أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم المناخ

تغيّرات غير متوقّعة في علم المناخ

 

تغيّرات غير متوقّعة في علم المناخ

إن دراسة العصور الجليدية السابقة تحدد الفترات الزمنية التي تستغرقها التغيرات المناخية.

إن سرعة ارتفاع درجة الحرارة التي تنتج من الاحتباس الحراري هي أعلى ممّا كان متوقّعا.

<C-J. دوپلسّي>

 

يوجد مع الأسف جزء من الحقيقة في أسوأ الخرافات. فهل هناك شيء أتفه من تنبؤات التنجيم المعتمدة على مواقع النجوم. وهل تؤثّر حركات الكرة الأرضية والقمر في مصير البشرية؟ وهل تغيّر حركات النجوم الظروف المناخية. أليس هذا غير متوقّع؟

 

أدرك اليونانيون من قبل أن ميل أشعة الشمس الذي ينظّم تواتر الفصول هو الذي يتحكم في مناخ الكرة الأرضية.

 

المراحل الجليدية المدهشة

تقدمت الدراسات والنظريات المتعلقة بالمناخ تقدما بطيئا من دون اكتشافات خارقة حتى القرن التاسع عشر. وكانت المفاجأة الكبرى في هذا القرن اكتشاف المراحل الجليدية، وهو اكتشاف ذو تاريخ حافل. كان دو شارپنتيه، وهو هاو متحمس ومدير معروف لملاحات بكس بسويسرا الروماندية، مقتنعا بأنه كان على جبال الجورا كميات ضخمة من الجليد كانت السبب في تخديد سطح الأرض.

 

كان دو شارپنتيه رجلا ثريا يتمتع بثقافة عالية نسبيا، وكانت تربطه علاقة صداقة بعالم شهير، ولكنه مفلس، يدعى لويس أكاسّيز. وفي عام 1836 تمكّن دو شارپنتيه من إقناع أكاسيز بوجود مراحل جليدية كانت جبال الجورا خلالها مكسوة بالجليد. فقد أطلعه دو شارپنتيه على صخور محززة، وفسر له سبب ذلك بأن الحصى الكبيرة المجروفة بحركة الجليد هي التي حفرت ـ أثناء احتكاكها بالقعر ـ هذه الحزوز على الصخر. لاحظ أكاسيز أن اتجاهات الحزوز كانت متوازية فيما بينها حتى على مسافات كبيرة، كما فسّر الوجود غير المتوقع لكتل صخرية بأنّ الجليديات نقلت هذه الكتل وخلَّفتها بعد انحسارها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N5_H01_007841.jpg

< لويس أگازي>

 

لقد استبعد أكاسيز الفرضية التوراتية التي تردّ سبب هذا النقل إلى الطوفان. وهكذا ففي غضون أشهر قليلة، انتقل أكاسيز ـ بتحريض من دو شارپنتيه ـ من متشكك إلى نصير مقتنع. وفي نوشاتل نظّم جلسة للجمعية الجيولوجية التي أسسها، وقدّم خلالها نظريته، وما إن انتهى من محاضرته حتى ارتفع ضجيج لا يوصف. كان المستمعون يتوقعون حديثا أكثر رصانة، إذ لم يكونوا مستعدين لثورة فكرية ورأوا في الفرضيات التي أيّدها أكاسيز ضربا من الخيال.

 

كرّس أكاسيز سنوات عديدة من حياته من أجل إثبات حقيقة المراحل الجليدية السابقة. ولحسن الحظ تلقّى أكاسيز دعما لحدسه من الجيولوجيين: إذ اكتشفوا آثارا ضخمة للجليديات حول جبال الألب وجبال الجورا وأوروبا الشمالية، ولا سيما في بولونيا وألمانيا وإنكلترا وإيرلندا وبلجيكا وهولندا وأيضا في روسيا. أما في القارة الأمريكية فإن الحدود الفاصلة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية مغطاة ببقايا المراحل الجليدية وأكثرها وضوحا البحيرات الكبرى.

 

استسلم أكاسيز لاندفاعه وعمَّم فكرته بشكل مفرط، وتصور كرة أرضية مغطاة بين فترة وأخرى بالجليد. ولكن من المعروف حاليا أن ذلك مستحيل. فإذا كان البحر بأكمله مغطى بالجليد فلن تتراجع المراحل الجليدية على الإطلاق، لأن الجليد يعكس ضوء الشمس ويقلل كمية الحرارة التي يمتصها الغلاف الجوي وسطح الأرض إلى نسبة لا تستطيع معها الكرة الأرضية أن تزيد من درجة حرارتها إطلاقا.

 

ميلانكوڤيتش وسبب المراحل الجليدية

لم يكن لدى أكاسيز أية فكرة عن سبب المراحل الجليدية. وكان لا بد من الانتظار ثلاثين عاما من أجل التفكير بأن موقع الكرة الأرضية بالنسبة إلى الشمس قد يُحدث هذه الانخفاضات في درجات الحرارة. وفي غضون ذلك كان علماء المناخ يفكرون في أن البراكين قد تكون السببَ في انخفاض درجة الحرارة: فالبراكين في إصدارها سُحُب الغبار الكثيفة ربما تكون قد اعترضت الطاقة الشمسية وخفّضت درجة حرارة المناخ. فقد وصف <B. فرانكلين> سُحُبَ الغبار التي غطت أوروبا في وقت من الأوقات، والتي ربما تكون قد اعترضت الإشعاع الشمسي. ومن هنا كان أول مثال عن الخلاف الذي لايزال يثير حاليا علماء الجيولوجيا والمستحاثات: فما هو إذًا سبب اضطرابات المناخ؟ إننا نعرف الخلاف الحالي حول سبب انخفاض درجة الحرارة الذي أدى إلى اختفاء الدينوصورات منذ 65 مليون سنة، وهو خلاف بين أنصار الفرضية البركانية وأنصار اصطدام أحد النيازك بالأرض. ويبدو أن الدعم الذي كانت تتلقاه الفرضية البركانية آخذ الآن بالتراجع.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N5_H01_007842.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N5_H01_007843.jpg

منذ 000 18 سنة (في اليسار) كان نصف الكرة الأرضية الشمالي مغطى بطبقات جليدية بلغت ثخانتها عدة كيلومترات. إن كمية المياه المأخوذة من المحيطات لتكوين طبقة الجليد فوق البحار القطبية كانت كبيرة جدا لدرجة كانت سيبيريا وأمريكا الشمالية متصلتين إحداهما بالأخرى عبر جسر بري. وحاليا لم يبق من الأراضي المغطاة بالجليد سوى گرينلندا (في اليمين) وقارة القطب الجنوبي.

 

يرجع عمر ركام آخر الجليديات الكبيرة الذي أحاط بكندا إلى نحو 000 20 سنة. وقد تم الحصول على هذا العمر بمعايرة الكربون 14 المشعّ في البقايا العضوية المحصورة بالجليد. وفيما بعد، عثر علماء الجيولوجيا على آثار أخرى من المراحل الجليدية الكبرى: وقد أدى هذا إلى زيادة عدد المراحل الجليدية الكبرى الأربع المعروفة والبعيدة عن المنطق. إذ إن تحديد هذا العدد، الذي بقي لوقت طويل حقيقة لا ريب فيها، لم يكن منطقيا: فهناك بالفعل مراحل جليدية أخرى، غير أن بقاياها قد طُمست بفعل عوامل الانجراف والمراحل الجليدية اللاحقة.

 

القياسات السابقة

في عام 1955، فكّر <C. إميلياني>، وهو باحث إيطالي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة، في دراسة قُوارات carottes الرواسب البحرية وقياس نسبة نظائر الأكسجين في هياكل المنخربات foraminifère، وهي حيوانات مجهرية أحادية الخلية يبلغ قدّها بضعة أعشار الملّيمتر. وبذلك أعاد تشكيل تعاقب المراحل المناخية الكبرى الباردة والحارة خلال 000 400 سنة. وفيما بعد تمّ تحسين التقنيات وأعيد تشكيل التغيّرات المناخية من دون انقطاع لنحو ما بين خمسة وستة ملايين سنة، كما تمّ فهرسة الأحداث المناخية الكبيرة لنحو ستين مليون سنة.

 

إن هذه القياسات، إضافة إلى القياسات المأخوذة من قوارات الجليديات، تكشف عن التعاقب الدوري للتقلبات المناخية والاختلافات في الكتلة الجليدية على القارات.

 

إن نظير الأكسجين الأكثر غزارة هو ذو الكتلة الذرية 16 (تتكوّن نواته من ثمانية بروتونات وثمانية نيوترونات). إن معظم أكسجين الماء هو من الأكسجين 16، ومع ذلك فإن بضعة جزيئات من الماء من أصل ألف جزيء تكون مكوّنة من النظير الأثقل؛ الأكسجين 18. وتتجه هذه الجزيئات الأثقل إلى البقاء في مياه المحيطات عندما تتبخَّر المياه من سطح هذه المحيطات، التي تغتني نتيجة لذلك بالنظير 18. وعلى هذا الأساس تكون نسبة الأكسجين 18 في الأمطار والثلوج والجليد، المتكون من هذه الهطولات التي تسقط على القارات، أقل من نسبتها في مياه المحيطات. فعندما تبدأ مرحلة جليدية تتكون طبقات من الجليد القاري من الهطولات الناجمة عن مياه المحيطات التي تكون قد اغتنت بالأكسجين 18. ولكن لا يمكننا أن نجد مياه تلك المحيطات ثانية ولا أن نحدد تركيب مياه فترات زمنية لم تعد موجودة، وإنما نجد هذا التركيب مسجلا في كربونات الكالسيوم بهياكل المنخربات التي تدخل في تركيبها ذرات الأكسجين الموجودة في مياه البحر. فكلما كانت نسبة الأكسجين 18 إلى الأكسجين 16 أكثر ارتفاعا كانت الجليديات القارية أكثر انتشارا في الزمن الذي ترسبت فيه الرواسب ومعها هياكل المنخربات: وهكذا فإن قياس نسبة الأكسجين 18 إلى الأكسجين 16 في هذه الهياكل يحدد الحجم الكلي للجليد على الكرة الأرضية.

 

كان هناك 104 مراحل جليدية خلال 1.8 مليون سنة، وأكثر هذه المراحل شدة حصلت منذ مليون سنة على الأقل. وكانت تحصل كل 000 100 سنة، وتتم في فترتين متعاقبتين مدتاهما 000 21 سنة و000 41 سنة. أثارت هذه الملاحظات نظرية كان قد فكّر بها الفلكي الصربي <M. ميلانكوڤيتش> في الثلاثينات. فقد حسب ميلانكوڤيتش يدويا كمية الإشعاعات الشمسية التي تسقط على خط العرض الشمالي 65، حيث تنتشر القلنسوات الجليدية. فكّر ميلانكوڤيتش بذكاء في أن كل شيء يعتمد على شدة الإشعاع الشمسي الذي يسقط على خط العرض المذكور حيث يُحتمل انتشار الجليد القطبي.

 

يعود سبب التغيّر الأول إلى ظاهرة تغيّر ميل محور دوران الكرة الأرضية. وهذا الميل يختلف درجة واحدة وثلاثين ثانية على الأكثر حول قيمته الحالية البالغة 23 درجة و30 ثانية. فإذا كانت الكرة الأرضية مائلة أكثر مما هي عليه الآن فإن الأشعة الشمسية تسقط أكثر قليلا في الصيف على خطوط العرض ذات القيم المرتفعة وأقل قليلا في الشتاء. وبخلاف ذلك عندما يكون الميل ضعيفا فإن التباين بين الصيف والشتاء يصبح أقل وضوحا.

 

وهناك عامل آخر يغيّر المناخ يتمثل في موضع الكرة الأرضية على مدارها حيث تحتل الشمس أحد محرقيه. فعلى سبيل المثال نحن محظوظون في الوقت الحاضر بسبب قربنا من الشمس شتاء وبعدنا عنها صيفا. وهذا يتغير مع الزمن بظاهرة المبادرة précession. ولهذا السبب كانت الكرة الأرضية منذ 000 11 سنة بعيدة عن الشمس شتاء وقريبة منها صيفا.

 

وممّا يزيد أيضا في هذا التباين اجتماع هاتين الظاهرتين. إضافة إلى ذلك فإن المدار الإهليليجي الذي ترسمه الكرة الأرضية حول الشمس قابل للتغير أيضا من مدار شبه دائري إلى مدار قليل التطاول بنسبة انحراف عن المركز قدرها 0.06 تقريبا. إن هذا الاختلاف ليس كبيرا ولكنه يكفي لتغيير أسلوب سقوط الإشعاع الشمسي على كوكبنا مع الزمن.

 

وتنجم هذه الاختلافات الثلاثة عن عمليات جذب كواكب المجموعة الشمسية الأخرى. بقيت نظرية ميلانكوڤيتش موضع نقد لفترة طويلة؛ بسبب عدم تطابقها مع نتائج القياسات. والشيء المدهش أن الاعتراضات على أفكار ميلانكوڤيتش كانت تستند إلى أدلة علمية خاطئة. فقد ترسّخت الحقيقة عندما أعدنا تكوين المناخ ثانية من قوارات الرواسب البحرية. فقد كانت وجهة نظر ميلانكوڤيتش صحيحة. وهكذا فقد استُبْعدت النظرية البركانية وأُدْخلت تحسينات على حسابات ميلانكوڤيتش من قبل <A. برجيه> الأستاذ في جامعة لوڤان الكاثوليكية.

 

كانت هناك مرحلة جليدية منذ 000 18 سنة

في الوقت الذي كانت تُجرى فيه هذه الدراسات قام علماء الجيولوجيا بتقصّي حالة المناخ خلال مرحلة الجليد الأخيرة ولا سيّما خلال ذروتها منذ000 18   -000 20 سنة. وبذلك تمكّن خمسون باحثا من إعادة تكوين حالة الكرة الأرضية خلال الشهرين النقيضين من السنة، وهما 2 و 8. ونعلم منذ زمن بعيد أن الحيوانات، ولا سيّما المنخربات التي تعيش في المياه الباردة، ليست هي نفسها التي تعيش في المياه الحارة (الدافئة). وبالتالي تسمح دراسة الراسب (وما يحويه من هياكل المنخربات) بتحديد فيما إذا ترسّب هذا الراسب في منطقة باردة أو حارة.

 

إن العلاقة بين وجود أنواع محدّدة من المنخربات وبين درجة حرارة البحر هي علاقة وثيقة. لذا درس العلماء تغيّرات المجموعات الحيوانية (الوحيش) المستحاثة واستنتجوا درجة حرارة مياه البحر بتقريب قدره درجة واحدة. وحاليا، نعرف كيف نحدّد درجة حرارة مياه البحر في عرض البحار أمام شواطئ فرنسا قبل 000 20 سنة. فقد كانت تتراوح ما بين 6 و 7 درجات في عرض البحر أمام بروتانيا صيفا، وكانت تقترب من الصفر شتاء. ومن دون أدنى شك كان الطوف الجليدي banquise أكثر امتدادا نحو الجنوب: حيث كان الجليد يُغطي بحرَيْ النروج وگرينلندا على مدار السنة، وامتدت حدوده حتى إيرلندا. ولقد دلّت إعادة تكوين الحرارة في مدينة ليون، استنادا إلى دراسة حبوب الإلقاح (المستحاثة)، على أن الحرارة كانت منذ 000 18 سنة أقل وسطيا ممّا هي عليه حاليا بنحو 12 درجة. فقد كانت ليون تقع على حدود منطقة الجليد الدائم التي تشبه حاليا منطقة الجليد الدائم في سيبيريا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N5_H01_007844.jpg

تنشأ المراحل الجليدية عن ثلاثة متغيرات لمدار الكرة الأرضية: هي انحراف المدار عن المركز، وتطاول الإهليلج بالنسبة إلى دائرة كاملة (a) وزاوية ميل محور الكرة الأرضية بالنسبة إلى مستوى المدار (b) ومدة الحضيض périhélie التي تحدد اتجاه محور الكرة الأرضية عندما تمر في أقرب مسافة من الشمس (c). إن جَمْع تغيرات هذه الكميات الثلاث لفترات مختلفة يعطي التشمّس ensoleillement عند خط العرض الشمالي 65 في الشهر 7. ويعبّر عن هذه القيم من التشمس بالواط في المتر المربع (d). وتتوافق درجات التشمس الدنيا مع المراحل الجليدية.

 

ومن الأمور غير المتوقّعة تماما هو أن المناخ لا يتغير في جميع المناطق على المنوال نفسه. فهناك مناطق كانت ترتفع فيها درجات الحرارة في الوقت نفسه الذي وصلت فيه المراحل الجليدية إلى الأوج. ومع ذلك تمّ فهم الأسباب الطبيعية لهذه الظواهر الشاذة: فعلى سبيل المثال كانت درجات الحرارة في شبه الجزيرة العربية أعلى بسبب توقّف رياح الصيف الموسمية. وهي رياح تؤدي إلى صعود المياه الباردة من أعماق المحيطات، وتخفض الحرارة. إن هذا الوارد من المياه الباردة كان قد توقف: فأطراف شبه الجزيرة العربية كانت على الدوام ذات مناخ صحراوي جاف للغاية، إلا أنها كانت أشد حرارة ممّا عليه حاليا.

 

ومع ذلك كانت درجة حرارة الكرة الأرضية أبرد وسطيا بنحو 5 و 6 درجات مئوية، ودرجة حرارة المحيطات أبرد بنحو 2 و 3 درجات مئوية. وهذا أمر لا ينبغي الاستهانة به، فتغيّرٌ قدره بضع درجات وسطيا يؤدي إلى عواقب وخيمة.

 

عدم استقرار القلنسوات الجليدية

إن الشيء الذي لم نكن نتوقعه هو عدم استقرار القلنسوات الجليدية. إذ ساد اعتقاد لمدة طويلة بأن القلنسوات الجليدية كانت مستقرة تماما وكانت تستجيب ببطء للتغيرات المناخية. غير أن علماء الجليديات اكتشفوا في عام 1969 تقلّبات مناخية حدثت بسرعة كبيرة وبخاصة في گرينلندا حيث كانت درجات الحرارة تتقلّب أثناء الفترة الجليدية بمعدّل يتراوح ما بين 5 و 6 درجات: مؤدية بذلك إلى ارتفاع ثم انخفاض في درجات الحرارة يليه ارتفاع آخر وانخفاض ثان، وهي فترات زمنية ذات فارق حراري كبير مدتها من رتبة مئة سنة.

 

لم يتوقّع علماء الفلك هذه الظاهرة السريعة. ومن أجل توضيحها أخذ علماء الجيولوجيا عينات من الرواسب التي ترسبت خلال الخمسين ألف سنة الماضية في مناطق كانت سرعة الترسيب فيها أعلى من المتوسط وتراوح ما بين 20 و 50 سنتيمترا كل 1000 سنة. وهي سرعة تسمح بالاطلاع على تفصيلات أكثر، وهكذا اكتشفوا أن جميع قعور المحيط الأطلسي (الأطلنطي) الشمالي كانت مغطاة بطبقات رقيقة من الحصى الصغيرة القريبة من الرمال تبلغ ثخانتها بضعة مليمترات. أما حاليا فإن قعر المحيط الأطلسي مغطى بالوحل.

 

كان هذا الرمل يشكل حُتات الأراضي الكندية والاسكندنافية الواسعة وترسّبه أيضا الجليديات، إذ عندما ينساق جليد الجبال الجليدية في المحيط فإنه يحرّر عند ذوبانه جميع الحصى الصغيرة التي كانت قد جمعتها الجليديات عند اجترافها للركيزة الصخرية. وهذه الفترات تتوافق مع تكسّر الجليد إلى جبال جليدية. فخلال ألف سنة على الأكثر انتقل ما يعادل بضعة ملايين من الكيلومترات المكعّبة من الجليد إلى البحر. فما السبب في ذلك؟ إن ذلك يعود إلى عدم استقرار القلنسوات الجليدية.

 

انخفاض بطيء في درجة

حرارة الكرة الأرضية

تسمح أدوات الحفر بالحصول على عدة مئات الأمتار من الرواسب التي تسهل إعادة تكوين تطور مناخ الكرة الأرضية. وتكون المعلومات صحيحة مادام منعدما أي تغير لاحق مهم في ترتيب الرواسب. ويتم تحقيق ذلك باستقصاء المعلومات من مصادر مختلفة يحدِّد بها العلماء استقرارية الرواسب، ويعيدون تكوين التاريخ المناخي للكرة الأرضية خلال العشرة ملايين سنة الأخيرة. ويبدو أن التقلّبات كانت ضخمة وهذا لم يكن متوقّعا. ففي الزمن الذي عاش فيه آخر دينوصور، أي منذ 65 مليون سنة، لم يكن هناك أي جليد فوق سطح القارة القطبية الجنوبية. فقد كانت تلك المنطقة مغطاة بغابات الزان، ومثل ذلك جميع أمريكا الجنوبية، وعمليا لم يكن هناك جليد في أي مكان.

 

كان مستوى مياه المحيطات أعلى ممّا هو عليه حاليا، لأن جميع الجليد كان قد ذاب. وكانت تهيمن شروط مناخ حار، لم يُعرف سببه جيدا، ويُظن أنه كان يوجد في ذلك الزمان كميات كبيرة من ثنائي أكسيد الكربون. فقد تبرّدت تلك الأرض الحارة رويدا رويدا نحو عُشر الدرجة كل مليون سنة، وبعد نحو عشرين مليون سنة أصبح انخفاض الحرارة محسوسا، وظهرت أول كميات من المياه الباردة في المحيط.

 

كانت هذه أول أعراض التغيّرات الكبيرة التي شهدتها الكرة الأرضية. فالمياه التي كانت على أطراف هذه القارة انخفضت درجة حرارتها بشكل كبير، ولم تكن بعيدة عن درجة الصفر في الشتاء. وهكذا فإنّ المياه الباردة الأكثر كثافة كانت تغوص نحو الأعماق في الشتاء وتتحكّم في جميع تيارات المحيطات التي اجتاحت آنذاك الأحواض العميقة في المحيطات.

 

ونتيجة لهذا الاضطراب الشديد وجد المجموع الحيواني (الوحيش) في الأعماق السحيقة صعوبة في العيش، إذ كانت الأسماك وحيوانات الأعماق السحيقة تعيش منذ مئات الملايين من السنين في عالم دافئ، وفجأة وصلت المياه الباردة، واختفى القسم الأكبر من المجموع الحيواني ليحل محله مجموع حيواني آخر أكثر تكيفا مع درجات الحرارة الجديدة. ومنذ فترة تتراوح ما بين 12 و 13 مليون سنة كان سطح البحر لايزال دافئا، ولكن الجليد بدأ بالتراكم بكميات ضخمة في القارة القطبية الجنوبية. أما خلال الخمسة أو الستة ملايين سنة اللاحقة فإن تغيرات حجم الجليديات على هذه القارة أحدثت تغيّرات في سوية البحر تقدر بنحو عشرة أمتار.

 

مناخات المستقبل

ربما ستكون الظواهر أكثر بساطة لو لم يكن الإنسان موجودا على سطح الأرض. وربّما سيعطي ذلك فرصة لنظرية ميلانكوڤيتش للتنبؤ: إننا في غضون بضعة قرون سندخل في مرحلة جليدية. فبعد أول بادرة جليدية شديدة في غضون فترة تتراوح ما بين 5000 و 6000 سنة قد تصل مرحلة جليدية بنصف شدتها إلى الأوج في غضون 000 60 سنة.

 

وفي الواقع، تنتج تقلبات المناخ من عملية أكثر تعقيدا مما يبدو. فمثلا إن سبب تبريد المناخ ليس تزويد المحيط الأطلسي الشمالي ببضعة جبال جليدية وإنما نشوء التيارات البحرية التي تجري فيه. فالجبال الجليدية المتدخلة تحرر المياه العذبة على السطح، وهذه تؤدي إلى جعل مياه البحر راكدة، أي تمنع غوص المياه الشتوية الأعمق أو تبطئ حركتها. وإذا لم تَغُص المياه الباردة والمالحة تختفي تيارات المياه الساخنة التي توجد على السطح، وهذه التيارات تجلب لنا حاليا الحرارة بسبب ما تجلبه من مياه ساخنة نحو خطوط العرض العليا. إن ما تجلبه هذه المياه له أهمية تعادل الحرارة التي تنقلها كتل الهواء الساخن التي تنشأ عن المناطق المدارية. إن موجات البرد الشديدة في الماضي كانت ترتبط بهذا التطبُّق المائي في المحيطات وليس بوصول الجبال الجليدية فقط.

 

والمثال الآخر هو مثال لمرحلة جليدية قصيرة: فقد حصلت موجة برد منذ 400 سنة، وهي معروفة تاريخيا ووصفها بروجل بالتفصيل، وجزء كبير من الجبال الجليدية التي كانت قد غزت الشواطئ الإيسلندية، نشأ على الأرجح عن تقصّف جليد المحيط المتجمد الشمالي، الذي تراوحت ثخانته ما بين مترين وثلاثة أمتار.

 

وبإمكاننا حاليا ترتيب مياه المحيط في طبقات بطرائق بسيطة للغاية وحتى من دون استدعاء تغيرات مناخية شديدة، إذ يكفي لذلك تغيّر بسيط في كمية الأمطار الهاطلة على المحيط الأطلسي الشمالي. ولكنّ هناك استنتاجا لا بد من تأكيده، وهو أننا لسنا في منأى عن تغير مناخي شديد قد يرتبط باضطراب مناخي ناجم عن انطلاق غاز ثنائي أكسيد الكربون في الجو مثل ما تدل عليه بعض النماذج المناخية. ولنضرب مثالا على ذلك: ففي بداية عملية انطلاق هذا الغاز يحدث كل شيء بهدوء: تسخن الكرة الأرضية بفعل الاحتباس الحراري (تزايد مفعول الدفيئة) الطبيعي، وتزداد في الوقت نفسه كمية الأمطار الهاطلة على المحيط الأطلسي الشمالي. وتضاف إلى هذه الكميات من الأمطار الغزيرة مياه متزايدة تجلبها الأنهار التي تصب في المحيط الأطلسي. وهكذا فإن أي زيادة هيدرولوجية تؤدي دوما إلى اختلال بالتوازن غير مرغوب فيه: كزيادة في كمية الأمطار في وقت لا نحتاج فيه إليها وحصول مراحل جفاف مهلك. ففي هذا النموذج تبدأ الأمطار بالهطول على المحيط الأطلسي الشمالي إلى حد يؤدي إلى تخفيف سرعة التيارات في المحيط. وإذا أردنا جعل الأمور مستقرة بشكل منطقي، وذلك بعودة المحيط إلى وضعيته السابقة واستقرار المناخ ثانية في حالة تبدو أنها أكثر سخونة قليلا، فإن المحيط يتابع عمله كما يجب وفي جميع الأحوال كما نرغب أن يكون. وبالمقابل إذا كانت الاضطرابات التي يسببها البشر شديدة نوعا ما، فإن المحيط لا يعود ثانية إلى وضعيته وتبقى حركة تياراته ضعيفة جدا، 10 في المئة من حركتها الحالية، ويصعب تصور المناخ لأنه لا يوجد ما يعادله في الوقت الحالي. وعليه لا نستطيع نمذجة الاضطرابات الهائلة المحتمل حدوثها.

 

واختصارا، إذا كان البشر قادرين على تنظيم نشاطاتهم ونسب التلوث التي يطلقونها في الغلاف الجوي، فإن الكرة الأرضية ستستعيد توازنها ثانية، أما إذا نشروا كميات كبيرة من ثنائي أكسيد الكربون فإن الاحتباس الحراري (مفعول الدفيئة) على كوكب الأرض سيؤدي إلى الإخلال إلى حد كبير بنظام الكوكب في أقل من 200 سنة. وفي هذا الأمر الأخير، وعلى الرغم من حقيقة أن المناخ سيتبرد بسبب مرحلة ميلانكوڤيتش الجليدية التي توقّعها في المستقبل، فإن ارتفاع الحرارة الناجم عن الاحتباس الحراري هو من رتبة درجة واحدة كل بضع عشرات من السنين، في حين يكون انخفاض الحرارة بسبب مرحلة ميلانكوڤيتش الجليدية هو من رتبة بضعة أعشار من الدرجة كل ألف سنة. لذا يجب ألا نعتمد على المرحلة الجليدية لتعديل زيادة الحرارة الكارثية التي يسببها البشر. إننا على وشك مشاهدة انفجار الظروف المناخية وردّ الفعل غير المتوقّع من أجزاء من العالم بالنسبة إلى بعضها الآخر حيث إنه من الصعب، إلى حد كبير، حاليا أن نتنبأ بما سيحدث.

 

تكيّف مستحيل

إن درجات الحرارة سوف تزداد، ولن يُكتفى بنزع جزء مما نلبسه من الصوف إذا ما اشتدت الحرارة. إن الدورة الهيدرولوجية ستتغيّر، فهل سنكتفي عند ذلك ببناء بعض السدود ووضع سياسة معقولة من أجل تخزين المياه وحفظها واستخدامها الأمثل؟ إن سوية مياه البحر سترتفع نتيجة لذوبان جليد الجبال والتمدد الحراري للماء، فهل يمكننا بناء حواجز بالقدر الكافي؟

لا بدّ من وضع سياسة تكيّف بأسرع وقت ممكن مع ضرورة بذل جهود للقيام بأبحاث جوهرية، وهذا جهد كنا نميل إلى إهماله حاليا بسبب اعتقادنا أن النتائج التي تم الحصول عليها كانت كافية لكشف الاضطرابات الناتجة. وإذا أردنا أن نكون في مأمن من تلك المفاجآت الناجمة عن عواقب ردود أفعال المجموع المؤلَّف من الغلاف الجوي والمحيط والجليد، فعلينا أن نتفهم الآليات التي تتدخل فيه ومدى مشاركتها.

 

ومن المناسب أن نعمل على ألا يتجاوز التركيب الكيميائي للغلاف الجوي تركيب الأغلفة الجوية التي عرفتها الكرة الأرضية في ماضيها الحديث. إن القيم التي بلغها التركيب الكيميائي للغلاف الجوي تجاوزت الآن الحدود، فقد تجاوزنا عتبة التقلبات الطبيعية للمناخ وسيتطور النظام إلى ظروف لا نسيطر عليها وليس لدينا عنها خبرات سابقة.

 

ووفقا للنماذج المناخية الحالية، إذا تضاعف تركيز ثنائي أكسيد الكربون، كما يفترض أن يحدث خلال القرن القادم، فسنغوص عندها في المجهول. فهل ستتمكّن الصناعات من التكيف مع الظروف القادمة؟ إنها مشكلة كبيرة. وما لا نتوقعه سيكشف عنه المستقبل.

 

 المؤلف

Jean-Claude Duplessy

مدير بحوث في المركز الوطني للبحوث العلمية. يعمل في مركز النشاطات الإشعاعية الضعيفة بالمختبر الذي يشترك فيه المركز الوطني للبحوث العلمية ومفوضية الطاقة الذرية. نشر كتابين لدى أوديل جاكوب هما «أزمنة ضخمة على الكواكب» و «عندما يغضب المحيط» وهذا النص نسخة من نقاش مسجل مع إميل نويل في قصر المكتشفات.

Pour la Science, N°237

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى