أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الحيوان

هواة العلم

هواة العلم

http://oloommagazine.com/images/Articles/SCI_General_index004.jpg

مراقبة الطيور بوساطة الأعداد

<S. كارلسون>

 

لقد ساقتني مصادفة جغرافية سعيدة إلى أن أقطن في بيت قريب من السماء قربا يتمناه مراقبو الطيور. والمنطقة التي أقمت فيها تقع قرب سان دييگو بكاليفورنيا، وهي محطة طبيعية لأنواع مختلفة من الطيور الأمريكية الشمالية والجنوبية التي تهاجر مرتحلةً على طول شاطئ المحيط الهادي، والتي تضم مئات من الأنواع الغريبة التي تحطّ هنا في مواسم محدّدة. وفي الحقيقة، إن هذه المنطقة تؤوي إحدى أغنى المجموعات تنوعا من الطيور المهاجرة التي يمكن العثور عليها في الولايات المتحدة.

 

وفي كل عام أراقب بدقة الأسراب الأولى غير الكثيفة من طير الكروان الصغير (الفيّوب) whimbrels والطيور المخوضة ذات العروق الرخامية marbled godwitsوطيور الكروان الطويلة المناقير، التي تكون وصلت حديثا من مواطنها الأصلية الصيفية في كندا وبدأت بالقضاء على الأعشاب على حساب الطيور المتوطنة في شواطئ سان دييگو. هذا وقد كرستُ الفترة الصباحية في العديد من الأيام الجميلة لإماطة اللثام عن رقة ولطف هذه الأنواع الثلاثة من الطيور، فقد كانت من الطيور المفضلة لديّ. بيد أنه مما يؤسف له أن بعضًا من زملائي في هواية مراقبة الطيور يشيحون بوجوههم عني تعبيرًا عن عدم إيمانهم بما أفعل حين يشاهدونني أقيم مختبري الصغير على شاطئ المحيط. وغالبا ما أتخذ لي مكانا بدأ فيه سرب من الطيور بتناول طعامه منذ وقت قصير، وذلك كي أتمكن من إجراء قياسات عددية لحُفَر مناقيرها وطبعات أرجلها ورَوْثها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N8-9_H04_008073.jpg

يمكن تخطيط موقع تناول الطعام لسرب من طيور الشواطئ باستعمال شبكة صيد لتشكيل شبكة من المربعات.

 

إن هذا النوع من التدقيق الإيجابي الذي يرمي إلى تحديد الأنماط السلوكية لهذه الحيوانات، يختلف عمّا يقوم به الناس الذين اعتادوا مراقبة الطيور مراقبة سلبية من خلال المناظير. إنه يسعى إلى تبيّن علاقات معقدة لا يتسنى لعالم التاريخ الطبيعي أن يدركها إلا إذا قام بإجراء قياسات عددية واستنباط النتائج منها. ومع أن جميع العلماء المحترفين يعون هذه الحقيقة، فإن عددا قليلا فقط من هواة مراقبة الطيور يدركون أن بمقدورهم إنجاز تقدم أكبر في فهمنا العلمي للعالم الطبيعي عن طريق إجراء القياسات الكمية الآنفة الذكر. ومن ثم، فإنني سأورد في هذه المقالة بضع طرق من شأنها تزويد مراقبي الطيور ببعض التقنيات الجديدة.

 

ومع أنني ابتكرت هذه الأساليب لتفحص طيور شواطئ كاليفورنيا، فإنها تقنيات عامة تماما؛ تساعدك على دراسة الطيور التي تعيش في غابة صغيرة قريبة منك. (وفي الحقيقة، إن أساليب مماثلة تصلح لدراسة أنواع كثيرة من المخلوقات الصغيرة الأخرى). ولدى مقارنة المراقبات التي أُجريت لأنواع عديدة، يغدو الهواة المعنيون بهذا الموضوع قادرين على الفصل بين الأنماط السلوكية التي نشأت حديثا وتلك التي برزت في وقت مبكر من التاريخ التطوري للطيور، والذي يرجع ربما إلى 100 مليون سنة خلت أو يزيد. [انظر في هذا العدد: «أصل الطيور وطيرانها»].

 

وكنقطة جيدة للبدء، يمكن دراسة الآثار التي تتركها الطيور على الأرض. وأفضل طريقة في تحديد الموقع النسبي لعلامات الطيور هذه هي استعمال شبكة يمكن حملها. ومع أن الشبكة تسهِّل إلى حد ما رسم تمثيل representationللموقع على ملاءة من الورق البياني ذي المربعات، فإنني أقترح استعمال آلة للتصوير عوضا عن الورق. فباستطاعتك جمع المعلومات بفعالية أكثر إذا استغللت وقتك المحدود في الحقل بتصوير المواقع المثيرة للاهتمام، ثم بتسجيل الملاحظات في مفكرة بعد تظهير (تحميض) الصور.

 

وتوخيًا للدقة، اقرأ موضع العلامات على صورك بتأنٍّ مستعملا مسطرة. لا تستعمل آلات التصوير التي تُسقط صورة لشبكتها الداخلية إسقاطا مباشرا على صورك، فلهذه الشبكة دوما الحجم نفسه على الفلم بصرف النظر عن بُعْد ما تصوره عنك، وهذا يجعل من الصعب مقارنة صور عديدة التقطت لموقع واحد من نقاط مختلفة تتمتع بمواقع متميزة.

 

إن شبكة للصيد مصنوعة من النايلون وذات فتحات بشكل المعين تعد مثالية لهذا الغرض، لأنك بشدها قليلا تستطيع جعل فتحاتها مربعة الشكل. وحجم المنطقة التي تقوم بمسحها هو الذي يحدد الحجم الأمثل لفتحات الشبكة. فإذا كنت تدرس مناطقَ مساحاتُها بضعة أمتار مربعة، فإنه يفي بالغرض شبكةٌ طول كل فتحة من فتحاتها خمسة سنتيمترات (إنشان تقريبا) وطولها الكلي نحو ثلاثة أمتار (قرابة تسع أقدام). رُشَّ الشبكة بدهانٍ رذاذي يمكن أن يَبرز لونُه على صورك. ثَبِّتْ في موقع حقلك إحدى زوايا الشبكة باستعمال وتِد خيمةٍ قديم. استعمل بعد ذلك زاوية معدنية أو خشبية قائمة لتأخذ فتحات الشبكة أشكال المربعات خلال تثبيت الزوايا الثلاث الأخرى للشبكة بالأوتاد.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N8-9_H04_008074.jpg

انتقالات سريعة للسلوك مسجَّلة على شريط ڤيديو تبين أن الكروانات الصغيرة المجتمعة في سرب تميل إلى ممارسة نشاطاتها المختلفة في آن واحد تقريبا.

 

ولما كنت أُجري قسما كبيرا من بحوثي على الشاطئ، فقد مررت بأوقات عصيبة حين كان الذين يمارسون رياضة الجري يركضون عبر المناطق التي أقوم بمسحها. وغالبا ما كانوا يطوفون في الموقع حتى خلال وقوفي فيه وإجرائي لقياساتي. وقد تخلصت من هذه المشكلة أخيرا بوضع حواجز على طول محيط الموقع، وذلك بالاستعانة بأربعة أعمدة غرزتُها رأسيا في زوايا الموقع، ثم لففت حولها شريطا تحذيريا باللونين الأصفر والأسود.

 

وحتى تجعل إحداثيات الشبكة واضحة، اخْتَرْ مجموعة من الأرقام من متجر الأدوات المعدنية المحلي، ولتكن هذه الأرقام من النوع المستعمل في تحديد عناوين المنازل. وستمكنك هذه اللوحات العددية من ترقيم المحورين الأفقي والرأسي على نحوٍ يظهر فيه الترقيم على صورك. ويعتمد الفصل بين هذه الأرقام على مساحة موقعك. ضعها قريبة من بعضها (بحيث يفصل بين كل رقميْن متجاورين منها اثنتان أو ثلاث، مثلاً، من فتحات الشبكة) حين يكون الموقع صغيرا وبعيدة عن بعضها (بحيث يكون عدد الفتحات الفاصلة في هذه الحالة خمسا أو أكثر) حين تكون مساحة منطقة المسح كبيرة نسبيا. ولا مانع من أن تضع على الإطار سهما والحرف N (اللذين يمكن أن يوجدا أيضا في متجر الأدوات المعدنية) للإشارة إلى الشمال المغنطيسي، ولهذا خذ معك بوصلة.

 

ومن الصعب أن نرى في الصورة بعض المعالم الدقيقة التي على الأرض مثل طبعات الأقدام أو حفر المناقير. وللتخلص من هذه الصعوبة، فإن فيشات(1) لعبة البوكر البلاستيكية الملونة تقدم حلا سهلا لهذه المشكلة. فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا أنك وجدت سبع حفر مناقير منفصلة في الرمل لكن قريبة جدا من بعضها، علِّمْ منطقة هذه الحفر بفيشة البوكر وضع عليها بوضوح الرقم 7 المكتوب باللون الأسود على ورقة لاصقة باستعمال قلم عريض الرأس. وإذ ذاك فإن صورة للموقع توثق موضع الفيشة على الشبكة وعددَ حفر الأكل في الموقع حتى ولو لم تكن الحفر نفسها مرئية. وفي الحقيقة، باستطاعتك أن تسجل بسهولة علامات مختلفة ـ حفر المناقير والرَّوْث وطبعات الأرجل ـ باستعمالك فيشات تختلف ألوانها من علامة إلى أخرى. وبدلا من ذلك، يمكنك صبغ حبل للغسيل بلونٍ زاهٍ واستعماله في رسم حدودٍ حول المعالم التي تريدها.

 

وإذا ما تطلبتْ منطقةٌ خاصة شرحا مفصلا، فمن الممكن أن تشير إحدى فيشات البوكر التي تحمل علامة فارقة (كالعلامة النجمية (*)، مثلا) إلى باب معين في مفكرتك الحقلية. هذا ويجب أن يتحقق انسجام في استعمالك للألوان التي تعتمدها لفيشات البوكر وحبل الغسيل. ولا يهمنا المخطط اللوني الذي تتبناه، لكن اعتمد تقليدا معينا وسجِّله بوضوح في مفكرتك.

 

ويبين الشكل في الصفحة المقابلة موقع أكل مجموعة مؤلفة من 22 كروانا صغيرا. ومخططات من هذا النمط توفر لهواة التاريخ الطبيعي فرصة لكشف النقاب عن تفاصيل رائعة تتعلق بهذه الطيور. وعلى سبيل المثال، أشارت ملاحظاتي إلى أن عدد الروث في وَحْدَة (واحدة) المساحة خارج منطقة أكل هذه الطيور أكبر كثيرا من عددها في منطقة تناولها طعامها. وتوحي هذه الظاهرة بأن الكروانات الصغيرة تعودت على عدم التبرّز في أمكنة تناولها لطعامها، وهذه استراتيجية لها فوائد واضحة. وعند معرفة عدد الطيور التي تناولت طعامها في هذا الموقع وطول المدة التي استغرقتها في هذه العملية، فإنه يغدو بإمكاننا تقدير متوسط عدد الرّوث الذي يخلِّفه أي طائر يتناول طعامه هنا في وَحْدة الزمن. وهذه النتيجة، وإن لم تكن من ألطف الأمور التي يمكن التفكير فيها، فإنها مؤشر بيولوجي أساسي إلى صحة أي سرب من الطيور.

 

هذا ويمكن تعرّف الآثار التي تخلفها الطيور في مواقع تناولها لطعامها بوساطة بضع صور فوتوغرافية. بيد أنه ما من شيء يضاهي الكامكوردرcamcorder لتسجيل تصرفات الحيوانات أثناء حدوثها. وعندئذ ستكون بحاجة إلى صندوق حامل واق، ورزمتين على الأقل من البطاريات القوية، ومنصب ثلاثي القوائم؛ كما أن وجود عدسة ذات تزويم zoom قوي قادر على جعلك قريبا جدا من هدفك من دون أن تتحرك نحوه هو عامل مساعد أيضا. لكن لا يُغْرينّك الحصول على لقطات عن قرب فقط. إن تصوير مناظر متسعة الزاوية wide-angle قد تسمح لك فيما بعد بملاحظة أنماط سلوكية لمجموعة من الطيور غَفِلْتَ عنها في الحقل.

 

ومنذ عهد قريب، وبعد أن أنعمت نظري في حقلٍ طوله بضع أقدام كان يضم سربا صغيرا من الكروانات الصغيرة التي كانت تتناول طعامها على الشاطئ، لاحظتُ أن هذه الطيور تتمتع بغريزة جماعية قوية جدا. فما إن بدأ أحد الطيور بتناول طعامه حتى شرع السرب كله بمشاركته تناول الطعام خلال 40 ثانية فقط. وبعد مضي عدة دقائق على ذلك، بدأ طائر آخر بالاستحمام في أمواج الشاطئ، وفي خلال أقل من دقيقة تحوَّلت جميع الطيور الأخرى من تناول الطعام إلى الاستحمام. وإثر ذلك، باشرت طيور السرب كلها تسوية ريشها بمناقيرها، ثم حكّ آذانها، وأخيرا تحريك رؤوسها. وهكذا ففي خلال ساعة واحدة مارس جميع أعضاء السرب، وفي آن واحد، ستة نشاطات مختلفة.

 

وبعد الحصول على شريط الڤيديو أصبحت رؤية ما كان يحدث سهلة وكأنها لعبة من لعب الأطفال. فالسرعة التي كانت تنتقل بها مجموعة الطيور من سلوك إلى آخر [انظر الرسم البياني في الصفحة 29] كانت مذهلة. تُرى، ما السبب الذي جعل هذه الطيور تتطور لتتصرف بهذه الطريقة؟ ما من أحد يمكنه الإجابة عن هذا السؤال، إلا أنه من المحتمل أن تساعد دراسة منسقة بين مراقبي الطيور الهواة على حلِّ هذا اللغز.

 

(1) chip: قرص رقيق يستخدم رمزًا لقيمة نقدية في البوكر. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى