرية

منافع ضجيج الخَلْفِيّة)


منافع ضجيج الخَلْفِيّة(1)

للتجاوب العشوائي، وهي الظاهرة التي يعزز بها

ضجيجُ الخلفية الإشاراتِ الضعيفةَ، تطبيقات

محتملة في الفيزياء والبيولوجيا والهندسة.

<F .موس> ـ <K .ويزنفلد>

 

لا ريب في أن الضجيج مزعج في أغلب الأحيان. فأنت تنزعج في أثناء اتصالك بالهاتف في شارع مزدحم أو عند الاستماع إلى محطة إذاعية مشوشة. وقد حاول المهندسون دائما التقليل من هذه التشويشات، ولكن الذي يدعو للدهشة هو اكتشاف الباحثين ـ في السنوات الأخيرة ـ إمكان الاستفادة من ضجيج الخلفية background noise  في بعض الأحيان. وفي الحقيقة، يكون أداء الكثير من المنظومات الفيزيائية ـ بدءا من الدارات الإلكترونية حتى الخلايا العصبية ـ أفضل وسط ضجيج عشوائي.

 

يمكن بالتشبيه وصف الظاهرة المعروفة باسم التجاوب العشوائي stochasticresonance. لنتصور كرة موجودة في أحد تجويفين متجاورين من تجويفات طبق البيض، وأن قوة إيقاعية متواترة معتدلة تقوم بأرجحة الطبق كله جيئة وذهابا، فتترنح الكرة في قعر أحد التجويفين تحت تأثير هذه القوة. (يمكن أن تقابل هذه القوة إشارة دورية ضعيفة السعة في دارة كهربائية). وإذا لم تُكشف حركة الكرة إلا عند قفزها من تجويف إلى آخر فإن هذه القوة الدورية الضعيفة تظل محجوبة فلا تظهر. وقد يتراءى لنا أن إضافة الضجيج إلى المنظومة، بِرَجِّ طبق البيض نحو الأعلى والأسفل مثلا، يحجب حركة الأرجحة.

 

وفي الحقيقة، تُحدث إضافة الضجيج مفعولا معاكسا تماما. فبوسع القوة الضعيفة المقرونة بالضجيج إعطاء الكرة طاقة كافية أحيانا للتغلب على الجدار الفاصل بين التجويفين. ويبدو، بمرور الزمن، كأن الكرة تقفز من تجويف إلى آخر بصورة عشوائية. لكن نظرية التجاوب العشوائي تستند إلى عدم إمكان التنبؤ بهذه القفزات كلها تماما. ويكون احتمال قفز الكرة بين التجويفين المتجاورين في أية لحظة كبيرا جدا إذا كانت القوة الضعيفة في قيمتها العظمى. وهكذا يكشف توقيت القفزات معلومات جيدة عن دورية القوة الضعيفة.

 

تبدو الميزة الأساسية لهذه المنظومة، ولكل منظومةٍ يحدث فيها التجاوب العشوائي، في العلاقة غير الخطية بين الدَّخْل (وهو القوة الضعيفة هنا) والخَرْج (وهو الكرة التي تقفز بين التجويفين). وهذا يعني أنه إذا هبطت قيمة الدخل إلى حد معين فلن يكون هناك أي خرج على الإطلاق. (بالمقابل تعطي المنظومات الخطية دائما خرجا متناسبا مع دخلها). وهكذا يمكن للضجيج العشوائي أن يفيد الإشارات الواهية في المنظومات غير الخطية بتعزيز هذه الإشارات وجعلها فوق العتبة [انظر: «هواة العلم»، في هذا العدد].

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N4_H04_005891.jpg

تكشف المنظومات غير الخطية الإشارات الدورية (الأحمر) التي تعلو بعض العتبات. يستطيع بعض الضجيج (الأخضر) تعزيز إشارة ضعيفة فوق العتبة. ويحدث التعزيز الأكبر للإشارة عندما تكون على مقربة من قمتها (المنطقة الزرقاء). وبالتالي يدل خَرْج المكشاف (الشرطات السوداء) على دورية الإشارة الضعيفة.

 

ويتوقف مدى ما تستفيده الإشارة كثيرا على إضافة المقدار اللازم تماما من الضجيج، ويمكن قياس تحسينها بقياس نسبة الإشارة إلى الضجيج  SNR signal-to-noise ratio . فإذا أضيف مقدار ضئيل من الضجيج فلن تُعزَّز الإشارة بصورة مهمة، وبالمثل تؤدي إضافة الكثير من الضجيج إلى غمر الإشارة. إذًا، هناك مقدار أمثل للضجيج للحصول على إشارة أعظمية في الخرج. فاكتشاف أن الضجيج مفيد بدلا من كونه مزعجا أدى مؤخرا إلى اهتمام كبير بالتجاوب العشوائي، ليس فحسب في الفيزياء والهندسة والبيولوجيا ولكن في كل علم يُدْرس فيه الضجيج وعتباته.

 

الضوء الضّاجّ (المفعم بالضجيج)

طوّر ثلاثة باحثين إيطاليين هم <R. بنزي> و <A. سوتيرا> و <A. ڤولْبياتي> مفهوم التجاوب العشوائي لأول مرة في عام 1981 لشرح قضية قديمة في علم المناخ. وكانت المعضلة التي أرادوا فهمها هي دورية العهود (الحقب) الجليدية التي تحدث بانتظام كل 100 ألف عام تقريبا مع أن أسباب نشوئها تبدو عشوائية. وقد ظن الجيوفيزيائيون أن دور تراوح wobble مدار الأرض حول الشمس الذي يبلغ 100 ألف عام مرتبط بتوقيت العهود (الحُقب) الجليدية. ولكن ليس بوسع الانزياح الناتج من هذا التراوح وحده إحداث تجمد كبير مهم، فالتغيرات السنوية في كمية الحرارة ـ التي تتلقاها الأرض من الشمس ثم تحتفظ بها، وهي متحولات تعتمد على عدة عوامل أخرى ـ لها ذلك التأثير الكبير. وقد اقترح هؤلاء الباحثون حينذاك أن هذه الترجحات fluctuationsالضاجّة (المفعمة بالضجيج) الواسعة المدى يمكن أن تُضخِّم الآثار البسيطة لاختلاف مركز مدار الأرض orbital eccentricity كل 1000 ألف عام. وحاولوا البرهنة على أن تزاوج تأثير الضجيج القوي مع تأثير التراوح الضعيف قد يفسر انتظام حدوث العهود الجليدية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N4_H04_005892.jpg

تعرض ظاهرة التجاوب العشوائي الليزرات الحلقية. وتستطيع الأمواج الصوتية الموضوعة في مسار الليزر عكس اتجاه دوران الضوء بمعدل ثابت أو بصورة عشوائية (الصورة في الأعلى). من أجل إشارة ضعيفة، تؤدي إضافة أفضل مقدار من الضجيج إلى إحداث تغير أكثر انتظاما (المخطط العلوي). في الطيف الطاقي للخرج (المخطط السفلي) تظهر الإشارة الضعيفة على شكل قمة ضيقة تعلو خلفية عريضة من الضجيج.

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N4_H04_005893.jpg

 

وفي الواقع بقيت هذه الأحجية من دون حل، لكن مفهوم التجاوب العشوائي أثار اهتمام كثير من الباحثين. وقد برهن فريق من الباحثين الفرنسيين بقيادة <S. فوڤ> عام 1983 على صحة النظرية الأساسية للتجاوب العشوائي، مستخدمين قاطعا (مفتاحا) كهربائيا ضاجا noisy electrical switch يسمى قادح شميت(2) Schmitt trigger لتبيين أن الضجيج الكهربائي العشوائي يضخم الإشارات الدورية القدحية التي تنتقل في الدارة. وعلى الرغم من أصالة هذه التجربة فقد بقيت خمس سنوات طي النسيان حتى عام 1988، حين اكتشف فيزيائيون ـ من معهد جيورجيا للتقانة في الولايات المتحدة ومنهم <R. روي> و <R. ماكنامارا> ومعهما أحد مؤلفي المقال (ويزنفلد) ـ التجاوب العشوائي في أثناء استعمالهم جهاز الليزر الحلقي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N4_H04_005894.jpg

يستعمل الروبيان الذي تلاحقه سمكة القاروس smallmouth bass (في الأسفل) الخلايا الشعرية في ذنبه المروحي (في أعلى اليمين) لكشف الحركات الواهية للماء التي يحدثها وجود السمكة المفترسة في الجوار. وجد أحدنا (موس) أن الضجيج العشوائي يعزز حساسية هذه الخلايا التي تقوم بعمل المكشافات ذات العتبة ـ كانت نسبة الإشارة إلى الضجيج (في أسفل اليمين) أكبر عند إعطاء مقدار معين من الضجيج المضاف، كما تنبأت به النظرية (الأخضر) وبيّنه النموذج الكهربائي لمحاكاة المنظومة (الأحمر).

 

في هذا الجهاز تعكس المرايا ضوء الليزر بحيث تنتشر حزمته في حلقة مغلقة، إما باتجاه دوران عقارب الساعة أو بعكسه. ويماثل هذا الوضع رياضياتيا نموذج التجويفيْن فيمثل الضوء الكرة كما يمثل كل اتجاه لانتشار الضوء تجويفا. وعندما يُشغَّل الليزر يمكن أن يكون لأي اتجاه من الاتجاهين أفضلية البدء، ولكن عندما يتم التشغيل يمكن لاضطراب عشوائي أن يجعل الضوء يغير اتجاه انتشاره. وقد أحدثنا في تجربتنا اضطرابات مماثلة باستعمال جهاز يدعى المضمِّن (المعدل) الصوتي-الضوئي acousto-opticmodulator وهو يولّد موجات صوتية مستقرة في بلورة. فبحسب تردد هذه الموجات (الذي يمكننا التحكم فيه إلكترونيا) ينتشر الضوء في اتجاه أو في الاتجاه المعاكس.

 

وللحصول على الإشارة نضمّن تردد الموجات المستقرة نمطًا دوريًا. ويعمل هذا التضمين، إذا كانت سعته كبيرة بصورة كافية، على قلْب اتجاه انتشار الضوء بصورة دورية مُنْتَظَمة. ولكننا عملنا على ألا تكون هذه السعة كبيرة إلى ذلك الحد، ثم أضفنا ضجيجا إلى هذه الإشارة بتضمين تردد الموجات المستقرة بصورة عشوائية، ونتج من ذلك أن الضوء غيّر اتجاه انتشاره بنحو لا يمكن التنبؤ به عموما ولكن بصورة متناسبة تقريبا مع دورية الإشارة. ويسجل مكشافٌ موضوعٌ خارج الليزر الحلقي الإشارة عندما يكون اتجاه انتشار ضوء الليزر معاكسا لاتجاه عقارب الساعة، مولدًا بذلك تسلسلا زمنيا للتغيرات الحاصلة يحوي المركبتين النظامية والعشوائية.

 

إن حساب ما يسمى الطيف الطاقي للسياق الزمني يعطي مقياسا مناسبا لكمية المعلومات المحتواة في التغيرات الحاصلة بدلالة الضجيج الذاتي لهذه المعلومات. وتتمثل المركبة النظامية في الرسم التخطيطي بقمة حادة واقعة عند قيمة تردد الإشارة، في حين يظهر الضجيج العشوائي كنطاق عريض ممتد على كل الترددات. وتمثل نسبة الإشارة إلى الضجيج (SNR) ارتفاع القمة الحادة بالنسبة إلى ارتفاع الخلفية العريضة. وقد وجدنا أن قيمة نسبة الإشارة إلى الضجيج تكون أعظمية عندما يكون للضجيج المضاف شدة معينة، وهذا يبرهن صحة التجاوب العشوائي. وهكذا تؤدي إضافة المزيد من الضجيج، ضمن حد معين، إلى عكس اتجاه انتشار الضوء بحيث يصبح أكثر انتظاما لا أقل انتظاما.

 

وقد أدى هذا التبصر إلى القيام ببحوث كثيرة في السنوات التالية؛ إذ ظهر أن التجاوب العشوائي يتم في طائفة كبيرة من المنظومات الفيزيائية التي تضم أنماطًا مختلفة من الدارات الكهربائية والليزرات وأجهزة التداخل الكمومي الفائقة الموصلية (الناقلية) SQUIDs [انظر:SQUIDs,  by Jhon Clark; ScientificAmerican, August 19944 ]

 

وفي مجالات كثيرة أخرى. وقد بدأت دراسات التجاوب العشوائي مؤخرا في مجالات بحوث جديدة مثل البيولوجيا الإحساسية (الاستشعارية) sensorybiology والإدراك perception.

 

الضجيج في العصبونات

قام فريق من الباحثين ـ في جامعة ميسوري بالولايات المتحدة، بقيادة أحدنا (موس) ـ بدراسة ما إذا كان التجاوب العشوائي والظواهر الأخرى التي تدور في فلكه تؤدي دورا أساسيا في منظومات البيولوجيا الإحساسية. وما ينبغي ذكره أن المهمة الأساسية لأعضاء الإحساس هي كشف الإشارات الواهية الحاملة للمعلومات التي تنتقل عبر الأوساط الضاجّة. وقد انتقينا، كبداية لعملنا، منظومة بسيطة جدا هي الخلايا المستقبلة ميكانيكيا mechanoreceptor الموجودة في المؤخرة المروحية للروبيان (الإربيان) crayfish المسمى Procambarus clarkii.

 

وتختص هذه الخلايا ـ التي تنتهي بشعيرات دقيقة يتراوح طولها بين 25 و 100 مكرون ـ بكشف حركات الماء الضعيفة، وربما الدورية، مثل تلك الناشئة عن تذبذب ذنب سمكة مفترسة موجودة في الجوار. ومن الجائز جدا أن تقوم الخلايا الشعرية hair cell بمهام منظومة إنذار مبكر غير جيدة ولكنها مناسبة حقا لهذه المهمة: ليس الروبيان وحده أحد أقدم الكائنات الحية في العالم بل هناك أمثاله من مكشافات (مكاشيف) حركات الماء الشائعة عند أنواع كثيرة من القشريات ومن بينها القريدس shrimps وجرادة (سرطان) البحر lobster.

 

وتعمل الخلية الشعرية بطريقة بسيطة: عندما تتحرك الشعيرة فإنها تولد نبضة عصبية قابلة للقياس على شكل قمة قيمتها 100 ملي ڤلط وتدوم 200 مِكروثانية. وتنتقل هذه النبضة على طول العصبون حتى تصل إلى العقدة، وهي مجموعة من الخلايا العصبية موجودة قرب طرف الذنب المروحي. وهذه العقدة الطرفية هي الأخيرة في سلسلة تمتد نحو دماغ الحيوان وتحوي نحو مئتي عصبون وعصبون بيني interneurons متصل بعضها ببعض، وهي تساعد في مهمات معالجة المعلومات. وتعالج العقدة الطرفية terminal ganglion مجمل المعلومات الواردة من الخلايا الشعرية ثم تتخذ القرارات الأساسية مثل إثارة منعكسات (ردود فعل) في الحيوان تدفعه للهرب.

 

تعد هذه المنظومة بسيطة وسهلة الدراسة لأسباب كثيرة. فالتشريح العصبي يوحي بأن عمل هذه الأجهزة الإحساسية لا يتجاوز نقل النبضات العصبية التي تولدها حركات الشعيرة إلى العقدة العصبية الطرفية، لذلك لن توجد إشارات عصبية معقدة. وتشير الدلائل المتوافرة إلى أن العصبونات الإحساسية تعمل بصورة مشابهة تماما لمكشافات ذات عتبات غير خطية nonlinear thresholds؛ إذ لن تثير الحركات الضعيفة جدا للشعيرات نبضات العصب تحت مستوى معين.

 

لإجراء تجاربنا اقتطعنا من ذنب الروبيان جزءا يحتوي على الكثير من الخلايا الشعرية والرباط العصبي والعقدة العصبية الطرفية. وركَّبنا هذه العينة على حامل متحرك مغمور في وعاء يحوي محلولا، ثم أدخلنا مسرى كهربائيا في الرباط العصبي ووصلناه مع عصبون إحساسي واحد. وقد هيجنا بعناية كل واحدة من الشعيرات لمعرفة الشعيرة التي تثير هذا العصبون الإحساسي بالذات. ويحرك مِحْوال transducer كهرميكانيكي مجمل التركيبة المغمورة في  المحلول.

 

وعند تحريك التركيبة جيئة وذهابا بمعدل ثابت منتظم لوحظ ما يشبه النمط العشوائي لقمم الإشارة في العصبون ثم تُحوَّل هذه الإشارة إلى نبضات قياسية مربعة وتُحلَّل أطيافها الطاقية. وكانت هذه الأطياف، في الحقيقة، شبيهة جدا بالإشارات المسجلة أثناء تجربة الليزر الحلقي. فهي تُظهر قمة حادة تمثل إشارة دورية متراكبة على خلفية عريضة من الضجيج. وقد حصلنا من الأطياف الطاقية على نسبة الإشارة إلى الضجيج (SNR) واستنتجنا من هذه النسبة أن شعيرة الروبيان تحس بصورة مدهشة؛ إذ تستطيع معظم الخلايا التي فحصناها أن تحس بالحركات الدورية للحامل عند تحريكه بسعة لا تتجاوز 10 نانومتر.

 

وفي المرحلة التالية من تجربتنا قلَّلنا سعة حركة الحامل إلى درجة غير ملحوظة تقريبا لتحدث الحركة الباقية إشارة دورية ضعيفة، حيث أَمِلْنا بأن تشابه ما يحسه الروبيان عند اقتراب كائن مفترس، ثم أضفنا ضجيجا عشوائيا تماما إلى الإشارة التي تحرك الحامل، أي إننا أضفنا ترجحات غير منتظمة إلى حركته. وكان هدفنا هو محاكاة البيئة الضاجة التي يعيش الروبيان فيها عادة تحت الصخور في تيارات الماء السريعة. وقد قمنا بزيادة سعة هذا الضجيج ببطء وقسنا في كل مرحلة القيمة الوسطى للأطياف الطاقية للنبضات العصبية.

 

وقد اتفقت نتائج هذه التجربة البيولوجية بصورة جيدة مع التنبؤات النظرية ومع المحاكاة الإلكترونية للمكشاف ذي العتبة باستثناء بعض الاختلافات، فقد تنبأت النظرية بانخفاض نسبة الإشارة إلى الضجيج بصورة أسرع عند المستويات العالية للضجيج. ونحن نعلم الآن سبب الاختلاف على الرغم من جهلنا بذلك في حينه: فالعصبونات تبدي فترة عدم استجابة refractoryperiod أو «زمنًا ميتًا» بعد كل حادثة إطلاق بحيث لا يمكن تجديد تنشيط هذه العصبونات أثناء هذا الزمن. وينتج أنه عند ازدياد مستوى الضجيج يكثر تواتر هذه الانطلاقات العرضية فتزداد كذلك فترات عدم الاستجابة التي تُعْدِم بعض الانطلاقات الضاجة اللاحقة. وتتحسن تبعا لذلك نسبة الإشارة إلى الضجيج فتصبح أعلى مما يمكن أن تكون.

 

وقد وجدنا فرقا آخر أيضا وهو أن أطياف الروبيان تكون أعلى من التنبؤات النظرية والمحاكاة الإلكترونية عندما تكون شدة الضجيج صغيرة، ونعزو هذه الزيادة إلى وجود الضجيج الداخلي الذي لا يمكن تلافيه في العصبونات الإحساسية والذي يسببه النشاطان البيوكيميائي والكهربائي في الخلية. فالمستويات العالية لهذا الضجيج تؤدي إلى تقليل تأثيرات الضجيج الخارجي المضاف وهذا ما يمنع حدوث التجاوب العشوائي. أما العصبونات الإحساسية التي لا تأثير للتجاوب العشوائي في عملها، فهي تلك التي يكون الضجيج الداخلي فيها قويا. وقد فحصنا الكثير من العصبونات الإحساسة التي انتزعناها من عدد كبير من الروبيانات ولاحظنا تأثير التجاوب العشوائي في عمل أغلبها. ومع ذلك يبقى لدينا سؤال مهم، لم يُفْصل فيه بعد، وهو احتمال وجود دور إحساسي مفيد لهذا الضجيج الداخلي غير المرغوب فيه ظاهريا على الرغم من كونه شائعا.

 

أبعد من الضجيج الكمومي

مع أن العلوم البيولوجية تشكِّل آخر آفاق البحث العلمي في التجاوب العشوائي فإن الفيزيائيين لم يدلوا بكلمتهم في هذا الأمر وبخاصة فيما يتعلق بحدوث التجاوب العشوائي بالمقياس الكمومي. وقد تنبأت بحوثٌ نظرية أجراها مؤخرا <S .N.كوبر سميث> و <R. لوفْستدت> في مختبرات بِل التابعة للشركةAT&T  بحدوث التجاوب العشوائي في ظروف مختلفة عن ظروف المنظومات الماكروية (العيانية) macroscopic مثل الليزر الحلقي.

 

ولفهم ما يحدث في المنظومات الكمومية نتصور مرة ثانية أن لدينا تجويفيْن متجاورين في طبق البيض. ففي هذه الحالة يمكن أن يمثّل التجويفان موضعين مستقرين لشائبة موجودة في سلك معدني صغير جدا (طوله أقل من مكرون)، فانطلاقا من اهتزازات الخَلْفِيّة background vibrations ذات الطبيعة العشوائية في الشبيكة الذرية atomic lattice  يمكن أن تكسب الشائبة طاقة كافية لعبور الحاجز والانتقال من موضع إلى آخر. وهكذا تكون المسألة مشابهة في المنظومات العيانية لما يحدث في التجويفين، ولكن الاختلاف هنا هو إمكان حدوث مفعول كمومي بحت أيضا؛ إذ يمكن أن تَمْرُق tunnel الشائبة عبر الحاجز من دون أن تمرّ  فوقه.

 

ولكي يحصل المروق الكمومي quantum tunneling في المنظومة يجب أن تكون هذه باردة جدا، أي أن تقارب درجة حرارتها الصفر المطلق (cْ 2733-). وفي الواقع، عندما تكون درجة الحرارة منخفضة بقدر كاف، فإن المروق الكمومي وحده يسبب حدوث تبديل عشوائي random switching. ويمكن إدخال إشارة دورية في هذه المنظومة الكمومية عن طريق زيادة أو إنقاص مقدار الطاقة التي تحتاج إليها للعبور من تجويف إلى آخر. ويمكن القيام بذلك بتطبيق حقل كهرمغنطيسي وتغيير الكمون potential بين التجويفين. ومما يدعو للدهشة أن  التنبؤ النظري يستدعي أن يكون الكمون غير متناظر كي يمكن حدوث تجاوب كمومي عشوائي في هذه الحالة، وهذا يعني ضرورة أن يكون أحد التجويفين أعمق من الآخر أو أن يكون موضع الشائبة التخيلية أكثر استقرارا قليلا، وهذا الوضع يتعارض مع الحالة التقليدية التي يُقلِّل فيها انحرافٌ أو عدم تناظر كهذا في المنظومة من مفعول التجاوب العشوائي.

 

إذا وضعنا هذه الاختلافات الطفيفة جانبا فإن اللافت للانتباه هو كيفية تدخل عملية عشوائية شديدة البساطة في مجالات علمية متنوعة جدا مثل تقانة الليزر والبيولوجيا الإحساسية والميكانيك الكمومي وسرعة ظهور تطبيقات تقنية كثيرة لهذه العملية. ويحاول بعض الباحثين تحسين استعمال التجاوب العشوائي في أجهزة التداخل الكمومي الفائقة الموصلية بحيث يصبح بإمكانها كشف الحقول المغنطيسية الدورية الضعيفة السعة في الأوساط الضاجة. وقد برهن <O .L. شيوا> و<S .V. أنيشنكو> (من جامعة كاليفورنيا في بركلي) على وجود التجاوب العشوائي في الدارات الإلكترونية الشواشية.

 

ويجد التجاوب العشوائي إمكانات أكبر لتطبيقه في حقل العلوم الطبية الذي تتميز الكثير من وظائفه الفسيولوجية بوجود عتبات وتغيرات عشوائية كثيرة. وتتميز معظم اختلاطات الجهاز العصبي بارتفاع عتبات الإحساس فيه وهذا ما يؤدي إلى نقص في معدلات إثارة العصبونات الإحساسية الموافقة. وعلى سبيل المثال، غالبا ما يصعب على الكهول المشي والحفاظ على التوازن بسبب ارتفاع إثارة المستقبلات (الذاتية) الحسية العميقة proprioceptors، وهي عصبونات تحس بزاوية وسرعة وانتقال الأطراف المتحركة. وستؤدي إضافة ضجيج عشوائي إلى إشارات عصبية ذات سعات أقل من هذه العتبات إلى تضخيم معدلات إثارة المستقبلات الحسية العميقة، لذلك من المحتمل أن يحسّن الضجيج العصبي حركة المريض وشعوره بالتوازن. وينبغي في هذا المضمار الحصول على إجابات للكثير من الأسئلة الطبية. وفي غضون ذلك، يبدو من المؤكد أن التجاوب العشوائي سيدخل الكثير من الحقول في العلوم الأساسية والتقانة.

 

 المؤلف

Frank Moss – Kurt Wiesenfeld

بدأ تعاونهما عام 1988. موس أستاذ في جامعة ميسوري بمدينة سان لويس حيث يقوم بتدريس الفيزياء لطلاب المرحلة الجامعية في البيولوجيا والطب. وعندما لا يجري تجاربه على الروبيان ونماذج الدارات الإلكترونية للسيرورات العشوائية غير الخطية يستمتع بقضاء وقته في ركوب الدراجة. أما ويزنفلد فهو أستاذ مساعد في الفيزياء بمعهد جيورجيا للتقانة وتتركز بحوثه على التحريك (الديناميك) غير الخطي النظري وتطبيقاته على مسائل في البصريات وفي فيزياء الحالة الصلبة.

 

مراجع للاستزادة 

THE SIGNAL VALUE OF NOISE: ADDING THE RIGHT KIND CAN AMPLIFY A WEAK SIGNAL. Ivers Peterson in Science News, Vol. 139, No. 8, page 127; February 23, 1991.

NOISE ENHANCEMENT OF THE INFORMATION TRANSFER IN CRAYFISH MECHANORECEPTORS BY STOCHASTIC RESONANCE. J. Douglass, L. Wilkens, Eleni Pantazelou and Frank Moss in Nature, Vol. 365, pages 337-340; September 23, 1993.

NOISY MESSAGES FOR CRAYFISH. Ivers Peterson in Science News, Vol. 144, No. 17, page 271; October 23, 1993.

BRINGING MORE ORDER OUT OF NOISINESS. John Maddox in Nature, Vol. 369, page 271; May 26, 1994.

STAGGERING THROUGH THE ICE AGES: WHAT MADE THE PLANET CAREEN BETWEEN CLIMATE EXTREMES? Richard Monastersky in Science News, Vol. 146, No. 5, pages 74-76; July 30, 1994.

STOCHASTIC RESONANCE AND THE BENEFITS OF NOISE: FROM ICE AGES TO CRAYFISH AND SQUIDS. Kurt Wiesenfeld and Frank Moss in Nature, Vol. 373, pages 33-36; January 5, 1995.

Scientific American, August 1995

 

(1) The Benifits of Background Noise.

(2) ويسمى أيضا دارة شميت، وهو مولد نبضي ثنائي الاستقرار تستمر فيه نبضة الخَرْج ذات السعة الثابتة مادام جهد الدخل يتجاوز قيمة معينة. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى