أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم التطبيقيةرياضيات

مواجهة الحدود المنطقية للعلم

مواجهة الحدود المنطقية للعلم

قد تكون النماذج الرياضياتية المتداولة هذه الأيام في كثير من الميادين العلمية

غير قادرة تماما على الإجابة عن أسئلة محدّدة تدور حول العالَم الحقيقي الذي نعيش فيه؛

بيد أنه من المُحتمل وجود طرق أخرى للإجابة عن تلك الأسئلة.

<L .J. كاستي>

 

لكل مَنْ تراوده فكرةُ أنّ العقل البشري ذو طاقة غير محدودة في توفيره أجوبة عن أي مسألة كانت، فإن جولةً في ميادين رياضيات القرن العشرين لا بد من أن تكون مصدرا مثيرا للقلق في نفسه. ففي عام 1931 قدّم <K. گُودِيلْ> مبرهنةَ عَدَم التمام incompleteness theorem التي أثبتت عدم وجود نظام استنتاجي يمكنه الإجابة عن جميع الأسئلة حول الأعداد. وبعد مرور بضع سنوات على ذلك أورد <M .A. تُورِينگ> دعوى مكافئة تدور حول البرامج الحاسوبية تنص على عدم وجود طريقة نظامية لتحديد ما إذا كان برنامج مفروض سيتوقف في وقت ما عند معالجة مجموعة من البيانات (المعطيات). ومنذ عهد قريب توصل <J .G. شِيتِينْ>، من الشركة IBM، إلى صياغة دعاوي حسابية لا يمكن، البتة، إثبات صحتها باتباع أية قواعد استنتاجية.

 

إنّ هذه النتائج تنفي تماما قدرتنا على التوصل إلى المعرفة الكاملة في عالم الرياضيات والمنطق. تُرى، هل ثمة حدود مشابهة لقدرتنا على الإجابة عن أسئلة حول المسائل المتعلقة بالطبيعة والإنسان؟ إن أولى المهمات، وربما أشدها إرباكا، لدى مواجهة مثل هذا الموضوع هي تحديد ماذا نعني “بالمعرفة العلمية.” لإيجاد جواب لهذه المسألة التي تبدو مستحيلة الحل، فإنني سأتخذ موقفا قد لا يكون مثيرا جدا للجدل وهو أن النهج العلمي في الإجابة عن سؤال ما يتخذ شكل مجموعة من القواعد، أو شكل برنامج. فنحن نقوم بإدخال السؤال ضمن القواعد مطبِّقين عليه نهج الاستنتاج المنطقي وننتظر ظهور الجواب.

 

إن التفكير في أن المعرفة العلمية تتأتّى ممّا يُمكن أن يرقى إلى برنامج حاسوبي، يثير موضوع الحسابات المطولة التي يستعصي إنجازها. فمسألة مندوب المبيعات المتجول الشهيرة(1)، التي تبحث عن أقصر طريق يصل بين عدد كبير من المدن، هي مسألة بالغة الصعوبة، ويعتقد نفر واسع من الباحثين بأن صعوبتها تتزايد أسّيا بازدياد عدد المدن. وعلى سبيل المثال فإن تحديد أفضل خطوط الرحلة التي يتعين على مندوب المبيعات أن يسلكها لزيارة 100 مدينة يتطلب فحص 1×… × 97 ×98 ×99 ×100(أو!100: عاملي المئة) احتمال ـ وهذه مهمة يستغرق إنجازها زمنا يقدر ببلايين السنين لدى استخدامنا أسرع الحواسيب.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N2_H01_006691.jpg

يحتاج مندوب المبيعات المتجول إلى أسرع الحواسيب في العالم لتعمل بلايين السنين كي تحسب أقصر الطرق بين 100 مدينة. وحاليا، يبحث العلماء عن طرق تجعل مثل هذه المسائل المرهقة أسهل تناولا.

 

إن مِثْلَ هذه الحسابات ممكن، من حيث المبدأ على الأقل، وينصب اهتمامنا على المسائل التي لا يوجد لها البتة برنامج يمكنه أن يوفر جوابا. تُرى، ما الذي يجب أن يتّسم به عالَم الظواهر الفيزيائية كي يطرح ذلك النوع من المسائل التي يستحيل توفير جواب منطقي لها كما هي الحال في علم الرياضيات؟ إنني أعتقد بأنه يتعين على الطبيعة عندئذ إمّا أن تكون غير متّسقة inconsistent، وإمّا أن تكون غير تامة incomplete بالمعنيين التاليين. فالاتّساق يعني عدم وجود مفارقات paradoxes حقيقية في الطبيعة. وبوجه عام، فعندما نواجه ما يبدو بأنه مفارقة ـ مثل انبثاق الغازات التي بدا لنا وكأنها تُقْذَفُ من الكويزَرات بسرعات تتجاوز سرعة الضوء ـ فإن القيام بمزيد من البحوث وفّر لنا حلا لاستبعادها. (لقد تبين أن الانبثاقات “ذات الضيائية المفرطة” superluminal هي خداع بصري ناجم عن حقائق نسبوية relativistic.)

 

ويعني تمام الطبيعة completeness of nature أنه لا يمكن لحالة فيزيائية أن تنشأ من دون سبب إطلاقا، أي إن هناك سببا لكل ظاهرة. وقد يعارض بعض المحلِّلين ادّعاءنا بأن الطبيعة متسقة وتامة مُسْتَشْهِدِينَ بالنظرية الكموميةquantum theory. وفي الحقيقة، فإن المعادلة التي تَحْكُمُ المعادلة الموجية لظاهرة كمومية توفّر تفسيرا سببيا causal لكل ملاحظة (التّمام)، كما أنها محدّدة تماما في كل لحظة من الزمن (الاتساق). ويعود السبب في نشوء “المفارقات” المشهورة في الميكانيك الكمومي إلى أننا نصرّ على التفكير في الأشياء الكمومية على أنها كلاسيكية (تقليدية).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N2_H01_006692.jpg

تدرس مسألة انطواء البروتين كيف ينطوي حبل من الحموض الأمينية (في الأعلى) بلحظات في بروتين ثلاثي الأبعاد معقد تعقيدا شديدا (في اليمين). ويقوم البيولوجيون الآن بإجراء بحوث تهدف إلى حل لغز “القواعد” الكيميائية الحيوية التي تخضع لها البروتينات في إنجاز هذه العملية غير العادية.

 

ثُلاثِية من الأحجيات

في اعتقادي، إن الطبيعة متسقة وتامة. ومن ناحية أخرى، فإن اعتماد العلم على الرياضيات والمنطق يحدّ من قدرته على الإجابة عن أسئلة معينة تدور حول العالم الطبيعي. ولفهم هذا الكلام فَهْما أدق فإننا سنتناول ثلاث مسائل معروفة من العلوم الفيزيائية والبيولوجية والاقتصادية.

 

• استقرار النظام الشمسي. إن أشهر مسائل الميكانيك التقليدي هي مسألة N-جسم N-body problem. وباختصار، فإن هذه المسألة تدرس سلوك عدد قدْره N من الكتل النقطية التي تتحرك وفقا لقانون الجذب التثاقلي gravitational النيوتني. ومن الأمور التي تتناولها هذه المسألة بالدراسة تحديد ما إذا كان من الممكن لاثنين أو أكثر من هذه الأجسام أن تتصادم، أو كان بالإمكان لواحد منها أن يكتسب سرعة عالية كيفية arbitrary خلال زمن منته. وفي عام 1988 بيّن <Z. كْسِيَا>Xia  (من جامعة نورثويسترن في رسالته التي قدمها للحصول على الدكتوراه) كيف يمكن لجسم منفرد يتحرك جيئة وذهابا بين منظومتين ثنائيتينbinary system أن يبلغ سرعة كيفية عالية تؤدي إلى طرده من المنظومة (التي مجموع كتلها خمس.) وهذه النتيجة، التي كانت تفترض أنه كان للكتل الخمس تشكيل هندسي محدّد، لا يتعين عليها شيء يتعلق بالحالة الخاصة لمنظومتنا الشمسية. ومع ذلك فإنها توحي باحتمال عدم كون منظومتنا الشمسية مستقرة. والأهم من ذلك، فإن هذا الكشف يقدم أدوات جديدة يمكننا بالاستعانة بها دراسة هذه المسألة.

 

* انطواء البروتين. إن لجميع البروتينات التي تُكَوِّنُ المتعضّيات oraganismالحيّة كلَّها شكل متتاليات مؤلفة من عدد كبير من الحموض الأمينية منظَّمة في سلسلة مثل خرزات في قلادة. وحالما توضع الخرزات في المتتالية الصحيحة، فإن البروتينات تنطوي بسرعة في بنية محددة تماما ثلاثية البعد تحدِّد وظيفتها في المتعضية. وقد قُدِّرَ أنّ حاسوبا فائقا يستعمل قواعد مقبولة لانطواء البروتين يحتاج إلى 10127 سنة لإيجاد الشكل النهائي للانطواء في حال متتالية قصيرة جدا مؤلفة من 100 حمض أميني فقط. وفعلا، ففي عام 1993 بيّن <S .A. فْرَانْكِلْ>، من جامعة بنسلڤانيا، أن الصياغة الرياضياتية لمسألة انطواء البروتين “صعبة” من ناحية حساباتها، ولا تقل صعوبة في هذه الناحية عن مسألة مندوب المبيعات المتجول، تُرى، كيف تنفذها الطبيعة.

 

فعّالية السوق. إن إحدى الدعامات التي تستند إليها النظرية الأكاديمية التقليدية في العلوم المالية هي أن الأسواق المالية “فعّالة” efficient. ويعني هذا أن السوق تعالج مباشرة جميع المعلومات المتعلِّقة بسعر سلعة أو سهم وتدمجها في السعر الحالي للسند المالي. ومن ثَمّ فإن الأسعار يجب أن تتحرك على نحو عشوائي لا يمكن التنبؤ به، هذا إذا أسقطنا من حسابنا أثر التضخم. وهذا بدوره يعني أن الخطط التجارية المبنية على أي معلومات متيسرة للجميع، مثل البيانات الماضية للسعر، يجب أن تكون عديمة الفائدة، فلا وجود لخطة أفضل من السوق ككل خلال فترة ذات شأن. بَيْدَ أنّ الأسواق الفعلية لا تُولي النظريةَ الأكاديمية اهتماما كبيرا. فالمراجع في العلوم المالية مملوءة “بشذوذات” تعانيها الأسواق، مثل مفعول نسبة السعر المنخفض إلى الأرباح الذي ينص على أن أسهم الشركات التي تكون أسعارها منخفضة بالنسبة إلى أرباحها، يكون أداؤها على الدوام أفضل ما في السوق كلها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N2_H01_006693.jpg

منظومة مكونة من N-جسم فيها نقطة مادية تتأرجح بين منظومتين ثنائيتين (في اليسار)، وهذه المنظومة غير مستقرة وفقا لمبرهنة قدّمها <Z. كْسِيَا> من جامعة نورثويسترن. ومثل هذا البحث قد يبين ما إذا كانت المنظومة الشمسية ستطرد في وقت من الأوقات أحد كواكبها مبعدة إياه إلى الفضاء السحيق.

 

عدم واقعية الرياضيات

لقد قَدَّمَ فَحْصُنَا للمسائل الثلاث التي طرحناها ما يبدو بأنه ثلاثة أجوبة: أولها أن النظام الشمسي قد لا يكون مستقرا، وثانيها أن أنطواء البروتين صعب من ناحية حساباته، وثالثها أنه يُحتمل بأن تكون الأسواق المالية غير فعّالة تماما. لكن الشيء المشترك بين هذه “الأجوبة” المزعومة هو أن لكل منها تمثيلا رياضياتيا لسؤال العالَم الحقيقي وليس للسؤال نفسه. فعلى سبيل المثال، فإن حلّ <كْسِيَا> لمسألة N – جسم لا يفسر كيفية تحرك الأجرام السماوية الحقيقية وفقا للقوى التثاقلية للعالَم الحقيقي. كذلك فإن استنتاج فرانكل بأن انطواء البروتين أمر يصعب حسابه، يخفق في تبيان كيفية تمكّن البروتينات الحقيقية من أن تنجز مهمتها في ثوان بدلا من دهور. وبالطبع فإن العامِلين البارعين في وول ستريت لم يعيروا فرضية السوق الفعالة أيَّ أهمية طوال عقود من الزمن. ومن ثَم فإنه لاستنباط أي نتائج حول عجز العلم عن معالجة هذه المسائل يتعين علينا إما أن نعتبر أن النموذج الرياضياتي ليس ممثِّلا أمينا للعالَم الفيزيائي وإما أن نعتبر الرياضيات غير متكيفة. وفيما يلي سندرس كلا من هذين الاحتمالين.

 

ما تبينه هذه الأمثلة هو أنه إذا كنا نود البحث عن أسئلة لا جواب لها في العالَم الحقيقي فيتحتم علينا التمييز بدقة بين عالَم الظواهر الطبيعية والبشرية وبين النماذج الرياضياتية والحساباتية computational لهذين العالَميْن. فأشياء العالم الحقيقي تتألف من كميات قابلة للرصد المباشر، كالزمن والموقع، أو من كميات، كالطاقة، تُشْتَق منها. وهكذا فإننا ننظر في وسطاء مثل المواقع المحدّدة بالقياس للكواكب أو الشكل الحقيقي المرصود للبروتين. ومثل هذه الأشياء المرصودة تكون عموما مجموعة متقطعة discrete من القياسات تأخذ قِيَمَهَا في مجموعة منتهية من الأعداد. وزيادة على ذلك فإن مثل هذه القياسات ليست عموما مضبوطة.

 

وبالمقابل فلدينا في عالَم الرياضيات تمثيلات رمزية لِمَا يمكننا رصده في العالم الحقيقي حيث يُفترض غالبا في الرموز أنها تنتمي إلى سلسلة متصلةcontinuous في كلٍّ من المكان والزمان. وعادة يكون للرموز الرياضياتية التي تمثل صفات مميزة كالموقع والسرعة قيم عددية تُمَثَّلُ بأعداد صحيحة أو حقيقية أو عقدية، وكلها تنتمي إلى مجموعات تحوي عددا غير منته من العناصر. ومفهوم الاختيار في الرياضيات الذي يجسد الارتياب هو العشوائية.

 

وأخيرا، فهنالك عالَم الحسابات الذي يشغل موقعا لافتا للنظر، إذ إن له قَدَما في العالم الحقيقي للأدوات الفيزيائية وقَدَمًا أخرى في عالم الأشياء الرياضياتية المجردة. وإذا فكَّرنا في الحسابات على أنها تنفيذُ مجموعة من القواعد، أو خوارزمية، فإن هذه العملية هي عملية رياضياتية صرفة تنتمي إلى عالَم الأشياء الرمزية. بَيْدَ أنه إذا اعتبرنا عمليةَ حساباتٍ على أنها عملية تدوير مفاتيح في ذاكرة آلة حاسوبية حقيقية، فإنها عملية راسخة الجذور في عالم الأشياء الفيزيائية التي يُمكن رصدها.

 

إن إحدى الطرق التي يمكن سلوكها لتبيان ما إذا كان سؤال معطى تستحيل الإجابة عنه منطقيا بالاستعانة بالوسائل العلمية هي أن نُقْصِرَ جميع المناقشات والحجج على عالَم الظواهر الطبيعية دون غيره. فإذا سلكنا هذا الطريق، فإنه يُحْظَرُ علينا ترجمة سؤال مثل “هل المنظومة الشمسية مستقرة؟” إلى قضية رياضياتية، ومن ثم استنتاج جواب بتطبيق آلية البرهان المنطقي في الرياضيات. بعد ذلك نواجه مشكلة إيجاد بديل في العالم الفيزيائي لمفهوم البرهان الرياضياتي.

 

ويمثِّل مفهوم السببية causality مرشَّحا جيدا لهذا البديل. فمن الممكن اعتبار سؤال قابلا للإجابة عنه علميا، من حيث المبدأ، إذا كان بالإمكان توليد سلسلة من الحجج السببية التي يمثل الجوابُ عن السؤال الحلقة الأخيرة فيها. هذا وليس من الضروري التعبيرُ عن حجّةٍ سببية بعبارات رياضياتية. فعلى سبيل المثال، إن الحجّة السببية المعروفة “كل إنسان فانٍ، سقراط إنسان، إذًا سقراط فانْ”، هي سلسلة سببية. وهنا لا وجود للرياضيات، فالموجود هو لغة إنكليزية بسيطة. وبالمقابل، فإن إنشاء حجة سببية مقنعة دون اللجوء إلى الرياضيات قد يكون مهمة مرهقة. ففي حالة استقرار المنظومة الشمسية، مثلا، علينا العثور على تعاريف مثيرة غير رياضياتية للكواكب والثقالة gravity.

 

وبوجود هذه الصعوبات، فإنه يبدو من الحكمة إمعان النظر في أساليب تمزِج عالمَيْ الطبيعة والرياضيات. فإذا أردنا إقحام آلية البرهان في الرياضيات لحل مسألة خاصة من مسائل العالَم الحقيقي، فمن الضروري أولا “تكويد”encode السؤال كقضية في نظام رياضياتي معين، كأن تكون معادلة تفاضلية أو بيانا أو لعبة يشارك فيها N من الأشخاص. ونحلّ الصيغة الرياضياتية للسؤال باستعمال وسائل وتقنيات هذا الجانب الخاص من العالم الرياضياتي مما يؤدي في نهاية المطاف إلى “فكّ كود” الجواب (إن وجد) بمصطلحات العالَم الحقيقي. ويتجلّى أحد التحديات هنا في إثبات أن الصيغة الرياضياتية للمسألة هي تمثيل أمين للسؤال كما يَرِدُ في العالَم الحقيقي. تُرى، كيف لنا أن نعرف بوجود علاقات بين النماذج الرياضياتية لمنظومة طبيعية والمنظومة نفسها. إن هذا لغز فلسفي محيّر قديم يترتب عليه تأسيس نظرية للنماذج بغية حلّه. إضافة إلى ذلك، فإن الحجج الرياضياتية قد تكون عرضة لبعض التقييدات التي أوردها گوديل وتيورينك وشيتين، ونحن لا نعلم حتى الآن ما إذا كان العالم الحقيقي يخضع لتقييدات مماثلة.

 

العقل غير الحسابي

قد توجد طرق لتجنّب هذه القضايا. فالمسائل التي حدّدها گوديل وآخرون غيره، تتعلق بمنظومات عددية عناصرها غير منتهية، كمجموعة الأعداد الصحيحة كلِّها مثلا. لكنّ كثيرا من مسائل العالَم الحقيقي، كمسألة مندوب المبيعات المتجول، تحوي عددا منتهيا من المتغيرات يمكن لكل منها أن يأخذ عددا منتهيا فقط من القيم.

 

وعلى نحو مشابه، فإن أساليب التفكير غير الاستنتاجية ـ كالاستقراء مثلا، حيث نقفز إلى استنتاج عام انطلاقا من عدد منته من ملاحظات معينة ـ يُمكنها أن تأخذنا إلى ما وراء عالَم استحالةِ إمكان الوصول منطقيا إلى قرار. ومن ثَمَّ فإذا قصرنا صياغاتنا الرياضياتية على المنظومات التي تستعمل مجموعات منتهية من الأعداد أو المنطق غير الاستنتاجي، أو كليهما، فإن كل سؤال رياضياتي يجب أن يكون قابلا للإجابة عنه؛ وعندئذ يُمْكِنُنَا أن نتوقع بأنْ يكون سؤال العالَم الحقيقي المقابل الذي فُكَّ كوده، قابلا للإجابة عنه أيضا.

 

وقد تُبَيِّنُ البحوثُ التي تُجْرَى على العقل البشريِّ طُرُقا أخرى لتجاوز القيود المنطقية. وقد اقتَرح بعضُ مؤيدي الذكاء الصنعي أنّ أدمغتنا ليست سوى حواسيب، وإنْ تكن معقدة جدا، بإمكانها إنجاز حسابات بالأسلوب المنطقي التدريجي نفسه الذي تتبعه الحواسيب التقليدية (وحتى المعالجات الموازية والشبكات العصبية.) بَيْدَ أنّ العديد من المنظِّرين وفي مقدمتهم عالِم الفيزياء الرياضياتية <R. پنروز>، من جامعة أكسفورد، يحاجّون في أنّ نشاط اكتساب المعارف عند الإنسان لا يستند إلى أي قواعد استنتاجية معروفة، ومن ثَم فإنه غير معرّض لأي قيود من مثل تلك التي أوردها گوديل.

 

ومنذ عهد قريب دُعِمَتْ وجهةُ النظر هذه بدراسات أُجريت برعاية معهد الدراسات المستقبلية في ستوكهولم، اشْتَرَكْتُ فيها مع عالمة النفس <A .M. بودين>، من جامعة سَسِكْسْ، وعَالِمُ الرياضيات <G .D. ساري>، من جامعة نُورْثْوِيسترن، وعالِم الاقتصاد <E .A. أندرسون> (مدير المعهد) وآخرون. ويوحي بحثنا إيحاء قويا بأنه في الفنون، وكذلك في العلوم الطبيعية والرياضيات، لا تَخْضَعُ الطاقةُ الإبداعيةُ البشريةُ للقيود الصارمة التي تفرضها الحسابات التي تنفَّذ باستخدام الحاسوب. ويخمّن پنروز ومنظِّرون آخرون أن الإبداع البشري ينطلق من آليات أو قواعد مازالت مجهولة يُحتمل أن تكون ذات صلة بالميكانيك الكمومي. ولدى إماطة اللثام عن هذه الآليات ودمجها في النهج العلمي، فقد يغدو العلماءُ قادرين على حلِّ بعض المسائل التي يبدو وكأنها تستعصي على الحل.

 

وبالطبع فإنّ قدرة العلم على سبر أغوار أسرار الطبيعة محدودة لعدة اعتبارات عملية ـ من مثل خطأ القياس وطول مدة الحسابات والمصادر المادية والاقتصادية، والإرادة السياسية والقيم الثقافية. بَيْدَ أنه لا علاقة لأيٍّ من هذه الاعتبارات بالسؤال عمّا إذا كان هناك حدود منطقية لإجابتنا عن سؤالٍ محدَّد يدور حول العالم الطبيعي. وفي رأيي إن هذه الحدود لا وجود لها. وهكذا فإن القيام بجولة في رياضيات القرن العشرين لن يسبب لنا أي إزعاج على الرغم من كل شيء.

 

 المؤلف

John L. Casti

أستاذ في الجامعة التقنية بڤيينا وفي معهد سنتافي.

 

مراجع للاستزادة 

SEARCHING FOR CERTAINTY. John L. Castl. William Morrow, 1991.

RANDOMNESS AND UNDECIDAB11.1’I’Y 1N P}1YSIC5. K. Svozil. World Scientific, Singapore, 1994.

BOUNDARIES AND BARRIERS. Edited by John L. Casti and A. Karlqvist. Addison-Wesley, 1996.

Scientific American, October 1996

 

(1) [انظر : ” كسر الاستعصاء على الحل”، مجلة العلوم، العدد 11 (1995)، ص 10].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى