أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

قضية آثار الحياة على كوكب المريخ


قضية آثار الحياة على كوكب المريخ

إن النيزك الذي عُثِرَ عليه في القارة القطبية الجنوبية، يوفر دليلا قويا

على أن المريخ كان ـ وربما مازال ـ يحتضن حياة ميكروبية.

<K.E. جيبسون، جونير> ـ <S.D. ماكّيه > ـ <K. توماس-كيپرتا> ـ <S.Ch. رومانيك>

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H01_007938.jpg

يبدأ تاريخ النيزك بتبلور صخرته على سطح المريخ خلال الواحد في المئة الأولى من عمر المريخ. وبعد أقل من بليون عام صُدِمَتِ الصخرةُ وتصدعت بفعل تصادمات نيزكية. وبعد حدوث هذه التصادمات ببعض الوقت، جرى مائع غني بالماء عبر صدوع الصخرة، وتكونت فيها كريات صغيرة جدا من المعادن الكربوناتية. وفي الوقت نفسه، فإن بعض المنتجات الجانبية الجزيئية لاضمحلال العضويات الحية، كالهيدروكربونات، ترسبت بفعل ذلك المائع في الكريات أو قربها. وقد واصلت الصدمات التي تعرّض لها سطح المريخ في ضرب الصخرة وتمزيق الكريات قبل أن تقوم صدمة قوية بقذف الصخرة في الفضاء.وبعد أن هوى النيزك على الأرض، استقر في القارة القطبية الجنوبية آلاف السنين قبل أن يُعثر عليه ويُكتشف تاريخه البالغ الأهمية.

 

من بين المواضيع العلمية التي استأثرت باهتمام الجمهور، لم يحظ إلا القليل بالاهتمام الذي حظيت به فكرة الحياة على المريخ. فبعد زمن غير طويل من ابتكار المقراب (التلسكوب) – وعلى مدى ثلاثة قرون تقريبا – طُرح عدد لا يحصى من الدراسات حول هذا الموضوع، بعضها ذو طابع علمي وبعضها الآخر يمكن أن يدرج في نطاق التخمينات. بيد أن الشيء المشترك بينها جميعا هو الإقرار بأنه إذا وُجدت حياة على كوكب آخر مختلف عن الأرض في نظامنا الشمسي، فمن المؤكد تقريبا أن هذا الكوكب هو المريخ.

 

والاهتمام بالحياة على المريخ عاد إلى البروز في الوقت نفسه الذي حدثت فيه الاكتشافات الجديدة المتعلِّقة بهذا العالَم الأحمر الذي تكتنفه الأسرار. ومن الناحية التاريخية، كانت هذه الاكتشافات تحدث غالبا بعد كلٍّ من الاقترابات الدورية الكبيرة بين المريخ والأرض، إذ يقترب المريخ من الأرض كل 15 سنة، وتصبح المسافة حينئذ بين هذين الكوكبين زهاء 56 مليون كيلومتر (وسيحدث الاقتراب القادم في صيف عام 2003). وقد جرت العادة أن يُفترض وجود حياة ذكية ومعقدة على المريخ، كتلك التي ينعم بها الإنسان على الأرض، إن لم تكن أكثر ذكاء منها وتعقيدا. (هذا وقد وُصِفَتْ كائنات المريخ من قبل عامة الناس بأنها خضراء اللون وصغيرة الحجم، وإن كان هذا الوصف لم يُدعم بأي تفسير.)

 

وما حدث هو أن الفلكي الإيطالي <V.G. شيباريلي> أعلن، بعد أحد الاقترابات الكبيرة بين الكوكبين في أواخر القرن التاسع عشر، أنه شاهد خطوطا طويلة تمتد عبر سطح الكوكب أَطلق عليها اسم أَقنية canali. وفي منقلب القرن المذكور، ذهب الفلكي الأمريكي <P. لوويل> إلى أن هذه المعالم هي أقنية بُنيت من قِبَل حضارة متطورة. بيد أن النظريات حول الخطوط والحضارات المتطورة توقفت في الستينات والسبعينات من القرن العشرين عقب إرسال الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق أول مجموعة من المجسات إلى هذا الكوكب. وقد بينت السفن الفضائية عدم وجود أقنية في واقع الأمر، مع أنه شوهدت وديان ضيقة وضخمة. وبعد عقد من ذلك، لم تجد المركبات الفضائية التي حطت على الكوكب أي دليل على وجود حياة، ومن باب أولى عدم وجود حياة ذكية وحضارة عليه.

 

ومع أن الجدل حول الحياة الذكية انتهى عمليا، فإن المناقشات الدائرة حول وجود حياة ميكروبية (جرثومية) على المريخ ـ وبخاصة حول حياة يحتمل نشوؤها عليه عندما كان أسخن وأرطب منذ بلايين السنين ـ لاتزال في بداية عهدها. وفي الشهر 8/1996 سُلِّطت الأضواء ثانية على هذا الموضوع حين أعلنّا نحن وزملاؤنا (من مركز جونسون الفضائي التابع لوكالة ناسا NASA ومن جامعة ستانفورد) أن معالم غير عادية في نيزك معروف جاءنا من المريخ، يمكن تفسيرها تفسيرا معقولا جدا بأنها آثار حياة ميكروبية مريخية قديمة. وقد عُثِرَ على هذا النيزك ـ الذي وزنه 1.9 كيلوغرام وحجمه يماثل حجم حبة بطاطا، والذي يشار إليه بالرمز ALH84001 ـ في القارة القطبية الجنوبية عام 19844.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H01_007939.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H01_007940.jpg

الصخرة المريخية، التي تعرف باسم النيزك ALH84001، مبينة هنا (في أعلى اليسار) بحجمها الطبيعي. وهذا النيزك مكوّن في معظمه من الأورثوپايروكسين orthopyroxene، وهو معدن سيليكاتي. وقد قُطعت هذه الصخرة، ومقطعها العرضي مبيَّن في الشكل (يسار الوسط). والشرخ الرأسي الموجود في الجانب الأيمن القريب من مركز الوجه المقطوع عبارة عن صدع جرى المائع فيه ورسّب كريات من المعادن الكربوناتية. إن شريحة من النيزك طولها ملّيمتران (أسفل اليسار) تحتوي على العديد من الكريات في أقطارها تساوي 200 ميكرون تقريبا. هذا وإن تجمعات من المركبات العضوية، المعروفة باسم الهيدروكربونات العطرية المتعددة الحلقات PAHs، تتركز معظمها في الكريات الكربوناتية وما حولها. وهذا الاكتشاف يوحي بأن المائع الذي انساب عبر الصدع كان يحوي نتائج اضمحلال عضويات حية احتجزت أثناء طور تكوينها.

 

وما حدث هو أن نظريتنا لم يتم تقبُّلها عالميا على الإطلاق. وقد أصر بعض الباحثين على أن ثمة تفسيرات غير بيولوجية لهذه المعالم الغريبة التي وجدت في النيزك، وأن هذه التفسيرات جديرة بالقبول والتصديق أكثر من نظريتنا البيولوجية. غير أننا مازلنا مقتنعين بأن الحقائق والتحليلات التي سنسوقها في هذه المقالة تشير إلى وجود شكل بدائي من أشكال الحياة. وزيادة على ذلك، فإن بعض العلماء يذهبون إلى أن هذا الشكل من الحياة قد يكون موجودا حتى الآن على المريخ إذا كانت المناطق المسامية والشقوق في الصخور الموجودة تحت سطح الكوكب حاوية ماء سائلا.

 

تُرى، لماذا يجب أن يولي الباحثون اهتماما بالوجود المحتمل قبل بلايين السنين لمثل هذا الشكل البسيط من الحياة على هذا الكوكب الأحمر؟ من المؤكد أن مسألة انتشار الحياة في أرجاء الكون تندرج ضمن أعقد المسائل العلمية المطروحة. بيد أنه لا وجود تقريبا لبيانات يمكن الاعتماد عليها في استخلاص نظرية في هذا الصدد. وإن إثبات أن حياة بدائية كانت موجودة في وقت من الأوقات على المريخ أمر مفيد جدا لأولئك الذين يدرسون مجموعة الشروط اللازمة كي يكون بإمكان كوكبٍ توليدُ الكيمياء المعقدة التي تنشأ عنها الحياة. وعند ذلك يمكن لهذه المعلومات أن تساعدنا أيضا على فهم أصل الحياة على الأرض. وفي النهاية، إن هذا النوع من المعلومات يمكنه أن يوضح الفرضيات المختلفة التي وُضعت لتفسير الحياة السائدة في الكون ـ والتي لا تعدو الآن كونها محض تخمينات.

 

كوكب غير مضياف

إن الظروف السائدة الآن على المريخ غير ملائمة للحياة؛ فجوُّ الكوكب يحوي ثنائي أكسيد الكربون بنسبة 95 في المئة والنتروجين بنسبة 2.7 في المئة والأرگون بنسبة 1.6 في المئة، ولا يحوي إلا نسبا ضئيلة جدا من الأكسجين وبخار الماء. والضغط الجوي عند السطح أقل من 1 في المئة مما هو في الأرض، كما أن درجات الحرارة في النهار نادرا ما تتجاوز درجة الصفر المئوية حتى في أحرّ مناطق الكوكب خلال فصل الصيف. والأهم من هذا كله هو أن أحد أهم مقومات الحياة، وهو الماء السائل، يبدو غير موجود على سطح الكوكب.

 

واستنادا إلى هذه الحقائق، فربما لم يكن من المفاجئ أن يخفق مجسان فضائيان من نوع ڤايكنگ Vicking (هبطا على الكوكب في الشهرين 7 و 99 من العام 1976) في العثور على أي دليل على وجود حياة على هذا الكوكب. وقد ألقت بيانات هذين المجسين ظلالا من الشك على احتمال وجود حياة على المريخ، وإن لم تنفيا وجودها تماما. وهذان المجسان، اللذان كانا مزودين بتجهيزات لكشف وجود مركبات عضوية بمستوى من الحساسية يبلغ جزءا من بليون، لم يعثرا على أي شيء، لا على سطح الكوكب ولا على عمق بضعة سنتيمترات في تربته. كذلك، لم تعثر ثلاث تجارب أخرى على أي دليل يثبت وجود عضويات ميكروبية هناك. وفي نهاية الأمر، توصل الباحثون إلى أن احتمال وجود حياة على المريخ كان ضعيفا جدا، وأن الحصول على معلومات أكثر عن هذا الموضوع يقتضي انتظار نتائج تحاليل مزيد من العينات من قِبَل مجسات تحط على الكوكب في المستقبل ـ إذ إنه يؤمل حينذاك جلب بعض العينات من الكوكب كي تُجرى عليها بحوث مستفيضة في الأرض.

 

وفي حين أن مجسّي ڤايكنگ لم يقدما أي دليل على وجود حياة على المريخ حتى هذه الأيام، فإن الصور التي التُقطت للكوكب من سفينة فضائية من النوع ڤايكنگ خلال طيرانها في مدارها، وكذلك الصور التي هيأها المجس مارينر 9 في وقت سابق، توحي بقوة بأن ثمة مقادير كبيرة من الماء غيّرت شكل سطح الكوكب منذ بضعة بلايين من السنين، بل ربما في زمن أحدث لا يتجاوز عدة مئات من ملايين السنين [انظر: «التغيرات المناخية الشاملة في المريخ»،مجلة العلوم ، العدد 5 (1997)، ص 40].

 

إضافة إلى ذلك، فثمة نيازك عُثِر عليها على كرتنا الأرضية – تَبيَّن أنها أتت من المريخ، ومن ضمنها النيزك ALH84001 نفسه ـ تقدم براهين مادية على الماضي المائي للمريخ، ذلك أنها تبرز أمارات لا يشوبها الغموض بأنها خضعت لتبدلات بفعل الماء. وعلى وجه التحديد، فقد وُجد أن بعض هذه النيازك تحوي كربونات وكبريتات وهيدرات وطينا؛ وهذه، كما يقول علماء الفلك الكوكبي، لا يمكن أن تتكوّن إلا حين يمس الماء المعادن الأخرى الموجودة في الصخور.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H01_007941.jpg

قطيرة ماء مريخي استُخلصت بتسخين شريحة نيزك من المريخ. وقد أنجز عملية الاستقطار هذه الباحث <H . كارلسون> (من مركز جونسون الفضائي التابع لناسا) عام 1991. ومعروف أن الماء السائل الذي كان موجودا على سطح المريخ في الماضي، هو من المتطلبات الأساسية لوجود الحياة.

 

وبالطبع، تدور مناقشتنا كلها حول النيزك ALH84001 الذي جاءنا من الكوكب الأحمر. ففيما يتعلق بأصله، فنحن واثقون من أنه أتى فعلا من المريخ، وهو واحد من عدة نيازك عثر عليها منذ منتصف السبعينات في مناطق غنية بالنيازك تقع في القارة القطبية الجنوبية [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 8 و9]. وفي أوائل الثمانينات شرع <D.D. بوكارد> و<P. جونسون> (من مركز جونسون الفضائي التابع لوكالة ناسا) بدراسة مجموعة من النيازك، وُجد أنها تحتوي على فقاعات صغيرة الحجم من غاز محجوز في مادة زجاجية داخل الصخرة. ويُعتقد بأن هذه المادة تكوّنت نتيجة تصادم الصخرة بالجسيمات النيزكية meteorids  والمذنبات  حينما كانت الصخرة موجودة على سطح المريخ. ومن الواضح أن بعض هذه الصدمات المولِّدة للمادة الزجاجية تخلت عن قدر من الطاقة يكفي لقذف بعض الشظايا إلى الفضاء الخارجي بعيدا عن الكوكب؛ ومن هذا الفضاء أسرت الأرض بعض هذه الصخور بفعل حقلها التثاقلي. وسيناريو الصدم هذا هو الوحيد الذي يعتقد علماء الفلك الكوكبي بأنه المسؤول عن وجود قطع من المريخ في عالمنا.

 

وقد وجد بوكارد وجونسون أن للعينات البالغة الصغر من الغاز المحجوز داخل المادة الزجاجية في بعض النيازك نفس التركيب الكيميائي والنظائريisotopic الذي تحظى به الغازات الموجودة في جو المريخ التي سبق أن حلّلها مجسّا ڤايكنگ عام 1976. ويوحي التطابق بين العينتين الغازيتين إيحاءً قويًّا بأن هذه النيازك أتت من المريخ. وفي النهاية، فقد وُجد أن خمسة نيازك تحتوي على عينات من جو المريخ المحجوز. هذا ولم يكن النيزك ALH84001 بين النيازك الخمسة التي جرى تحليلها، بيد أن توزع نظائر الأكسجين ودراسة المعادن الموجودة فيه وسمات أخرى تضعه في زمرة واحدة مع الصخور المريخية الخمس.

 

لقد كان توزع نظائر الأكسجين داخل مجموعة من النيازك هو أكثر الأدلة إقناعا بأن الصخور ـ بما فيها النيزك ALH84001 ـ أتت من المريخ. وفي أوائل السبعينات أثبت <N.R. كلايتون> ومعاونوه (في جامعة شيكاگو) أن نظائر الأكسجين 16 والأكسجين 17 والأكسجين 18 في المواد السيليكاتية الكائنة في النماذج المختلفة من النيازك توجد بمقادير نسبية فريدة. وكانت أهمية هذا الاكتشاف تعود إلى أنه بيّن أن أجرام نظامنا الشمسي تكوّنت من مناطق مختلفة من السديم الشمسي، ومن ثم فإن لها تركيبات فريدة من نظائر الأكسجين. وباستعمال هذه «البصمة» النظائرية، تمكّن كلايتون من أن يبين أن ثمة زمرة مؤلفة من 12 نيزكا، ومن ضمنها النيزك ALH84001، ترتبط ببعضها ارتباطا وثيقا. هذا وإن الغازات الجوية المريخية المحجوزة، إضافة إلى التوزع المميز لنظائر الأكسجين، قادت الباحثين إلى الاستنتاج بأن النيازك جاءتنا قَطْعا من المريخ.

 

غاز من المريخ

هناك تحاليل أخرى، أهمها للنظائر المشعة، مكّنت الباحثين من سرد تاريخ النيزك ALH84001 بدءا من وجوده على الكوكب الأحمر حتى الآن. وأهم المراحل الزمنية التي تهمنا هي عمر هذه الصخرة (أي مدة وجودها في المريخ منذ تبلورها) ومدة رحلة النيزك في الفضاء ومدة وجوده على الأرض. وقد أدى تحليل ثلاث مجموعات مختلفة من النظائر المشعة في النيزك إلى تحديد كل مرحلة من هذه المراحل الزمنية.

 

لقد جرى تحديد المدة التي انقضت منذ أن تصلبت الصخرة من مواد منصهرة ـ وتسمى هذه المدة عمر التبلور للمادة ـ باستعمال ثلاث تقنيات تأريخ مختلفة، إحداها تستخدم نظائر الروبيديوم rubidium والسترونتيوم strontium والثانية النيوديميوم neodymium والساماريوم samarium والثالثة الأرگون argon. وقد أظهرت جميع هذه الطرق الثلاث أن عمر الصخرة 4.5 بليون عام. وبالمقاييس الجيولوجية، فإن هذه الصخور قديمة جدا؛ ويعني الرقم 4.5 بليون عام أنها تبلورت خلال فترة طولها واحد في المئة من عمر المريخ. وبغية المقارنة، فإن أعمار جميع المذنبات الأحد عشر الأخرى التي جرى تحليلها تقع بين 1300 و 165 مليون عام. وإنه لمن المدهش أن صخرة قديمة جدا، لم تتغير إلا قليلا على المريخ أو خلال وجودها في جليد القارة القطبية الجنوبية، غدت في متناول العلماء لدراستها.

 

في عام 1969 اكتشف فريق من علماء الجليد اليابانيين ـ كانوا يعملون قرب جبال ياماتو في القارة القطبية الجنوبية ـ ثمانية نيازك في حقل جليدي عمره أكثر من 000 10عام. وتعود أهمية هذا الاكتشاف إلى أن النيازك كانت على أربعة أنماط مختلفة، مما يعني أنها لا يمكن أن تكون سقطت في وقت واحد كشظايا لنيزك واحد.

ولم يمض وقت طويل على هؤلاء العلماء في فهم الكيفية التي يقوم بها جريان الجليد في تصليب الصخور. فالنيازك التي تهبط على القارة القطبية الجنوبية تصبح مغمورة في ثلج مضغوط يتحول مع الوقت إلى جليد، ويغدو هذا الجليد في النهاية جليدا قديما ويصبح لونه ضاربا إلى الزرقة.

وتتحرك كتل الثلج هذه، مدفوعة بقوة الثقالة، بمعدل قرابة مترين إلى ثلاثة أمتار في العام، بدءا من داخل القارة القطبية الجنوبية العالي نسبيا إلى أطرافها (في اليسار). وإذا ما اعترضت عقبة، كأن تكون سلسلة جبال، جريان الجليد، فإن الكتلة الجليدية تندفع متراكمة نحو الأعلى بتأثير مقاومة العارض (الحاجز). وعندئذ لا يتمكن الجليد ـ والنيازك التي يحويها ـ من التقدم بحركة أفقية. وفي الوقت نفسه، وفيما تهب الرياح على الجليد، تُزال طبقة سطحية من الجليد ببطء بعملية تسمى التجوية ablation. وتقوم التجوية التي يتحول فيها الجليد الصلب مباشرة إلى غاز، بكشط ما بين سنتيمترين وثلاثة سنتيمترات من الجليد سنويا. وحين يذوب الجليد تنكشف النيازك الموجودة داخله وتبرز على سطح الصفيحة الجليدية. وما يحدث في النهاية هو تجمع مستمر للنيازك، وبروزها في سفوح جبال القارة القطبية الجنوبية. ولما كانت التجوية تكشف مناطق الجليد التي كانت مدفونة عميقا تحت الثلج المضغوط، فإنه يعثر دائما على النيازك في مناطق الجليد القديم ذي اللون الضارب إلى الزرقة. هذا ولا تحدث آلية التركيز المدهشة هذه في أي منطقة أخرى من العالم، لذلك تحظى القارة القطبية الجنوبية وحدها بالتشكيلة المميزة المؤلفة من الثلاجات المتحركة والعوارض الجبلية.

وعلى مدى الأعوام الثمانية والعشرين المنصرمة استعادت الفرق العلمية أكثر من 17000 نيزك، ومعظم هذه النيازك أتت من حزام الكويكبات. وتحتوي مجموعة نيازك القطب الجنوبي على 14 عينة من القمر وست عينات من المريخ.

وبما أن هذه النيازك أُرسلت إلى الأرض من دون مقابل، فقد أُطلق عليها اسم مجس فضاء الإنسان الفقير poor manصs space probe. وقبل اكتشاف مخبأ نيازك القارة القطبية الجنوبية كانت مجموعة النيازك في العالم تضم ما بين 2000 و 2500 عينة مختلفة.

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H01_007942.jpg

تؤدي مجموعة من الظواهر الجيولوجية والجوية إلى تجميع نيازك في قواعد بعض جبال القارة القطبية الجنوبية. وبعد سقوط هذه النيازك تنغمر في الثلج المضغوط الذي يصير في النهاية جليدا. وتتحرك الصفائح الجليدية نحو أطراف هذه القارة جارفة معها النيازك. وإذا ما اعترض جبل سبيل الحركة الأفقية للنيازك، أضحت بمرور الوقت مكشوفة قرب الجبل. ويعود سبب ذلك إلى أن الرياح «تكشط» الجليد على نحو بطيء ولكنه مستمر من فوق النيازك محوّلة إياه إلى غاز. ويؤدي الكشط المذكور إلى كشف تلك المناطق الجليدية التي دُفِنت في الأعماق تحت السطح، ومن ثم فإن النيازك تُكتشف عموما في الجليد الذي يتجاوز عمره 000 10 عام والذي يتميز بلون ضارب للزرقة.

 

 

لقد حُدِّدت مدة الرحلة الفضائية الطويلة للنيزك بوساطة تحليل نظائر أخرى، وهي الهيليوم 3 والنيون 21 والأرگون 38. وخلال وجود النيزك في الفضاء، فإنه يُقصَف بأشعة كونية وجسيمات أخرى عالية الطاقة. وتتفاعل هذه الجسيمات مع نوى ذرات معينة في النيزك، وهذا يؤدي إلى توليد النظائر الثلاثة المذكورة سابقا. ولدى دراسة العلماء لمعدلات توليد وغزارة هذه النظائر التي تُولَّد بطريقة جينية كونية cosmogenically، يغدو بمقدورهم تحديد طول المدة التي تعرّض فيها المذنب لهذا القصف المتدفق العالي الطاقة، ومن ثم تحديد طول المدة التي قضاها في الفضاء. وقد استطاع الباحثون باتباع هذه الطريقة الاستنتاج أن النيزكALH84001 بعد أن اقتُلِع من المريخ، أمضى 166 مليون سنة في الفضاء قبل سقوطه في القارة القطبية الجنوبية.

 

ولتحديد طول المدة التي مضت على النيزك وهو قابع في جليد القارة القطبية الجنوبية استعمل <T.J.A. جَل> (من جامعة أريزونا) طريقة التأريخ بالكربون 14. فعندما تُعرَّضُ السيليكات إلى الأشعة الكونية في الفضاء يتكوّن الكربون 14. وبمرور الوقت يحدث توازن بين معدل توليد الكربون 14 ومعدل اضمحلاله، وعندئذ يصبح النيزك مشبعا بالنظائر. هذا ويختلّ التوازن حينما يسقط النيزك من الفضاء ويتوقف توليد الكربون 14. بيد أن الاضمحلال يستمر وتنخفض كمية الكربون 14 في الصخور بمعدل النصف كل 5700 سنة. وعند تحديد الفرق بين مستوى الإشباع والكمية المقاسة من الكربون 14 في السيليكات، يتمكن الباحثون من تحديد طول المدة التي مرت على النيزك في الأرض. وما توصل إليه جل هو أن النيزك ALH80041 سقط من الفضاء قبل000 133 سنة.

 

ومنذ اللحظة التي اكتُشف فيها هذا النيزك، الذي صار يعرف الآن باسم ALH84001، فقد أثبت أنه غير عادي ومضلل. وفي عام 1984 عثرتْ الجيولوجية الأمريكية <R. سكور> على هذا النيزك في الحقل الجليدي الغربي الأقصى في منطقة ألان هيلز. وقد أدركت سكور أن الصخرة غير عادية بسبب لونها الشاحب الرمادي الضارب إلى الخضرة. وقد تبين أن 98 في المئة من مكونات الصخرة عبارة عن معدن سيليكاتي هو الأورثوبيروكسين orthopyroxene ذو الحبيبات الخشنة [ i(Mg, Fe)SiO3]. ويوجد فيها أيضا كميات زهيدة نسبيا من الزجاج الفلسپاري feldspathic الذي يعرف أيضا باسم ماسكيلينايتi(NaAlSi3O8)imaskelynite، ومن الأوليڤين  i[(Mg, Fe)2SiO4]iolivineوالكرومايت FeCr2O4) chromite) والپيريتFeS2) pyrite)، وكذلك أشكال من الكربونات والسيليكات الورقية phyllosilicate.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H01_007943.jpg

جسم مجزأ (أعلى اليسار) طوله 380 نانومتر، اكتُشف في كرية كربوناتية في النيزك ALH84001، وتشبه بنيته الدقيقة البكتيريا المتحجرة أو المستحاثات الميكروية التي توجد في الأرض. وعلى سبيل المثال، فمن المعتقد بأن الجسم المتجه رأسيا في أيمن الصورة اليمنى هو مستحاث ميكروي. وعثر على هذا النوع من الجسيمات الذي يبلغ طوله 380 نانومتر أيضا على عمق 400 متر تحت سطح الأرض (في ولاية واشنطن)، وذلك في تكوين جيولوجي يُطلق عليه اسم بازالت نهر كولومبيا Columbia River Basalt.

 

الكربونات هي الأهم

إن أكثر سمات النيزك ALH84001 إثارة للاهتمام هي الكربونات التي توجد فيه على شكل أقراص صغيرة كالكرات المسطحة تتراوح أقطارها ما بين 20 و  250 ميكرونا. وتغطي هذه الكرات جدران شقوق النيزك، كما أنها انتظمت بحيث تكون أوجهها المسطحة مقابلة للجدران الداخلية للشقوق [انظر الشكل في الصفحة 6]. ويبدو أن الكريات ترسبت من مائع مشبع بثنائي أكسيد الكربون نفذ عبر الشقوق بعد تكوُّن السيليكات. وجدير بالإشارة أن جميع النيازك الأحد عشر الأخرى التي وصلتنا من المريخ لا تحوي مثل هذه الكريّات.

 

وقد عثر فريق الباحثين في كريّات الكربونات على تشكيلة متنوعة من المعالم الفريدة قادتنا إلى الافتراض بأنه حدث في الماضي السحيق اتصال بين عضويات ميكروبية والصخرة. هذا وإن مسألة وجود حياة ميكروبية في غابر الزمان على المريخ تدور كليا تقريبا حول هذه الكريات.

 

وجدير بالذكر أنه إذا وُجِّه النظر إلى واحد من هذه المعالم التي وجدناها بمعزل عن غيره، فلن يشكل دليلا قويا على وجود حياة، بيد أنه إذا وُجِّه النظر إليها مجتمعة ـ وبخاصة داخل مناطق الكريات المسطحة ـ فمن الممكن تفسير الكريات تفسيرا مقبولا بأنها الآثار القديمة للحياة الميكروبية. وهذه المعالم يمكن أن تصنف في عدة فئات كأدلة على وجود الحياة. وتستند الفئة الأولى إلى وجود حبيبات دقيقة من أكاسيد الحديد وكبريتيد الحديد شبيهة بتلك التي تكوّنها البكتيريا الأرضية. وتتمحور الفئة الثانية حول وجود جزيئات كربون عضوي في الكريات وعليها. وأخيرا، فقد عُثِر على بُنى غير مألوفة داخل الكريات لها شبهٌ كبير بمستحاثات البكتيريا الموجودة في الأرض. ويوحي دليل آخر بأن الكريات تكوّنت من مائع غني بالماء، وحرارة هذا المائع تقل عن 100 درجة مئوية.

 

هذا وقد أَنْجز أول تحليل نظائري للكربون والأكسجين في كريات الكربونات باحثون من مركز جونسون الفضائي التابع لناسا و <M. كريدي> من المتحف البريطاني للتاريخ الطبيعي وباحثون آخرون من الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة. ويشير تحليل الكربون إلى أن الكريات تحوي من الكربون 13 أكثر ممّا تحويه أي كربونات موجودة في الأرض، ولكنها تحوي منه المقدار نفسه الذي أتانا من المريخ.

 

ومعظم الكربون الموجود على الأرض يحتوي على الكربون 12 بنسبة 98.9 في المئة وعلى الكربون 13 بنسبة 1.1 في المئة. بيد أن هذه النسبة قد تتغير نتيجة لتفاعلات عديدة. وعلى سبيل المثال، فإن عينة من الكربون سبق أن كانت جزءا من نظام كيميائي عضوي ـ ولتكن مادة نباتية مثلا ـ تكون عموما غنية بالكربون 12، في حين يكون الكربون في حجر الجير غنيا نسبيا بالكربون 13. والكربون في كريات النيزك ALH84001 غني بالكربون 133 أكثر من أي مواد طبيعية على الأرض. وزيادة على ذلك، فإن هذا الغنى مختلف عن ذاك الذي تحظى به النيازك المريخية الأحد عشر. وتوحي هذه الحقيقة بأن الكربون في الكريات ـ خلافا للمقادير الضئيلة للكربون الموجود في النيازك المريخية الأخرى ـ قد يكون اشتُق من جو المريخ.

 

ويمكن لتحليل توزع نظائر الأكسجين في الكربونات أن يزوّدنا بمعلومات عن درجة الحرارة التي تتكّون فيها تلك المعادن. ويتصل هذا الموضوع مباشرة بالسؤال عمّا إذا كانت الكربونات تكوّنت في درجات حرارة يمكنها توفير أسباب حياة ميكروبية، ذلك أن العضويات الأرضية لا تحيا في حرارة تتجاوز 115 درجة مئوية. وقد قام فريق ناسا في المملكة المتحدة بتحليل نظائر الأكسجين في كريات الكربونات. وتوحي اكتشافاتهم إيحاء قويا بأن الكريات تكونت في حرارة لا تتجاوز 100 درجة مئوية. وفي وقت سابق من هذا العام طبّق <W.J. فالي> (من جامعة ويسكونسن ـ ماديسون) تقنية تستعمل مجسات مكروية أيونية للتثبت من اكتشافاتنا.

 

وجدير بالذكر أن مجموعة بحثية أخرى بإشراف <R. هارڤي> من جامعة CaseWestern Reserve حللت التركيب الكيميائي للمعادن في الكربونات باستعمال مجس ميكروي إلكتروني، وتوصَّلت إلى أن الكربونات تكوّنت في حرارة قدرها 700 درجة مئوية. ونحن نرى أن مكتشفات هارڤي تتعارض مع مجموعة متزايدة من الشواهد على أن الكريات تكوّنت في درجات حرارة منخفضة نسبيا.

 

ونحن مهتمون جدا بعمر الكربونات؛ لأن ذلك سيسمح لنا بتقدير الوقت الذي هجرت فيه الحياة الميكروبية موقعها على الصخرة التي أصبحت النيزكALH84001. بيد أن كل ما يمكننا قوله بكل ثقة هو أن الكربونات تبلورت في شقوق النيزك في وقتٍ ما، تلا تبلور الصخرة ذاتها. وقد توصلت الفرق البحثية المختلفة إلى أعمار تقع بين 1.3 و 3.6 بليون عام؛ بيد أن البيانات التي جُمعت حتى الآن غير كافية لتحديد تاريخ كريات الكربونات تحديدا نهائيا.

 

ألغاز معدنية حيوية

تتعلق الفئة الأولى من الأدلة بمعادن معينة وُجدت داخل الكريّات الكربوناتية؛ هذا وإن نوع المعادن وترتيبها مشابهان، إن لم يكونا مطابقين لمعادن حيويةbiominerals معينة تكمن في الأرض. والكريات غنية في داخلها بكربونات المگنيزيوم (MgCO3) والسايدرايت (FeCO3)، كما تحوي كميات زهيدة من كربونات المنگنيز والكالسيوم. كذلك فإن جسيمات حبيبية دقيقة من المگنتيت (Fe3O4) والكبريتيد، تقع أقطارها بين 10 و 100 نانومتر، موجودة أيضا داخل حشد الكربونات. إن بلورات المگنتيت magnetite تكون شبيهة بالمكعبات أو بالدموع المنسكبة أو يكون شكلها غير منتظم. ولقد كان الشكل البنائي للبلورات المنفردة محفوظًا بشكل جيد ويشوبه تشويه طفيف.

 

وقد بيّن تحليل لعينات المگنتيتات أُجْرِيَ باستعمال مجهر إلكتروني نفاذtransmission electron microscope  ذي مقدرة فصل عالية متصل بمطياف مبدّد للطاقة energy-dispersive spectroscope أن الحجم والنقاء والشكل والبنية البلورية لهذه المگنتيتات مماثلة تماما للمگنتيتات التي تولدها البكتيريا على الأرض.

 

ويُطلق على جسيمات المگنتيت الأرضي المرافقة للبكتيريا المتحجِّرة اسم المستحاثات المغنطيسية magnetofossils. وتوجد هذه الجسيمات في تشكيلة من الرسوبيات وأنواع معينة من التربة، وهي تُصنَّف تبعا لحجمها على أنها مغنطيسية مسايرة فائقة superparamagnetic (أقل من 200 نانومتر) أو وحيدة المنطقة single-domain (من 20 إلى 1000 نانومتر). وتجدر الإشارة إلى أن حجوم المگنتيتات الموجودة في النيزك ALH84001 تقع عادة بين 40 و 600 نانومتر.

 

وثمة تقارير تفيد بوجود مگنتيت ذي بعد واحد في الأحجار الكلسية الأرضية القديمة، وهو يُعتبر عموما بأنه مولَّد بوساطة البكتيريا. ومن اللافت للنظر أكثر من ذلك هو أن بعض المگنتيتات في النيزك ALH84001 منظومة في سلاسل وكأنها لآلئ في قلادة. وغالبا ما تولِّد البكتيريا الأرضيةُ المگنتيتَ مرتبا على هذا النحو تماما، وذلك لأنها خلال معالجتها بيولوجيا للحديد والأكسجين من الماء، فإنها تنتج البلورات التي تقوم بتنظيم نفسها في صفوف مسايِرة لحقل الأرض المغنطيسي.

 

جزيئات الكربون العضوية

إن وجود جزيئات الكربون العضوية في النيزك ALH84001 يمثل المجموعة الثانية من الألغاز. وفي السنوات القليلة الماضية، عثر الباحثون على جزيئات عضوية، لا في النيازك المريخية فحسب، وإنما أيضا في النيازك التي تبيَّن أنها جاءتنا من حزام الكويكبات في الفضاء بين الكواكب الذي يصعب وجود حياة فيه. ومع ذلك، فإن نوع الجزيئات العضوية التي حُدِّدت في النيزك ALH84001ووفرتها النسبية يوحيان بوجود سيرورات حيوية life processes هناك. ووجود جزيئات عضوية محلية indigenous في النيزك ALH84001 يمثل أول برهان على أن مثل هذه الجزيئات سبق أن وُجِدت على المريخ.

 

وعلى الأرض، حينما تموت العضويات الحية وتتحلل (تتفسخ)، تولِّد هيدروكربونات مصاحبة للفحم والنباتات شبه المتفحمة والبترول. وينتمي العديد من هذه الهيدروكربونات إلى فئة من الجزيئات العضوية تعرف باسم الهيدروكربونات العطرية المتعددة الحلقات polycyclic aromatic hydrocarbons PAHsوالتي يوجد منها آلاف الأنواع المختلفة. إن وجود هيدروكربونات في عينة لا يدل في حد ذاته على أن تلك سيرورات بيولوجية حدثت فعلا. غير أن موقع وارتباط الهيدروكربونات PAHs  بكريات الكربونات هما اللذان يجعلان من اكتشافها أمرا  مثيرا للاهتمام.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H01_007944.jpg

يغطي الجليد المائي، الذي قد يكون سمكه بضعة ميكرونات فقط، أجزاء من تربة المريخ الصخري الأحمر. وقد التقطت هذه الصورةَ المركبةُ الفضائية ڤايكنگ 2 التي حطت على الكوكب في الشهر 5/1979. وقد اعتبر هذا المنظر دليلا إضافيا على أن الماء موجود على سطح الكوكب، وإن كان في حالة صلبة.

 

وفي النيزك ALH84001 تكون الكربوهيدرات PAHs موجودة دوما في المناطق الغنية بالكربونات، ومن ضمنها الكريات. ومن وجهة نظرنا، فإن الكربوهيدراتPAHs البسيطة نسبيا هي نتاج اضمحلال العضويات الحية التي نُقلت بوساطة مائع واحتُجزت حين تكونت الكريات. وفي عام 1996 بيَّن فريق من الجامعة المفتوحة أن للكربون في الكريات الكامنة في النيزك ALH84001 تركيبا نظائريا يذكِّر بالميكروبات التي استعملت الميثان كمصدر غذائي. وإذا جرى التثبت من ذلك، غدا هذا الاكتشاف أحد أقوى الأدلة التي قُدِّمت حتى الآن على أن الصخرة تحمل بصمة نشاط بيولوجي.

 

وفي تقريرنا الذي نشرناه عام 1996، استعمل <N.R. زير> و<J.S. كليميت> (من ستانفورد) تقنية تحليلية بالغة الحساسية لإثبات أن النيزك ALH84001يحوي عددا صغيرا نسبيا من الكربوهيدرات PAHs المختلفة، جرى رصدها جميعها في نتاج تفكك الميكروبات. والأهم من ذلك، فقد عُثِر على الكربوهيدراتPAHs داخل النيزك، حيث احتمال حدوث تلوث في وقت سابق أمر بعيد الاحتمال. وهذا الكشف الحاسم يعزز الفكرة القائلة بأن الكربونات مريخية، وأنها تحوي بصماتِ عضوياتٍ حيةٍ قديمة.

 

إن الكربوهيدرات PAHs هي أحد مركبات الغاز المنطلق من عوادم السيارات، كما أنه عثر عليها في النيازك وجسيمات الغبار الكوكبي، وحتى في الفضاء البينجمي. وتجدر الإشارة إلى أن التحليل الفائق الحساسية لتوزع الكربوهيدرات PAHs في النيزك ALH84001 بيّن أن هذه الكربوهيدرات لا يمكن أن  تكون أتت من الأرض أو من مصدر خارج الأرض مختلف عن المريخ.

 

قد يكون أكثر الأدلة قوة على أن ثمة آثارا على الأقل لميكروبات لاصقة في الصخرة هي الأشياء التي يبدو أنها البقايا المتحجرة من الميكروبات نفسها. فقد أظهر فحص مفصَّل للكربونات في النيزك ALH84001، باستعمال المجهر الإلكتروني الماسح scanning electron microscope SEMM، معالم غير مألوفة تشبه تلك التي تُرى في العينات الأرضية المرتبطة بالنشاط الحيوي biogenic. وإن نظرة إلى الصور المفصَّلة باستعمال تقنية المسح بالمجهر الإلكتروني تبين أن كريّات الكربونات تحتوي على أجسام بيضوية الشكل وأخرى على شكل أنابيب [انظر الصور المجهرية في الصفحة 9]. ويبلغ وطول هذه الأجسام نحو 380 نانومتر، وهذا يعني أنها من الممكن تماما أن تكون البقايا المتحجرة من البكتيريا. وبغية تجميع كل المركبات التي تكون عادة لازمة للبكتيريا الأرضية النموذجية كي تقوم بعملها، يبدو أنه من الضروري توفُّر مقاييس أكبر من 250 نانومتر. كما عثر في الكريات على أجسام ذات بنى منحنية شبيهة بالأنابيب تتراوح أطوالها بين 500 و 700 نانومتر.

 

البكتيريا القزمية أو الزوائد

لقد عُثِر على أجسام أخرى داخل النيزك ALH84001 حجومها قريبة من الحد الأدنى لحجم البكتيريا. وأطوال هذه الأجسام البيضوية الشكل تتراوح بين 400 و 80 نانومتر فقط؛ أما الأجسام الأخرى الأنبوبية الشكل فتتراوح أطوالها بين 30 و 170 نانومتر وأقطارها بين 20 و 40 نانومتر. وهذه الأبعاد تقل بنحو 10 مرات عن أبعاد الميكروبات الأرضية التي تُعرف عامة باسم البكتيريا. ومع ذلك فغالبا ما تمتلك الخلايا النموذجية زوائد تكون عادة صغيرة جدا ـ إذ إن حجمها يماثل تقريبا حجم تلك المعالم التي رصدت في النيزك ALH84001. ومن المحتمل أن يكون بعض هذه المعالم أجزاء من وحدات أكبر داخل العينة.

 

إن المعالم العديدة البيضوية أو المتطاولة الشكل متطابقة تطابقا كبيرا في الحجم والشكل مع البكتيريا القزمية (النانويّة) nanobacteria الموجودة على الأرض. هذا ولم يُخصَّص إلا القليل من الدراسات على البكتيريا القزمية، أو البكتيريا التي تقع مقاساتها في المجال من 20 إلى 400 نانومتر. إلا أن البكتيريا المتحجرة التي عُثِر عليها في العينات البازالتية القابعة تحت السطح والتي أخذت من حوض نهر كولومبيا [انظر: «ميكروبات في أعماق الأرض»،مجلة العلوم، العدد 4 (1997) ، ص 52] لها معالم مطابقة لبعض المعالم التي شوهدت في الأجسام البيضوية الشكل في النيزك ALH84001.

 

كان النيزك ALH84001 موجودا على المريخ منذ 4.5 بليون عام حين كان الكوكب أرطب وأسخن ومحاطا بجو أكثف. ومن ثم فإننا نتوقع الحصول على دليل بأن الصخرة خضعت لتغيرات نتيجة تماسّها بالماء. هذا وإن الصخرة تحمل بضعة آثار لما يسمى دليل التغير المائي aqueous alteration evidence. وأحد عناصر هذا الدليل هو المعادن الطينية التي غالبا ما تتكوّن بوساطة التفاعلات المائية. ويحوي النيزك في الواقع معدنا طينيا من السيليكات الورقيةphyllosilicate، ولكن بمقادير زهيدة فقط. زد على ذلك أنه من غير الواضح إن كان المعدن الطيني تكوّن في المريخ أو في القارة القطبية الجنوبية.

 

لقد كان على سطح المريخ في بدايات تاريخه ماء سائل، ومن المحتمل أنه مازال محتويا على نظام فعال لمياه جوفية تحت جمده السرمدي permafrost أو كرته المتجمدة cryosphere. ولو ترعرعت كائنات عضوية ميكروية (مجهرية) خلال المدة التي كان فيها الماء السائل يغمر أجزاء من المريخ، لكان من المحتمل انتشار الميكروبات إلى بيئات تحت سطح الكوكب حين أصبحت الظروف قاسية على السطح. ويحوي سطح المريخ مقادير وفيرة من المواد البازلتية التي تشققت من دون ريب خلال بداية المدة التي قُصف فيها الكوكب في السنوات الستمئة الأولى من تاريخه. وكان بإمكان الشقوق الحاصلة أن تعمل كمجارٍ للماء السائل، كما كان بإمكانها أن تؤوي أي حيويات biota بمقدورها التكيف مع الظروف المتغيرة  على الكوكب. ولهذا الوضع ما يشبهه على الأرض، حيث يبدو أن الفجوات الدقيقة بين الجريانات المتعاقبة للحمم البركانية (اللابة) تقوم مقام مكامن مائية لحركة واحتواء المياه الجوفية المحتوية على بكتيريا حية.

 

ومن المحتمل أيضا أن تكون العضويات نشأت في ينابيع ساخنة أو في منظومات المياه الجوفية الساخنة hydrothermal الموجودة في المريخ، حيث يمكن الحفاظ على التحرر من التوازنات الكيميائية في بيئات مشابهة تقريبا لبيئات المدخِّنات الحارة hot smokers الغنية بالمعادن الموجودة في قاع بحار الأرض.

 

وهكذا فمن الممكن جدا أنه إذا كانت العضويات موجودة على المريخ في الماضي السحيق، فمن المحتمل أنها مازالت موجودة هناك. هذا وإن توافر الماء داخل مناطق مسامية في مستودع تحت سطح الكوكب أمر يسهّل بقاءها حية. فلو كانت الكربونات داخل النيزك ALH84001 قد تكونت في السنوات الأولى قبل 3.6 بليون سنة تقريبا وكان لها أصل بيولوجي، فإنها قد تكون مخلّفاتِ أبكرِ حياةٍ مريخية.

 

وتنسجم التحاليل التي أجريت حتى الآن على النيزك ALH84001 مع كريات كربونات النيزك التي تحوي آثار حياة ميكروبية قديمة. بيد أن الدراسات الجارية على النيزك مازالت في مهدها، وإذا تمخَّضت البحوث عن إثبات فرضيتنا أو تعديلها أو استبعادها، فإنها ـ في جميع الأحوال ـ ستكوِّن من دون ريب خبرات تعليمية ثمينة لدى الباحثين، الذين قد تسنح لهم الفرصة للإفادة من هذه الخبرة في الأعوام القادمة. ونحن نأمل أن تنزل على المريخ في عام 2005 بعثة «إحضار العينات» لتقوم بجمع صخور وتربة مريخية بوساطة إنسالة (روبوت)، ومن ثم إعادتها إلى الأرض بعد سنتين ونصف من ذلك التاريخ. وبغية الإقلاع من سطح المريخ للعودة إلى الأرض، فقد تستعمل هذه البعثة الثورية الأكسجين الذي يولَّد على سطح المريخ بتفكيك ثنائي أكسيد الكربون في جو الكوكب.

 

وهذه المشاريع، كمشروع إحضار العينة، ستمكننا في النهاية من الشروع في جمع تلك البيانات التي تمهد السبيل إلى أن نحدد تحديدا نهائيا وحاسما وجود حياة على المريخ أو عدم وجودها. وقد يمكّننا هذا النمط من المعرفة في النهاية من إماطة اللثام عن واحد من أكبر الأسرار العلمية، ألا وهو انتشار الحياة في عالمنا.

 

 المؤلفون

E. K. Gibson, Jr. – D. S. McKey – K. Thomas-Kiperta – Ch. S. Romanik

هم أعضاء في الفريق الذي كان أول من أعلن عن وجود أدلة على نشاط بيولوجي قديم داخل النيزك ALH84001. ويعمل جيبسون وماك كيي وتوماس-كيپرتا في مركز جونسون الفضائي التابع لناسا في هيوستن بتكساس؛ أما رومانيك الذي كان في مركز جونسون الفضائي زميلا متمتعا بمنحة ما بعد الدكتوراه المقدمة من مجلس البحوث الوطني، فهو الآن في قسم الجيولوجيا ومختبر علم بيئة ساڤانا ريڤر في جامعة جيورجيا. إن جيبسون (المتخصص في الكيمياء الجيولوجية والنيازك) وماك كيي (الجيولوجي والخبير في الطبقات السطحية من المواد الصخرية) عالمان رئيسيان في مركز جونسون للعلوم الأرضية وقسم استكشاف النظام الشمسي. وتوماس-كيپرتا (العالمة الرئيسية في لوكهيد-مارتن) خبيرة في الجيولوجيا وفي استعمال المجاهر الإلكترونية في دراسة النيازك وجسيمات الغبار بين الكواكب والعينات القمرية. أما رومانيك فهو متخصص في الكيمياء الجيولوجية بدرجات الحرارة المنخفضة والتحليل الطيفي لكتل النظائر المستقرة stable-isotope mass spectroscopy.

 

مراجع للاستزادة 

MARS. Edited by Hugh H. Kieffer; Bruce M. Jakosky, Conway W. Snyder and Mildred S. Matthews. University of Arizona Press, 1992.

WHAT WE HAVE LEARNED ABOUT MARS FROM SNC METEORITES. Harry Y. McSween, Jr., in Meteoritics, Vol. 29, No. 6, pages 757¬779; November 1994.

SEARCH FOR PAST LIFE ON MARS: POSSIBLE RELIC BIOGENIC ACTIVITY IN MARTIAN METEORITE ALH84001. David S. McKay et al. in Science, Vol. 273, pages 924-930; August 16, 1996. MICROBES DEEP INSIDE THE EARTH. James K. Fredrickson and Tullis C. Onstott in Scientific American, Vol. 275, No. 4, pages 42-47; October 1996.

WATER ON MARS. Michael H. Carr. Oxford University Press, 1996.

DESTINATION MARS: IN ART, MYTH AND SCIENCE. Jay Barbree and Martin Caidin, with Susan Wright. Penguin Studio, 1997.

Information on meteorite ALH84001 and other SNC meteorites is available at http:/www-curator.jsc.nasa gov/curator/antmet/antmet htm on the World Wide Web.

Scientific American, December 1997

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى