أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم التطبيقية

خواطر علمية مترابطة


خواطر علمية مترابطة

أفكار على مائدة الإفطار

<J. بيرك>

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H05_005490.jpg

 

كنت في صباح ذلك اليوم أغسل الأطباق في المطبخ وأفكر في هذا العمود عندما خطر ببالي أن ما كنت أقوم به من عمل (مثل أي شيء تمعن النظر فيه طويلا) ما هو إلا مثال معبِّر تماما عن ارتباط الأشياء في العالم الحديث ـ بطريقة غريبة ـ بالأحداث التي وقعت على طريق التغيير الضخم المتشابك، ومن هذه الأشياء تدفق الماء ذي الضغط العالي الذي كنت أستعمله لغسل الوعاء الذي تناولت فيه طعامي.

 

فقد أنشئت فيما مضى خارج باريس في القرن السابع عشر شبكة ماء ذات ضغط عال لدفع الماء المأخوذ من نهر السين بوساطة آلة غريبة الشكل ذات أبعاد هائلة لدرجة غيّرت اسم قرية “مارلي” التي كانت بها إلى “مارلي الماكينة”Marly-la-Machine. وكانت هذه الماكينة عبارة عن منظومة من المضخات المدارة بالطواحين المائية الممتدة فوق النهر مثل الجسر لتغذية النافورات التي تزين قصر ڤرساي الموجود على بعد عدة أميال. كان الماء المندفع إلى أعلى في الهواء من أجل تسلية الملك وخليلاته العديدات يكلف أموالا باهظة. ويمكن الآن أن يكون التبذير على أمور مثل النوافير والخليلات مقبولا وجميلا بشرط أن تكون الحالة الاقتصادية جيدة، الأمر الذي لم يكن محققا في فرنسا أواخر القرن الثامن عشر، ولم يكن أحد يفكر في ذلك ولا حتى الملك نفسه.

 

بيد أن السيولة النقدية لدى الناس عامة تحسنت سنة 1797 وعرض وقتها <J. مونتگولفيه>ـ وهو صانع ورق ومناطيد (وتلك مواصفات عمل كان من المرجح أن يراهَن عليها حينذاك) ـ على أعضاء من الحكومة الجمهورية الجديدة أداة ابتكرها يمكنها توصيل الماء إلى ڤرساي (وبديمقراطية أكثر إلى قنوات وشبكات الري وإلى تمديدات تزويد المدينة بالمياه) بصورة عملية من دون تكلفة أو مصاريف صيانة تذكر، حيث إن النظام المقترح لا يكاد يشتمل على أجزاء متحركة.

 

استعمل مونتگولفيه في مكبسه السائلي (الهيدروليكي) Hydraulic Ram وفي صمامات الإفلات المختلفة الخاصة بها تيار ماء النهر كي يضغط الهواء الذي يدفع عندئذ تدفقات من الماء إلى الأعلى والأسفل والجوانب بسرعة تبلغ 120 دفقة في الدقيقة. وقبل وفاة مونتگولفيه كان هناك نحو 700 مكبس سائلي تعمل في كل أنحاء أوروبا. ولم يكن أي منها يضخ الماء إلى ڤرساي، كما لم يكن هناك ملك ولا نوافير.

 

وبوسع هذه المكابس بكل هذا الماء ذي الضغط العالي أن تكون مصدرًا لطاقة رفع كبيرة. وفي عام 1850 أحدث مهندس إنكليزي هو <W. فيربيرن> تحويرا في المكبس لرفع سلسلة من الأنابيب الحديدية الضخمة ذات المقاطع المستطيلة (تمر عبرها القطارات) وتزن 1200 طن، بمعدل بوصتين في الدقيقة ووضعها في المكان المناسب لإقامة جسر بريتانيا للسكك الحديدية عبر مضيق ميناي في ويلز.

 

كما أن “فيربيرن” وظف لديه أيضا شخصا يدعى <R. روبرتس> كان قد اخترع ماكينة آلية لضبط البراشيم rivets. لقد استعملت الماكينة بطاقات مثقبة كان روبرتس قد شاهدها تضبط وتوجه أنوال حياكة الحرير. وصممت البطاقات لتمنع مرور الكلاليب السلكية الزنبركية. ويمكن للكلاليب أو الخطاطيف المارة عبر الثقوب أن ترفع الخيوط الخاصة المناسبة للطراز المصمم، ويصبح بوسع مكوك الحياكة أن يمر تحتها. وقد استعمل روبرتس بطاقاته بطريقة مماثلة كي يتحكم في اختيار حجم المثاقب التي تصنع الثقوب البرشامية وعددها وموقعها والتي ستستعمل على امتداد عارضة معينة.

 

ثم استعيرت فكرة البطاقات المثقبة نفسُها مرة أخرى في وقت لاحق من ذلك القرن لأغراض مختلفة كليا، وذلك من قبل <H. هوليرث> في الولايات المتحدة الذي انتهى به المطاف إلى العمل مع بعض الأشخاص الذين غيَّروا فيما بعد اسم شركتهم إلى IBM.

 

في غضون ذلك أثبتت تقنية روبرتس في البرشمة riveting كفاءتها على نحو متميز استرعى انتباه مهندس بارع هو<K.I. برانل> الذي أدرك أن سفينته الحديدية الضخمة الجديدة گريت إيسترن (وكان يخطط أن يستعمل فيها “العارضات الأنبوبية(1) ” نفسها التي عملت بنجاح باهر في جسر ميناي) ستحتاج على الأقل إلى ثلاثة ملايين برشامة لبناء بدن السفينة وحده.

 

وعندما انتهى بناء السفينة كانت البرشمة تقريبا الشيء الوحيد الذي نجح نجاحا متميزا. فقد قام المهندسون ببناء السفينة موازية لضفاف التايمز ليكتشفوا في النهاية أن النهر أبعد من أن تُدْفع السفينة إليه بطريقة سليمة. وهكذا، وبكلفة تقدر بأشهر من العمل وبملايين الدولارات (حقا ملايين الجنيهات)، وباضطرارهم إلى استعمال المكابس والمنزلقات والروافع ومهاد السفن وكل أنواع آلات الرفع والجر، أمكن في النهاية تعويم السفينة. ومن أجل أن يتم ذلك اقتضى التعويم ست محاولات قبل أن تصبح السفينة في النهاية في مجرى النهر. لقد سبق وأحاق بگريت إيسترن قبل رحلتها الأولى إلى الولايات المتحدة عدد كبير من المصائب لدرجة أن 38 غرفة فقط من أصل 300 لركاب الدرجة الأولى قد شُغلت، كما تأخر وصولها يوما بسبب ثمالة أفراد الطاقم. وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، ففي عام 1865 انتهى الأمر بأضخم سفينة في العالم بأن لم يكن لديها ما تقوم به أفضل من تمديد أحدث كبل للبرق (للتلغراف) حينذاك، عابر للمحيط الأطلنطي ومتوضع تحت سطحه، ثم تفقّده عندما قطع دولاب roll  السفينة الكبل الذي عثر عليه في العام التالي.

 

وبقي الكبل صالحا للتشغيل، وقام المهندسون أخيرا بوصل إحدى النهايتين المقطوعتين بالأخرى، حيث إن غمده (غلافه) كان قد صنع من أحدث المواد العجيبة، هي الگاتا-برشا gutta-percha، وهي من نوع عصارة شبيهة بالمطاط تُسْتخلص من أشجار ماليزية. بيد أن الگاتا-برشا كانت وراء أمور أكثر جدية من أن تتيح للرئيس <J. بوكانان> أن يفتتح خط الاتصال البرقي عبر الأطلنطي ببضع ملاحظات وجهها كرجل دولة إلى الملكة فكتوريا، فقد وفَّرَت هذه المادة أيضا أول مادة عازلة لأسلاك الإنارة الكهربائية بالمنازل، وأتاحت تسويق المَضِيْغَة (العلكة)، كما أحدثت ثورة في لعبة الگولف.

 

فحتى ذلك الوقت، كانت كرات الگولف تُحشى بريش الطيور. وكانت المشكلة أن معظم هذه “الكرات الريشية” featheries تصير غير صالحة بعد الضربة الثالثة. وفي عام 1848 وُجدت الگاتا-برشا ومعها كرات صلبة قابلة للتشكيل وكاملة الاستدارة لدرجة تجعلها تذهب إلى حيث نقذفها، وعلى درجة من الصلادة تبقيها محافظة على شكلها وصالحة للاستعمال في أكثر من مباراة. وقُبلت الكرات الجديدة بتذمر شديد بسبب غيرة المالكين التقليديين لنادي سانت أندروز الملكي (أشهر أندية الگولف في العالم)، حيث غيَّرت هذه الكرات شكل نادي الگولف في كثير من النواحي.

 

وكانت الكرات الگتية gutty (كما كانت تدعى) رخيصة الثمن لدرجة أن اللعبة في الخمسينات من القرن التاسع عشر جذبت جماهير العمال الاسكتلنديين التي كانت تملأ القطارات في أيام العطل. ولكي يستوعب نادي سانت أندروز هذا الجمهور اضطر إلى شطر كل مسلك من مسالكه (العريضة جدا)، طوليا إلى مسلكين، يتم اللعب في كل منهما باتجاه معاكس للآخر. ولهذا السبب بالذات، فإننا نجد حاليا 18 ثقبا في ملعب الگولف النظامي بدلا من الثقوب التسعة الأصلية.

 

ولابد أن جولات اللعب الأولى في سانت أندروز كانت واحدة من تلك المناسبات النادرة التي يُسمع فيها كثير من الكلام الذي لم يكن شيئا سوى هذر يسري في أرجاء ملاعب الگولف. وكان الهذر سببا في أن عددا كبيرا من أبطال لعبة الگولف من طبقة العمال الذين تنقصهم الحيوية والتميز الاجتماعي أصبحوا يتحمسون فجأة لتحسين أدائهم وتصرفاتهم. في الوقت نفسه كانت هناك محاولة لجعل نهر كلايد في گلاسگو أكبر مسفن (ترسانة سفن) shipyard في العالم ولكنها فشلت. إن الشيء الوحيد الذي كانت تحتاج إليه أي منطقة كي تغدو منطقة صناعية هو الفحم، لكن وعلى الرغم من أن آلافا من أطنان الفحم كانت مطمورة تحت الأراضي الاسكتلندية الواطئة، فإنها كانت على درجة من الرداءة يصعب معها تحمير الخبز، فكيف بصهر الحديد؟

 

لنقحم في خواطرنا <B .J. نيلسون> رئيس مصنع گلاسگو لإنتاج الغاز. فقد ابتكر نيلسون عام 1827 الفرن العالي، أو أتون صهر المعادن الغازي، الذي يستطيع أن يولد حرارة شديدة تكفي لإشعال وحرق أي وقود. وباستعمال طريقة نيلسون صار بالإمكان ليس فقط تصنيع الحديد باستعمال الفحم الرديء النوع، بل أمكن استعماله والاستفادة منه ثلاث مرات أكثر مما لو استعمل الفحم الجيد. وهكذا وخلال سنوات قليلة حدثت الثورة الصناعية الاسكتلندية، وبنيت أحواض بناء السفن على ضفاف نهر كلايد، وصارت المدن الاسكتلندية نتيجة لذلك أكثر المدن سخاما sooty  في العالم. وبسبب الرخاء الحديث الذي جاءت به صناعة الحديد فقد أنشئت في اسكتلندا أفضل ملاعب الگولف في العالم.

 

وفضلا عن كشف واستغلال مناجم الفحم الاسكتلندية، فإن تقنية نيلسون كانت خبرا مثيرا ومواتيا لأصحاب مستودعات فحم الأنتراسيت anthracite الفقراء في پنسلڤانيا والذي كان بالمثل صعب الاحتراق فصار فجأة مربحا. وبمثل لمح البصر أضحت پتسبرگ مدينة فولاذ الولايات المتحدة الأمريكية، كما مددت خطوط السكك الحديدية لإحضار خام الحديد جنوبا من مناطق البحيرات العظمى (الأمر الذي أدى إلى إحداث ثورة في عالم الأعمال بكامله بوساطة الأساليب البارعة التي ابتكرتها إدارة السكك الحديدية، مثل تدوين وتنظيم حساب التكاليف والعوائد الشهرية والبنى التقسيمية وإدارة الأقسام والمصالح).

 

وسرعان ما نتج من ازدهار صناعة الحديد والفولاذ بفحم الأنتراسيت في پنسلڤانيا تَغَيُّر في المناظر الطبيعية لهذه الولاية تَمَثَّل في وجود كميات ضخمة من فحم الكوك coke المستعمل. وتصادف أن كانت ولاية پنسلڤانيا ملجأ للكيميائي الإنكليزي الشهير المتعاطف مع الثورة الأمريكية<J. بريستلي> حيث كان يمضي فيها سنوات لجوئه الآمنة. وكان هو الذي لاحظ أن فحم الكوك موصل جيد للكهرباء. وبناء على اكتشاف بريستلي الذي حصل صدفة، فإن أحد مواطني پتسبرگ ويدعى <E. أتشيسون> أجرى تجارب وضع فيها فحم الكوك والطفل (الصلصال) في فرن كهربائي، ولم يكد يحل عام 1885 حتى كان أتشيسون قد توصل إلى اكتشاف ثاني أقسى مادة في العالم وأطلق عليها اسم كاربورندوم carborundum.

 

ومن غير المدهش أن يسارع أتشيسون إلى الدخول في السحج abrasivebusiness. وأحدثت قطع الكاربورندوم التي ألصقها وثبتها في دواليب السحج ثورة فعلا. فقد مكنت أتشيسون من الفوز بعقد تصنيع مصادر الضوء التي أنار بها جورج وستنگهاوس عام 1893 المعرض الكولومبي العالمي في شيكاگو. ومازالت سطوح السحج هذه تستخدم حتى الآن، بفارق واحد هو أنها تربط عادة بمادة راتنجية resin إلى دواليبها بوساطة عملية يستخدم فيها مذيب الفُرفورالfurfural.

 

إن الفُرفورال مادة كيميائية ألدهيدية سائلة يتم الحصول عليها بإضافة حمض الكبريتيك والماء بضغط عال إلى خليط من مخلفات معالجة النباتات، كقشور الشوفان والأرز وتفل قصب السكر، وكذلك قوالح الذرة التي تهمل بعد صنع رقائق الكورن فليكس كتلك التي كنت أزيلها بعناية من أطباقي عندما شرعت في كتابة هذه السلسلة من الخواطر.

 

(1) Tube- girders

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى