أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحة

مفاهيم أساسية


مفاهيم أساسية

يبدأ تكوّن السرطان عندما تتحلل الخلية من القيود الطبيعية التي تحول دون نموها وانتشارها بشكل غير منضبط. إن التقدم الحديث في فهم التغيرات الخطيرة في سلوكيات الخلية هو أمر غير عادي. فهذه الاكتشافات تمثل الأساس للعديد من أكثر الأفكار إثارة في نطاق تحسين الرعاية الطبية.

المحتويات

كيف ينشأ السرطان

8

كيف ينتشر السرطان

18

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N1-2_H02_007265.jpg

كيف ينشأ السرطان

إن هذا الكم الهائل من البحوث يتيح حاليا

الكشف عن الأسس الجزيئية للسرطان التي

طالما كانت خفية، كما يقترح معالجات جديدة.

<A .R. واينبرگ>

 

لم يعد نشوء السرطان لغزا من الألغاز، فقد استطاع الباحثون في العقدين الماضيين تحقيق تقدم مدهش في تعرف أدق الآليات الجزيئية المرتبطة بنشوء هذا المرض. إن الاكتشافات الجديدة على درجة من الرسوخ، حيث ستصمد أمام تفحص الأجيال القادمة من الباحثين وستشكل أيضا الأساس الذي ستنبثق منه مستقبلا المقاربات الجديدة في المعالجة. ولا يستطيع أحد في الوقت الحالي التنبؤ متى ستلقى المعالجات، التي ستستهدف تصحيح التغيرات الجزيئية في الخلية السرطانية، قبولا واسعا من حيث الاستعمال. ذلك أن ترجمةَ المعارف الجديدة إلى تطبيقات سريرية هي عمليةٌ معقدة وبطيئة ومكلفة، إلا أن السعي حثيث في هذا الاتجاه.

 

وفي الواقع، إن كلمة «سرطان» cancer تشير إلى مئة شكل تقريبا من أشكال المرض. ذلك أن الأورام الخبيثة (الخباثات) malignancies قد تنشأ في أي نسيج في الجسم، بل إن بعض النسج مؤهلة لتشكيل أنماط عديدة من السرطان. ومما يزيد الصورة إرباكا أن كل آفة سرطانية تمتلك سمات مميزة تنفرد بها. ومع هذا، فإن السيرورات process الأساسية المسؤولة عن نشوء هذا التنوع السرطاني هي واحدة. لهذا السبب، فإننا سنستعمل في هذه المقالة كلمة «سرطان» كتعبير عام، مشيرين من آن لآخر إلى نمط معين من الأنماط لشرح القوانين العامة التي تنطبق على الأنماط كافة.

 

يتألف الجسم الحي الصحيح من نحو 30 تريليون خلية تشكل تجمعات معقدة تتعايش وتتبادل التأثير فيما بينها، وتنظم تكاثر proliferation بعضها بعضا. فالخلايا الصحيحة لا تتوالد إلا بتوجيه من خلايا أخرى مجاورة. ويضمن هذا التعاون المستمر احتفاظ كل نسيج بحجمه وبنيانه الملائمين لاحتياجات الجسم ككل.

 

ولكن الخلايا السرطانية تخالف هذه القاعدة على نحو مطلق، فلا تستجيب أبدا للإشارات التي تتحكم في التكاثر ولا تتبع سوى برنامجها الداخلي للتوالد. والأسوأ من ذلك قدرتها على الهجرة من مكان نشوئها لتغزو النسج المجاورة، ولتشكل كُتلاً في مواضع بعيدة. وبمرور الوقت تتزايد القدرة العدوانية لهذه الأورام، لتصبح في نهاية الأمر مميتة، وذلك عندما تُخَرِّب النسج والأعضاء التي يحتاج إليها الكائن الحي للبُقْيا (البقاء على قيد الحياة).

 

إن هذا كله ليس بجديد. ولكن على مدى العقدين الماضيين استطاع العلماء الكشف عن المبادئ الأساسية التي تتحكم في تطور السرطان. فنحن نعلم الآن بأن الخلايا التي في الورم tumour تنحدر من خلية سليفة مشتركة اسْتَهلت في وقت ما (عادة قبل عقود من اللحظة التي يصير الورم فيها مجسوسا) برنامجا لتوالد غير ملائم. وفضلا عن ذلك، فإن الاستحالة الخباثية للخلية إنما تنجم عن تراكم الطفرات mutations في صفوف معينة من الجينات (المورثات) genes الموجودة في هذه الخلية.

فالجينات تمثل المفتاح إلى فهم السيرورات الأساسية المؤدية إلى نشوء السرطان.

 

والجينات محمولة على جزيئات الدنا DNA الموجودة في صبغياتchromosomes نواة الخلية. ويُعَيِّن الجين تسلسل الحموض الأمينية التي يجب أن يترابط بعضها ببعض لتشكل بروتينا معينا، وهذا البروتين هو الذي يقوم بعمل الجين. فعندما يُفَعَّل جين ما تستجيب الخلية بصنع البروتين الذي يُكَوِّدُهencoded هذا الجين. وتسبب الطفرات في جين ما خللا في الخلية بتغييرها كمية  أو فاعلية البروتين نتاج الجين.

 

ويلعب صفان من الجينات (يشكلان نسبة صغيرة فقط من المجموعة الجينية) دورا رئيسيا في استثارة التسرطن. فهذه الجينات تقوم في شكلها السوي بتنسيق دورة حياة الخلية (أي التسلسل المعقد للأحداث المؤدية إلى كبر الخلية وانقسامها) وتحث الجين الورمي البدئي proto-oncogenes  على هذا النمو، في حين أن الجينات الكابتة للأورام tumour suppressor تثبطه. ويعد هذان الصفان من الجينات مسؤولين معا عن معظم حوادث التكاثر الخلوي غير المضبوط والملاحظ في سرطانات الإنسان.

 

فعندما تطفر الجينات الورمية البدئية تصبح جينات مسرطنة تدفع بالخلية إلى تكاثر مفرط. فقد تحث هذه الطفرات الجين الورمي البدئي على إنتاج كمية كبيرة من البروتين المنبه للنمو growth stimulatory protein  الذي يكوده هذا الجين، أو على إنتاج شكل منه مفرط الفاعلية. وبالمقابل، فإن إسهام الجينات الكابتة للورم في نشوء السرطان يحدث عندما تُعَطِّل الطفرات فاعليتها. ويؤدي فقدان البروتينات لوظيفتها الكابتة إلى حرمان الخلية من كوابحها الأساسية التي تحول دون حدوث نمو غير ملائم.

 

ولكي يحدث الورم (التنشؤ السرطاني)، فإن على الطفرات أن تصيب ستة أو أكثر من الجينات الأساسية الضابطة لنمو الخلية. كما أن الطفرات في صفوف أخرى من الجينات يمكن أن تسهم في نشوء الخباثة، وذلك بتمكين الخلية المتكاثرة من غزو النسج (الأنسجة) المحيطة أو من الانتقال إلى أنحاء الجسم كافة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N1-2_H02_007266.jpg

 

انحراف منظومات الإشارات

إن الأدلة الحاسمة على كيفية إسهام الجينات الورمية البدئية والجينات الكابتة للأورام في نشوء السرطان، جاءت من دراسة الوظائف التي تقوم بها داخل الخلية الجينات النظيرة السوية. وبعد عقدين تقريبا من البحث، يمكننا القول الآن بأننا نمتلك تصورا (لم يسبق أن كان أكثر وضوحا) عن الوظائف الجينية السوية.

 

يكود الكثير من الجينات الورمية البدئية بروتينات «الكتائب الدلوية(1)الجزيئية» molecular bucket brigades  التي تقوم بإيصال الإشارات المُنبِّهة للنمو من محيط الخلية إلى أعماقها. ويضطرب تنظيم نمو الخلية عندما تقوم طفرة في أحد جيناتها الورمية البدئية بتفعيل أحد السُّبُل pathways الأساسية المنبهة للنمو، بحيث يبقى فعالا على نحو مستمر في الوقت الذي يجب أن يكون فيه خاملا.

 

تتلقى هذه السبل داخل الخلية الإشارات المنبهة للنمو التي تنقلها إليها سائر خلايا النسيج ثم تقوم بمعالجتها. ويبدأ عادة هذا التأشير signality بين خلية وأخرى عندما تفرز إحدى الخليتين عوامل النمو growth factors. فبعد تحررها، تتحرك هذه البروتينات في الفضاوات (المسافات) ما بين الخلايا لتترابط بمستقبلات receptors نوعية (وهي جزيئات تشبه هوائي التلفزيون) توجد على سطوح الخلايا المجاورة. وتتوزع هذه المستقبلات على السطوح الخارجية للخلايا المستهدفة، بحيث تبرز إحدى نهايتيها في الحيز خارج الخلية، في حين تمتد النهاية الأخرى إلى جوف الخلية، أي إلى السيتوپلازما (الهيولى) cytoplasm. وعندما يترابط العامل المنبه للنمو بأحد هذه المستقبلات، يَنقل المستقبلُ إلى بروتينات موجودة في السيتوپلازما إشارةً تحض على التكاثر. وعندئذ تُصدر هذه البروتينات الإشارة المنبهة لتنتقل على التتالي إلى بروتينات أخرى حتى توصلها إلى عمق الخلية، أي إلى النواة. وفي داخل النواة، هناك بروتينات تعرف بعوامل الانتساخ transcription factors، تستجيب لهذه الإشارات بتفعيلها مجموعة من الجينات تساعد على إرشاد الخلية خلال دورة نموها.

 

وتجبر بعضُ الجينات الورمية الخليةَ على إنتاج مفرط لعوامل النمو. إن الأغران (الساركومات) sarcomas والأورام الدبقية gliomas (وهي على التوالي، أورام النسج الضامة وأورام خلايا الدماغ اللاعصبونية nonneuronal) تحرر كميات مفرطة من عامل النمو الصفيحي (المشتق من الصفيحات) platelet-derived. كما يقوم عدد من الأنماط السرطانية الأخرى بإفراز كميات مفرطة من عامل النمو التحويلي ألفا transforming. وتؤثر هذه العوامل عادة في الخلايا المجاورة، والأهم من ذلك أن تأثيرها يرتد إلى الخلايا المنتجة لها دافعةً بها إلى التكاثر.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N1-2_H02_007267.jpg

تضطلع سبل تبليغ الإشارات في الخلايا الصحيحة بمهمة نقل الرسائل المنظمة للنمو من سطح الخلية إلى أعماقها حيث توجد النواة. ويقوم هناك جهاز جزيئي متخصص يدعى ساعة الدورة الخلوية بتجميع هذه الرسائل وتقرير ما إذا كان على الخلية أن تنقسم أو لا تنقسم. وغالبا ما تتكاثر الخلايا السرطانية تكاثرا مفرطا لأن الطفرات الجينية تدفع بالسبل المنبهة (الأخضر) لأن تصدر إشارات «تنبيه» أكثر من اللازم، أو لأن سبل التثبيط (الأحمر) تعجز عن إرسال إشارات «التوقف». ويصبح أحد سبل التنبيه مفرطَ النشاط عندما تتسبب طفرة ما بقيام أحد أجزاء هذا السبيل، كمستقبل عامل النمو (المؤطر الأيسر)، بإصدار إشارات التنبيه بشكل ذاتي، ومن دون انتظار الأوامر التي يتلقاها من المصدر الأعلى. وبالتضادية، تتعطل فاعلية سبل التثبيط عندما يحذف أحد أجزائها، كطريق الوصل السيتوپلازمي (المؤطر الأيمن)، الأمر الذي يتسبب بقطع سلسلة التأشير.

 

كما تعرّف الباحثون نسخا ورمية محورة من جينات المستقبِلات. إن هذه المستقبلات الزائغة aberrant  التي تعينها تلك الجينات الورمية، تحرر سيلا من إشارات التكاثر في سيتوپلازما الخلية (حتى في حال غياب عوامل النمو) مما يحضها على التنسخ (الانقسام). فمثلا تَعْرِض خلايا سرطان الثدي ـ في معظم الحالات ـ جزيئات المستقبِل Erb-B2 التي تسلك هذا المنحى.

 

كما تُدخِل جينات ورمية أخرى (توجد في أورام بشرية معينة) الاضطراب في جزء من شلال الإشارات داخل السيتوپلازما. وتعد عائلة الجينات الورمية rasأكثر الأمثلة وضوحا في هذا النطاق. فالبروتينات المُكوَّدة في الجينات السويةras  تنقل إشارات تنبيهية (تصدر عن مستقبلات عوامل نمو معينة) إلى بروتينات أخرى تليها في الصف الإشاري. بيد أن البروتينات المكودة في الجينات ras الطافرة تطلق إشاراتها باستمرار حتى عندما لا تُحَض مستقبلات عوامل النمو على ذلك. وقد عثر على البروتينات ras مفرطة الفاعلية في ربع الأورام البشرية تقريبا، بما في ذلك سرطانات(2) carcinomas  القولون والپنكرياس والرئة. (وتجدر الإشارة هنا إلى أن السرطانة هي الأكثر شيوعا بين أنواع السرطان كلها، وتنشأ عن الخلايا الظهارية epithelial cells  التي تبطن أجواف  الجسم وتشكل الطبقة الخارجية للجلد.)

 

كما تغير جيناتٌ ورميةٌ أخرى (كالعائلة myc) من فاعلية عوامل الانتساخ في النواة. وتُنْتِج الخلايا في الحالة السوية عوامل الانتساخ Myc  فقط عندما تُنبَّه من قبل عوامل النمو التي تصطدم بسطح الخلية. وما إن يتم تركيب البروتيناتMyc حتى تُفَعِّل هذه البروتيناتُ الجينات التي تحض على النمو الخلوي. بيد أنه وجد في أنماط كثيرة من السرطان ـ وبخاصة في خباثات النسج المشكلة للدم ـ أنه يتم باستمرار الإبقاء على مستويات مرتفعة من البروتينات Myc، حتى في حال غياب عوامل النمو.

 

إن اكتشاف حلقات الاتصال الرئيسية التي تحمل رسائل تكاثرية من سطح الخلية إلى نواتها كان أكثر من مُرْضٍ، من الناحية الفكرية. إن هذه السبل تستحث تضاعف الخلايا الخبيثة، لذا فإنها تشكل أهدافا مغرية للعلماء في تطويرهم أنماطا جديدة من العلاجات المضادة للسرطان. وفي انعطاف مثير للأحداث، تعمل حاليا نصف دزينة من الشركات الدوائية على عقاقير صممت لتعطيل مستقبلات عوامل النمو الزائغة الفاعلية. وتحاول ثلاث شركات أخرى على الأقل تطوير مركبات تحصر تركيب البروتينات Ras الزائغة. وتوقف هاتان المجموعتان من العوامل الدوائية التأشيرَ المفرط في الخلايا السرطانية المزروعةcultured، ويبقى على الباحثين أن يثبتوا نفع المجموعتين في حصر نمو أورام حيوانات التجربة والإنسان.

 

توقُّف كابتات الأورام عن العمل

لكي تصير الخلايا خبيثة (سرطانية)، فإن عليها أن تقوم بأكثر من فرط تنبيه آلية حض النمو؛ إذ عليها أيضا أن تبتكر طرائق تتجنب بوساطتها الإشارات الكابحة التي تطلقها الخلايا المجاورة في النسيج. إن رسائل التثبيط التي تتلقاها الخلايا السوية تمر إلى النواة بالآلية نفسها تقريبا التي تنقل وفقا لها إشارات التنبيه، وذلك عبر الكتائب الدلوية الجزيئية. وقد تتعطل هذه الكتائب في الخلايا السرطانية، بحيث تتجاهل الخلية إشارات التثبيط القوية التي يتلقاها سطحها. وفي أنماط عديدة من الخلايا السرطانية تكون عناصر مهمة من تلك الكتائب (التي تحددها الجينات الكابتة للأورام) غائبة أو غير فعالة.

 

بعض الجينات ذات العلاقة بالسرطانات البشرية

إن الجينات التي تعرف بالجينات الورمية البدئية، تُكوِّد بروتينات تنبه الانقسام الخلوي؛ وتسبب الأشكال الطافرة من هذه الجينات، والتي تعرف بالجينات الورمية، زيادة فاعلية البروتينات المُنبِّهة، مما يؤدي إلى تكاثر مفرط لهذه الخلايا. وتكود الجينات الكابتة للورم بروتينات مثبطة للانقسام الخلوي. وتستطيع الطفرات إبطال فاعلية هذه البروتينات مما يحرم الخلايا من كوابح التكاثر الضرورية. ويواصل الباحثون محاولاتهم الهادفة إلى حلّ (فك) شفرة الوظائف النوعية للعديد من الجينات الكابتة للورم.

الجينات الورمية

جينات عوامل النمو أو مستقبلاتها

PDGF يُكوِّد عامل النمو المشتق من الصفيحات،  له علاقة بالورم الدبقي (أحد سرطانات الدماغ)

erb-B يكود مستقبل عامل نمو الظهارة، له علاقة بورم الأرومة الدبقية (أحد سرطانات الدماغ) وبسرطان الثدي.

erb-B2 يسمى أيضا HER-2 أو neu، يكود مستقبِل أحد عوامل النمو، له علاقة بسرطانات الثدي والغدد اللعابية والمبيض.

RET يكود مستقبِل أحد عوامل النمو، له علاقة  بسرطان الدرق

جينات الوصل السيتوپلازمية في سبل التأشير التنبيهية

Ki-ras له علاقة بسرطانات الرئة والمبيض  والقولون والپنكرياس

N-ras له علاقة بابيضاضات الدم

جينات عوامل الانتساخ التي تُفعِّل الجينات المنشطة للنمو

C-myc له علاقة بابيضاضات الدم وسرطانات  الثدي والمعدة والرئة

N-myc له علاقة بورم الأرومة العصبية (سرطان الخلية العصبية) وبورم الأرومة الدبقية

L-myc له علاقة بسرطان الرئة

جيناتُ أنواع أخرى من الجزيئات

Bcl-2 يكود بروتينات تحصر في الحالة السوية الموت الخلوي المبرمج، له علاقة بالورم اللمفي للخلايا البائية الجريبية

Bcl-1 يسمى أيضا PRAD1، يكود السيكلين D1، عنصر تنبيهي لساعة الدورة الخلوية، له علاقة بسرطانات الثدي والرأس والرقبة

MDM2 يكود ضادة البروتين الكابت للورم p53، له علاقة بالغرن (سرطانات النسيج الضام) وبسرطانات أخرى

الجينات الكابتة للورم

جيناتُ بروتينات في السيتوپلازما

APC له علاقة بسرطان القولون والمعدة

كود جزيء وصل في سبيل تأشيري مثبط للانقسام الخلوي، له علاقة بسرطان الپنكرياسNF-1 يكود بروتين يثبط البروتين المنبه Ras، له علاقة بالورم الليفي

 العصبي وبورم القواتم (سرطانات الجملة العصبية المحيطية) وبالابيضاض النقوي

NF-2 له علاقة بالورم السحائي وورم البطانة العصبية (سرطانات دماغية) وبورم شکاني (الشوانوم) schwannoma (يصيب الغمد الذي يغلف الأعصاب المحيطية)

جيناتُ بروتينات في النواة

MTS1 يكود البروتين p16، مكون كابح من مكونات ساعة الدورة الخلوية. يسهم في أنواع عديدة من السرطانRB يكود البروتين pRB، الكابح الرئيسي في الدورة

 الخلوية، له علاقة بورم الأرومة العصبية وسرطانات العظم والمثانة والخلايا الصغيرة للرئة والثدي

p53 يكود البروتين p53، الذي يوقف الانقسام الخلوي ويحرض الخلايا غير السوية على قتل نفسها، ذو علاقة بطيف واسع من السرطانات

WT1 يسهم في ورم ويلْمْز في الكُلْيَة

جيناتُ بروتينات توضُّعها الخلوي غير واضح

BRCA1 له علاقة بسرطان الثدي والمبيض

BRCA2 له علاقة بسرطان الثدي

VHL له علاقة بسرطان الخلية الكلوية

 

وثمة مادة مُفرَزة تعرف بعامل النمو التحويلي بيتا (TGF-β)، توقِف نمو أنواع متباينة من الخلايا السوية. وتصبح بعض خلايا سرطان القولون غافلة عن العامل TGF-β  عبر تعطيل الجين الذي يكود مستقبل هذه المادة. كما تعطل بعض سرطانات الپنكرياس الجين DPC4، الذي يمكن لنتاجه البروتيني أن يعمل مع اتجاه التيار downstream بالنسبة لمستقبِل عامل النمو. ولا تأبه ضروب أخرى من السرطان بالجين p15، الذي يكود بروتينا يعطل في الحالة السوية (وعند استجابته لإشارات من العامل TGF-β) الآلية التي تقود الخلية في دورة نموها.

 

كما تستطيع البروتينات الكابتة للأورام كبح التكاثر الخلوي بطرق أخرى. فبعضها مثلا يحصر انتقال الإشارات خلال دارة تنبيه النمو. وأحد هذه الكابتات هو نتاج الجين NF-1. ويهاجم هذا الجزيءُ السيتوپلازمي البروتينَ Rasقبل أن يصدر توجيهاته الحاضّة على النمو. وهكذا، فالخلايا التي يعوزها الجين NF-1 تفقد عاملا مهما يوازن البروتين Ras وكذلك التكاثر غير المُقيَّد.

وأظهرت دراسات شتى أن إدخال جين كابت للورم في خلايا سرطانية لا تحوي هذا الجين يعيد لها بعضا من حالتها السوية. وتوحي هذه الاستجابة بطرائق غير عادية لمقاومة السرطان، وذلك بتزويد الخلايا السرطانية بالجينات الكابتة للأورام الصحيحة والتي كانت قد فقدتها أثناء تطور السرطان. وعلى الرغم من جاذبية هذا المفهوم، فإن صعوبات تقنية معينة تعيق هذه الاستراتيجية، كما تعيق المعالجة الجينية نفسها. فقد أخفقت الإجراءات المتاحة في إيصال الجينات إلى نسبة كبيرة من خلايا الورم. وإلى أن يتم التغلب على هذه العقبة، سيبقى استعمال المعالجة الجينية للشفاء من السرطان فكرة شديدة الإغراء وإن كانت غير ممكنة التحقيق.

 

الساعة متوقفة

لقد كُشفت خلال السنوات الخمس الأخيرة أدلة مثيرة للإعجاب عن النقاط التي تنتهي إليها السبل التنشيطية والتثبيطية في الخلية. فهي تتلام (تتلاقى)converge في جهاز جزيئي يقع في نواة الخلية، يعرف بساعة الدورة الخلوية cellcycle clock. إن هذه الساعة هي الصانع التنفيذي لقرار الخلية، وعلى ما يبدو فإن السيطرة عليها تُفقَد عمليا في السرطانات البشرية. ففي الخلية السوية تُكامل الساعةُ مزيجَ الإشارات الناظمة للنمو والتي تتلقاها الخلية لتقرر ما إذا كان عليها أن تستمر في دورة حياتها. فإذا كان الجواب إيجابيا، تقود الساعة ـ عندئذ ـ أحداث الدورة.

 

ساعة الدورة الخلوية والسرطان

تنمو معظم، وربما جميع السرطانات نموا غير ملائم، ليس فقط بسبب اضطراب سبل التأشير في الخلايا، بل أيضا بسبب تعطل ما يسمى ساعة الدورة الخلوية. ففي الحالة السوية، تُكامل هذه الساعة ـ التي تتألف من تجمع بروتينات ذات تأثير متبادل في النواة ـ الرسائل الواردة من السبل التنبيهية والتثبيطية على السواء، فإذا ما رجحت كفة الرسائل التنبيهية تقوم الساعة ببرمجة الخلية لتقوم بعمليات النمو والانقسام. ويتوقف اجتياز الخلية للمراحل الأربع في الدورة الخلوية (a) إلى حد كبير على زيادة تركيز البروتينات المعروفة بالسيكلينات: النمط D أولا ثمE و A وأخيرا B.

تحدث في أواخر الطور G1 خطوة حاسمة في نقطة الحصر (R) يتوقف عليها إتمام الخلية للدورة بكاملها. هناك «محول» جزيئي يجب تحريكه من وضعية «التوقف» إلى وضعية «الحركة» لكي تجتاز الخلية المرحلة Rوتدخل المرحلة S. يعمل هذا المحول كالتالي (b): يؤدي ارتفاع تركيز السيكلين D ولاحقا السيكلين E إلى اتحادهما وتفعيلهما إنزيمات تدعى الكينازات المنوطة بالسيكلين (11). تقوم هذه الكينازات (كجزء من معقدات سيكلين-كيناز) بالتقاط زمر الفسفات (2) من الجزيئات ATP (ثالث فسفات الأدينوزين) لتنقلها إلى بروتين يسمى pRB، وهو بمثابة الكابح الرئيسي في ساعة الدورة الخلوية. عندما تعوز زمر الفسفات هذا البروتين فإنه يحصر السير في الدورة (يبقي المحول في وضعية التوقف) عن طريق احتجازه بروتينات أخرى تعرف بعوامل الانتساخ. بيد أن الكوابح تتوقف عن العمل بعد أن تقوم المعقدات سيكلين-كيناز بإضافة زمر كافية من الفسفات، (3، في الأسفل) محررةً عوامل الانتساخ لتباشر هذه الأخيرة عملها على الجينات (3، في الأعلى). تحرِّض عواملُُ الانتساخ المتحررة على تشكيل العديد من البروتينات اللازمة لاستمرار تقدم الخلية في دورتها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N1-2_H02_007268.jpg

في الشكل (c) في الأسفل، مُثِّل المحول بمعناه الواسع المتضمن العديد من التأثيرات الجزيئية التي تنظم الدورة الخلوية. فإذا ما وضعنا المحول في وضعية «الحركة» تحدث الفعاليات في مستو أعلى من النقطة R. ويعتقد أن لفرط فعالية البروتينات المنبهة، كالسيكلين D والسيكلين E والكينازCDK4، دورا في تشكل سرطانات بشرية معينة. كما تم تسجيل تعطل العديد من البروتينات الكابتة. ومن بين هذه البروتينات المتأثرة البروتينp53 (حيث يكون مفقودا أو معطلا في أكثر من نصف أنواع الأورام البشرية)، والبروتينات pRB وp16 وp15. ويكون تعطل الساعة هو المحصلة النهائية لأي من هذه التغيرات المَرَضية، الأمر الذي يؤدي إلى تكاثر الخلية تكاثرا مفرطا.

 

وتتألف الدورة الخلوية من أربع مراحل (أطوار). ففي المرحلة G1 (الثغرة gap1)، تزيد الخلية من حجمها وتتأهب لنسخ replication  الدنا. ويحدث النسخ في المرحلة التالية التي تعرف بالمرحلة S (من التركيب synthesis)، حيث تتمكن الخلية من مضاعفة مُتَمِّمَتها complement الصبغية على نحو دقيق جدا. ويكون تنسخ الصبغيات متبوعا بثغرة ثانية، تعرف بالثغرة G2، تستعد خلالها الخلية للانقسام الخيطي (mitosis) M، حيث تنقسم الخلية الأم المتضخمة إلى نصفين (الخليتين الابنتين)، مزودة كل منهما بمجموعة كاملة من الصبغيات. تدخل الخليتان الابنتان مباشرة المرحلة G1، وقد تجتازان مرة ثانية الدورة بكاملها. أما الخيار الثاني فهو التوقف (الإحجام عن متابعة الدورة) في هذه المرحلة مؤقتا أو نهائيا.

 

وتُبَرْمِج ساعة الدورة الخلوية هذا التعاقب الدقيق للأحداث بوساطة ضروب من الجزيئات. ويتشارك معا المكونان الأساسيان في هذه الساعة، وهما السيكلينات والكينازات المنوطة بالسيكلين cyclin-dependent kinases  CDKs  ليستهلا دخول الخلية في المراحل المختلفة للدورة. ففي المرحلة G1 مثلا، تترابط سيكلينات النمط D بالإنزيم CDK4 أو 66 ليؤثر المعقد الناتج في جزيء مثبط للنمو شديد الفاعلية ويعرف بالبروتين pRB. إن هذا التأثير يزيل الفعل الكابح للبروتين pRB، ويمكّن الخلية من التقدم إلى أواخر المرحلة G1، ومن ثم دخول المرحلة S (مرحلة تركيب الدنا) [انظر الجزء b مما هو مؤطر في الصفحة السابقة].

 

وبوسع البروتينات المثبِّطة المختلفة كبح التقدم خلال الدورة. ومن بين هذه البروتينات البروتين p15 (وقد سبق ذكره) والبروتين p16، اللذان يحصران فاعلية الجزيئات CDK المتشاركة مع السيكلين D، مما يؤدي إلى إيقاف تقدم الخلية من المرحلة G1 إلى المرحلة S. وهناك مثبط آخر للجزيئات CDK يعرف بالبروتين p21الذي يستطيع التأثير خلال الدورة الخلوية بكاملها. ويقع البروتين p21 تحت سيطرة بروتين كابت للورم هو p53، الذي يسهر على صحة الخلية وعلى سلامة دنا الصبغيات وعلى إتمام نجاح الخطوات المختلفة للدورة.

 

وغالبا ما تُنتج خلايا سرطان الثدي breast cancer كميات فائضة من السيكلينD والسيكلين E. وفي الكثير من حالات الميلانوم melanoma، تفقد خلايا الجلد الجينَ الذي يكود البروتين الكابح p16. كما يعوز نصف أنواع أورام الآدميين البروتين p53 الوظيفي. وفي سرطان عنق الرحم الذي تستثيره العدوى (الخمج)بڤيروس التهاب الحُلَيْمَة البشري human papilloma virus غالبا ما يكون البروتينان pRB و p53 معطلين، مما يعني استبعاد عاملي كبح ساعة الدورة الخلوية الأكثر أهمية. وتكون المحصلة النهائية في هذه الحالات كلها بدء دوران الساعة من دون ضابط، متجاهلة أي تحذير خارجي بالتوقف. فإذا ما تمكن الباحثون من استنباط طرائق تُقيَّد بوساطتها فاعلية السيكلينات والإنزيماتCDKs الناشطة في الدورة الخلوية، يصير بوسعهم إيقاف دورة الخلايا  السرطانية.

 

لقد ناقشنا حتى الآن أسلوبين يمكّنان في الحالة السوية نُسُجَنا من السيطرة على التكاثر الخلوي ويجنباننا حدوث السرطان. فهما يمنعان التضاعف المفرط بحرمان الخلية من العوامل المنبهة للنمو، أو على العكس عبر إغراقها بعوامل مضادة للتكاثر. ومع ذلك (وكما رأينا) فإن الخلايا وهي في طريقها لتصبح سرطانية تستطيع أن تتجاوز هذه الضوابط: إذ تنبه نفسها بنفسها وتتجاهل إشارات التثبيط. وبتأهبه لهذا الاحتمال، فإن جسم الإنسان جهز خلاياه بمنظومة دفاعية احتياطية، لصونها من هذه الانقسامات المتمردة. بيد أن هناك طفرات إضافية تصيب الذخيرة الوراثية للخلية فتهزم حتى هذه الدفاعات وتسهم في حدوث السرطان.

 

فشل المنظومات المضادة للإخفاق

إن إحدى هذه المنظومات الاحتياطية التي توجد في كل خلية من خلايا جسم الإنسان، تدفع الخلية إلى الانتحار في عملية تعرف «بالاستموات» (الموت الخلوي المبرمج) apoptosis، وذلك في حال تضرر أحد مكوناتها الأساسية أو إذا اختلت أجهزة التنظيم فيها. فمثلا، تستثير أذيةُ دنا الصبغيات الموتَ الخلوي المبرمج. وعلاوة على ذلك، تشير بحوثٌ أُجريت مؤخرا في عدة مختبرات إلى أن تكوُّن جين ورمي داخل الخلية أو تعطل جين كابت للورم يحرض أيضا على تلك الاستجابة. إن تدمير خلية متأذية هو أمر سيئ فيما يتعلق بالخلية نفسها، لكنه الوسيلة المنطقية فيما يتعلق بالجسم ككل. فالأخطار الكامنة التي يواجهها الكائن الحي نتيجة الطفرات السرطانية تفوق كثيرا الثمن البخس الذي يدفعه بخسارته خلية واحدة. وهكذا، فالأورام التي تنشأ في نُسُجِنا تنجم عن خلايا نادرة مختلة جينيا (وراثيا)، وتنجح بطريقة ما في التملص من الاستموات المبرمج المترسخ في دارة الضبط لهذه الخلايا.

 

وتستنبط الخلايا السرطانية طرائق عديدة كي تتملص من الاستموات. فمن بين الوظائف العديدة التي يضطلع بها البروتين p53 استثارته الانتحار الخلوي. بيد أن تعطيله من قبل العديد من الخلايا الورمية سيقلل من احتمال التخلص من الخلايا المختلة جينيا. كما قد تُنتج الخلايا السرطانية كميات كبيرة من البروتينBcl-2، الذي يحصر بكفاءة الاستموات المبرمج.

 

وقد أدرك العلماء، مؤخرا، أن المقدرة على الهروب من الاستموات المبرمج قد يعرض المرضى لأخطار شتى، ليس فقط لأنها تسهم في توسع الورم، بل ولأنها تجعل هذه الأورام مقاومة للمعالجة. فقد اعتُقد لسنين عديدة بأن المعالجات الشعاعية وكثرة من المعالجات الكيميائية، تقتل الخلايا السرطانية مباشرة بإحداث تخريب واسع في دَناها. ولكن اتضح الآن أن هذه المعالجات تلحق ضررا طفيفا بالدنا. ومع ذلك، فإن الخلايا المصابة تستشعر حدوث عطب لا يصلّح بسهولة، فتشرع بقتل نفسها. ويعني هذا الاكتشاف أن الخلايا السرطانية التي تستطيع التملص من الاستموات تكون أقل استجابة للمعالجة. كما يوحي هذا بأن المعالجات التي تعيد للخلايا مقدرتها على الانتحار ستقاوم السرطان بتحسينها فاعلية الاستراتيجيات العلاجية الحالية المبنية على التشعيع أو تأثير المواد الكيميائية.

 

وتحتوي خلايانا على خط دفاعي ثان ضد التكاثر اللاسوي، يختلف كليا عن الاستموات. وتقوم هذه الآلية على عد المرات التي بوسع الخلايا أن تولد نفسها ثم تقييد هذا العدد.

 

وتصبح الخلايا خالدة

لقد تجمعت معظم المعلومات عن آلية الحماية هذه من دراسات على الخلايا المستنبتة في أطباق پتري (الزرع). فعندما تؤخذ خلايا جنين الفأر أو الإنسان وتزرع، تتضاعف الجمهرة خلال يوم تقريبا. بيد أنه بعد عدد يمكن التنبؤ به من مرات التضاعف (50 – 60 مرة لدى الإنسان) يتوقف النمو، ويقال عندها بأن الخلايا في هذه المرحلة قد شاخت. هذا ما يحدث على الأقل في الخلايا التي يكون فيها الجينان RB و p53 سليمين. أما الخلايا التي تحافظ على طفرة معطلة لأحد هذين الجينين، فإنها تستمر في الانقسام حتى بعد أن تدخل نظيراتها السوية مرحلة الشيخوخة. وفي النهاية تدخل الخلايا الحية المتبقية مرحلة تسمى النوبة (الأزمة) crisis، حيث تموت بأعداد كبيرة. بيد أنه من حين لآخر تتمكن خلية من هذه الجمهرة المحتضرة من تجاوز النوبة لتصبح خالدة، فتتابع أنسالها الانقسام إلى ما لانهاية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N1-2_H02_007269.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N1-2_H02_007270.jpg

إن الصبغيات البشرية في خلية سوية آخذة بالانقسام (الأعلى)، توجد بشكل أشفاع مثيلة، وتظهر في الصورة الصبغيات المرقمة من 8 إلى 18. وعلى النقيض من ذلك، فإن صبغيات الخلية السرطانية لعنق الرحم تبدي الكثير من الشذوذ (الأسفل). فالصبغي 8 مثلا يبدي ثلاثة اضطرابات: زيادة في عدد النسخ، وخبن (حذف) بعض المواد الجينية من كل نسخة، وتكسر والتحام قطع في غير أماكنها السوية (أقصى اليمين عند 8). وتعد ظاهرة فقدان النسخ ظاهرة شائعة كما في الصبغي 13. وقد تحبذ هذه التغيرات المختلفة تفاقم تقدم الورم إذا ما أدت إلى تفعيل جين ورمي، أو زيادة نسخ جين ورمي، أو إلى استبعاد جين كابت للورم. لقد حُضِّرت هذه الصور بالتنميط (تحليل النمط) النووي الطيفي.

 

وتوحي هذه الأحداث بوجود آلية لعد مرات التضاعف التي تمر بها جمهرة الخلايا. وقد اكتشف العلماء خلال السنوات الأخيرة الأداة الجزيئية التي تتولى العد. إن شدفا من الدنا ـ تقع في نهاية الصبغيات وتسمى التيلوميرات (القسيمات الانتهائية) telomeres ـ تسجل عدد أجيال (نواتج) التنسخ التي تمر بها الجمهرة الخلوية، لتبدأ في الوقت المناسب مرحلة الشيخوخة والنوبة. إن قيام التيلوميرات بهذا العمل يؤدي إلى تقييد مقدرة الجمهرة الخلوية على التوسع إلى ما لانهاية [انظر: «التيلوميرات والتيلوميراز والسرطان»،مجلة العلوم ، العددان 5/6، صفحة 28 (1996)].

 

وكالنهايات البلاستيكية في رباط الحذاء، فإن التيلوميرات تقلنس cap نهايات الصبغيات لتصونها من الأذى. وفي معظم الخلايا البشرية تنكمش التيلوميرات في كل مرة تتنسخ فيها الصبغيات في المرحلة S من الدورة الخلوية. وحالما تنكمش التيلوميرات دون عتبة طول معين، فإنها تنبه الخلايا للدخول في مرحلة الشيخوخة. وإذا ما تجاوزت الخلايا هذه المرحلة، فإن استمرار انكماش التيلوميرات سيسبب في النهاية حدوث النوبة: فالتقاصر المفرط للتيلوميرات سيسبب انصهار الصبغيات بعضها في بعض أو تكسرها، الأمر الذي يخلق شواشا جينيا مميتا للخلية.

 

فإذا ما قامت منظومة العد المنوطة بالتيلوميرات بعملها في الخلايا السرطانية على نحو ملائم، فإن تكاثر التيلوميرات المفرط سيتوقف زمنا طويلا قبل أن يأخذ الورم حجما كبيرا. وهكذا، فإن التوسع الخطر سيوقَف من قبل برنامج الشيخوخة، ولكن حتى لو تجاوزت الخلايا هذا الحصار، فإن تمزق المنظومة الصبغية في مرحلة النوبة سيلغي هذا التوسع. بيد أن خط الدفاع الأخير هذا يُخْترق أثناء تطور معظم الخلايا السرطانية، ويتم تجاوزه بتفعيل الجين الذي يكود إنزيم التيلوميراز.

 

إن هذا الإنزيم (الذي يكون غير موجود عمليا في معظم أنماط الخلايا الصحيحة ومتوافرًا في كل الخلايا الورمية تقريبا) يعيد منهجيا قطع التيلوميرات التي «تُقَصُّ» trimmed away خلال كل دورة خلوية. إن وظيفة التيلوميراز إذًا هي الحفاظ على كمالية التيلوميرات، الأمر الذي يُمكِّن الخلايا من التنسخ إلى ما لانهاية. إن هذا الخلود الخلوي يبعث على القلق لسببين، فهو يسمح بوضوح بنمو الأورام، كما أنه يتيح للخلايا ما قبل السرطانية أو المتسرطنة فعلا الوقت لتُراكم طفرات إضافية تزيد من قدرتها على التنسخ والغزو، وأخيرا على الانتشار بالنقائل metastasize.

 

من وجهة نظر الخلية السرطانية، فإن إنتاج إنزيم واحد يمكنها من تجاوز حاجز الموت، هو بلا شك طريقة ذكية. بيد أن الاعتماد على إنزيم واحد فقط قد يمثل أيضا كاحل آخيل (نقطة الموت). فإذا ما غدا بالإمكان إحصار التيلوميراز في الخلايا السرطانية، فإن تيلوميراتها ستنكمش مع كل انقسام خلوي، الأمر الذي يدفع هذه الخلايا إلى مرحلة النوبة (الأزمة)، ومن ثم الموت. لهذا السبب يسعى العديد من الشركات الدوائية إلى تطوير عقاقير تستهدف التيلوميراز.

 

لماذا تظهر بعض السرطانات في أعمار مبكرة

عادة ما يتطلب الأمر عدة عقود لكي يجمع الورم الناشئ كل الطفرات اللازمة لنموه الخبيث. بيد أنه في بعض الأفراد تكون هذه الفترة مختزلة، إذ يصابون ببعض الأنماط السرطانية في أعمار أصغر بعقود من السن النموذجية لظهور هذه السرطانات. فكيف يتم تسريع تشكل الورم؟

 

وفي كثير من الحالات، يُفسَّر هذا البدء المبكر بوجود جين مسبب للسرطان طافر موروث من أحد الأبوين. فعندما تبدأ البيضة المخصبة بالانقسام والتنسخ فإن مجموعة الجينات التي أتت بها النطفة والبيضة تتنسخ وتتوزع على خلايا الجسم كافة. فإذا ما وقع في هذه المرحلة حَدَثٌ نادر عادة (كطفرة في أحد الجينات الحاسمة في ضبط النمو) فإنه يتعمم؛ لأن الطفرة تصبح مغروسة في كل خلية من خلايا الجسم وليس عشوائيا في بعض الخلايا المصابة فقط. وبعبارة أخرى، فإن تشكل الورم يتجاوز المراحل المبكرة البطيئة الحدوث، مسرعا السيرورة الورمية ككل. ونتيجة لذلك، فإن تطور الورم الذي يستغرق عادة ثلاثة أو أربعة عقود ليكتمل، يحدث في هذه الحال في عقد أو عقدين. ولأن هذا النوع من الجينات الطافرة ينتقل من جيل إلى آخر، فإن كثرة من أفراد العائلة تمتلك احتمال التطور المبكر للسرطان.

 

ويقدم شكل وراثي من أشكال سرطان القولون مثالا دراميا في هذا النطاق. إن معظم حالات سرطان القولون تحدث متفرقة، نتيجة لتغيرات جينية عشوائية تتم أثناء حياة الفرد. بيد أنه في بعض العائلات يصاب كثير من الأفراد بسرطان القولون في أعمار مبكرة بسبب جين موروث. وفي حالات متفرقة من سرطان القولون، تُعَطِّل طفرةٌ نادرة جينا كابتا للورم في ظهارة الأمعاء يعرف بالجينAPC. وتنجم عن تكاثر الخلية الطافرة في حالة كهذه سليلة (پوليپ) حميدةbenign polyp، قد تتطور في النهاية إلى سرطانة خبيثة. بيد أن الأشكال المعيبة من الجين APC تنتقل، في عائلات معينة، من الآباء إلى الأبناء. إن أفرادا من هذه العائلات يصابون في العقود الأولى من حياتهم بمئات، بل بآلاف من هذه السلائل القولونية. وعلى الأرجح، يتحول بعض هذه السلائل إلى سرطانات قولونية.

 

وتتزايد باضطراد قائمة متلازمات السرطانات العائلية التي يمكن إرجاعها إلى توارث جينات طافرة كابتة للورم. فمثلا، غالبا ما تؤدي أشكال معيبة من الجين pRB عند الأطفال إلى تطور سرطان عيني (يسمى ورم أرومة الشبكيةretinoblastoma)، وهذه الطفرات مسؤولة أيضا عن الزيادة الكبيرة في معدل حدوث الأغران العظمية osteosarcomas في الأعمار المتقدمة. وتسبب وراثة نسخة طافرة من الجين الكابت للورم p53 حدوث أورام في عدة مواضع، وهي حالة تعرف بمتلازمة لي-فراوميني Li-Fraumeni syndrome (الاسم الأول نسبة لفريدريك لي، أحد مؤلفي مقالة «ما الذي يسبب السرطان؟»، في هذا العدد). ويعد الجينانBRCA1 و BRCA2 ـ اللذان عُزِلا مؤخرا ـ مسؤولين عن حدوث معظم حالات سرطان الثدي العائلية، إذ يسببان %200 من سرطانات ما قبل الإياس (سن اليأس) في الولايات المتحدة، وأيضا نسبة أساسية من سرطانات المبيض.

 

وتُفَسَّرُ أحيانا السرطانات المبكرة بوراثة صف آخر من الجينات الطافرة. وكما ألمحنا سابقا، فإن معظم الناس لا يصابون بالسرطان حتى أعمار متقدمة بسبب وراثتهم مجموعة جينية صحيحة. بيد أن جيناتنا تُهاجَم أثناء حياتنا من قبل مسرطنات carcinogens من البيئة تدخل أجسامنا، وأيضا من قبل مواد كيميائية تنتجها خلايانا. كما تحدث أخطاء جينية عندما ترتكب الإنزيمات التي تنسخ الدنا أثناء الدورة الخلوية أخطاء نسخ. وفي معظم الأحيان تصحح أخطاء النسخ هذه بسرعة بوساطة جهاز تصليح يعمل في كل خلية. أما إذا أخطأ جهاز التصليح أو أخفق في إزالة هذا الخطأ، فإن الأذية ستتحول إلى طفرة دائمة في أحد جينات الخلية ومن ثم في الجين نفسه في كل الخلايا المتحدرة منها.

 

وتمثل الكفاءة العالية لجهاز التصليح أحد الأسباب وراء انقضاء عقود عديدة قبل أن تتراكم في الخلية الواحدة وبالمصادفة الطفرات اللازمة لتطور الخباثة. بيد أن بعض العيوب الموروثة تُسَرِّع تطور الورم بطريقة ماكرة: فهي تفسد عمل البروتينات التي تصلح الدنا المتأذي. ونتيجة لذلك، فإن الطفرات التي تتراكم عادة ببطء، تظهر على امتداد دنا الخلية بتواتر ينذر بالخطر. وستشمل الإصابة قطعا جينات ضبط التكاثر الخلوي.

 

وهذا ما يحدث في نوع وراثي آخر من سرطان القولون، يسمى سرطان القولون الوراثي غير السليلي hereditary nonpolyposis colon cancer. فالمصابون بهذا السرطان لديهم أشكال معيبة من بروتين مسؤول عن تصليح أخطاء نَسْخ الدنا التي يرتكبها جهاز النسخ. وبسبب هذا الإفساد، فإن الخلايا القولونية تعجز عن إزالة أذية الدنا بكفاءة، وهكذا تُراكم الخلايا الطفراتِ، مسرعة التطور السرطاني بعقدين أو أكثر. ففي متلازمة سرطانية عائلية أخرى، هي جفاف الجلد الانصباغي xeroderma pigmentosa، يرث المصابون بها نسخة معيبة من الجين الذي يوجه تصليح الدنا المتأذي بالأشعة فوق البنفسجية. إن هؤلاء الأشخاص يصبحون عرضة للإصابة بالعديد من سرطانات الجلد المحفزة بأشعة الشمس.

 

وبالمثل، يصعب على الحاملين وراثيا لنسخة معيبة من الجين ATM تعرّف وجود آفات معينة في الدنا، وبالتالي توجيه عملية التصليح الملائمة. ويكون لدى هؤلاء الأشخاص استعداد للإصابة بتنكس عصبي وتشوهات وعائية وأورام عديدة. ويقترح بعض الباحثين أن %10 تقريبا من سرطان الثدي الوراثي يمكن أن تنشأ عند مرضى يحملون نسخة معيبة من هذا الجين.

 

وستنمو خلال العقد القادم قائمة الجينات المؤهِّبة للسرطان نموا دراميا بفضل مشروع الجينوم البشري Human Genome Project (الذي يهدف إلى تعرّف جميع جينات الخلية البشرية). ومع تزايد دقة وسائل تحليل الدنا، فإن فهمنا لآلية عمل هذه الجينات سيمكننا من التنبؤ بأفراد العائلة ذوي الاستعداد الكبير للإصابة بالسرطان، وكذلك الأفراد الذين سيسعفهم حسن الطالع ويرثون نسخا صحيحة (كاملة) intact من هذه الجينات.

 

ما بعد التكاثر

على الرغم من أننا عرفنا كثيرا عن الأساس الجيني للتكاثر الخلوي اللاسوي، فإننا لا نعرف إلا القليل عن الجينات الطافرة التي تسهم في المراحل اللاحقة للتطور الورمي، وبالأخص تلك التي تجعل خلايا الورم تجذب الأوعية الدموية التي تغذيها أو تغزو النسج المحيطة مشكلة النقائل. بيد أن البحث في هذا الحقل يتقدم باطراد. (يصف <J.فوكمان> في هذا العدد براعة الخلايا السرطانية في تكوين أوعيتها الدموية الخاصة بها في مقالة «محاربة السرطان بمهاجمة موارده من الدم». كما تناقش <E. روزلاتي> موضوع النقائل في مقالتها في هذا العدد: «كيف ينتشر السرطان؟».)

 

لقد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من كتابة وصف تفصيلي لسيرة كثرة من الأورام البشرية، منذ بدايتها وحتى نهايتها المهددة للحياة. وستكتب هذه السيرة بلغة الجينات والجزيئات. وسنعرف خلال عقد من الزمن وبدقة فائقة تتالي الأحداث التي تؤلف التطور المعقد للخلايا السوية باتجاه خلايا شديدة الخباثة وغازِية.

 

وقد نصبح قادرين عندها على فهم لماذا لا تتطور بعض الكتل الخلوية ذات التوضع المحدد إلى أبعد من شكلها الحميد غير الغازي، فلا تجعلنا بالتالي نواجه الخباثة. إن أنواع النمو الحميد هذه توجد في كل عضو من أعضاء الجسم تقريبا. ولعلنا سنتعرف أيضا لماذا تسهم جينات طافرة معينة في تشكيل بعض الأنماط السرطانية من دون أخرى. فمثلا، إن أشكالاً طافرة من الجين الكابت للورم RB تظهر في ورم أرومة الشبكية وسرطانة المثانة وسرطانات الرئة صغيرة الخلايا، لكنها لا توجد إلا نادرا في سرطانات الثدي والقولون. ومن المرجح أن تأتينا حلول لهذه الألغاز من بحوث تُجرى في حقل بيولوجيا التناميdevelopmental biology (علم الجنين embryology)، ذلك أن الجينات التي تتحكم في التنامي الجنيني ستشكل هي نفسها مصدر الخباثات التي ستصيبنا لاحقا.

 

ووفقا لجميع المعايير، فإن كمية المعلومات التي تجمعت خلال العقدين الماضيين حول أصل السرطان لا مثيل لها في تاريخ بحوث بيولوجيا الطب. وقد تمت فعلا الإفادة من بعض هذه المعارف لتطوير وسائل جزيئية للكشف عن بعض أنواع السرطان وتحديد درجة خباثتها، وهذا ما سيعرض له <D. سيدرانسكي> في مقالته في هذا العدد: «تطورات في الكشف عن السرطان». وعلى الرغم من الفهم العميق للأسباب، فإن المعالجات الناجعة ما زالت صعبة المنال. ويكمن أحد أسباب ذلك في أن الخلايا السرطانية تختلف اختلافا طفيفا جدا عن الخلايا الصحيحة، فجزء ضئيل جدا من عشرات آلاف الجينات يتأذى خلال التحول الخباثي. وهكذا، فالخلايا الخبيثة تشبه في كل المعايير تقريبا الخلايا الصحيحة، وأي استهداف للخلايا السرطانية سيلحق الضرر نفسه تقريبا بالخلايا السوية.

 

وبعدُ، فإن سير المعركة آخذ بالتحول. ومع أن أوجه الخلاف بين الخلايا السرطانية والصحيحة دقيقة جدا، فإنها موجودة فعلا. فالخصائص الفريدة للأورام تمثل أهدافا واضحة للتداخلات الدوائية الجديدة [انظر في هذا العدد: «المعالجات المستقبلية»]. وما زال تطوير معالجات نوعية مضادة للسرطان في مراحله البدئية. وستنتقل هذه الأعمال بسرعة من الاكتشاف القائم على التجربة والخطأ إلى التصميم المنطقي والاستهداف الدقيق. ونظن أن العقد الأول من القرن القادم سيتيح لنا علاجات مضادة للسرطان لم يكن ليحلم بها الجيل السابق. وعندها فقط سيصبح هذا الاستثمار الطويل الأمد للموارد في بحوث السرطان الأساسية، مجزيا بالسخاء الذي نصبو إليه.

 

 المؤلف

Robert A. Weinberg

عضو في معهد هوايتهيد لأبحاث بيولوجيا الطب وأستاذ البيولوجيا في معهد ماساتشوستس للتقانة، حيث حاز الدكتوراه في البيولوجيا عام 1969. كان إسهام مختبره أساسيا في عزل أول جين بشري ورمي وأول جين بشري كابت للورم. حاز واينبرگ، العضو في أكاديمية العلوم الوطنية، العديد من الجوائز لإسهاماته في فهم الأسس الجينية للسرطان، وآخرها جائزة <G.كلاوز> التذكارية التي تمنحها الجمعية الأمريكية لبحوث السرطان. وهذه هي مقالته الرابعة لمجلة ساينتفيك أمريكان.

 

مراجع للاستزادة 

CANCER: SCIENCE AND SOCIETY. J. Cairns. W H. Freeman, 1978. GENES AND THE BIOLOGY OF CANCER. H. Varmus and R. A. Weinberg. Scientific American Library (distributed by W H. Freeman), 1993.

THE MULTISTEP NATURE OF CANCER. B. Vogelstein and K. W Kinzler in Trends in Genetics, Vol. 9, No. 4, pages 138-141; April 1993. CANCER: THE RISE OF THE GENETIC PARADIGM. J. M. Bishop 1R Genes and Development, Vol. 9, No. 11, pages 1309-131.i; June 1, 1995. ONCOCENES. Second edition. G. M. Cooper. Jones and Bartletr Publishers, Boston, 1995.

 

(1) الكتيبة الدلوية هي كتيبة تطفئ النار بتمرير دلو الماء من يد إلى أخرى.

(2) مفردها سرطانة. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى