أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئية

مستنقعات المانگروڤ في البحر الكاريبي

مستنقعات المانگروڤ في البحر الكاريبي

على الرغم من تفرُّدها ووضعها الخاص بين الأرض والبحر، ما زالت هذه النظم البيئية

الاستوائية تحمل ما لا حصر له من المفاجآت للباحثين.

<K. روتزلر> ـ <I. فِلّر>

 

يشاهد المرء غابة من أشجار خَشِنة مُثَلَّمة تبرز من سطح البحر، وجذورها تضرب عميقا في الطين الأسود النَّتِن، في حين تشرئب هاماتها الخُضر نحو الشمس الساطعة؛ وتضج هذه الكتلة كلها بأصوات الحشرات. هذه هي الانطباعات الأولى التي تبدو لكل زائر يقترب من أكثر المناظر شيوعا على الشواطئ الاستوائية: غابات المانگروڤ. هنا حيث تتداخل الأرض والبحر، وحيث لا يتضح الحد الفاصل بين المحيط والأرض، وفي هذا الوضع، ينبغي على علماء بيولوجيا البحار وعلماء بيئة الغابات أن يعملوا معا فيما يكون الحد المشترك بين تخصص كل فريق منهم.

 

وطالما بذل علماء الطبيعة جهدا في تعريف بيئة مستنقعات المانگروڤ بمصطلحات إيكولوجية ملائمة. هل هي شكل متطرف من الشعاب المرجانية أو غابة ساحلية مغمورة؟ ومقارنة بالغابات الاستوائية داخل بعض القارات (التي تؤوي ما يبلغ مئة نوع من الأشجار في الهكتار الواحد)، فإن غابات المانگروڤ تبدو هزيلة ورتيبة وفقيرة، بل حتى السواحل الهندوپاسيفيكية الغنية نسبيا تضم أربعين نوعا من أنواع المانگروڤ على كامل امتدادها. وفي نصف الكرة الغربي لا يوجد سوى ثمانية أنواع من المانگروڤ أو ما يقرب من ذلك. ومن هذه المجموعة الصغيرة، ثلاثة أنواع فقط هي الشائعة حقيقة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007080.jpg

كثيرا ما تحاط الشواطئ الاستوائية حول العالم بمستنقعات المانگروڤ (في الأعلى). تعيش أشجار المانگروڤ المتحملة للملوحة على الشواطئ حيث تبقى الحرارة دافئة بالقدر المناسب. والمانگروڤ الموجود على الحاجز المرجاني الذي يحيط ببليزه (داخل الخريطة) هو محور البحث طويل الأجل للمؤلفَيْن. وهذه المستنقعات (الصفحة المقابلة) تؤوي مجتمعات غنية من النباتات والحيوانات في الجزء المظلل بالغابة وحول جذور المانگروڤ المغمورة باستمرار. وتعيش في المستنقعات مجموعة من المخلوقات التي تكيفت للعيش في الطبقة الرقيقة بين مستويي المد والجزر.

 

وكلمة “مانگروڤ” mangrove ذاتها مُضلِّلة إلى حد ما، فهي ليست مصطلحا تصنيفيا رسميا على الرغم من أنها تشمل النباتات الوعائية التي تشترك في مجموعة من الآليات الفيزيولوجية للحياة في مياه البحر الضحلة. ومن أمثلة ذلك، أن أشجار المانگروڤ قادرة إما على استبعاد الملح وإما على إفرازه من نُسُجها (أنسجتها). وكذلك تُعْطي هذه النباتات جذورا هوائية تسمح بتبادل الغازات من أجل التنفس الهوائي. وهذا التكيُّف يسمح لهذه الأشجار بأن تعيش على الرغم من أنها مثبتة بجذور في تربة عديمة الأكسجين في منطقة المد والجزر. وعلى الرغم من أن الموئل الملحي ليس بالضرورة مطلوبا لنموها، لا تنمو مجتمعات المانگروڤ إلاَّ  قرب البحر، حيث إنها لا يمكنها التنافس مع فلورا المياه العذبة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007081.jpg

 

ويحدِّد انتشار نباتات المانگروڤ أيضا حاجتها إلى ظروف خاصة مواتية، فهي مثلها مثل الشعاب المرجانية، لا يمكنها أن تعيش في مواطن يهبط متوسط درجة حرارة الماء فيها دون 23 درجة سيلزية تقريبا (73 درجة فارنهايتية)، وهذا المتطلب أدى إلى نمو أحزمة المانگروڤ والشعاب المرجانية بوفرة في خطوط العرض حول الشواطئ الاستوائية في العالم. ولكن الحيود عن هذا النموذج البسيط شائع الحدوث. فمثلا، إن الشواطئ التي تتعرض باستمرار لكميات من الرواسب (مثل شواطئ غرب أفريقيا)، أو المناطق التي يطفو فيها الماء البارد العميق إلى السطح (مثل المياه الساحلية في شرق ڤنزويلا) لا يوجد فيها شعاب مرجانية، لكنها تُقِلّ مستنقعات شاسعة من المانگروڤ. وعلى النقيض من ذلك، فإن بعض الجزر المرجانية في وسط المحيط الپاسيفيكي تعوزها أحزمة المانگروڤ. ويحتمل أن يكون ذلك لعدم قدرة أعضاء التكاثر الطافية ـ التي تقوم بعمل البذور لهذه الأشجار ـ على الوصول إلى هذه الجزر النائية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007082.jpg

قدمت كل من جزيرة كاري بو (في المقدمة) وتوين كايز (الوسط) للمؤلفَيْن قاعدة مستديمة ومختبرا طبيعيا. تحدد الخطوط المستقيمة المتقطعة على قاع البحيرة بقايا حشائش البحر، حيث استعملت فرق البحث عن النفط متفجرات لإجراء مسوحاتها السيزمية في الستينات.

 

وتقع مستنقعات المانگروڤ أساسا من ناحية التقسيم في واحد من قسمين رئيسيين: كتلة الأرض الرئيسية mainland أو الجزر المحيطية oceanic islands. وتتضمن المجموعة الأولى تلك المجتمعات الحيوية التي تَحُفّ سواحل القارات. وبذلك فهي تقع بين الماء المالح في المحيط والماء العذب الذي تحمله الأنهار من الداخل. وهكذا ينبغي أن تتواءم المانگروڤ الموجودة على كتلة الأرض الرئيسية مع التغيرات الشديدة في الملوحة على امتداد عرضها. وهذا الوضع يختلف تماما عن المانگروڤ في الجزر المحيطية، التي تكون في الضفاف الضحلة أو في بقاع من برك منفصلة تماما عن الأرض الرئيسية. وهي عادة ما تكون أقل تأثرا بالماء العذب المحمول من الجوانب عن تأثرها بالتغيرات المتقطعة في الملوحة الناتجة من التبخر الشديد أو من الأمطار الاستوائية المتكررة.

 

وعلى الرغم من أن الاهتمام بالمانگروڤ من الناحية البيولوجية عبر التاريخ بدأ على الأقل منذ رحلات الإسكندر الأكبر إلى بحر العرب، ما زالت معرفتنا العلمية بهذا النظام البيئي المعقَّد في طور بدائي. ولا توجد إجابات للأسئلة المطروحة. هل مجتمعات المانگروڤ غنية ومنتجة مثل البيئات الاستوائية الأخرى؟ هل دورها في حماية صغار الأسماك مهم للمصايد التجارية كما يتوقع كثير من الناس؟ هل تحمي مستنقعات المانگروڤ الشواطئ من النحت والتعرية؟ وعلى الرغم من أن الباحثين قاموا بإجراء ملاحظات تفصيلية عن كثير من مستنقعات المانگروڤ حول العالم، ما زالت هناك فجوة واسعة في تفهم كيف تعمل معا المكوِّنات المختلفة لهذه النظم الطبيعية المعقدة.

 

المفتاح في كاي cay

دفعنا عدم رضانا عن الفهم المحدود الذي تم الحصول عليه من الدراسات المتفرقة على مستنقعات المانگروڤ إلى إقامة  مجموعة بحث على المدى الطويل في مكان واحد. ووقع اختيارنا على دراسة التنوع البيولوجي والأحوال الإيكولوجية في منطقة يمكن الوصول إليها نسبيا. إنها حاجز الشعاب الرائع على شاطئ بليزه Belize. وحالفنا الحظ حيث تمكنا من إجراء البحوث الحقلية هناك من محطة دائمة تقع على جزيرة مرجانية صغيرة تبعد عن الشاطئ نحو عشرة أميال. واكتشف أحدنا (روتزلَرْ) هذا الموقع في صباح يوم لا يُنسى في الشهر 2/1972. ولقد كان وجودها موضع دهشة خلال رحلة مع أحد الزملاء هو <A. أنطونيوس>.

 

وقد أخذنا قاربا صغيرا إلى الشمال من بليزه بنحو 50 ميلا. وكنا نبحث عن ممر عبر أحد هذه الشعاب التي سافرنا خلالها عدة مرات قبل ذلك. ولكن طاقم القارب لم يكن على دراية بالمياه المحلِّية، وَوُجِّهنا وجهة خاطئة في بحثنا للولوج في الشعاب، وكلما أبحرنا تجاه البحر، كنا نسمع تلاطم الأمواج التي تتكسر على الشعاب الضحلة. ولكن لم تكن أي من الجزيرتين اللتين أمامنا مشابهة لما نذكره من زيارتنا السابقة. ولدهشتنا لاحظنا عددا من المباني على الجزيرة المقابلة. وقررنا أن نفحص عن قرب هذا العرض الحضاري العجيب في منطقة طبيعية نائية. وبعد لحظات ربطنا قاربنا بالرصيف الأسمنتي للجزيرة. ومشينا تجاه أكبر المنازل حيث لم يكن هناك سكان لتحيتنا، اللهم إلا بعض طيور البطريق التي انزعجت قليلا لوجودنا. ولكن كانت هناك لافتة معلقة على البوابة الرئيسية كتب عليها: “مرحبا في جزيرة كارّي بو Carrie Bow”.

 

ولم نكن نعلم عندئذ إلا القليل عن هذا التجمع الصغير من الرمل الذي يضم ثلاثة أكواخ ومنزلين ويملكه <A .T .H. بومان>، وهو مزارع حمضيات مولع بالبحر تملَّك الجزيرة في عام 1943، ليبني عليها منزلا صيفيا لزوجته كارِّي. كما أننا لم نتخيل أنه خلال ثماني سنوات أدى اهتمام عائلة بومان بالعلوم الطبيعية ودعمها لها إلى تحويل مكان العطلة النائي إلى مختبر دائم آوى منذ ذلك التاريخ أكثر من 70 عالما من 40 معهدا، مما مكن من إجراء مئات من الدراسات العلمية الراقية عن الشعاب المحيطة.

 

وبحصولنا على جزيرة كارِّي بو كقاعدة مريحة، قررنا أن نركز اختباراتنا للمانگروڤ على توين كايز Twin Cays القريبة. وهي منطقة مانگروڤ لم تُمَسّ في الغالب، وتغطي مساحة أكثر من كيلومتر مربع واحد في بركة ضحلة. وقد أجرى أكثر من عشرين باحثا آخرين من المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في معهد سميثونيان (وعلى الأقل عدد مماثل من الزملاء والمعاهد المتعاونة في الأمريكتين وأوروبا وأستراليا) بحوثهم بانتظام في مجتمعات المانگروڤ هناك.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007083.jpg

يفصل حاجز بليزه المرجاني عن الشاطئ بحيرةٌ ضحلة واسعة. وتتحمل مجتمعات المانگروڤ على الأرض الرئيسية (في اليسار) تغيرا جانبيا في الملوحة وحالة المياه، حيث تفسح المياه العذبة (الأزرق) طريقا للحالة المالحة (الأحمر). والمانگروڤ الموجود بعيدا عن الشاطئ (في اليمين) غالبا ما يتواءم مع التغيرات غير المنتظمة للملوحة.

 

منظور طبيعي

تنتمي المانگروڤ في توين كايز إلى طراز الجزر المحيطية، ويوحي توزيع جزر المانگروڤ المبعثرة بين بقاع الشعاب في البحيرة الواسعة بأن أولى الأشجار في توين كايز يمكن أن تكون قد استوطنت مجموعات من جزر الشعاب المنعزلة. ولكن دراسة زميلنا الجيولوجي <G .I. ماسينتايار> أبطلت هذه الفكرة. فقد أوضحت عينات عديدة (حُصِل عليها بدفع أنبوب هزاز في الرواسب القعرية المفكَّكة) أن أشجار المانگروڤ في توين كايز لم تبدأ نموها على الشعاب. بل الأرجح أن المجتمع ثبَّت نفسه منذ سبعة آلاف سنة على ما كان عندئذ مجرد أرض مرتفعة. ومنذ ذلك الحين أسَّس مستنقع المانگروڤ قاعدة عمقها سبعة أمتار من تربة دبالية استجابت لارتفاع مستوى سطح البحر.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007084.jpg

تتضمن بقايا ما فوق مستوى المد في مستنقع مانگروڤ مجموعة متباينة من النباتات والمفصليات والقواقع والحشرات، وليس عجيبا ألا يواجه الطائر الرخامي (البقويقة السلطانية) marbled godwit (الطائر الموضح في الرسم) مشقة في الحصول على غذائه.

 

وتعكس تضاريس توين كايز بضعة آلاف من السنين من التاريخ الطبيعي، وتقدّم شاهدا على العواصف والأعاصير التي لا تُحصى، والتي اجتاحت تلك الغابة الصغيرة. وعلى سبيل المثال، لدينا شاهد واحد واضح على الأقل على حادثة درامية مؤثرة بقي مُمَثَّلا في القناة الضحلة التي تشطر الجزيرة ثم تتفرع، مع وجود فرع ليس له مخرج. وفي المنحنيات عند النهاية المغلقة تقع قواطع لم تُملأ بعد بالدبال أو الرواسب. وقد دَلَّتْ هذه الحفر المغمورة على التيارات القوية التي لا بد أنها كانت تنساب بحرية خلال الممر قبل أن تثور عاصفة غير مسجلة ألقت بمقادير من الرواسب كانت كافية لسدّ أحد طرفي القناة.

 

وتُحدَّد حافة توين كايز وقنواتها بالمانگروڤ الأحمر (Rhizophora mangle)، الذي تمتد جذوره ـ التي تشبه القوائم الخشبية التي يمشي بها لاعبو السيرك ـ في الماء إلى عمق يتجاوز الحافة الدبالية التي تقيم الأشجار. وإلى الداخل يظهر أولا المانگروڤ الأسود (Avicennia germinans)(1)، يليه المانگروڤ الأبيض (Laguncularia racemosa)، وهما يحددان فيوض الماء الضحل والمسطحات الطينية المترامية التي تنشأ كلما علا المدّ وتراجع الجزر. ولما كان التبخر تحت حرارة الشمس الشديدة قادرا على الذهاب بقدر كبير من الماء، فإن الماء المتبقي في البرك يصبح محتويا على تركيز مرتفع من الملح. وقد وجد <L .K. مك كي> من جامعة ولاية لويزيانا، أن ظروف الملوحة العالية في المنطقة المرتفعة من منطقة المدّ هي في صالح بادرات المانگروڤ الأسود ذات القدرة العالية على تحمل الملوحة. أما بادرات المانگروڤ الأبيض فلا يمكنها العيش في هذه الملوحة أو تَحَمُّل الفيضان الدوري الذي يجتاح المنطقة، لذا فإن وجود أشجارها يقتصر على الأراضي المرتفعة. ويسود المانگروڤ الأحمر النطاقات المنخفضة من منطقة المد، وليس ذلك راجعا فقط إلى أنه يرتفع على جذوره القائمة، ولكنه يعود أيضا إلى تحمل بادراته الشدائد القائمة في البيئة المحيطة به (الصعوبات التي تتضمن فقرا في المواد الغذائية ووفرة المفترسات المحتملة).

 

ويحاط داخل توين كايز بعدد من البرك الضحلة والمسطحات الطينية، وبعض هذه المساحات ليس فيها أشجار نامية. وبعض الأمكنة يحوي قواعد جذوع أشجار كبيرة من التي لا بد أن هاماتها كانت مرتفعة في الماضي. وثمة مسطحات أخرى مغطاة بأنماط قزمة من المانگروڤ الأحمر. ولا يكاد يبلغ ارتفاع هذه الأشجار الصغيرة مترا واحدا، على الرغم من أن دراساتنا أظهرت أن عمرها قد يبلغ عدة عقود. وفي البداية افترضنا أن الضغوط الفيزيولوجية المرتبطة بزيادة الملوحة والحرارة المرتفعة للمسطحات الطينية تسببت في النمو البطيء لأشجار المانگروڤ. ولكن أحدنا (فِلَّْر) أثبت، بالتجربة المباشرة، أن هذا النمو القزم في توين كايز وجزر المانگروڤ المشابهة في بزيل نتج من نقص عنصر غذائي حرج واحد هو الفسفور.

 

الحياة من القمة إلى القاع

جرى العرف أن يؤكد علماء الطبيعة التغير الأفقي لغابات المانگروڤ الأرضية، بداية من المحيط والمناطق القريبة من الشاطئ عبر الخيران وفوهات الأنهار حتى المنبع، حيث مناطق المياه العذبة في موطن الغابات المطيرة. وهذا التباين الأفقي ليس واضحا تماما في توين كايز. ولكن على
الجزيرة يوجد تباين رأسي متطور جدا يتضمن قمم الغابة، ومنطقة المد والجزر، ومنطقة تشبه الشعاب تحت الماء. واهتم بحثنا في جزء كبير منه بدراسة الفلورة والفونة لهذه البيئات الثلاث.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007085.jpg

مستنقعات ما بين مستوى المد والجزر، الجذور القائمة والمغلَّفة بخليط من أنواع الطحالب تعرف باسم بوستريكيتُم bostrychietum. ويؤوي هذا السطح كثيرا من اللافقاريات مثل محار المانگروڤ (Isognomon) وسرطان شجرة المانگروڤ (Aratus).

 

في المستويات العليا للغابة في توين كايز، يعيش ما لا يُحصى من الحشرات والعظايا والثعابين والطيور. وعلى الرغم من أن الحشرات تمثل المجموعة الأكثر سيادة، فإن حرارة الشمس اللاهبة، ونقص المياه العذبة يجعلان الحياة صعبة عليها في هذه البيئة. فقليل من الأنواع ينشط خلال النهار، ومعظم أنواع الحشرات يتجنب أشعة الشمس فيغتذي في أثناء الليل، أو يعيش كلية داخل جذوع النباتات. وبالتالي فإن الطرق التقليدية لجمع الحشرات ـ بالصيد، أو بثِّ الطعوم، أو تبخير النباتات بالمبيدات ـ لن تثمر إلاَّ عينات قليلة. ولكن بتشريح أجزاء النبات وجمع اليرقات وتربيتها، اتضح أن الفونة الحشرية في المانگروڤ أكثر تباينا وأهمية بيئية مما كنا نعتقد.

 

وعلى سبيل المثال، تؤوي الفروع الميتة للمانگروڤ الأحمر أنواعا عديدة من الخنافس والعث المتخصص في الحفر في الخشب. وتتغذى الأطوار اليرقية لهذه الحشرات داخليا في جسم الفروع، مشكِّلة أسطوانة مجوفة من الخشب الميت. وبعد أن تخرج هذه الثاقبات الأولية، فإن نحو 70 نوعا من النمل والعناكب والحَلَم والعث والصراصير والنمل الأبيض (الأَرَض) والعقارب تستعمل هذه الفروع المفرغة للغذاء وتتخذها مواقع للصيد والتعشيش، كما تلوذ إليها للاحتماء من أشعة الشمس الحارقة.

 

والمجتمعات الحيوانية المعلقة فوق مستوى سطح مياه المد، تشبه إلى حد كبير ـ بالرغم من تنوعها وأهميتها ـ تلك التي توجد في غيرها من المناطق الشجرية المداريَّة. ولكن بيئة الغابات العميقة للمانگروڤ الأحمر ذي الجذور القائمة المتشابكة، والجذور التنفسية للمانگروڤ الأسود، والشطوط الدبالية، والمسطحات الطينية تُقِلُّ آهلات تنفرد بها مستنقعات المانگروڤ.

 

وعلى الرغم من أن المدى العادي للمد والجزر في توين كايز يصل فقط إلى 20 سنتيمترا فإن غابات المانگروڤ لها مجتمعاتها المدِّية المميِّزة التي تشغل المدى بين حدَّي المدِّ والجزْر. والجذور الهوائية مغطاة دائما بمجموعات من الطحالب الحمراء التي تأقلمت خصيصا للتمسك بالمياه عند حدوث الجزر، وهذه الأسطح الجامدة تدعم البرنقيلات(2) barnacles والمحار والسرطان. وهناك ساكن غير عادي في منطقة المد والجزر هو تلك السمكة الصغيرة المسماة (Rivulus marmoratus). وقد وجد <P .W. داڤيز>، من مختبرات بحوث البيئة التابعة لهيئة حماية البيئة، و <S .D. تايلور>، من إدارة مكافحة البعوض في محافظة برڤارد بفلوريدا، مع عدد كبير من زملائهما، أن توين كايز تؤوي هذا النوع الخنثوي، وهو واحد من الأمثلة النادرة في الطبيعة من الفقاريات التي تتكاثر وتتناسخ دون تزاوج.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007086.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N6-7_H04_007087.jpg

تحتوي مجتمعات تحت مستوى المد على الديدان السَّمُّوريَّة sabellid worms التي تعيش بين الكميات الكبيرة من أوراق النباتات المتحللة (في اليسار)، والإسفنج الناري الكاريبي (Caribbean fire-sponge (Tedania ignis وهو نوع جميل ولكنه سام (في الأعلى) وقد يسبب التهابا شديدا للجلد.

 

ولعل أغنى وأكثف البيئات بالأنواع في غابات المانگروڤ تلك البيئة التي تحيط منطقة تحت المد في جذور المانگروڤ الأحمر. ومستعمرو هذه المنطقة الناجحون أنواعٌ مختلفة من الطحالب والإسفنجيات وشقائق البحر(3). وتشكّل هذه الكائنات غطاء بيولوجيا يكسو الجذور القائمة ويقدم غذاء وملاذا لحيوانات مختلفة مثل محار المانگروڤ والسرطان. واللافت للنظر أن التجارب أوضحت أن الجذور في حد ذاتها ليست هي التي تجذب تلك الكائنات المتجمعة. فبعد أسبوع من غمر أيِّ مادة غير سامة، مثل الخشب أو البلاستيك أو الزجاج، تتغطى هذه المواد أولا بطبقة من المخاط وبغطاء من الميكروبات ثم بعد ذلك بمختلف الطحالب واللافقاريات. ويبدو أن جذور المانگروڤ تستفيد من هذه العملية. فقد أوضح <M .A. إليسون>، من كلية ماونت هويوك، و <J .E. فارنسورث>، من جامعة هارڤارد، أن هذه المجتمعات تحمي الأشجار، على الأقل جزئيا، من هجوم الحيوانات ثاقبات الجذور.

 

أما القاع الرسوبي للجزء تحت مستوى الجزر، فإنه يغطى بطبقة سميكة من حشائش البحر، وبخاصة في القنوات التي تتعرض لأشعة الشمس. وتعيش الطحالب وقناديل البحر على القعر في بعض الأمكنة. وتتكون الرواسب من خليط من الرمل والطين والمواد المتحللة التي تتحرك دائما بحركة الماء وبفعل الكائنات المختلفة. وبعض المغتذيات الكبيرة على القاع، مثل خِراف البحرmanatees، عادة ما تحرث الفتات، كما تفعل القوارب السريعة التي تعمل بوساطة المحركات. وعلى الرغم من أن تقليب الرواسب باستمرار بوساطة الحيوانات الحافرة، مثل الديدان عديدة الأشواك والقشريات، أقل وضوحا، فإن له أهميته. وذلك أن هذه المخلوقات تقوم بعملٍ يُماثل ما تقوم به ديدان الأرض على اليابسة. وقد أوضح <P. دورشاك> و <J. أوت>، من جامعة ڤيينا، أن بعض القشريات يمكنها حفر أنفاق معقدة ذات تفرعات قد تمتد إلى نحو مترين في القعر الطيني.

 

ولقد بيَّن فحص الطحالب واللاَّفقاريات المائية والحشرات في توين كايز وجود أعداد مذهلة من الأنواع الجديدة. فحتّى بالنسبة إلى بعض المجموعات المدروسة جيدا، ثبت أن نحو 10 في المئة من الأنواع جديد. ونقدر أنه ربما يكون ما بين 20 و30 في المئة من الميكروبات والطحالب والإسفنجيات والديدان التي تعيش في توين كايز ضمن الأنواع التي لم تُكْتَشَفْ بعدُ.

 

التنوع البيولوجي في خطر

ويبرِز ثراء الحياة في غابة المانگروڤ بتوين كايز إحساسا مباشرا بالقلق على ما قد تفعله أيدي البشر بالتنوع البيولوجي الذي أقام تلك البيئات الرهيفةdelicate. فبعد قطع غابات المانگروڤ، ربما أصبح من الصعب، بل من المستحيل عليها، أن تعود سيرتها الأولى؛ لأن التغيرات غيرَ العَكُوس في التركيب الأساسي للنظام البيئي ستحدث ما دامت الأشجار قد أتلفت.

 

ولقد استطعنا أن نلاحظ هذه النتائج التعيسة في بيئة المانگروڤ الأسود التي أزال الصيادون منها الأشجار بغير سند قانوني على الجانب الغربي لتوين كايز. ذلك أن السطح الطيني العاري المتخلف سرعان ما احتله نوع من الشجيرات الصغيرة التي تتحمل ملوحة عالية، مؤدية إلى تقليص المساحة المتاحة لأشجار المانگروڤ الأسود الجديدة الأبطأ منها تكاثرا. وعندما تعرضت حافات المانگروڤ الأحمر الطبيعية للعبث سرعان ما عملت التيارات المدفوعة بالرياح والمد على تعرية التربة الغنية بالدبال، وتركت سطح قعر يصعب على البادرات تثبيت أنفسها به.

 

وقد أوضحت بعض تجاربنا الحقلية عائقا آخر يمنع أشجار المانگروڤ الجديدة من تثبيت نفسها عندما تزال الغابة. فقد وجدنا أن بادرات المانگروڤ تثبت أنفسها وتنمو على نحو أفضل في الأمكنة الظليلة عنها في الأمكنة المفتوحة، وهذا يوضح أن الإصلاح الطبيعي للمستنقعات المخربة قد يكون أبطأ مما تتطلبه مجاراة تعرية الأرض التي أزيلت منها النباتات.

 

وتوضح هذه الملاحظات أن غابات المانگروڤ تُكوِّن بالفعل نظمًا طبيعية رهيفة شديدة الحساسية، وعلى الرغم من أن حكومة بليزه سَنَّت قوانين لحماية أشجارها من أنواع المانگروڤ، فإن هذه الأشجار مهددة لأنها تقف مباشرة في طريق التنمية التجارية. وكما هي الحال في الشواطئ الأخرى حول العالم، فإن الناس غالبا ما يقطعون الأشجار ويردمون المساحات المنخفضة، لبناء المنازل والمرافق الصناعية.

 

ولأن مستنقعات المانگروڤ التي دُمِّرت بهذا الشكل كان من الممكن أن تؤوي ما لا حصر له من أنواع الحيوانات، متضمنة صغار أسماك الأعماق، فإنه يبدو جليا أن هذه الخسائر ستزيد من تهديد الثروة الطبيعية في المحيط، قريبا أو بعيدا عن الشاطئ. ولكن الاهتمام المتصاعد بالتدهور البيئي في الدول النامية جدَّد الانتباه العلمي لغابات المانگروڤ، وعلى الرغم من أن هناك الكثير من العمل الذي ينبغي علينا أن نقوم به، فإن البحث الذي أجري في توين كايز يبني ببطء، ولكن باستمرار، كيانا من الملاحظات البناءة الطويلة الأجل. وهذه المعرفة ستساعد المحاولات المستقبلية للتنبؤ بمصير شواطئ الأرض الاستوائية الهشة، وتدعم سن التشريعات التي تخدم في النهاية حماية مجتمعات المانگروڤ الجذابة الموجودة هناك.

 

 المؤلفان

Klaus Rützler – Ilka C. Feller

درسا المانگروڤ معا من زاوية تكاملية. بدأ روتزلر، وهو بيولوجي بحري، أبحاثه في الكهوف تحت البحرية في الأدرياتيك الكرواتي. وفي عام 1963 حصل على الدكتوراه من جامعة ڤيينا، وفي عام 1965 تحول إلى المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في معهد سميثونيان، حيث يعمل حاليا مديرا لأبحاث المتحف عن النظم البيئية للشعاب المرجانية في الكاريبي. أما فلّر فهي حاصلة على البكالوريوس في النبات والرسم العلمي. وفي الثمانينات عملت في متحف التاريخ الطبيعي في سميثونيان، وفي عام 1993 بعد حصولها على الدكتوراه من جامعة جورج تاون، تحولت إلى مركز بحوث البيئة التابع لسميثونيان في إيدجوتر حيث حصلت على زمالة ما بعد الدكتوراه.

 

مراجع للاستزادة 

THE ECOLOGY OF MANGROVES. A. E. Lugo and S. C. Snedaker in Annual Revew of Ecology and Systematics, Vol. 5, pages 39-64; 1974.

MANGROVE SWAMP Corumurrrrgs. K. Rutzler and I. C. Feller in Oceanus (Woods Hole Oceanographic Institution), Vol. 30, No. 4, pages 16-24; Winter 1987/1988.

THE BOTANY OF MANGROVES. P. B. Tomlinson. Cambridge University Press, 1995.

Scientific American, March 1996

 

(1) ينسب الاسم اللاتيني العلمي للجنس إلى اسم الشيخ الرئيس ابن سينا. (التحرير)

(2) حيوانات قشرية ذوات أصداف تثبِّت نفسها بالمرتكزات المغمورة بالماء.

(3) حيوانات من جوفيات المعى لها لوامس عديدة تجعلها شبيهة بالأزهار، وتعرف بالأنيمونيات، من الحيوانات الزهرية. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى