أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاءفلك وعلم الكونيات

الأشعة الكونية

الأشعة الكونية

عند حدود الطاقة

تحمل هذه الجسيمات من الطاقة أكثر مما تحمله أية

 جسيمات أخرى في الكون. ومع أن مصدرها مازال

 مجهولا، إلا أنه قد يكون قريبا منا نسبيا.

<W .J. كْرونِينْ> ـ <K .Th. گِيسِرْ> ـ <P .S. سُوْردِي>

 

في كل ثانية تقريبا يقتحم جسيم دون ذري subatomic جو الأرض حاملا معه طاقة تعادل طاقة صخرة قُذِفَتْ بقوة. ويترتب على هذه الحقيقة وجود قوى في مكان ما من الكون يمكنها أن تمنح لبروتون واحد طاقة تتجاوز 100 مليون مرة الطاقة التي يمكن أن يوفرها أقوى المسرِّعات المقامة على الأرض. تُرَى، من أين تنطلق هذه القوى، وكيف؟

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H04_006882.jpgتنطلق الجسيمات في المراحل الأولى من سلسلة التصادمات بسرعة هي من العلو بحيث تتجاوز سرعة الضوء في جو الأرض العلوي الرقيق (والتي هي أصغر قليلا جدا من سرعة الضوء في الخلاء) ومن ثم تُصدر إشعاع تشيرينكوڤْ ـ وهو نظير ضوئي لدويّ اختراق جدار الصوت.

 

فيما تضرب الجسيمات التي ولَّدها التصادم الأوليُّ النوى الجويةَ، فقد تولِّد طاقتها جسيمات إضافية وإشعاعا عالي الطاقة. وبناء على قانون انحفاظ كمية الحركة فإن معظم المادة المولّدة تسير في الاتجاه نفسه للشعاع الأولي، إلا أن الفوتونات قد تنطلق في جميع الاتجاهات.

 

لقد بددت الميونات وأنقاض أخرى للأشعة الكونية بقيت حتى نهاية الوابل الهوائي قدرا كبيرا من الطاقة، حتى إن تفاعلها مع الجو غالبا ما يولد ضوءا فوق بنفسجي ينتج من تمزق مدارات (مستويات) طاقة الإلكترون. ويُمكن كشف هذا الضوء بوساطة مضاعفات ضوءphotomultipliers  حساسة. وفي الحوادث القوية جدا، تصل بعض الجسيمات الصادرة عن الوابل الأرضَ حيث يمكن كشفها أيضا.

 

كانت الأشعة الكونية ـ وهي نوى ذرية تسير بسرعة الضوء تقريبا ـ تقطن كونا نسبويا عجيبا مصغرا قبل اندفاعها بعنف إلى نوى ذرات غاز الجو الذي يعلو الأرض علوا كبيرا. وتتحوّل نسبة كبيرة من الطاقة الواردة إلى مادة على شكل جسيمات دون ذرية تتضمن الميونات التي ترتطم هي الأخرى، بشدة، بذرات أخرى في الجو لتولّد “وابلا” هوائيا. وينتج من هذا أيضا صدور أشعة گاما.

 

لقد شغل هذان السؤالان بال الفيزيائيين منذ اكتشاف الأشعة الكونية أول مرة عام 1912 (مع أنه تبيّن الآن أن هذه الأشياء التي نسميها أشعة هي في الواقع جسيمات، إلا أن اسم “الأشعة” مازال يُطلق عليها حتى الآن). ويحوي الوسط الكائن بين النجوم نوى ذرية لجميع العناصر الواردة في الجدول الدوري، وهذه النوى تتحرك كلها بتأثير الحقلين الكهربائي والمغنطيسي، ولولا أثر الحَجْبِscreening الذي يقوم به جو الأرض، لخلّفت الأشعة الكونية تهديدا خطيرا لصحة البشر. وفعلا، فالناس الذين يعيشون في المناطق الجبلية، أو الذين يقومون برحلات كثيرة على متن الطائرات، يتعرضون لجرعة إضافية من الإشعاع وبكميات ملموسة.

 

وقد تكون أهم سمة لهذا الإشعاع هي أن الباحثين لم يعثروا بعد على حد طبيعي لطيف الإشعاع الكوني. وجدير بالذكر أن لمعظم المصادر المعروفة للجسيمات المشحونة ـ مثل الشمس وريحها الشمسية ـ حدودا مميزة للطاقة، إذ إنها لا تولّد جسيمات تتجاوز طاقاتها هذه الحدود. وبالمقابل، فإن الأشعة الكونية تظهر بطاقات أعلى مما يمكن لعلماء الفيزياء الفلكية قياسه. وقد توقفت البيانات (المعطيات) عند مستويات تقدر بنحو 300 بليون ضعف طاقة الكتلة السكونية rest-mass  للبروتون وذلك لعدم توافر مكشافات في الوقت الحاضر هي من الضخامة بحيث يمكنها أخذ عينات من العدد القليل جدا من الجسيمات الواردة التي تم التنبؤ بها.

 

ومع ذلك فقد توافرت على فترات زمنية قدرها عدة سنوات أدلة على وجود أشعة كونية ذات طاقات فوق عالية ultrahigh، وكانت هذه الأشعة على شكل جسيمات تضرب الجو مولِّدة أعدادا ضخمة من الجسيمات الثانوية (التي يكون كشفها أسهل). وعلى سبيل المثال ففي 15/10/1991 سجل مرصدٌ للأشعة الكونية في صحراء يوتا بالولايات المتحدة وابلا من الجسيمات الأولية من شعاع كوني طاقته 50 جول

(1020× 3 إلكترون ڤلط). ومع أن تدفق flux الشعاع الكوني يتناقص مع ازدياد طاقته، فإن هذا التناقص يتوقف عند قيمة تتجاوز قليلا 1016  إلكترون ڤلط مما يوحي بأن الآليات المسؤولة عن الأشعة الكونية ذات الطاقات فوق العالية تختلف عن تلك الآليات المسؤولة عن الأشعة ذات الطاقات الأكثر اعتدالا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H04_006883.jpg

يُعتقد بأن مسرّع الأشعة الكونية ناتج من انفجار مستعر أعظمي. ويفترض علماء الفيزياء الفلكية أن النوى الذرية التي تخترق جبهة موجات الصدم الناتجة من المستعر الأعظمي تكتسب طاقة من الحقول المغنطيسية المضطربة المغمورة في الصدمة. وقد يُحْرَفُ مسارُ جسيمٍ بحيث يعبر حدودَ الصدمة مئات، أو حتى آلافٍ، من المرات ويكتسب مزيدا من الطاقة في كل عبور إلى أن يتحرر على شكل شعاع كوني. وتسلك معظمُ الجسيمات مسارات تجعلها تسير بتسارعات ضئيلة نسبيا هي التي تسبب الشكل العام لطيف طاقة الأشعة الكونية (أقصى اليمين) التي تتساقط بطاقات عالية. وتوحي “الركبة” أو الانحناء في المنحني بأن معظم الجسيمات تُسَرَّعُ بآلية غير قادرة على منح أكثر من 1015إلكترون ڤلط. وتشير الزيادة النسبية للجسيمات ذات الطاقات فوق العالية إلى وجود مصدر تسريع إضافي مازالت طبيعته مجهولة حتى الآن.

وفي عام 1960 تقدم <B. پيترز>، من معهد تاتا Tata في بومباي، بفرضية  مفادها أن الأشعة الكونية ذات الطاقات المنخفضة تتولد في معظمها داخل مجرتنا، في حين تأتينا الأشعة ذات الطاقات العالية من مصادر أخرى بعيدة. وأحد الأسباب الداعية لمثل هذا الاعتقاد هو أن بروتون الشعاع الكوني الذي يحمل طاقة تتجاوز 1019 إلكترون ڤلط، مثلا، لن ينحرف انحرافا ذا شأن بوساطة أيٍّ من الحقول المغنطيسية التي تولّدها إحدى المجرات عادة، ومن ثَمّ فإنه لا بد من أن يسير على خط مستقيم إلى حد ما. ولو كانت مثل هذه الجسيمات صادرة عن داخل مجرتنا، لتوقّعنا رؤية أعداد مختلفة آتية من جهات مختلفة لأن مجرتنا لا تتسم بالتناظر حولنا. وخلافا لذلك فإن توزّع الأشعة الكونية متناح(1) isotropicبصورة أساسية، على عكس توزع الأشعة ذات الطاقات المنخفضة والاتجاهات المبعثرة.

 

مضخات المستعرات الأعظمية

تدل مثل هذه الاستنتاجات الضعيفة على ندرة معلوماتنا الأكيدة حول مصدر الأشعة الكونية. ولدى علماء الفيزياء الفلكية نماذج جديرة بالقبول عن الكيفية التي ربما تكوّنت هذه الأشعة وفقها، بيد أنه لا وجود لإجابات قاطعة. وقد تكون هذه القضية المثيرة للجدل ناجمة عن الفرق الذي لا يمكن تصوره تقريبا بين الظروف على الأرض وبين الظروف السائدة في البقاع التي تنشأ فيها الأشعة الكونية. فالفضاء الكائن بين النجوم لا يحوي سوى ذرة واحدة تقريبا في كل سنتيمتر مكعب، وهذه كثافة أخفض كثيرا من كثافة أفضل خلاءات صنعية يمكننا توليدها. إضافة إلى ذلك، فإن هذه البقاع مليئة بحقول كهربائية ومغنطيسية شاسعة مرتبطة بمجموعة واسعة الانتشار من جسيمات مشحونة عددها أقل حتى من عدد الذرات المتعادلة neutral atoms.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H04_006884.jpg

يرصد مكشاف وابل هوائي آثار الأشعة الكونية التي تقتحم أعالي جو الأرض. ويمكن للمكشافات الضوئية photodetectors أن تتعقب الضوء الذي تحدثه الجسيمات التي تتفاعل مع جسيمات الهواء وتحدد الطاقة والهوية المحتملة للأشعة الواردة. ومكشاف Fly’s Eye (المبين في الحشد المتراص في أقصى يمين الصورة) مقام في صحراء يوتا بالولايات المتحدة.

 

إن هذه البقاع أبعد من أن تكون مكانا هادئا كما يمكن أن نتوقع: فالكثافات المنخفضة تسمح للقوى الكهربائية والمغنطيسية بالتأثير في مدى مسافات شاسعة ومقاييس زمنية كبيرة، أما في المواد ذات الكثافات الأرضية فإن هذه القوى سرعان ما تضمحل وتخمد. ومن ثم فإن الفضاء الكائن بين المجرات يعج ببلازما طاقية ومضطربة مكوّنة من غاز مؤين في حالة نشاط عنيف. وغالبا ما يكون رصد حركة هذه البلازما أمرا صعبا بالمقاييس الزمنية البشرية نظرا لكبر المسافات الفلكية. ومع ذلك فإن هذه المسافات ذاتها تسمح حتى للقوى المعتدلة بتحقيق نتائج باهرة. فقد ينطلق جسيم عبر مُسَرِّعٍ أرضي ويقطعه خلال بضعة أجزاء من مليون من الثانية، في حين أنه يمكن أن يقضي سنين أو حتى آلاف السنين في النظير الكوني لهذا المسرّع. (وتتسم المقاييس الزمنية بمزيد من التعقيد ناجم عن مناط الإسناد الغريب الذي تشوهه نظرية النسبية والذي تقطنه الأشعة الكونية ذات الطاقات فوق العالية. فإذا أمكننا رصد مثل هذا الجسيم طوال 000 10 سنة، فإن هذه المدة تقابل ثانية واحدة فقط بالنسبة إلى الجسيم في مناط إسناده.)

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H04_006885.jpg

 

وقد خمّن الفلكيون زمنا طويلا أن معظم الأشعة الكونية المجرّيّة ـ وهي تلك التي تقل طاقاتها عن 1016 إلكترون ڤلط تقريبا ـ تنطلق من المستعرات الأعظمية. وثمة سبب وجيه لهذه النظرية هو أن الطاقة اللازمة لاستمرار ضخ نوى الأشعة الكونية في مجرتنا (درب التبانة) لا تنخفض إلا قليلا عن متوسط الطاقة الحركية التي تُنْقَلُ إلى الوسط الكائن بين المجرات نتيجةً للانفجارات الثلاثة للمستعرات الأعظمية التي تحدث كل قرن. وهناك مصادر قليلة أخرى لهذه الكمية من الطاقة في مجرتنا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H04_006886.jpg

 

وحين ينهار نجم ضخم تتفجر الأجزاء الخارجية منه وتنطلق بسرعات تصل إلى 10000 كيلومتر في الثانية، أو يزيد. ويتحرر قدْر مماثل من الطاقة حين يتعرض قزم أبيض إلى تفكك كامل إثْرَ انفجار حراري نووي. وفي كلا نمطي المستعرات الأعظمية تنطلق المادة المقذوفة بسرعات فوق صوتية محدثة موجات صدمية قوية في الوسط المحيط بها. ويُتوقع أن تؤدي هذه الموجات الصدمية إلى تسريع نوى مادة الوسط الذي تجتازه مُحَوِّلَةً إياها إلى أشعة كونية. ولما كانت الأشعة الكونية مشحونة، فإنها تسلك مسارات معقدة عبر الحقول المغنطيسية المنتشرة بين النجوم. ونتيجة لذلك لا تقدم اتجاهاتها المرصودة من الأرض أي معلومات عن موقع منبعها الأصلي.

 

ولدى إمعان الباحثين النظر في الإشعاع السنكروتروني synchrotron radiation الذي يترافق أحيانا مع مخلفات مستعرات أعظمية، فقد توصلوا إلى دليل مباشر على أن المستعرات الأعظمية يمكن أن تؤدي عمل مسرعات، والإشعاع السنكروتروني هو سمة مميزة للإلكترونات العالية الطاقة التي تتحرك في حقل مغنطيسي شديد من النوع الذي يمكن أن يؤدي عمل مسرّعِ أشعة كونية، ووجود أشعة سينية سنكروترونية في مخلّفات بعض المستعرات الأعظمية يوحي بوجود طاقات عالية جدا. (وفي التجهيزات المقامة على الأرض، تحدّ الإصدارات السنكروترونية من طاقة الجسيم، ذلك أن معدل الإصدار يزداد فيما تتعاظم سرعة الجسيم. وفي إحدى المراحل، يستنزف الإشعاعُ طاقة من جسيم متسارع بالسرعة التي يُمكن ضخّها فيه.) ومنذ عهد قريب، التقط ساتل (قمر صنعي)satellite الأشعة السينية الياباني أسكا Asca صورا لقشرة المستعر الأعظمي  1006 الذي انفجر منذ 990 سنة. وخلافا للإشعاع المنبعث من داخل الأنقاض، فإن للإشعاع السيني المنبعث من القشرة السمات نفسها المميّزة للإشعاع السنكروتروني. وقد استخلص المتخصصون بالفيزياء الفلكية أنه يجري تسريع الإلكترونات هناك لتصل طاقتها إلى 1014 إلكترون ڤلط (1000 تريليون إلكترون  ڤلط.)

 

وقد استُعمِل أيضا المكشاف EGRET في مرصد كومپتون لأشعة گاما ComptonGamma Ray Observatory  لدراسة المنابع (المصادر) النقطية لأشعة گاما التي ترافق بقايا المستعرات الأعظمية. هذا وإن الشدات والأطياف المرصودة (وصولا إلى بليون إلكترون ڤلط) تنسجم مع ما ينشأ عن اضمحلال جسيمات تُسمّى بيونات متعادلة (حيادية) neutral pions  يمكن توليدها بالأشعة الكونية الناتجة من بقايا نجم منفجر لدى تصادمه مع الغاز بين النجمي القريب. بَيْدَ أنه ممّا يثير الاهتمام هو أن الاستكشافات، التي قام بها مرصد ويپل Whipple Observatory  المقام  على الأرض بحثا عن أشعة گاما تتمتع بطاقات أعلى كثيرا وتنشأ عن بعض تلك البقايا، لم تُسفر عن أي إشارات بالمستويات المتوقع وجودها فيما لو كانت المستعرات الأعظمية تقوم بتسريع جسيمات إلى 1014 إلكترون ڤلط أو أكثر من  ذلك.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H04_006887.jpg

يوضح الشكل منطادا على ارتفاع عال أُطلق قرب قاعدة ماك ميردو في القارة القطبية الجنوبية يحمل مكشافات للأشعة الكونية فوق معظم جو الأرض. وتهب رياح من ارتفاع 40 كيلومترا من القلنسوة الجليدية في دائرة حول القطب معيدة المنطاد إلى جوار النقطة التي انطلق منها بعد قرابة 10 أيام. ومع أن حساسية مكشافات المناطيد أقل من حساسية المكشافات الموضوعة على متن السواتل، إلا أنه يمكن جعلها أضخم بكثير، كما أن حملها أقل تكلفة إلى حد كبير.

 

وثمة طريقة متممة لاختبار ارتباط الأشعة الكونية ذات الطاقات العالية بالمستعرات الأعظمية، وهي تتضمن دراسة التركيب العنصري لنوى الأشعة الكونية، إن نصف قطر مدار جسيم مشحون في حقل مغنطيسي يتناسب مع زخمه (كمية حركته) momentum الكلي لكل وحدة من الشحنات، ومن ثم فللنوى الأثقل طاقة كلية أكبر في المدار الواحد. وهكذا فإن أي عملية تفرض حدودا على تسارع الجسيم على أساس نصف قطر المدار ستؤدي إلى زيادة كبيرة في النوى الثقيلة ذات الطاقات العالية.

 

وفي نهاية المطاف فإننا نرغب في أن نكون قادرين على السير شوطا أبعد والبحث عن الآثار العنصرية elemental signatures  للتسارع في أنماط محددة من المستعرات الأعظمية. وعلى سبيل المثال فإن المستعر الأعظمي الناشئ عن انفجار قزم أبيض سيسرِّع أي نوى تقطن في الوسط الكائن بين النجوم. وبالمقابل فإن كل مستعر أعظمي أعقب انهيار نجم ضخم يسرِّع الريح النجمية المحيطة به، وهذه سمة مميّزة للطبقات الخارجية لسلَف النجم في المراحل الأولى من نشوئه. وفي بعض الحالات، يمكن أن تحوي الريح نسبة عالية من الهيليوم أو الكربون، أو حتى نوى أثقل.

 

إن هوية الأشعة الكونية العالية الطاقة تنمحي تقريبا حين تتفاعل مع الذرات في جو الأرض وتكوّن وابلا من الجسيمات الثانوية. ومن ثَم، فكي تكون واثقا تماما من التركيب النووي، فمن الضروري إجراء قياسات قبل بلوغ الأشعة الكونية الجو الكثيف للأرض. ولسوء الحظ، فإن تجميع 100 شعاع كوني بطاقات قريبة من 1014 إلكترون ڤلط يتطلب وجود مكشاف مساحته 100 أمتار مربعة يسبح في مداره طوال ثلاث سنوات. والمكشافات النموذجية المتوافرة حاليا تكافئ مكشافا مساحته متر مربع واحد يعمل ثلاثة أيام فقط.

 

ويعالج الباحثون هذه المشكلة بإجراء بعض التجارب الإبداعية. وعلى سبيل المثال، فقد ابتكرت الوكالة ناسا تقنيات لوضع حمولات كبيرة (نحو ثلاثة أطنان) على متن مناطيد تصل إلى ارتفاعات عالية وتستقر هناك طوال عدة أيام. ولا تكلّف هذه التجارب سوى نسبة ضئيلة من تكلفة مكشاف يوضع على متن ساتل. وقد نفذت أكثر عمليات الطيران من هذا النمط في قارة القطب الجنوبي (الأنتاركتيكا) حيث تهب الرياح الجوية العليا في دائرة ثابتة تقريبا حول القطب الجنوبي.

 

وقد أُطلقت حمولة من القاعدة ماك ميردو ساوند على ساحل الأنتاركتيكا، وستسير على دائرة مركزها القطب الجنوبي تقريبا ثم تعود أدراجها في نهاية المطاف إلى موقع قريب من موقع الإطلاق. وقد جابت بعض المناطيد هذه القارة طوال10 أيام. ويقوم أحد كتاب هذه المقالة (سوردي)، بالتعاون مع <D. مولِرْ> و <P.  مِييَرْ>، من جامعة شيكاگو، بأخذ القياسات اللازمة عن طريق مكشاف على متن منطاد مساحته 100 أمتار مربعة يستطيع قياس أشعة كونية شديدة تصل طاقاتها إلى 1015  إلكترون ڤلط. وَثَمَّة جهود تُبذل لإطالة مدة التعريض للأشعة إلى 100 يوم تقريبا، وذلك بتنفيذ عمليات طيران مشابهة قريبة من خط الاستواء.

 

عبر الفضاء الواقع بين المجرات

إن دراسة الأشعة الكونية ذات الطاقات العالية التي تزيد حتى على هذه الطاقات ـ وهي التي تبثها مصادر مازالت خافية علينا ـ تتطلب مكشافات أرضية ضخمة يمكنها التغلب على التدفق الضعيف للأشعة وذلك برصد مناطق شاسعة طوال أشهر بل سنوات. بَيْدَ أنّ المعلومات يجب استخلاصها من سيل من الجسيمات الثانوية ـ إلكترونات وميونات muons وأشعة گاما ـ تنشأ في أعالي الجو عن نواة شعاع كوني وارد. وغاية ما يمكن لمثل هذه الأساليب غير المباشرة أن توحي به لا يتعدى تحديد السمات العامة لتركيب شعاع كوني على أسس إحصائية، وليس تحديد العدد الذري لكل نواة واردة.

 

وفي المستويات الأرضية تقوم ملايين الجسيمات الأولية التي يطلقها شعاع كوني واحد بالانتشار على مساحة نصف قطرها مئات من الأمتار. ولمّا كان من غير العملي تغطية مثل هذه المساحة الكبيرة بالمكشافات، فإن هذه المكشافات تبحث عن هذه الوابلات الهوائية في مواقع يبعد بعضها عن بعض بضع مئات من الأمتار، أو نحو ذلك.

 

وقد مكّنت التحسينات التي أُدخلت على مثل هذه التجهيزات من تكديس مجموعات متزايدة من البيانات المتطورة، وذلك بتنقيح النتائج التي يُمكننا استخلاصها من كل وابل. وعلى سبيل المثال، فإن تجربة CASA-MIA-DICE، التي أجريت في يوتا وشارك فيها اثنان من مؤلفي هذه المقالة (كرونين وسوردي)، تقيس توزعات الإلكترونات والميونات عند مستوى الأرض. وهي تتحرى كذلك ضوء تشِيرينْكُوڤْ Cerenkov (وهو نمط من موجات الصدم الضوئية التي تولّدها جسيمات تتجاوز سرعتها سرعة الضوء في الوسط المحيط بها) الذي تولّده زخّات من الجسيمات على مستويات مختلفة من الجو. وتمكّننا هذه البيانات من إعادة بناء هيئة الوابل على نحو أكثر وثوقية ممّا يجعلنا نتوصل إلى تخمين أفضل لطاقة الأشعة الكونية التي ولّدته ولهوية هذه الأشعة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H04_006888.jpg

 

ويعمل ثالثنا (گيسر) على صفيف(2) array يقيس الوابلات التي تصل إلى سطح القطب الجنوبي. وتُجْرَى هذه التجربة بالتنسيق مع AMANDA  التي  تتحرى وجود الميونات الطاقيّة التي تنشأ في الوابلات نفسها، وذلك برصد إشعاع تشِيرينْكُوڤْ الذي يتولد في أغوار القلنسوة الجليدية ice cap. والهدف الرئيسي الذي تسعى إليه AMANDA هو العثور على آثار للنيوترينوهات التي تولّدت في المسرّعات الكونية، والتي قد تولِّد وابلات تتدفق نحو الأعلى بعد عبورها الأرض.

 

وفضلا عن تجميع بيانات أفضل، فإن الباحثين عاكفون أيضا على تحسين المحاكيات الحاسوبية التي تنمذج كيفية نشوء الوابلات الهوائية. وتساعدنا هذه المحاكيات على فهم كل من إمكانات القياسات التي تؤخذ من الأرض وحدودها. ويجدر القول بأن التوسع إلى تجارب تحري طاقات أعلى للأشعة الكونية المباشرة، الأمر الذي يجعل كلا من المكشافات الأرضية والمحمولة في الجو تقوم برصد الأنماط ذاتها من الأشعة الكونية، سيساعد أيضا على معايرة بياناتنا التي تزودنا بها تجهيزاتنا الأرضية.

 

عمالقةٌ نادرون

إن الأشعة الكونية التي تفوق طاقاتها 1020 إلكترون ڤلط تضرب جو الأرض بمعدل جسيم واحد تقريبا لكل كيلومتر مربع في العام: ويترتب على هذا أن دراستها تتطلب مكشافا ضخما جدا للوابلات الهوائية. وفضلا على حادث عام 1991 في يوتا، فقد رُصِدَتْ جسيمات تتعدى طاقاتها 1020 إلكترون ڤلط من قِبَلِ مجموعات في أمكنة أخرى، في الولايات المتحدة وأكينو في اليابان وهافيرا بارك في المملكة المتحدة وياكوتسك في سيبيريا.

 

وتثير الجسيمات التي لها مثل هذه الطاقة العالية مشكلة تدعو إلى الحيرة. فمن ناحية، فإنه يُحتمل ورودها من خارج مجرتنا وذلك بسبب عدم وجود آلية تسريع معروفة يمكنها أن تولّدها، ولأنها تقترب من جميع الاتجاهات دون أن يكون أيُّ حقل مغنطيسي مجرّي كافيا لِثَنْي مسارها. ومن ناحية أخرى، فإن مصدرها لا يمكن أن يبعد عنا أكثر من قرابة 30 مليون سنة ضوئية، لأنه إذا لم يتحقق ذلك فقدت الجسيماتُ طاقةً بتفاعلها مع الخلفيّة الإشعاعية المكروية (الصغرية) microwave background  الكونية ـ وهي الإشعاع الذي تخلّف عن نشوء الكون نتيجة الانفجار الأعظم. ففي الكون النسبوي relativistic الذي تقطنه الأشعة الكونية الأعلى طاقة، فإن فوتونا وحيدا راديوي التردد radio-frequency  يمكن أن  يكون له من قوة التأثير بحيث يسلب جسيما الكثير من طاقته.

 

وإذا كانت مصادر مثل هذه الجسيمات العالية الطاقة موزعة بانتظام في الكون، فإن تفاعلها مع الخلفية الإشعاعية المكروية سيسفر عن تقليص حاد لعدد الجسيمات التي تفوق طاقاتها 1019 ×5 إلكترون ڤلط، إلا أن واقع الحال خلاف ذلك. ويوجد حتى الآن عدد جدّ قليل من الجسيمات التي تتجاوز طاقاتها هذه العتبة (1019× 5إلكترون ڤلط)، الأمر الذي يَحُولُ بيننا وبين معرفة حقيقة ما يجري. بيد أنه حتى هذا العدد القليل من الجسيمات التي رصدناها، فإنه يهيئ لنا فرصة فريدة لتقديم النظرية المناسبة. ولمّا كانت هذه الأشعة لم تُحْرَفْ بصورة جوهرية بوساطة الحقول المغنطيسية المنتشرة بين المجرّات، فإن قياس اتجاه سير عيّنة كبيرة لا بد أن يقدم حلولا للألغاز المحيطة بمواقع مصادرها.

 

إنه لأمر مثير للاهتمام أن نتفكّر في ماهية هذه المصادر. وثمة ثلاث فرضيات حديثة تقدم الاحتمالات التالية: أقراصُ تَنَامٍ لثقوب سوداء مجرية، وانبثاقات لأشعة گاما، وعيوبٌ طبولوجية في بنية الكون.

 

وقد تنبأ علماء الفيزياء الفلكية بضرورة وجود ثقوب سوداء، تعادل كتلها بلايين كتلة الشمس أو يزيد، تقوم بتجميع المادة في نوى المجرات النشيطة، وذلك لدفع دفقات نسبوي من المادة إلى داخل الفضاء الكائن بين المجرات بسرعات قريبة من سرعة الضوء، وقد رُسِمَتْ خرائطُ لهذه الدفقات بالمقاريب الراديوية. ويرى <L .P. پييرمان>، من معهد ماكس پلانك للفلك الراديوي في بون ومعاونوه، أن البقع الحارة التي تشاهَد في هذه الفصوص الراديوية هي جبهات موجات صدمية تسرّع الأشعة الكونية إلى طاقات فوق عالية. وثمة دلالات على أن اتجاهات الأشعة الكونية ذات الطاقات العظمى تتبع إلى حد ما توزع المجرات الراديوية في السماء.

 

وتنطلق التخمينات حول اندفاعات أشعة گاما من النظرية القائلة بأن هذه الاندفاعات تنجم عن انفجارات نسبوية قد تكون ناشئة عن التحام نجوم نيوترونية: وقد لاحظ <M. ڤييتري> ـ من مرصد روما الفلكي و <E. واكسمان> من جامعة برنستون، كل على حدة ـ شبها إلى حد ما بين الطاقة الموجودة في مثل هذه الجائحات والطاقة اللازمة لتزويد التدفق المرصود للأشعة الكونية ذات الطاقة العظمى. ويحاج الاثنان في أن موجات الصدم ذات السرعات فوق العالية والتي تسوقها مثل هذه الانفجارات تؤدي دورَ مسرّعات كونية.

 

وقد تكون أكثر الأفكار إثارة للاهتمام تلك التي مفادها أن الجسيمات ذات الطاقة فوق العالية مدينة بوجودها لتفكك أحاديات القطب monopoles  والأوتارstrings وجدران المدى(3) domain walls وعيوب طبولوجية(4) أخرى ربما سبق تكونها في بواكير الكون. ويُعتقد أن هذه الأشياء الافتراضية تحوي مخلفات طور مبكر أكثر تناظرا للحقول الأساسية في الطبيعة حين كانت قوى الثقالة والكهرمغنطيسية والقوى النووية الضعيفة والقوية مندمجة. ويُمكن اعتبارها، إلى حد ما، جيوبا لامتناهية في الصغر تحتفظ بِقطع من الكون على النحو الذي كان عليه في اللحظات الأولى التي أعقبت الانفجار الأعظم.

 

وفيما كانت هذه الجيوب تنهار ويختل تناظر القوى داخلها، كانت الطاقة المخزونة فيها تتحرر على شكل جسيمات فائقة الكتلة سرعان ما تفككت متحولة إلى دفقات من الجسيمات تصل طاقاتها إلى درجة تَكْبُرُ 000 100مرة طاقات جسيمات الأشعة الكونية ذات الطاقات فوق العالية. وفي هذا “السيناريو” فإن الأشعة الكونية ذات الطاقات فوق العالية التي نرصدها هي ذلك النتاج الضعيف نسبيا لشلالات الجسيمات الكونية.

 

وأيا كان مصدر هذه الأشعة الكونية، فإن ما يتحدانا هو جمع قدْر كاف منها للبحث عن علاقاتها الواضحة بالأجسام المنتمية إلى خارج مجرتنا. وللصفيفAGASA الموجود حاليا في اليابان مساحة فعالة قدرها 2000 كيلومتر مربع، كما أن تجربة المكشاف Fly’s Eye HiRes الجديدة في يوتا ستغطي قرابة 10000 كيلومتر مربع. بيْد أن كل مكشاف لا يمكنه أن يتصيد في السنة سوى بضعة جسيمات من ذات الطاقات فوق العالية.

 

وطوال السنوات القليلة الماضية، كان كل من كرونين و<A .A. واطسون> (من جامعة ليدز) يتقدمان الركب في السعي لتجميع عينة أكبر من الأشعة الكونية ذات الطاقات فوق العالية. ويسمى مشروعهما هذا مشروع أُوجيهْ Auger Project نسبة إلى پيير أوجيه، وهو عالم فرنسي كان أول من بحث في ظاهرة ارتباط وابلات الجسيمات بالأشعة الكونية. وخطة المشروع هي تهيئة مكشافات مساحتها 9000 كيلومتر مربع قادرة على قياس مئات الجسيمات العالية الطاقة كل سنة. وسيكون حقل المكشافات مؤلفا من عدة محطات في شبكة يفصل بين كل زوج منها 1.5 كيلومتر، وقد يتمكن جسيم وحيد أن يثير دستات من المحطات.

 

وقد بينت ورشة عمل حول تصميم مشروع أوجيه عُقدت في مختبر فيرمي للمسرّع الوطني عام 1995 كيفية تمكّن بعض التقانات الحديثة، كالخلايا الشمسية والهواتف الخلوية ونظام تحديد المواقع على الكرة الأرضية، من جعل بناء هذا النظام أسهل بكثير. وتجدر الإشارة إلى أن مكشافا بمساحة ولاية رود آيلاند يمكن بناؤه بكلفة تقريبية تعادل 50 مليون دولار. ولتغطية السماء كلها، فقد خطط لبناء اثنين من هذه المكشافات أحدهما لنصف الكرة الشمالي والآخر لنصف الكرة الجنوبي.

 

وفيما يواجه الباحثون مشكلة بناء مثل هذه الشبكات الضخمة للمكشافات وتشغيلها يبقى السؤال الأساسي قائما وهو: أيمكن للطبيعة إنتاج جسيمات طاقاتها أعلى من تلك التي رصدناها؟ وهل ثمة وجود لأشعة كونية ذات طاقات أعلى، أم أننا بدأنا فعلا بتحري وجود جسيمات طاقاتها هي أعلى الطاقات التي يمكن أن تتولّد في الكون؟

 

المؤلفون

James W. Cronin – Thomas K. Gaisser – Simon P. Swordy

يبحثون في المسائل النظرية حول كيفية ولادة الأشعة الكونية والمسائل العملية حول كشفها وتحليلها. يعمل كرونين أستاذا للفيزياء في جامعة شيكاگو منذ عام 1971، وقد حصل على الماجستير من هذه الجامعة عام 1953 وعلى الدكتوراه منها أيضا عام 1955. وفي عام 1980 تقاسم جائزة نوبل مع <L .V. فِيتْشْ> لقاء بحوثهما حول انتهاكات التناظر في تفكيك الميزونات. أما گيسر، وهو أستاذ للفيزياء في جامعة ديلاوير، فقد تناولت بحوثه تفسير الشلالات الجوية للأشعة الكونية، وقد حصل على الدكتوراه من جامعة براون عام 1967. وفي عام 1995 قضى گيسر شهرين في القارة القطبية الجنوبية حيث شيَّد مكشافات للأشعة الكونية. وأما سوردي فهو أستاذ مشارك في جامعة شيكاگو، وقد بذل جهودا حثيثة في قياس الأشعة الكونية منذ عام 1976. وقد حصل على الدكتوراه من جامعة بريستول عام 1979.

 

مراجع للاستزادة 

INTRODUCIION TO ULTRAHIGH ENERGY COSMIC RAY PHYSICS. Pierre Sokolsky. Addison-Wesley, 1988.

COSMIC RAYS AND PARTICLE PHYSICS. Thomas K. Gaisser. Cambridge University Press, 1990.

HIGH ENERGY ASTROPHYSICS, Vol. 1. Second edition. Malcolm S. Longair. Cambridge University Press, 1992.

COSMIC RAY OBSERVATIONS BELOW 1014 eV Simon Swordy in Proceedings of the XXIII International Cosmic Ray Conference. Edited by D. A. Leahy, R. B. Hicks and D. Venkatesan. World Scientific, 1994.

Scientific American, January 1997

 

(1) له سمات متطابقة في جميع النواحي .   (التحرير)

(2) هو مجموعة مركّبات كالهوائيات والعاكسات والموجّهات تُرتَّب بحيث توفر التغيير الاتجاهي المطلوب في إرسال الإشعاع  أو استقباله.           (التحرير)

(3) هي حدود مناطق الإخلال بالاتزان المحلي للمادة.

(4) هي العيوب الناتجة بشكل عام من الإخلال بالاتزان المحلي سواء على المستوى التقليدي أو النسبوي.                                  (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى