أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الحيوان

كيف تصدر حشرات السيكادا أصواته


كيف تصدر حشرات السيكادا أصواتها(1)

إن أعلى الحشرات المعروفة أصواتا

هي ذكور السيكادا، وتمكِّنها من ذلك

آلية داخلية معقَّدة التركيب بدرجة مذهلة.

<C .H. بِينِّيت-كلارك>

 

في أماكن كثيرة من العالم يمكن أن يكون حلول الغسق في أمسيات الأواخر من فصل الربيع مجلبةً للصخب والضجيج. ففي مثل هذا الوقت من كل عام تنشق الأرض عن العديد من حشرات السيكادا(2) التي تعد ببضعة آلاف نوع ـ وتبدأ ذكورها بترديد أغاريدها الجَشّاء(3) التي تكاد تصم الآذان. ومن بين هذه الثلة من فناني مملكة الحشرات تتميز ذكور نوع واحد من حشرات السيكادا الأسترالية (هو سيكلوكيلا أسترالازيي Cyclochila australasiae بكونها صاحبة  أعلى صيحات نداء حشرية أمكن قياسها حتى الآن.

 

إن لهذا النوع من السيكادا صيحةً تماثل في قوتها intensity وجهارتها volumeصوت انطلاق جهاز تنبيه شخصي، فهي تنتقل بمعدل مئة ديسيبل decibel عبر مجال يبلغ المتر في مداه وبتردد قدره 4.3 كيلوهرتز(4). على أن هذه الذكور لا تطلق أغاريدها فرادى، بل إن كل ذكر يصاحبه غالبا فريق إنشاد (كَوْرَس) من عشرات وربما مئات الذكور غيره. وهكذا يكون أثر هذا «الإنشاد» الجماعي أشبه بصوت مجموعة من أجهزة التنبيه تملأ حجرة وتعمل في وقت واحد.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H04_007572.jpg

حشرة السيكادا الأسترالية (سيكلوكيلا أسترالازيي)، هي واحدة من بين ما يربو على مئة نوع أمكن العثور عليها بعد بحثٍ طويل. ولذكور هذه الحشرة أعلى صيحة نداء حشرية تم تسجيلها حتى الآن.

 

كيف تستطيع هذه المخلوقات ـ التي لا يزيد طول الواحد منها على ستة سنتيمترات ـ أن تصدر كل هذه الضوضاء المزعجة؟ لقد ظل هذا سرا إلى وقت قريب. وعلى الرغم مما يحظى به ظهور هذه الحشرات من اهتمام ـ حيث في الولايات المتحدة يكون ظهورها الدوري حَدَثًا تهتم به وسائل الإعلام ـ لم تُدرس بعد الجوانب الصوتية من بيولوجيتها جيدا. ففي عام 1954 قام الباحث <S .W .J. يرنجل> بنشر بحث مبدئي عن عملية إصدار الأصوات في حشرات السيكادا. ثم أعقبت ذلك فترة صمت نسبي عن الخوض في هذا المجال. ولكن في أثناء السنوات السبع الفائتة شرعتُ مع <D. يونگ> (من جامعة ملبورن) بتوجيه جل اهتمامنا إلى دراسة الجوانب الآلية والصوتية لهذه الحشرات. وباستعمال مسابر دقيقة مكبِّرة للصوت ـ قمتُ شخصيا بصنعها وتطويرها ـ تمكنّا من وصف بعض جوانب ذلك الجهاز العجيب الذي يُحدث الصوت في حشرة السيكادا الأسترالية (C. australasiae) هذه.

 

جهارة صوت غريبة

حشرات السيكادا هي من مجموعة البق الماص لعصارة النبات، وهي قريبة الصلة بحشرات «المَنّ» وقافزات الأوراق(5). وأصغر أنواع السيكادا لا يكاد طوله يبلغ نصف البوصة (نحو سنتيمتر واحد)، وأكبرها يبلغ طوله عشرة أضعاف هذا القدر. ولهذا تعتبر حشرات السيكادا ذات حجم كبير بالقياس إلى الحشرات التي تغتذي بعصارة النباتات، ناهيك عن كونها كثيرة الضوضاء. وتقوم إناثها بوضع بيضها داخل سوق النباتات أو في الأشجار، وبمجرد الخروج من البيض تتساقط اليرقات الصغيرة على الأرض وتدفن نفسها في التربة بحثا عن جذور نباتية تمتص عصارتها. وهي تبقى تحت التربة طوال عمرها اليرقي الذي يمكن أن يمتد سنوات كثيرة، قد تبلغ ثلاث عشرة وأطولها سبع عشرة سنة، وهي المدة التي تمضيها يرقات السيكادا الأمريكية الدورية(6). وعندما تخرج اليرقات من مكمنها تنسلخ وتتحول إلى أفراد بالغة مجنَّحة لا تمتد حياتها لأكثر من أسابيع قليلة، تظل الذكور في أثنائها تعبّر عن «مكنون قلوبها» بهذه «الأغاريد» لتجذب إليها الإناث للتزاوج. (وهي تستطيع أيضا أن تطلق نداءات أخرى مثل صيحات الاحتجاج وحتى صرير غزل هادئ.)

 

إن السبب في ارتفاع صيحات النداء التي تطلقها هذه الحشرات مازال غير مفهوم تماما. وأحد الاحتمالات هو أن علو الصوت «يشوش» على أسماع المفترسات فيصعب عليها تحديد مكان الحشرة المستهدفة فريسةً. أو ربما كان السبب هو أن حشرات السيكادا الأكبر حجما تحتل نطاقا استيطانيا أرحب، مما يجعل رفع الصوت في صيحات النداء ضروريا لإمكان توصيل هذه الصيحات إلى آذان الإناث التي قد تكون بعيدة الموقع؛ وإن كنا نعلم بالفعل أن إناث حشرات السيكادا ليست ضعيفة السمع، فهي تلتقط بوضوح كافٍ تلك الصيحات التي تقل حدتها إلى الحد الحرج، وهو يقع ما بين ثلاثين وأربعين ديسيبل. وفضلا عن ذلك، فليس من المستبعد أن تكون إناث السيكادا ـ مثل الجداجد(7) ـ قادرة على التمييز بين الذكور على أساس التباين في مفردات الأغرودة أو النداء كيفا وكمًّا.

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H04_007573.jpg

صوت مُجَسَّم

كيف «تُصدر» الذكور أصواتها القوية تلك؟ إن مفتاح هذا اللغز يكمن في دراسة جوانب آلية إنتاج الصوت كل على حدة. وأول الوسائل المستخدمة لإتمام هذه العملية يتمثل في مِعْزَفَيْن tymbals مُقَبَّبَيْن، كليهما عضو مرن رنّان شبيه بالطبلة على جانب السطح السفلي من مقدمة منطقة البطن. ولكل معزف صف من أربع أضلاع محدبة (تشبه الأوتار) تمتد طوليا على سطحه من أعلى إلى أسفل. وهذه الأضلاع يتصل بعضها ببعض وكذلك بقرص بيضي الشكل في مؤخرة المعزف اتصالا يسمح بالانثناء.

 

ويتصل بكلا القرصين البيضيين عضلة كبيرة متينة يسبب تقبضها تغييرا في درجة تحدب المعزف، وينتج منه نشوء نبضة صوتية. ومن حيث إن هاتين العضلتين تتقبضان بالتناوب وبقوة توازي مئة وعشرين «هرتز» لكل منهما، لذلك فإن قوة تردد الأغرودة التي يصدرها المعزفان تساوي مئتين وأربعين هرتز.

 

وبسبب السرعة والقوة اللتين تتوالى بهما تقبضات العضلتين، فإنه في أثناء الملّي ثانيات(8) الثلاث الأولى بعد كل عملية تقبّض تتولد طاقة لإحداث انبعاج ضلعين أو ثلاث في كل معزف على التوالي؛ وينتج من ذلك تحرك القرص البيضي إلى الداخل مرتين أو ثلاث بالتتابع نفسه. ويكون انطلاق طاقة المرونة المختزنة في أثناء هذه الحركات المتتابعة سببا في إحداث «طقطقة» قصيرة عالية عند انبعاج كل ضلع على حدة. ومن هذه السلسلة من الطقطقات تتكون سلسلة من الاهتزازات المتتابعة ـ تتابع عربات القطار ـ بتردد قدره أربعة كيلوهرتز وثلاثة أعشار الكيلوهرتز، وهو تردد أغرودة حشرة السيكادا.

 

إن كل طقطقة من كل ضلع في كل معزف تولِّد في تجويف بطن الحشرة ضغوطا صوتية يصل ارتفاعها إلى ما يعادل 158 ديسيبل (وهذا الضغط مكافئ لما يتولد من انفجار عبوة ناسفة على بعد متر واحد). وفي معظم أنواع السيكادا يوجد كيس هوائي يشغل الجانب الأكبر من التجويف البطني، وفي النوع الأسترالي الذي نتحدث عنه يُقَدَّر حجم هذا الكيس بنحو 1.8 ملّيمتر مكعب، أي إنه يشغل نحو 70% من التجويف البطني: وعلى جانبي منطقة البطن طبلتا أذنين رقيقتان تمتدان عبر السطح السفلي لمقدمة البطن بالكامل، وتعملان كنافذتين صوتيتين تصلان الكيس الهوائي بالعالم الخارجي.

 

ومن النبضات الصوتية ذات الضغط العالي والتي يولدها المِعْزَفان وأضلاعهما يتولد في الكيس الهوائي صدى صوتي تجاوبي، وبما أن طبلتي الأذنين أكبر حجما من المعزفين فإنهما يبثان الصوت خارج جسم الحشرة بفاعلية مع تكبيره عشرين ضعف الصوت الصادر عن المعزفين الضئيلين، وبهذا تتمكن الحشرة من بث ندائها على نطاق أبعد بكثير مما كان مقدرا في غياب هاتين الطبلتين.

 

ومن الغريب أن هذا الصوت الذي تبلغ حدته 158 ديسيبل لا يتسبب في انفجار أذنيْ الذكر وجعلهما حطاما. صحيح إن بث الصوت يتم عبر طبلتيْ الأذنين؛ غير أن الجزء الحساس للصوت مدفون في محفظة منفصلة، وإن كانت متصلة بطبلة الأذن عن طريق قناة صغيرة. وهذا الانفصال يحمي الذكور من الصمم، ولكننا لسنا على يقين من ذلك.

 

التوزيع الأُرْكِسْترالي للأغرودة

على أن البطن وطبلة الأذن(9) لا يقتصر عملهما على مجرد بثّ الصوت إلى العالم الخارجي؛ بل إنهما أيضا يعملان على تشكيل نوعية أغرودة التزاوج التي هي أهم شيء بالنسبة إلى الحشرة. فعن طريق تمديد منطقة البطن وفتح وِصادي (غطاءي) opercula الطبلتين يمكن للحشرة أن تضبط نغمة الرنين على نفس مستوى تردد النبضات الصوتية الصادرة عن المعْزفين وقدره 4.33 كيلوهرتز، ومن ثم فإن التراكيب البطنية يمكنها أن تزيد من درجة نقاء الأغرودة أو من ارتفاعها. وعلى حدّ التعبير المستعمل في علم المصطلحات الموسيقية، فإن التراكيب البطنية تولِّد حِملا صوتيا رنانا resonant acoustic load بالنسبة إلى المعْزفيْن، أي إنها تتولى تصحيح جهاز الصوت والعمل على ضبطه وتوازنه.

 

ويبدو أن هناك آلية مماثلة في أنواع أخرى كثيرة من حشرات السيكادا، وكذلك فقد تم وصف أجهزة مماثلة لإنتاج الصوت في حشرات أخرى عالية الصوت. ومع ذلك فإن ذكور هذا النوع من السيكادا الأسترالية مازالت ـ فيما نعلم ـ هي الأكثر ضجيجا، وهذا هو ما يعلمه جيدا المقيمون في سيدني وملبورن. ▪

 

 المؤلف

Henry C. Bennet-Clark

محاضر في علم الحيوانات اللافقارية بجامعة أكسفورد، ويقوم حاليا بتدريس علم الصوتيات البيولوجية bio-acoustis والميكانيكا البيولوجية لدى الحشرات، ويهتم ـ على سبيل المثال ـ بالطريقة التي تقفز بها الحشرات والخصائص الميكانيكية للمواد الهيكلية في أجسامها. ولقد قاده اشتغاله بدراسة ذباب الفاكهة إلى صنع ميكروفون قادر على تسجيل ما تصدره تلك المخلوقات الضئيلة من أغاريد حُبٍّ تساويها في الضآلة. وعلى مدى الأعوام السبعة الفائتة عمل المؤلف مع <D. يونگ>، المحاضر في قسم علم الحيوان بجامعة ملبورن والذي ظل يعمل في مجال بيولوجيا حشرات السيكادا مدة عشرين عاما.

 

مراجع للاستزادة 

A MODEL OF THE MECHANISM OF SOUND PRODUCTION IN CICADAS. H. C. Bennet-Clark and D. Young in Journal of Experimental Biology, Vol. 173, pages 123-153; 1992.

THE ROLE OF THE TYMBAL IN CICADA SOUND PRODUCTION. D. Young and H. C. Bennet-Clark in Journal of Experimental Biology, Vol. 198, pages 1001-1019; 1995.

Scientific American, May 1998

 

(1) How Cicadas Make Their Noise.

(2) cicada، الزّيز (زيز الحصاد): جنس حشرات من فصيلة الزيزيّات ورتبة نصفيات الأجنحة، وسميت كذلك لأنها تُصدر صوتا صرصريا وكأنها تقول «زيز».

(3) الجش: الخشن.

(4) «الهرتز» وحدة لقياس التردد تُعَبِّر عن «سايكل» واحدة في الثانية، وتبعا لذلك فإن «الكيلوهرتز» الواحد يعني ترددا قدره ألف سايكل في الثانية.

(5) leaf hoppers؛ من نفس رُتَيْبَة المن، ولكنها تتبع الفصيلة الجاسيدية Jassidae.

(6) american periodic cicadas، نوع من السيكادا مشهور في أمريكا الشمالية واسمه العلمي Magicicada septendecim.

(7) crickets من فصيلة Gryllidae التي تنتمي مع الجراديّات إلى رتبة واحدة.

(8) واحدتها مِلّي ثانية millisecond وهي وحدة زمنية تعادل جزءا من ألف جزء من الثانية.

(9) من الجهتين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى