أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بيولوجيا

هندسة معمارية الحياة

هندسة معمارية الحياة

يبدو أن مجموعة من القواعد العامة في البناء

توجه تصاميم البنى العضوية ـ من المركَّبات

الكربونية البسيطة إلى الخلايا والنسج المعقدة.

<E.D. إنگبر>

 

تمثل الحياةُ ذروة سيرورات دائبة بالغة التعقيد. فالكائن (المتعضية) الحي، سواء كان بكتيرة (جرثوما) أم سعدان الرباح baboon، يتطور عبر سلسلة مدهشة من التآثرات interactions البالغة التعقيد التي تتضمن عددا هائلا من المكوِّنات المختلفة. وهذه المكونات (أوالمنظومات الفرعية) تتألف بحدِّ ذاتها من مكوِّنات جزيئية أصغر منها يبدي كل منها وبشكل مستقل سلوكه الدينامي الخاص به، مثل قدرته على تحفيز التفاعلات الكيميائية. ولكن حينما تجتمع هذه المكوِّنات في بعض الوحدات الوظيفية الأكبر (مثل الخلية أو النسيج) تبرز خصائص جديدة تماما لا يمكن التنبؤ بها، بما في ذلك القدرة على التحرك والنمو وتغيير الشكل.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007950.jpg

إن خاصية الانشدادية tensegrity ـ وهي نظام معماري تتثبت فيه البنى بفضل توازن القوى المتعاكسة للانضغاط والشد ـ تمنح الأشياء الطبيعية والصنعية شكلها وقوتها. وما هيكل الخلية الحية (خلفية الرسم) إلا إطار framework مؤلف من أُنَيْبيبات ميكروية وخيوط ميكروية مترابطة. وتذكّر العلاقة الدينامية لهذه العناصر البنيوية بتمثال (في الوسط) من صنع <K. سنيلسون> تتصل فيه الدعامات الطويلة بعضها ببعض بأسلاك.

 

ومع أن الباحثين كانوا قد أدركوا هذه الحقيقة المثيرة منذ بعض الوقت، فإن معظمهم يهملها ويبخسها حقها عند تقصيهم شرح أساسيات الحياة. ولقد حاول البيولوجيون خلال عقود مضت زيادة فهمنا لكيفية عمل الجسم البشري عبر تحديد خصائص المواد الحاسمة للحياة وجزيئاتها مثل الدنا DNA الذي يؤلف جوهر الجينات. وفي الحقيقة، يبذل هؤلاء البيولوجيون اليوم جهودهم لتحديد هوية كل جين في المجموعة الكاملة التي تحمل اسم المجين (الجينوم) الذي يحمله جميع البشر. ولما كانت الجينات هي «المخططات» blueprints اللازمة لتكوين جزيئات الحياة الأساسية مثل البروتينات، فإن هذا المبتغى المقدس للبيولوجيا الجزيئية سيسفر في المستقبل القريب عن كتالوگ لجميع الجزيئات الأساسية التي يتكون منها الإنسان. ولكن فهمنا للأجزاء التي تتألف منها آلة معقدة ما، لا يسهم إلا قليلا في شرح كيفية عمل المنظومة system كاملة، بغض النظر عما إذا كانت المنظومة المعقدة آلة احتراق أو خلية من خلايا الجسم. وبكلمات أخرى، فإن تعرّف المكونات الجزيئية ووصفها لا يقدم إلا القليل إذا نحن لم نفهم قواعد تجميع هذه المكونات.

 

إن الحقيقة المتمثلة في قيام الطبيعة بتطبيق قواعد عامة للتجميع، وبمقاييس متباينة تتراوح بين الجزيئات والأشكال الماكروية (العيانية)macroscopic، تُدرَك ضمنا من تكرار أنماط معينة مثل اللوالب spirals والمخمساتpentagons والأشكال المثلثية. وتظهر هذه الأنماط في بنى (تراكيب) تتفاوت بين بلورات بالغة الانتظام وبين بروتينات غير منتظمة نسبيا، وفي كائنات واسعة التباين مثل الڤيروسات والعوالق plankton والبشر. ومع ذلك، تتألف كلتا المادتين العضوية واللاعضوية من لَبِنات البناء ذاتها: وهي ذرات الكربون والهيدروجين والأكسجين والنتروجين والفسفور. ولعل الفرق الوحيد يتمثل في الكيفية التي تترتّب بها هذه الذرات في حيز ثلاثي الأبعاد.

 

إن الظاهرة التي تترابط فيها المكوِّنات لإنشاء بنى مستقرة أكبر حجما وذات خصائص جديدة لم يكن بالإمكان التنبؤ بها انطلاقا من خصائص أجزائها الفردية، تُعرف بالتجمع الذاتي وتلاحظ في الطبيعة بدرجات متباينة. فمثلا في جسم الإنسان يتم تجمع ذاتي للجزيئات الكبيرة، بحيث تعطي مكونات خلوية تعرف بالعُضَيّات organelles التي تتجمع بدورها ذاتيا في خلايا ثم في أنسجة ثم في أعضاء. وينتج من ذلك جسم منظم بطريقة هرمية (تعضٍّ مراتبي المنزلة)hierarchically organized مكون من منظومات صغيرة داخل منظومات أكبر. فإذا أردنا أن نفهم جيدا طريقة تكوّن المخلوقات ووظائفها فإننا نحتاج إلى تعرف هذه المبادئ الأساسية التي توجه التعضية البيولوجية وتَحْكمها.

 

وعلى الرغم من الدراسات على مدى القرون الماضية، فلايزال الباحثون لا يعرفون إلا القليل عن القوى التي توجه الذرات إلى التجمع الذاتي في جزيئات. ولا يعرفون إلا ما هو أقل عن كيفية انضمام مجموعات الجزيئات بعضها إلى بعض لتكوين خلايا ونسج حية. ولكنني على مدى العقدين الماضيين اكتشفتُ واستكشفت ناحية تبدو أساسية ومثيرة للاهتمام للتجمع الذاتي، وهي أن تشكيلة واسعة التنوع بشكل مذهل من المنظومات الطبيعية ـ بما في ذلك ذرات الكربون وجزيئات الماء والبروتينات والڤيروسات والخلايا والنسج وحتى البشر ومخلوقات حية أخرى ـ إنما تبنى وفقا لقاعدة عامة من قواعد الهندسة المعمارية تعرف باسم الانشدادية tensegrity. ويشير هذا المصطلح إلى نظام يرسخ نفسه ميكانيكيا تبعا للأسلوب الذي تتوزع به وتتوازن فيه القوى الشادة والقوى الضاغطة tensional and compressive forces داخل البنية المعنية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007951.jpg

القبة الجيوديسية (1) تحمل الثقل بأقل كمية من  مواد البناء.

 

وقد يكون لهذا الاكتشاف الجوهري في يوم ما تطبيقات عملية في مجالات عدة. فمثلا، سمح لنا الفهم الجديد للانشدادية على المستوى الخلوي أن ندرك بشكل أفضل كيف يؤثر الشكل الخلوي والقوى الميكانيكية (مثل الضغط في الأوعية الدموية والانضغاط في العظم) في أنشطة وفعاليات الجينات. وفي الوقت نفسه، سيسمح لنا الفهم الأعمق لقواعد التجمع الذاتي الطبيعية أن نحسن على نحو أفضل استخدام البيانات (المعلومات) data  المتسارعة التراكم التي بحوزتنا عن الجزيئات والخلايا والمكونات البيولوجية الأخرى في تطبيقات تمتد من إعداد الدواء إلى الهندسة النسيجية. وإذا أمكن معرفة الأسباب التي جعلت ظاهرة الانشدادية كلية الوجود في الطبيعة، فإن ذلك يعمق فهمنا ويزودنا بتبصر جديد في القوى المطلقة التي تحكم التعضية البيولوجية، وربما في موضوع النشوء والتطور ذاته.

 

ما هي الانشدادية؟

يرجع تاريخ اهتمامي بالانشدادية إلى سنوات دراستي الجامعية في أواسط السبعينات من هذا القرن في جامعة «ييل»؛ إذ أرشدتني دراستي لبيولوجيا الخلية، وكذلك فن النحت، إلى التيقن من أن كيفية تشكل الأشياء الحية لا تتعلق بالتركيب الكيميائي بقدر ما تتعلق بالهندسة المعمارية. فالجزيئات والخلايا التي تؤلف أنسجتنا تستبعد وتستبدل باستمرار، وهذا جعلني أفكر بأن صون الشكل maintenance of pattern والبناء المعماري هو ما نسميه الحياة.

 

فالتراكيب والمباني (البنى) الانشدادية مستقرة ميكانيكيا؛ لا بسبب قوة مكوناتها فرادى، بل بسبب الطريقة التي توزِّع بهاالبنية الكلية إجهاداتهاstresses الميكانيكية وتُوازن بينها. وتقع المباني ضمن فئتين: في الفئة الأولى تتألف المباني (التي تشمل قباب بوكمنستر فولّر الجيوديسية geodesic domes of Buckminster Fuller) بشكل أساسي من هياكل مصنوعة من دعائم صلبة يستطيع كل منها تحمل الشد والانضغاط. وهنا تترابط الدعائم التي تؤلف الهيكل مكونة مثلثات أو مخمسات أو مسدسات، كما تتوجه كل دعامة بحيث تقيد كل مفصل في مكان ثابت، وبذلك تضمن استقرار المبنى بأكمله.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007952.jpg

تُجَعِّد الخلايا الحية ركيزة (طبقة سفلية) مطاطية رقيقة لكون الخلايا تمارس قوى جارّة حيثما تلتصق.

 

أما الفئة الثانية من المباني الانشدادية فتضم تلك التي ترسخ نفسها من خلال ظاهرة تعرف بسابقة الإجهاد (التقوية) prestress. وقد كان المثّال sculptorا<K  .سنيلسون> أول من شيَّد هذا النمط من المباني. ففي تماثيله الأنيقة تتمايز أجزاء البناء التي تتحمل الشد فقط عن تلك التي تتحمل الانضغاط. وحتى قبل أن يتعرض أحدها لقوة خارجية تكون جميع هذه الأجزاء البنائية في حالة شد أو انضغاط مسبق، بمعنى أنها مجهدة مسبقا prestressed. وفي داخل المبنى تَمُطُّ stretch، أو تَشُدُّ tense، الدعائمُ الصلبة التي تتحمل الانضغاط الأجزاءَ المرنة التي تتحمل الشد، وبدورها تضغط أجزاءُ تحمّلِ الشد الدعائمَ الصلبة؛ وبهذه القوى المتعاكسة التي تتوازن في جميع أنحاء المبنى يتمكن المبنى من تثبيت نفسه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007953.jpg

تم بناء نموذج انشدادي لخلية باستخدام أوتاد وحبال مرنة. وهذا النموذج مثل الخلية الحية يتسطح (ينبسط) ويسطِّح نواته حينما يتثبت على سطح قاس (في اليسار)، كما ينكمش إلى شكل أكثر كروية حينما يتثبت على ركيزة مرنة مؤديا إلى تجعيد سطحها (في اليمين).

 

وتشترك المباني الانشدادية من كلتا الفئتين في خاصية جوهرية وهي أن الشد tension ينتقل بشكل مستمر عبر جميع أجزاء المبنى. بعبارة أخرى، إن ازدياد الشد في أحد أجزاء المبنى يؤدي إلى ازدياد الشد في جميع أجزائه (وحتى تلك الواقعة في الجهة المقابلة). وتتم موازنة هذه الزيادة الشاملة في الشد بوساطة زيادة في الانضغاط داخل أجزاء متباعدة معينة في جميع أرجاء المبنى. وبهذه الطريقة تُثبّت البنية نفسها عبر آلية وصفها فولّر بالشد المستمر والانضغاط الموضعي. وبالمقابل، تستمد معظم المباني استقرارها من الانضغاط المستمر بفضل قوة الثقالة (الجاذبية) الأرضية gravity.

 

تنظم المكوِّنات المتحملة للشد في هذه المباني (سواء أكانت قبابا فولّرية أم تماثيل سنيلْسونية) أقصر المسارات بين المكوِّنات المتجاورة (وتكون لذلك ذات ترتيب جيوديسي بالتعريف). وفي الحالة الطبيعية تنشر قوى الشد نفسها عبر أقصر مسافة بين نقطتين، وبذلك تتموضع مكونات البنية الانشدادية بأمثل شكل يصمد للإجهاد ويتحمله. ولهذا السبب تؤمِّن البنى الانشدادية أقصى قدر من القوة للقدر المتاح من مادة البناء.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007954.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007955.jpg

يتألف هيكل الخلية من خيوط ميكروية (في الأسفل واليسار) وأُنَيْبيبات ميكروية (في الأسفل والوسط) وخيوط بينية (في الأسفل واليمين). ويبلغ اتساع جميع هذه المكونات عدة نانومترات فقط.. والشكل المدور بالقرب من المركز في كل من هذه الصور هو نواة الخلية. وتترابط هذه المكوِّنات الثلاثة لتنشئ شُبَيْكَة الهيكل الخلوي التي تمتد من سطح الخلية إلى النواة (في الأعلى واليسار). ويظهر الرسم هنا البنية الجزيئية لكل مكوِّن فوق صورته. وقد كوِّد لونيا حسب الشكل العلوي الأيسر.

 

من الهيكل العظمي إلى الهيكل الخلوي

ما تأثير خاصية الانشدادية في جسم الإنسان؟ إن مبادئ الانشدادية تنطبق أساسا على كل ما له حجم يمكن استبانته في الجسم. فعلى المستوى الماكروي، تنشدّ العظام التي تؤلف عمودنا الفقري (والبالغ عددها 206 عظام) إلى أعلى ضد قوة الثقالة الأرضية وتستقر في هيئتنا المنتصبة بفضل الشد والجذب الذي تمارسه العضلات الشادّة (الموترة) والأوتار والأربطة (على نحو يشبه أسلاك تماثيل سنيلسون). بعبارة أخرى، تعتبر العظام في البنية الانشدادية المعقدة داخل كل فرد منا هي الدعائم الانضغاطية، في حين تُعتبر العضلات والأوتار والأربطة هي المكونات المتحملة للشد. وفي الطرف الآخر من المقياس الميكروي (المستوى المجهري) تثبت البروتينات نفسها، والجزيئات الرئيسية الأخرى في الجسم، عبر مبادئ وخصائص الانشدادية ذاتها. ويقع اهتمامي الخاص فيما بين هذين الحدين، أي عند المستوى الخلوي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007956.jpg

تمتلك الخلية العصبية استطالات طويلة تدعى العُصَيْبات neurites تتصل كهربائيا بالخلايا العصبية المجاورة (في اليسار وأعلى اليمين). وتمتد العصيبات من الخلية (صورتان في اليمين) أثناء معالجة أذية ما، على سبيل المثال، عن طريق استطالة ألياف جزيئية داخلية تسمى أنيبيبات ميكروية (الأرجواني). أما الخيوط الميكروية التقلصية (الأحمر) فإنها تحيط بالأنيبيبات الميكروية ضاغطة إياها ومقيدة نموها. ولكن الخيوط الميكروية نفسها تترابط بخيوط أخرى (البرتقالي) تمتد نحو الأمام إلى النقاط التي تتثبت عندها الخلية على الركيزة التي تحتها (في الوسط). وعندما تشد الخيوط الميكروية نفسها قدما ضد هذه الالتصاقات، فإنها تمكن الأنيبيبات الميكروية من الاستطالة فتتمدد العصيبات (في الأسفل).

 

يوم كنت طالب دراسات عليا أعمل مع <D.J. جاميسون> (في جامعة ييل)، ركَّزت اهتمامي على كيفية تآثر interaction مكونات المنظومات البيولوجية (ولا سيما الخلايا) ميكانيكيا. فحينذاك، في أواخر السبعينات من القرن الحالي، كان البيولوجيون عموما يرون الخلية كسائل لزج أو هلامة محاطة بغشاء، على نحو أشبه ما يكون ببالون مملوء بِدِبْس السكر. وكان يعرف عن الخلايا أنها تحوي هيكلا داخليا يدعى الهيكل الخلوي cytoskeleton ويتألف من ثلاثة أنماط مختلفة من پوليميرات (مُكَوْثَرات) بروتينية جزيئية يطلق عليها الخيوط الميكروية microfilaments والخيوط البينية (المتوسطة) intermediate filamentsوالأُنَيْبيبات الميكروية microtubules. ولكن دور هذه الأنماط في التحكم في صياغة شكل الخلية لم يكن مفهوما جيدا.

 

وفي تلك الأيام، كان هناك لغز آخر يتعلق بالطريقة التي تسلكها الخلايا المنعزلة لدى وضعها على السطوح المختلفة. فلطالما كان معروفا أن الخلايا تتمدّد وتنبسط لدى التصاقها بالزجاج الصلب أو بطبق الزرع (الاستنبات) البلاستيكي. ولكن في عام 1980 أظهر <K.A. هاريس> (من جامعة نورث كارولينا في شاپل هيل) أن الخلايا تنكمش وتغدو أكثر كروية في أشكالها حين لَصْقها على ركيزة (طبقة سفلية) مطاطية مرنة. ويُجَعِّد هذا الانكماشُ المطاطَ الحامل لتلك الخلايا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007957.jpg

يتجعد (يَتَغَضّن) الأنيبيب الميكروي النامي بتأثير انضغاطه في هذه الصور الملتقطة بالتصوير البطيء بالڤيديو. ويحدث التجعد حينما يستطيل الأنيبيب ويشق طريقه ضد المكونات الأخرى لهيكل الخلية.

 

لقد خطر في بالي أن النظر إلى الخلية كبنية انشدادية يمكنه أن يفسر مثل هذا السلوك بسهولة. فقمت بإعداد نموذج شبيه بالخلية يتصف بمثل هذه البنية؛ وكان النموذج يتألف من ستة أوتاد خشبية وقطعة خيط مرن (مطاط). وقد رتبت الأوتاد التي تتحمل الإجهاد الانضغاطي في ثلاثة أزواج، وكان كل زوج منها متعامدا على الزوجين الآخرين من دون أن تلامس هذه الدعامات الخشبية إحداها الأخرى. أما الخيط المرن المتحمل للشد فقد رُبط بنهايات جميع الأوتاد شادا إياها، بحيث تتثبت في شكل مستقر ثلاثي الأبعاد. وكذلك قمت بوضع نموذج model انشدادي كروي صغير يمثل النواة داخل النموذج الكبير الذي كان يمثل باقي الخلية. ومن ثم، ومن أجل محاكاة الاتصالات داخل الهيكل الخلوي بين النواة وسائر الخلية مددت خيوطا مرنة من سطح البنية الانشدادية الكبيرة إلى البنية الصغيرة التي بداخلها [انظر الشكل في أعلى يمين الصفحة السابقة].

 

ولفهم الكيفية التي جرت بها تجربتي، لا بد من أن نعلم أن دفع النموذج الانشدادي من النمط الذي بنيته (شكلته) إلى أسفل يجعله يبدو كومةً مسطحة من أعواد وخيوط. وبمجرد أن يزال الضغط تعيده الطاقة المختزنة في الخيوط المشدودة على نحو زنبركي إلى شكله الأصلي القريب من التكوّر. وفي محاولة لمحاكاة كيفية سلوك الخلايا حينما توضع على سطح ما، ابتدعتُ ركيزة استنباتية صلبة من الزجاج أو البلاستيك عن طريق مد قطعة من القماش وشدها وتثبيتها بإحكام إلى قطعة خشب تحتها بوساطة دبابيس. وقد ألصقت النموذج الانشدادي بهذه الركيزة عن طريق بسط النموذج وخياطة نهايات بعض الأوتاد بقطعة القماش. وقد كانت تلك المرتكزات مناظرة لجزيئات السطح الخلوي التي تعرف الآن باسم الإنتگرينات integrins (مستقبلات الالتصاق) التي تربط فيزيائيا  خلية بالركيزة التي ترسو عليها تلك الخلية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007958.jpg

تحدث القساوة (التيبس) الخطية في البنية الانشدادية؛ لأن المكونات البنيوية تعيد توجيه نفسها، بحيث يقع العدد الأكبر منها في اتجاه الإجهاد المطبَّق (باتجاه الأسفل في المنظر الأيمن).

 

وعندما كانت نهايات الأوتاد مخيطة بالقماش المشدود المثبت بالدبابيس بإحكام، بقي النموذج منبسطا، مثلما تفعل الخلية الحقيقية تماما على ركيزة صلبة. ولكن حينما رفعتُ الدبابيس لتحرير القماش من قطعة الخشب، الأمر الذي يقابل جعل السطح الذي تستقر عليه الخلية مرنًا، نتأ النموذج الانشدادي فجأة متخذا شكلا أكثر كروية ومجعِّدا طبقة القماش التي تحته. وعلاوة على ذلك، فعند قيامي بشد النموذج منبسطا عبر تثبيته بالركيزة القماشية، لاحظت تمدُّد الخلية والنواة بداخلها على نحو متناسق، كما تحرك نموذج النواة تجاه قاع الخلية المقلَّدة (المحاكاة). وبعد ذلك بفترة قصيرة أظهرتُ تجريبيا أن الخلايا الحية ونواها تنبسط وتنكمش وتتحرك بطريقة مشابهة حينما تلتصق بركيزة ما. وهكذا، أظهرتُ من خلال نموذجي المصمَّم ببساطة بالغة، أن البنى الانشدادية تحاكي السلوك المعروف للخلايا الحية.

 

التشبيك المتماسك في الخلايا

لقد عرف البيولوجيون، في السنوات التي تلت تجربتي النمذجية modeling، الشيء الكثير عن النواحي الميكانيكية للخلايا؛ ويبدو أن نتائجهم تؤكد أن الخلايا تتخذ أشكالها فعلا بفضل الخاصية الانشدادية. وأكثر من ذلك، فإن معظم الخلايا حسبما توحي النماذج، لا تعتمد في مبناها على الأنماط الثلاثة الرئيسية لخيوط الهيكل الخلوي فحسب، بل كذلك على المطرق خارج الخلوي(2)الذي يعتبر سقالة الرسو التي تكفل وضع واستقرار الخلايا في الجسم بشكل طبيعي.

 

وفي داخل الخلية ثمة شبكة عنكبوتية رقيقة من خيوط ميكروية تقلصية ـ وهي عنصر أساسي في الهيكل الخلوي ـ تمتد في كل مكان من الخلية وتمارس الشد. بعبارة أخرى، تقوم هذه الشبكة بجذب الغشاء الخلوي وجميع المكونات الخلوية الداخلية باتجاه النواة الموجودة في قلب الخلية. وفي المقابل، يقاوم هذا الجذب إلى الداخل نمطان رئيسيان من العناصر الانضغاطية أحدهما موجود خارج الخلية والآخر داخلها. ويتألف المكوِّن الواقع خارج الخلية من المطرق الخارج الخلوي، في حين قد تتمثل «العوارض» girders  الانضغاطية داخل الخلية إما في الأُنَيْبيبات الميكروية أو في حزم كبيرة من خيوط ميكروية تتشابك عرضيا داخل الهيكل الخلوي. أما الخيوط البينية، وهي المكون الثالث للهيكل الخلوي فتعدّ المكاملات (المتممات) integrator العظمى؛ إذ تربط الأنيبيبات الميكروية والخيوط الميكروية الانقباضية بعضها ببعض، كما تربطهما بالغشاء السطحي الخلوي وبنواة الخلية. إضافة إلى ذلك، تعمل الخيوط البينية كأسلاك شدادة تؤمن يبوسة (تماسك) النواة المركزية وثباتها في مكانها. ومع أن الهيكل الخلوي تحيط به أغشية ويخترقه سائل لزج، فإن هذه الشبكة من الدعائم الجزيئية والكبلات cables المتماسكة بصلابة هي التي تثبت شكل الخلية  وتحافظ عليه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007959.jpg

يبدي هذا النموذج المصنوع من أنابيب (مصاصات) شراب الصودا (في الأسفل) مع مفاصل مرنة كيف يمكن لشبكة الخيوط الميكروية المتقلصة أن تعيد ترتيب نفسها في حزم خطية (في الأعلى يمينا) أو في أشكال جيوديسية مثلثاتية مثل المثمن octahedron (في الأسفل يمينا)

 

فإذا كانت الخلية والنواة مترابطتين فيزيائيا بخيوط شادة، وليس بالسيتوپلازم (الهيولى) المائع فحسب، فلا بد عندئذ أن يولد شد المستقبلات الموجودة على السطح الخلوي تبدلات بنيوية آنية في أعماق الخلية. وقد أثبت ذلك مؤخرا <A. مانيوتيس> (الذي كان ضمن مجموعتي في مستشفى الأطفال بكلية طب هارڤارد) وبطريقة مباشرة، إذ عمد إلى ربط مِمَصّات ميكروية بمستقبلات الالتصاق الموجودة على سطوح الخلايا الحية، ثم شدها نحو الخارج مسببا بذلك إعادة اصطفاف خيوط الهيكل الخلوي والبنى الموجودة ضمن النواة فورا في اتجاه الشد. وهكذا، وكما أوحت تجاربي السابقة، لم تسلك الخلايا والنوى سلوك بالونات مائية لزجة.

 

كيف تتحكم الميكانيكا في الكيمياء الحيوية

يمكن الاستعانة بخاصية الانشدادية في تفسير ما هو أكثر من تثبيت وترسيخ الشكل الخلوي والنووي. فمثلا، وجد <S. هايدمان> [الذي عمل مع <H. جوشي> و<E.R. توكسباوم> (من جامعة ولاية ميتشيگان) في منتصف الثمانينات] أن الانشدادية تستطيع تفسير كيف ترسل بوساطتها الخلايا العصبية استطالات طويلة ورفيعة، تدعى العُصَيْبات neurites، تكون مملوءة بأنيبيبات ميكروية وتنقل الإشارات الكهربائية في الجهاز العصبي. ويعد هذا التنامي مطلوبا لترميم تلف العصب.

 

لقد وجدت مجموعة هايدمان أن الأنيبيبات الميكروية تكون منضغطة عند نهاياتها بسبب شد الخيوط الميكروية المتقلصة المحيطة بها داخل العُصَيْبات. والأهم من ذلك أن الباحثين اكتشفوا أن تجمّع الأنيبيبات الميكروية (الاستطالة)، ومن ثم تَمَدُّد العُصَيْبات، إنما يتعزز بإزاحة حمولات الضغط عن الأنيبيب الميكروي وعلى مرتكزات الخلية على مطرقها خارج الخلوي. وبكلمات أخرى، إن وجود التوازن في القوى الانشدادية يقدم وسيلة للتكامل بين الميكانيكا والكيمياء الحيوية على المستوى الجزيئي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007960.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007961.jpg

تظهر في هذه الصورة أشكال جيوديسية في بنى طبيعية مختلفة، بما في ذلك جزء من الهيكل الخلوي لخلية من حيوان ثديي (في أعلى اليسار)، وڤيروس غدي (في أعلى الوسط)، و (في اتجاه عقرب الساعة بالترتيب من أسفل اليمين) حبة لقاح وكرة بكي تحيط بأيون بوتاسيوم ومعقد إنزيمي بروتيني وكائن عديد الخلايا يعرف باسم ڤولڤوكس.

 

وحديثا، أضاف <A. ماتيوس> (من معهد فريدريش ميشر في بازل) تذييلا حيويا لهذه القصة. فلدى إنتاجه خلايا تولد أنيبيبات ميكروية متفلورةfluorescent  استطاع ماتيوس أن يشاهد هذه الأنيبيبات وهي تتجعد تحت وطأة  الانضغاط.

 

ولو عدنا إلى النموذج الانشدادي، فإنه يوحي إلينا بأن بنية الهيكل الخلوي يمكن أن تتغير بتغيير توازن القوى الفيزيائية المنقولة عبر سطح الخلية. وتكتسب هذه النتيجة أهميتها من أن العديد من الإنزيمات والمواد الأخرى، التي تتحكم في تركيب البروتين والنمو وتحوُّل الطاقة في الخلية، تكون عديمة الحركة فيزيائيا على الهيكل الخلوي. ولهذا السبب، فإن تغيير هندسة الهيكل الخلوي وميكانيكيته يمكن أن يؤثر في التفاعلات الكيمياحيوية، وحتى في الجينات الناشطة ومن ثم في البروتينات المركبة.

 

وسعيا لمزيد من تقصي هذه الإمكانية، عمد <R. سنگفي> و <Ch. شن> من مجموعتي بالتعاون مع <G. وايتسايدس> (في هارڤارد أيضا)، إلى إيجاد طريقة لهندسة شكل الخلية ووظيفتها. فقد أجبروا الخلايا الحية على اتخاذ أشكال مختلفة (كروية أو منبسطة أو مدوّرة أو مربعة)، وذلك عن طريق وضعها على «جُُزُر» لاصقة بالغة الصغر مكونة من مطرق خارج خلوي. وتم إحاطة كل جزيرة لاصقة بسطح شبيه بالتفلون teflon-like لا تستطيع الخلايا الالتصاق به.

 

لقد تمكَّن هؤلاء الباحثون من تحويل عمل الخلية من برنامج جيني إلى آخر بمجرد التحوير في شكل الخلية. فالخلايا التي تمددت بشكل مسطح غدت أكثر ميلا للانقسام، في حين نشّطت الخلايا المدورة التي حُرمت من التمدد برنامجا للموت يعرف باسم الاستموات(3). أما الخلايا التي لم تتخذ الشكل الزائد التمدد أو الشكل البالغ الانكماش فلم تنقسم ولم تمت، بل تمايزت نسيجيا؛ إذ شكلت الخلايا الشعرية أنابيب شعرية مجوفة، وأفرزت الخلايا الكبدية البروتينات التي يتم طرحها في الدم عادة، وهلم جرا.

 

وهكذا يبدو أن التغيير الميكانيكي في بناء الخلية والهيكل الخلوي ينبئ الخلية بما تفعله. فالخلايا المسطحة جدا ذات الهياكل الخلوية المتمددة تشعر بمزيد الحاجة إلى عدد أكبر من الخلايا لتغطي الركيزة (الطبقة) المحيطة بها (كما في حالة التئام الجروح) وبأن الأمر يتطلب الانقسام الخلوي. أما التكور فيدل على وجود وفرة من الخلايا تتنافس فيما بينها على مكان لها على المطرق، كما يدل على أن الخلايا تتكاثر أكثر من اللازم، وهذا يستوجب موت بعضها للحيلولة دون تكوّن ورم. وفيما بين هاتين النهايتين، تستقر وظيفة النسيج السوي وتُصان. ويمكن أن يقودنا فهم الكيفية التي يتم بها هذا التحوّل إلى مقاربات approaches جديدة لمعالجة السرطان وترميم النسج، وربما حتى لابتداع  وتكوين مُعاوِضات نسيجية صنعية.

 

فتل (لولبة) الخلايا

والمستوى التالي صعودا في التسلسل الهرمي لمراتب التجمع الذاتي، هو تكون النسج التي تبنى من ترابط الخلايا: الواحدة بالأخرى، وبالمطرق خارج الخلوي الخاص بها. والخاصية الملحة للنسج هي كيفية سلوكها ميكانيكيا. فالعديد من أنماط النسج المختلفة، بما في ذلك العضلات والغضاريف والأوعية الدموية والجلد، تبدي استجابة تعرف بالقساوة (التيبس) الخطية linearstiffening. فإذا أنت قمت بشد جلدك مثلا، فإنك ستشعر بازدياد المقاومة كلما ازداد الشد قوة. فالقوة الخارجية المتزايدة تواجهها مقاومة متزايدة. وتبين الدراسات الحالية أنه حتى الجزيئات المنعزلة، مثل الدنا DNA، تبدي قساوة خطية؛ ولكن حتى قيامنا بفحص هذه الظاهرة في سياق الانشدادية لم يكن يوجد أي تفسير ميكانيكي أو رياضياتي لهذا السلوك.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007962.jpg

تشمل الكوابيل(4) السابقة الإجهاد (المقوّاة) عضلات وعظام رقبة الزرافة، وسلك ودعامات تمثال<KK.سنيلسون>

 

وفي عام 1993 قام مساعدي <N. وانگ>، الذي يعمل مع <P.J. بتلر> (من كلية هارڤارد لصحة العامة)، بابتداع وسيلة تسمح لنا بِفَتْلِ twist جزيئاتٍ فرادى على الغشاء السطحي لخلايا حية وقياس الاستجابة الخلوية في أثناء ذلك. فوجدنا أنه عندما زدنا الإجهاد المطبق على الإنتگرينات (وهي الجزيئات التي تخترق الغشاء الخلوي وتصل المطرق خارج الخلوي بالهيكل الخلوي الداخلي) استجابت الخلايا بازدياد في قساوتها وتيبسها أكثر فأكثر، تماما مثلما تفعل النسج جميعها. وعلاوة على ذلك، يمكن جعل الخلايا الحية قاسية أو مرنة عن طريق تغيير الإجهاد المسبق prestress  للهيكل الخلوي عبر تغيير الشد (التوتر)  مثلا في خيوطه الميكروية المتقلصة.

 

ومع أن التفاصيل الدقيقة للتآثر(5) لم تُعرف جميعها، فقد استطعنا باستخدام نموذج الأعواد والخيط الانشدادي، أن نبين أن جوهر الاستجابة يمكن إدراكه من طريقة استجابة البنى الانشدادية للإجهاد. فمن الناحية الأساسية، تعيد جميع العناصر البنيوية المترابطة للنموذج الانشدادي ترتيب نفسها استجابة لأي إجهاد موضعي. وتنجم القساوة الخيطية، لأنه حينما يتزايد الإجهاد المطبق يزداد عدد المكونات التي توضع في اتجاه هذا الإجهاد.

 

لقد أوجدنا، بالتعاون مع <D. ستامينوڤيك> (من جامعة بوسطن)، نموذجا رياضياتيا مبنيا على هذه المبادئ. ويستطيع هذا النموذج أن يتنبأ، وللمرة الأولى، باستجابة القساوة الخطية للنسج والخلايا الحية وحتى الجزيئات. ونأمل أن نستخدم هذا النموذج في المساعدة على تصميم مواد متقدمة تمتلك خاصية القساوة الخطية ويمكن أن تكون مفيدة في مثل هذه التطبيقات، كالألبسة الواقية وأجزاء الجسم الصنعية. كما يمكن دمج هذا المدخل الرياضياتي ضمن برامج الحاسوب كطريق مختصرة لتسريع النمذجة(6)الجزيئية وتصميم الأدوية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007963.jpg

يستمد التمثال الانشدادي المنتصب (الشاقولي) والنموذج الجزيئي لخيط ميكروي في شكل هيكل خلوي (في الأعلى) قوتهما من المبدأ ذاته: إنهما يثبتان نفسيهما عبر توازن الانضغاط والشد. ففي النسيج السطحي لعين ذبابة (أرضية الجهة اليمنى)، تترتب الخلايا جيوديسيا للهدف نفسه، وهو تأمين الثبات من خلال شد مستمر وانضغاط موضعي.

 

هذا وقد توصلنا من خلال دراسات وانگ على الفتل المغنطيسي magnetictwisting، ومن خلال تجارب مانيوتيس باستخدام الشد بالممص الميكرويmicropipette pulling، إلى أن تطبيق الإجهاد على مستقبلات سطح الخلية المعنية بالاستقلاب أكثر من الالتصاق، لم ينقل القوة بشكل فعّال إلى داخل الخلية. وهكذا أكدت هذه الدراسات أن القوى الميكانيكية في الخلايا الحية تنتقل خلال مسارات جزيئية نوعية. ويزودنا هذا الاكتشاف بتبصر جديد وفهم عميق حول الكيفية التي تستشعر بها الخلايا المنبهات الميكانيكية التي تنظم التنامي النسيجي. وقد يفيدنا هذا التبصر بدوره في التوصل إلى فهم أفضل لتشكيلة واسعة من الظواهر تتراوح بين النمو العضلي استجابة للشد ونمو الجذور النباتية استجابة للثقالة الأرضية.

 

القباب الجيوديسية الجزيئية

ومع أن النماذج الانشدادية استطاعت أن تتنبأ بالعديد من سلوكيات الخلية، فقد برزتْ مفارقة تحتاج إلى تفسير. ذلك أن العديد من الخلايا يستطيع الانتشار والانبساط من دون اعتماد على الأنيبيبات الميكروية، وهي أهم الدعائم الانضغاطية في النموذج. فإذا كانت الخلايا الحية تستطيع التغير من شكل كروي إلى شكل منبسط من دون هذه الدعائم، فكيف تنطبق الانشدادية؟ وهنا، وباستخدام مقاربة نمذجية (تشكيلية) غير معقدة، وجدتُ، وعلى نحو لا يصدق أن الشبكة الخيطية الميكروية نفسها هي بنية انشدادية.

 

تشكل الخيوط الميكروية المتقلصة في الهيكل الخلوي للخلية الحية شُبَيْكة(7)تعيد ترتيب نفسها موضعيا في أشكال مختلفة، مثل حِزَم كبيرة أو شبكات من المثلثات. وفي محاولة مني لاستكشاف الآلية الكامنة وراء إعادة التعضية (الترتيب) reorganization، قمت بنمذجةِ شُبيكةِ الخيوط الميكروية بحيث تأخذ شكل هيكل كثير السطوح من الأنابيب (المصاصات) الورقية المستخدمة في مص ماء الصودا (المياه الغازية) [انظر الشكل في الصفحة 25]. وقد تمّ ضم هذه الأنابيب بعضها إلى بعض بوساطة خيط مرن واحد قمت بإسلاكه (تمريره) عبرها جميعا، ومن ثم عقدت طرفيه معا. ولقد افترضت أن كل أنبوبة منها في النموذج إنما تمثل خيطا ميكرويا متقلصا واحدا يستطيع أن يولد شدا ميكانيكيا بتقصير نفسه. ومن المعروف أن الخيوط الميكروية المتقلصة تغدو أكثر قساوة حينما تتقاصر. وهكذا فإن الخيط المرن الداخلي في النموذج سيحاكي عندئذ الشد المستمر في مجمل البنية الحاصل من تقاصر جميع هذه الخيوط المتقسية.

 

لقد افترضتُ أن هذا النموذج من أنابيب شراب الصودا كان يمثل وحدة هيكلية خلوية قابلة للتعديل، مرتبطة في جميع الاتجاهات بوحدات مشابهة أخرى في خلية مدورة معلقة (غير ملتصقة بغيرها). وكان السؤال الذي أحاول الإجابة عنه: ما الذي يحدث لهذا الهيكل إذا ما التصقت الخلية التي تدعمه بسطح صلب؟

 

تتثبت الخلايا عبر ارتباطها بجزيئات للربط السطحي في المطرق خارج الخلوي. ولكن الخلايا لا تلتصق بشكل متجانس بالمطرق، بل تلتحم بقعيا spot-welded في مواقع محددة تعرف باسم «نقط الالتصاق البؤرية» focal adhesions. وتستجيب الخيوط الميكروية المتقلصة للرسو anchorage بالتقاصر وزيادة التوتر المتقايس(8) داخل الشبيكة. وأوحت نماذج أنابيب شراب الصودا بأن زيادة الشد الناجمة عن الالتصاق سوف تجعل الخيوط الميكروية المتقلصة الفرادى، التي كانت تؤلف المربعات في النموذج، تتجمع ذاتيا في حِزَم خطية تمتد بين مواضع الالتصاق البؤرية هذه، حيث تثبّت المستقبلاتُ الإنتگرينية الخليةَ بالمطرق. وفي الحقيقة حينما تنتشر الخلايا الحية منبسطة على سطح ما، فإن الخيوط الميكروية المتقلصة الفرادى تصطف وتتراصف بطريقة متماثلة تقريبا «لتشكل حزما» تدعى ألياف الإجهاد stress fibers.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N6-7_H03_007964.jpg

 

وعلى النقيض من ذلك، لا توجد في أعلى الخلية ركيزة التصاقية تقاوم شد الخيوط الميكروية المتقاصرة. ففي هذه المناطق لا يمكن مقاومة تقلص وانكماش كل خيط ميكروي إلا بشد وقساوة الخيوط المجاورة له. وقد بيّن فولّر منذ عدة سنوات أن الشد نحو الداخل وكذلك الفتل يجعلان هذا النمط من البنية المتعددة السطوح تعاني ما أسماه «التحول البهلواني» jitter bug transformation: حيث يتحول هيكل المربعات والمثلثات «الكبير المرونة» إلى أشكال ثُمانيّة أو رباعية السطوح؛ أو بعبارة أخرى، يتحول إلى بنى انشدادية مثلثاتية بالكامل.

 

وعندما ربطتُ عدة نماذج متشابهة من أنابيب شراب الصودا بعضها ببعض، وجدت أن الوحدات الفرادى تزايد انكماشها، وهذا أدى إلى تكوين هيكل جيوديسي geodesic framework مؤلف من أشكالٍ ثُمانيّة السطوح متناوبة مع أشكال رباعية السطوح، والأشكال كلها متراصّة بإحكام. وفي الخلية، سيسبب انكماش وتقلص شبكات الخيوط الميكروية المحيطة والمترابطة بقاعدة الخلية، تقوسَ هذا الهيكل فوق النواة الكروية، مما يحوله إلى قبة مثلثاتية بشكل واضح، وبالتحديد إلى قبة جيوديسية.

 

لقد لاحظ <E. لازاريديس> عندما كان في مختبر كولد سبرنگ هاربر بنيويورك، وكذلك <M. أوزبورن> و <K. ويبر> (من معهد ماكس بلانك في گوتنگن بألمانيا)، تلك التحولات ذاتها في منطقة السيتوپلازم الواقعة فوق النواة في الخلايا المنبسطة. وبكل وضوح، فإن وجود قبة جيوديسية داخل الهيكل الخلوي على المستوى الجزيئي ـ بشكل مقنع ـ يثبت أن الخلايا يمكنها استخدام، بل وتستخدم فعلا، المعمارية الانشدادية architecture of tensegrity في تشكيل هيكلها الخلوي.

 

نمط شامل

تعد البنية الجيوديسية الموجودة في الهيكل الخلوي مثالا تقليديا لنمط موجود في كل مكان بالطبيعة وبمقاييس حجمية مختلفة عديدة. فالمجموعات الكروية لذرات الكربون ـ والتي تدعى buckminsterfullerenes أو كرات بكي buckyballs، ومعها الڤيروسات والإنزيمات والعضيات والخلايا وحتى الكائنات الحية الصغيرة ـ تبدي جميعها أشكالاً جيوديسية. والمستغرب أنه لم يتساءل عن سبب تلك الظاهرة إلا القليل من الباحثين. وفي رأيي أن هذا النمط المتكرر يمثل دليلا ملموسا على وجود قواعد عامة مشتركة للتجمع الذاتي. وعلى وجه الخصوص، فإن جميع هذه الكيانات تثبت نفسها في أبعاد ثلاثة بطريقة متشابهة: عن طريق ترتيب أجزائها على نحو يخفِّض الطاقة ويصغِّر الكتلة إلى الحد الأدنى عبر الشد المستمر والانضغاط الموضعي، أي عبر خاصية الانشدادية.

 

يتضمن تجمّع assembly الڤيروسات، التي تعد أصغر أشكال الحياة على الأرض، تآثرات ترابطية binding interactions  بين بروتينات متشابهة عديدة تتجمع معا لتؤلف غلافا ڤيروسيا جيوديسيا يحيط بالمادة الجينية. وأثناء تكون الڤيروس تتراكب overlap  استطالات خطية من البروتينات مع ذيول مشابهة تمتد من بروتينات مجاورة لتشكل هيكلا framework جيوديسيا مثلثاتيا على مقياس نانومتري. ويقوم كل مِفْصَل في هذا الهيكل بتثبيت نفسه نتيجة لتوازن يقوم بين شد القوى الجاذبة بين الجزيئية (الروابط الهيدروجينية) وقدرة الذيول البروتينية الفرادى على مقاومة الانضغاط compression والتجعد (التَّغَضُّن)buckling.

 

ويتضح المخطط الأساسي نفسه في كرات بكي، فيما عدا كون لبنات البناء ذرات عوضا عن بروتينات. ففي هذه الكرات تشكل 60 ذرة كربون كرةً جيوديسية يغطيها 20 مسدسا يتوزع بينها 12 مخمّسا: ويتخذ هذا النمط شكل كرة القدم. وفي الواقع تمثل الروابط التسعون بين الكربون والكربون في كرة بَكي الدعائم في الكرة الانشدادية.

 

ولكن الأصعب أن نتيقن أن قواعد البناء ذاتها تنطبق كذلك على البنى غير المنتظمة، بما في ذلك العديد من الجزيئات البيولوجية التي لا تبدي أشكالا جيوديسية. فالبروتينات التي تعتمد عليها الخلايا في بنيتها وتحفيزهاcatalysis وعدد آخر من وظائفها، ما هي إلا خيوط طويلة من الحموض الأمينية. وتنثني مناطق صغيرة من سلسلة الأحماض الأمينية الأساسية للبروتين في أشكال لولبية (حلزونية) تثبت نفسها عبر التوازن بين القوة الجاذبة للروابط الهيدروجينية [التي تشد مناطق الجزيء المختلفة بعضها إلى بعض] وبين قدرة الملف coil البروتيني لمقاومة التقاصر shortening، أو الانضغاط compression. وبعبارة أخرى، تثبّت هذه المناطق اللولبية نفسها بوساطة خاصية الانشدادية مثلما يفعل أي جزيء لولبي مثل الدنا.

 

هذا ويتضمن التعضي البروتيني كذلك تجميعا مراتبيا hierarchical assembly. فالمناطق الصغيرة لبروتين ما، والتي تقسو عن طريق تكوين الشكل اللولبي، تنفصل الواحدة منها عن الأخرى بأجزاء من سلسلة الحموض الأمينية الأساسية نفسها التي تعمل وكأنها مفاصل مرنة. كما تنثني (تتطوى) هذه المناطق الشبيهة بالدعامات على نفسها (بفعل القوى الشدية للروابط الهيدروجينية) من أجل تثبيت الجزيء بمجمله. ويمكن للأجزاء اللولبية المتقسية أن تنضغط موضعيا إلى حد كبير جدا على الرغم من توازي القوى عبر كامل الجزيء السابق الإجهاد prestressed.

 

ونظرا لاستطاعة قوة موضعية ما أن تغير شكل البنية الانشدادية الإجمالية، فإن ربط جزيء ما ببروتين ما يمكن أن يجعل المناطق اللولبية المتقسية المختلفة تعيد ترتيب مواقعها النسبية على طول امتداد البروتين. فمثلا، عندما يرتبط جزيء حامل للإشارة (الإيعاز) بمستقبلة receptor تنفذ عبر الغشاء إلى داخل خلية ما، فإن هذا الارتباط يمكن أن يسبِّب تعديلات بنيانية تطابقيةconformational في النهاية المقابلة من المستقبلة. وتؤدي هذه التعديلات التطابقية بدورها إلى تغيير شكل بروتينات مجاورة، فتقدح سلسلة (شلالا) cascade  من  التغييرات البنيوية الجزيئية داخل تلك الخلية. وهذه في الواقع هي الكيفية التي تستشعر بوساطتها الخلايا وتستجيب للتبدلات الحادثة في أوساطها.

 

وهكذا يتضح أن الانشدادية هي المنظومة البنائية المفضَّلة في الطبيعة بدءا من الجزيئات إلى العظام والعضلات والأوتار في الجسم البشري. فالانشدادية وحدها، على سبيل المثال، تستطيع أن تفسر كيف أنه في كل مرة تُحرك ذراعك ينشد (يتمطط) جلدك، ويتمدد مطرقك خارج الخلوي، ويتغير شكل خلاياك، وتستشعر الجزيئات المترابطة معًا (والتي تشكل الهيكل الداخلي للخلية) ذلك الشد؛ الأمر الذي يحدث بتمامه من دون أي كسر أو انقطاع في استمرارية البنية.

 

وإنه لأمر لافت للنظر، أن الانشدادية يمكن أن تفسر كذلك كيف أن جميع هذه الظواهر تتم بتناسق تام في الكائن الحي. ففي كلية طب جونز هوپكنز وجد <D. كوفي> و <K. بينتا> أن البنى الانشدادية تعمل كمُذَبْذِبات oscillators متآلفة متقارنة. فالدنا والنوى وخيوط الهيكل الخلوي والقنيوات الأيونية الغشائية والخلايا والأنسجة الحية بمجملها تبدي ترددات رنينية resonant frequenciesمميزة للتذبذب. وبكل بساطة، يهيئ انتقال الشد عبر نظام انشداديٍّ ما وسيلةً لتوزيع القوى إلى جميع العناصر المترابطة فيه، وفي الوقت نفسه إلى اقترانcouple (توليف tune) مجموع المنظومة في كلٍّ واحد بطريقة ميكانيكية.

 

تضمينات تطورية

ومع أن تغيرات الدنا تولّد التنوع البيولوجي، فإن الجينات هي نتيجة للتطور وليست قوته المحركة. وفي الواقع، فإن الأشكال الجيوديسية الشبيهة بتلك الموجودة في الڤيروسات والإنزيمات والخلايا وجدت في العالم غير العضوي للبلورات والمعادن قبل أن يوجد الدنا بزمن طويل. وحتى جزيئات الماء فإنها مبنية بشكل جيوديسي.

 

إن السؤال ذا الصلة بالموضوع يتلخص بما يلي: كيف تطوّرت الجزيئات العضوية والخلايا من مكونات غير عضوية؟ وعلى الرغم من كل شيء، نقول بلغة ظهور الخصائص الناشئة إن التجمع الذاتي للجزيئات في عضياتorganelles أو للخلايا في أنسجة لا يختلف كثيرا عن التجمع الذاتي للذرات في مركبات compounds. فالصوديوم، مثلا، (وهو فلز متفجر) يتحد بالكلور (وهو غاز سام) ليشكلا كلوريد الصوديوم الذي يتميز بخاصية ناشئة جديدة هي استخدامه مِلْحًا على مائدة الطعام. فالمبدأ المهم هنا يتمثل في الطريقة التي تشكل بها البنية نفسها وتجمع بها مكوناتها الفرعية بعضها إلى بعض في حيز ثلاثي الأبعاد. فهذه الخاصية هي التي تقرر الطريقة التي ستسلكها البنية بكليتها.

 

وبانفتاح أكثر، تخضع كل المادة للتقييدات (المحددات) الحيزية نفسها، بغض النظر عن مقياسها أو موقعها. فإذا ما أخذنا هذه التقييدات بالاعتبار، تكون الانشدادية أكثر الطرق فعالية واقتصادا في البناء، سواء كان بالمقياس الجزيئي أو بالمقياس الماكروي أو بجميع المقاييس الواقعة بينهما. ومن المحتمل أن يكون قد تم اصطفاء بنى انشدادية كاملة المثلثاتية خلال التطور بسبب كفايتها البنيوية، أي قوتها الميكانيكية العالية باستخدام أقل ما يمكن من مواد. وتتميز المرونة، التي تبديها البنى الانشدادية السابقة الإجهاد (المقوّاة) بكونها تسمح للبنى باتخاذ أشكالٍ مختلفة. فمثلا، لو أن خلية أو جزيئا كان قادرا على التحول إلى شكل أكثر استقرارا عند درجة حرارة معينة أو ضغط معين، أو أكثر فعالية من الناحية الاستقلابية، لقدّر له عندئذ أن يعيش حياة أطول ولازداد احتمال تآثره مع كيانات مشابهة أخرى ومن ثم يجمع نفسه ذاتيا من جديد.

 

ويعتقد الباحثون اليوم أن التطور البيولوجي بدأ في طبقات الطين وليس في البحر البدائي الأزلي. ومما يستأثر بالاهتمام أن الطين نفسه هو شبكة مسامية من الذرات مرتَّبة بشكل جيوديسي داخل أشكالٍ ثُمانيّة ورباعية السطوح. ولكن لكون هذه المثمنات والرباعيات غير مرصوصة بشكل وثيق، فإنها تحتفظ بقابلية التحرك والانزلاق بالنسبة لبعضها بعضا. ويبدو أن هذه المرونة تسمح للطين أن يحفز العديد من التفاعلات الكيميائية، بما في ذلك التفاعلات التي ربما أنتجت اللبنات البنائية الجزيئية الأولى للحياة العضوية.

 

وعلى مر الزمن مارستْ مجموعات جزيئية مختلفة سيرورة تجمع ذاتي، لتكوّن البنى الأولى ذات الوظائف المتخصصة (بمعنى أسلاف العُضَيّات الحالية) التي انضم بعد ذلك بعضها إلى بعض لتوجد الخلايا البسيطة الأولى. ومن ثم أنتجت هذه الخلايا بروتينات تجمعت ذاتيا لتكوّن المطرق خارج الخلوي، وهو السقالات الإرسائية التي عززت بدورها التجمع الذاتي للنسج المتعددة الخلايا. أما الأعضاء فقد تطورت من تجمع ذاتي للنسج؛ كما انبثقت الكائنات المعقدة من اتحاد الأعضاء المختلفة والتعديل المطرد في نمذجتها وتشكيلها. وفي الواقع، إن سيروة تنامي وتشكل الجنين من نطفة وبيضة تعيد باختصار جميع هذه المراحل من التجمع الذاتي.

 

لقد أدى نشوء الدنا والجينات إلى ظهور آلية جديدة لتوليد التنوع البنيوي الذي سرَّع التطور، بيد أن القواعد الناظمة لسيرورة التجمع المراتبي الذاتي بقيت طول هذا الزمان من دون تغير أساسي. لذا فليس من المستغرب أن نجد ترتيبا أساسيا متشابها بوضوح للعظام والعضلات لدى التيرانوسورTyrannosaurus rex والإنسان العاقل (الحديث) Homo sapiens، وأن تعوّل الحيوانات والحشرات والنباتات على سابقة الإجهاد (التقوية) في الثبات الميكانيكي لأجسامها، وأن تسود الأشكال الجيوديسية مثل المسدسات والمخمسات واللوالب في المنظومات الطبيعية.

 

وأخيرا يظهر المزيد من التساؤلات الفلسفية: هل تتصف هذه المبادئ البنائية بالشمول؟ وهل تنطبق على البنى التي تشكَّلت وتقولبت بقوى هائلة المقياس مثلما تنطبق على البنى المتشكلة بالقوى الصغيرة المقياس؟ لا ندري. ولكن سنيلسون اقترح نموذجا معقد التشابك للذرة مبنيا على الانشدادية ليحيي بذلك ما سبق لعالم الفيزياء الفرنسي <لويس دو بروكلي> أن أقلع عنه عام 1923. أما فولّر فقد قطع شوطا أبعد ليتصور المنظومة الشمسية كبنية مؤلفة من حلقات متعددة غير قابلة للتغيير من حركة كواكب سيارة يمسكها معا ويبقيها معلقة شدُّ الثقالة (قوى الجاذبية) المستمر.

 

وبالتالي، فإن حقيقة أن كوننا الشدي المتسع يحتوي على خيوط ضخمة من مجرات مترابطة ثقاليا (تجاذبيا) وعلى ثقوب سوداء black holes منعزلة تمارس  قوى انضغاطية موضعية هائلة، لا يترك لنا أي خيار سوى أن نعجب. وعلى الرغم من كل شيء ربما يكون أساس ذلك نظاما وحيدا للطبيعة يسود كل شيء. وحسبما اقترح العالم الاسكتلندي في علم الحيوان  <W.A’D  ثومبسون> في أوائل القرن العشرين، نقلا عن گاليليو الذي اقتبس بدوره عن أفلاطون، فإن: «كتاب الطبيعة يمكن أن يكتب حقا بأبجدية علم الهندسة وأساليبه.»

 

 المؤلف

Donald E. Ingber

حصل على البكالوريوس والماجستير في الآداب والفلسفة والطب، ثم الدكتوراه من جامعة ييل. وهو الآن أستاذ مساعد في الباثولوجيا (علم الأمراض) بكلية هارڤارد الطبية، ومشارك أبحاث في قسمي الجراحة والباثولوجيا بمستشفى الأطفال في بوسطن. وهو كذلك عضو في مركز الهندسة الحيوية في معهد مَاسّاتشوستس للتقانة. وإضافة إلى بحثه في البنية الخلوية، فقد أسهم إنگبر في دراسة تكون الأوعية الدموية في الأورام وفي اكتشاف دواء مضاد للسرطان يخضع الآن للتجريب السريري. إنه مؤسس هيئة علم الجيوديسيا الجزيئية في كامبردج بماساتشوستس باعتبارها شركة لابتكار مواد متقدمة ذات خواص بيولوجية إبداعية.

 

مراجع للاستزادة 

ON GROWTH AND FORM. Revised edition. D’Arcy W Thompson. Cambridge University Press, 1942 (reprinted 1992).

MOVEMENT AND SELF-CONTROL IN PROTEIN ASSEMBLIES. Donald L. D. Caspar in Biophysical Journal, Vol. 32, No. 1, pages 103-138; October 1980.

CLAY MINERALS AND THE ORIGIN OF LIFE. Edited by A. Graham Cairns-Smith and Hyman Hartman. Cambridge University Press, 1986.

CELLULAR TENSEGRITY: DEFINING NEW RULES OF BIOLOGICAL DESIGN THAT GOVERN THE CYTOSKELETON. Donald E. Ingber in Journal of Cell Science, Vol. 104, No. 3, pages 613-627; March 1993.

MECHANOTRANSDUCTION ACROSS THE CELL SURFACE AND THROUGH THE CYTOSKELETON. Ning Wang, James P Butler and Donald E. Ingber in Science, Vol. 260, pages 1124-1127; May 21, 1993.

GEOMETRIC CONTROL OF CELL LIFE AND DEATH. Christopher S. Chen, Milan Mirksich, Sui Huang, George M. Whitesides and Donald E. Ingber in Science, Vol. 276, pages l425-1428; May 30, 1997.

TENSEGRITY: THE ARCHITECTURAL BASIS OF CELLULAR MECHANOTRANSDUCTION. Donald E. Ingber in Annual Review of Physiology, Vol. 59, pages S7S-599; 1997.

Scientific American, January 1998

 

(1) الجيوديسيا: فرع من الرياضيات التطبيقية يُعنى بدراسة شكل الأرض وبقياس سطحها. (التحرير)

(2) extracellular matrix: المادة الموجودة بين الخلايا.

(3)apoptosis: الموت المبرمج للخلايا.

(4) cantilevers: الدعامات الناتئة المثبتة من طرف واحد.

(5) interactions: التأثير المتبادل.

(6) modeling: الصياغة والتشكيل.

(7) lattice: شكل شبيه بالشبكة.

(8) isometric: المتساوي القياس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى