أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم الطبيعيةعلم الحيوان

كيف تختار الإناث رفاقها


كيف تختار الإناث رفاقها(1)

تفضل الإناث دائما أن تتزاوج بأكثر الذكور تزويقا ـ وقد

يعتمد اختيارها على تفاعل معقَّد بين الغريزة والتقليد.

<A .L. دوگاتكن> ـ <J .G-J. گودن>

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H01_007555.jpg

إن أنثى سمك الگوپي الترينيدادية هي التي تقوم بالانتقاء عندما يحين الوقت لتخير الرفيق. وعلى وجه العموم تفضل إناث الگوپي الذكورَ الأبهى أو الأكثر برتقالية في اللون (أعلى اليمين). ومع ذلك فحتى سمك الگوپي يكون معرضا للضغط الاجتماعي. فمثلا، إذا تراءى لإحدى الإناث الأكبر سنا أن تُعْجب بذكر گاپي اللون، فقد تتجاهل أنثى صغيرة السن غريزتها وتتخير تقليد رفيقها الأكبر سنا في انتقائها (أسفل اليسار).

 

تصور رجلا جذابا يستهوي السيدات؛ ستقفز إلى ذهنك شخصية لا تختلف عن <جيمس بوند>، فهو ذكي ووجيه وجسور، يخطف الأبصار ـ إنها صفات تكاد تستهوي الجنس الآخر على وجه العموم. فإذا أضَفت إلى ذلك سيارة رياضية قوية، سيتوافر لديك مزيج لا يمكن مقاومته.

 

وتهافت الإناث على أكثر الذكور تباهيا وزُهوّا ليس ظاهرة مقصورة على الإنسان. ففي كثير من الأنواع، تكون الذكور الموفقة ـ أي تلك التي تكون آباء معظم النسل ـ هي في الغالب الأكبر حجما أو ذات الألوان الأكثر بهاءً أو الأكثر قدرة على «لفت الأنظار» والتميز باستعراضات الغزل المفعمة بالحيوية والقوة.

 

ويغلب أن تكون الإناث هي الجنس الأكثر تدقيقا عند اختيار الرفيق، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الذكور يمكنها إنتاج الملايين من الحيوانات المنوية، في حين أن بيض الإناث قليل ويوضع على فترات متباعدة. لذلك قد تكون الإناث أكثر انتقائية؛ لأنها أسهمت باستثمارٍ أكبر في كل مشيج (گاميت) وفي النسل الناتج منه. ولأن توافر البيض عامل محدِّد في النجاح التناسلي، لذا يغلب أن تكون الذكور هي التي تتنافس على جذب انتباه الإناث، لا العكس.

 

لقد كان <تشارلز دارون> أول من اقترح أن المنافسة من أجل الرفقاء تسهم بدور مهم في النجاح التناسلي ـ وهي سيرورة أطلق عليها اسم الانتقاء (الانتخاب) الجنسي sexual selection. وفي مؤلَّفه «أصل الإنسان، والانتقاء وعلاقته بالجنس» The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex المنشور عام 1871، افترض دارون أن أي صفة تُكسب الذَّكَر مزايا تزاوجية وإخصابية سوف تتطور في العشيرة population؛ لأن الذكور التي تحمل هذه الصفات ستنتج نسلاً أكثر من نسل منافسيها. فإذا فرضنا أن هذه الصفة يمكن توريثها، فإن النسل المعبِّر عن الصفة المفيدة سيحصل بدوره على نجاح تناسلي أكبر من منافسيه، وهكذا على مرِّ الأجيال التالية. علاوة على ذلك، افترض دارون أن بعضا من هذه الصفات ربما يكون قد تطور لأنه يجذب انتباه الإناث.

 

والفكرة القائلة بأن الإناث لها قدرة على التمييز وفي إمكانها التخير الفعّال للذي تتزاوج معه، كانت أمرا مثيرا للجدل منذ البداية. وربما يُعزى ذلك لأن معارك الذكور مع الذكور قد تكون مشاهد مثيرة تماما. فأحيانا تتقابل الذكور في معارك مأساوية حتى الموت، لتفوز بامتياز التزاوج بالإناث. وبالمقارنة، يكون تخير الإناث للذكور عادة أكثر رقة ولطفا إلى حد بعيد.

 

العثور على الزوج المناسب

وخلال الـ 25 عاما الأخيرة، تضافرت لدينا مجموعة كبيرة من الأدلة العلمية التي تؤيد تخير الأنثى. فالإناث تتخير رفاقها تخيُّرا فعَّالا في مجموعة كبيرة ومتباينة من الأنواع ـ وعلى وجه الخصوص تلك الأنواع التي تكون فيها الذكور أقل عدوانية وتستعرض اختلافات فردية في الصفات الجنسية الثانوية، مثل ريش الطيور المزخرف أو الاستعراضات الغزلية. ومع ذلك، كيف ولماذا تتخير الإناث شركاءها، وكيف نشأ التفاضل التزاوجي، كل تلك الأمور تظل مثيرة للجدل الساخن بين علماء البيولوجيا التطورية.

 

وتواجه أنثى مدققِّة في الاختيار مهمتين عامتين عند تخيرها رفيقها. ففي البداية ينبغي أن تبحث عن ذكَرٍ وتحدد موقعه. ويمكن أن تكون هذه المهمة صعبة إذا كانت العشيرة (المجموعة) متفرقة قليلة العدد، أو إذا منعها خطر المفترسات من بذل كثير من الوقت للبحث عن رفيق مناسب. وبمجرد أن تعثر الأنثى على ذكر، ينبغي أن تقرر بعد ذلك ما إذا كانت تقبل هذا الذكر رفيقًا لها أو ترفضه. ويحتاج اتخاذ هذا القرار دائما إلى بعض البحث والتجول. ففي نُظم تزاوجية معينة، قد تقابل الإناث مجموعة من الذكور المتاحة، حيث يمكنها المفاضلة بينها في الموقع نفسه. فمثلا، في باكورة الربيع تتجمع ذكور طائر حَجَل السيج(2) sage grouse (سِنْتروسيرْكس يوروفازايانوس Centrocercusurophasianus) جنبا إلى جنب في «حلبات جماعية موقّتة للتزاوج» يطلق عليها اسم الليكات leks، حيث تتهادى وتتبختر لعرض مفاتنها على الإناث. وعلى نحو نموذجي تراقب الأنثى استعراضات عديد من الذكور، ومن الواضح أنها تقارن بينها قبل أن تتزاوج بخاطب محظوظ بعينه. ثم تترك الأنثى «الليكَ» بعد ذلك لكي تبني عشها وتربي صغارها في مكان آخر. ومن بين الرفقاء المحتملين المتجمعين في الليك، يحظى عدد قليل من الذكور المفضلة بمعظم انتباه الإناث.

 

ولكن الذكور ليست معروضة دائما على نحو مريح مثل قطع الشيكولاتة المرصوصة في صندوق عينات sampler box. فالأشيع أن الإناث تقابل الذكور واحدا في كل مرة. وفي هذه الحالة تكون المقارنة بين الذكور مهمة من المفترض أن تكون أكثر تحديا للإدراك، حيث إنها تتضمن تذكر فرد لم يعد مشاهَدا. وقد بينت دراسات أنه يمكن للأنثى أن تصنِّف صفات الذكور التي تُعرض عليها على التعاقب. فقد وجد <M .C .Th. باكَّر> و <M. ميلنسكي> (من جامعة بِرْن بسويسرا) أن إناث السمكة ذات الأشواك الظهرية الثلاث three-spined sticklebacks(گاستروأوستيوس أكيولياتوس Gasterosteus aculeatus) تكيف اختيارها لرفاقها مع الجاذبية النسبية للذكر الحالي وتلك التي سبق أن التقتْها. والإناث أميل إلى أن تبدي اهتمامها بذكرٍ ما، إذا كان لونه الزفافي nuptial الأحمر أكثر توهجا من الذكر السابق، والأرجح أنها سوف ترفض خاطبا لونه أقل تألقا وزهوّا من الذكر الذي سبقه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H01_007556.jpg

تعاين ذكورُ سمك الگوپي المفترساتِ وتراقب إناثُ الگوپي الذكور. فعندما يقترب أحد المفترسات ـ مثل هذا الشَّبَّوط المبين بالصورة ـ من سرب من سمك الگوپي، كثيرا ما يسبح زوج من الذكور ليعاين التهديد المحتمل. وقد يكون هذا السلوك الجسور مثيرا لانتباه الإناث، التي تميل لتخير رفيقها من بين خاطبيها؛ الذكر الذي يقترب من المفترس أكثر من سواه (في اليسار). ومع أن أكثر الذكور جرأة وشجاعة يكون عادة هو أزهاها لونا، ستتخير الإناث منافسا أقل زهوّا، إذا أبدى أنه أشجع من شريكه المعاين الآخر (في اليمين). وفي المختبر (المعمل) تسمح أوعية مصممة طبقا لمواصفات معينة من الباحثين بتحديد موقع الذكور.

 

وسواء أكانت إحدى الإناث تتخير رفيقها من بين عشرة من طيور حَجَل السيج الراقصة أم من بين زوج من الأسماك القرمزية، فإنها عموما تنتقي أكثر الأفراد المتنافسة لفتا للانتباه. وتوضح الأدلة التجريبية (الإمبريقية) أن الإناث تفضل عادة الصفات الذكرية التي تكون أشد إثارة لحواسها. [وحديثا استعرض هذا الدليل <M. أندرسون> (من جامعة گوتبرگ بالسويد) و<J .M. رايان> (من جامعة تكساس بأوستن) و <C .A. كيدي-هيكتور> (من كلية أوستن الاجتماعية).] فمثلا، عندما يكون التخير متاحا، تنجذب ضفادع الشجر الخضراء green tree frogs(هيلا سنيريا Hyla cinerea) انتقائيا نحو الذكور التي تَنِقّ بصوت أعلى وأكثر تكرارا؛ وكذلك إناث أسماك الگوپي guppies (پوسيليا ركتيولاتا Poecilia reticulata) تنجذب إلى الذكور الأكثر بريقا والأزهى ألوانا؛ أما إناث البط الخضاري mallards(أناس بلاتيرنكوس Anas platyrhynchos) فإنها تنجذب إلى الذكور التي تغازل مرَّات أكثر. وبسبب هذه التفضيلات طورت الذكور بطريقة مثالية صفات ثانوية جنسية مُبالغا فيها لتجذب الجنس الآخر.

 

لماذا التدقيق في الاختيار؟

ولكن على الرغم من أن الأدلة تشير إلى أن الإناث تتخير رفقاءها تخيُّرا فعَّالا، يظل تساؤلنا «لماذا تفاضل الإناث بدلا من التزاوج العشوائي» مستعصيا على الحل إلى حد بعيد. كيف نشأ تخير الإناث في الأصل وتطور؟ وما مكاسبه وتكاليفه بالنسبة إلى الأنثى الواحدة؟

قد تُفَضل الإناث أحيانا التزاوج بذكَرٍ يتميز بصوته المرتفع أو بألوانه الزاهية؛ لأنه ببساطة يمكن تحديد موقعه بسهولة. ومن ثم فتقليل الوقت الذي تستغرقه الأنثى في البحث عن رفيق قد يقلل الأخطار التي توقعها صريعة بين براثن أعدائها. ومع ذلك من المحتمل أن يكون تخير الرفيق أكثر تعقيدا. ففي العديد من الطيور والثدييات يبدو أن الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي يفضل الإناث التي تتخير رفاقها التي تمدها ببعض المكاسب المباشرة التي تزيد من نتاجها وبقائها أو بقاء نسلها على قيد الحياة. وقد تشمل مثل هذه المكاسب الطعامَ ومأوى آمنًا أو حتى توقعات أقل للإصابة بالطفيليات.

 

ففي دراسة استغرقت مدة طويلة على طائر السُّنونو الريفي (الخُطَّاف) barnswallow (هيروندو روستيكا Hirundo rustica)، لاحظ <P .A. مولر> (من المركز CNRSبباريس) أن الإناث تفضل التزاوج بذكور ذات ذيول طويلة الريش. وقد ثبت في النهاية أن الذكور ذات الذيول الطويلة تكون مصابة بعدد من الحلم mites الماصِّ للدماء أقل من تلك التي تصيب نظراءها قصار الذيول. ولأن هذه الطفيليات يمكنها القفز من طائر إلى آخر، تستفيد الإناث التي تتزاوج بذكور ذات ذيول طويلة في تجنب الخمج (العدوى) وفي إنتاج عدد كبير من الأفراخ الصحيحة (المعافاة)، أكثر من الإناث التي تتزاوج بذكور قصيرة الذيل. ومن سوء الحظ، أن الوضوح التام في عملية تخير الرفيق الذي يقدم مكاسب مباشرة، قلل من عدد الدراسات الحاسمة والدقيقة التي اختبرت هذا النمط التطوري.

 

وعندما لا تقدم الذكور أي مكاسب واضحة مثل الطعام أو الحماية، فقد تفضل الإناث أن تتزاوج بالذكور التي تبدو أنها حائزة أفضل الجينات (المورثات). ولكن كيف يمكنها أن تعرف أي الذكور يحوز الجينات الجيدة؟ وكذلك، لماذا لا تغش الذكور بمجرد تزييف الصفات المصاحبة لمثل تلك الجينات؟ في عام 1975 اقترح <A. زاڤي> أن الإناث لا تُقَيِّم إلا تلك الصفات التي تكون دلائل صادقة على حيوية الذكور ولياقتها ـ وهو فرض يُعرف باسم قاعدة التعويق handicap principle. إن المؤشرات الصادقة و«المُكْلِفة» في إنتاجها والحفاظ عليها، لا بدَّ أن تكون مصاحبة لأكثر الذكور حيوية ونشاطا.

 

وبينما كنا نقوم بدراسة السلوك المضاد للمفترسات antipredator behavior في سمك الگوپي الترييندادي Trindidian guppies، حصلنا حديثا على بعض الأدلة التي تتفق وقاعدة التعويق. فعند اقتراب سمكة مفترسة من أحد أسراب سمك الگوپي، تدنو الذكور ـ التي تكون عادة أزواجا ـ بحذر من الخطر المحتمل لمعاينته. إن مثل هذا السلوك المحفوف بالأخطار قد شُوهد في كثير من الأنواع، وقد اقترح علماء الإيكولوجيا السلوكية behavioral ecologists أن الذكور الجسورة قد تسبح بالقرب من أحد المفترسات لتعلن عن حيويتها ولياقتها للإناث التي تكون على مقربة منها. بل إن الدراسات المختبرية (المعملية) قد بينت في الحقيقة أنه في حالة غياب الإناث، لا يؤدي أي من الذكور دور البطل بالاقتراب من المفترسات أكثر من نظرائه الآخرين.

 

وقد افترضنا أن الجرأة التي استُعْرِضت خلال معاينة المفترسات قد تكون جاذبة للإناث، لأنها لا بدَّ أن تكون مؤشرا إلى اللياقة والحيوية اللتين يُعتمد عليهما. فسمك الگوپي الأقل حيوية والذي يحاول أن «يزيِّف» المقدرة على معاينة المفترسات من الأرجح أن يُؤكل. وباستخدام حاويات مصممة طبقا لمواصفات معينة تسمح لنا بتحديد مواقع الذكور عند مسافات مختلفة من إحدى الأسماك المفترسة، وجدنا أن الإناث قد فضَّلت فعلا الذكور الأكثر جرأة وجسارة. ويبدو أن هذه الشجاعة مرتبطة باللون: فالذكور التي تسبح أقرب من المفترس هي عادة أكثرها غنى بالألوان. وهكذا، فإنه في الطبيعة قد تكون الإناث طوَّرت تفضيلا لأكثر الذكور زهوّا في ألوانها الفاقعة، لأن اللون علامة بديلة للجرأة واللياقة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H01_007557.jpg

قد يشكل «الانتقاء (الانتخاب) الخاطف» عمليات تفضيل الرفيق في الذباب ذي العيون ذات السيقان. فعادة تفضل إناث هذا النوع التزاوج بذكور لها أطول السيقان (أوسط الصف العلوي). ولكن عندما استخدم الباحثون تقنية الاستيلاد (التربية) الانتقائي لإنتاج سلالتين من الذباب ـ في إحداهما للذكور عيون ذات سيقان طويلة (في اليسار)، وفي الأخرى للذكور عيون ذات سيقان قصيرة (في اليمين) ـ وجدوا أن تفضيلات الأنثى قد تطورت مصاحبة طول الساق في عين الذكر. فقد انحازت الإناث من سلالة السيقان الطويلة إلى الذكور ذات السيقان الأطول (يسار الصف الأسفل)، وفضلت الإناث من السلالة ذات السيقان القصيرة ذكورا ذات سيقان أقصر (يمين الصف الأسفل).

 

وبمجرد أن تعبِّر الإناث عن تفضيلها صفةً معينة، يمكن أن تحدث سيرورة تدعى الانتقاء (الانتخاب) الخاطف runaway selection. وهذا النمط، الذي اجتذب إلى دراسته لأول مرة عام 1958 عالم البيولوجيا السلوكية <R. فيشر>، يفترض أن صفة معينة بالذكر وتفضيل الأنثى إياها قد تطورا معا. فمثلا، الإناث التي تفضل التزاوج بذكور كبيرة الحجم، سوف تنتج ذكورا كبيرة الحجم، وكذلك إناثا تبدي تفضيلا للذكور الكبيرة الحجم. ويمكن لهذه السيرورة ـ تحت ظروف معينة ـ أن تتصاعد، مما يؤدي إلى إنتاج صفات ذكرية متزايدة مبالغ فيها وتفضيل أقوى للإناث لهذه الصفات.

 

لقد وجد عدد من علماء البيولوجيا السلوكية بعض الأدلة على التطور المشترك الخاطف runaway coevolution للونِ الجسم البرتقالي في ذكر سمك الگوپي وتفضيل الأنثى هذه الصفة الذكرية. ولكن ثمة مثالا للانتقاء الخاطف أكثر إقناعا قدَّمه حديثا <G. ويلكنسون> و <P. رِيلُّو> (من جامعة ماريلاند) في دراستهما للذبابة المُسوَّقة العين stalk-eyed fly (كَرَيْتودَيُوپسِس دالمانِّيCrytodiopsis dalmanni). ففي هذا النوع تفضل الإناث التزاوج بذكور ذات عينين متباعدتين. وباستخدام الاستيلاد (التربية) الانتقائي للذباب لنحو 13 جيلا تمكَّن ويلكنسون وريلّو من إنتاج سلالة من الذباب لذكورها عيون ذات سيقان كبيرة وسلالة أخرى لذكورها عيون ذات سيقان صغيرة. وقد وجد الباحثان أن الإناث في كل سلالة تفضل صفة الذكر المنتقاة في تلك السلالة ـ أي إن الإناث التي تنتمي إلى السلالة ذات السيقان الكبيرة فضلت الذكور ذات السيقان الأكبر، أما الإناث من السلالة ذات السيقان الصغيرة فقد فضلت ذكورا ذات سيقان أصغر. ومن ثم يكون تفضيل الأنثى قد تطوَّر مصاحبا لصفة  الذكر المنتقاة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H01_007558.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H01_007559.jpg
http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N12_H01_007560.jpg
يتخذ الانتقاء (الانتخاب) الجنسي أساليب عديدة. فخلال موسم التزاوج، يتحدى ذكر الأُيَّل الأمريكي منافسيه بالقتال ليحوز على الإناث المتاحة. وأيضا تقاتل ذكور الكنگر للحصول على رفيقاتها. ولكن في الأنواع التي يكون فيها تفضيل الأنثى هو الأسلوب الرئيسي للانتقاء الجنسي، طورت الذكور صفات جسورة مصممة لجذب انتباه الإناث. فقد تستعرض ذكور الطواويس ألوانها الخلابة مع إفراط شديد في العناية بأناقتها. أما ذكور البشر فهم يستخدمون استراتيجيات قد تكون أقل انكشافا.

 

كيف نشأ في الأصل التفضيل في تخيّر الرفيق؟ في بعض الحالات يكون لبعض الإناث محاباة حسية سابقة الوجود نحو صفة معينة، ليس لأنها تمثل شيئا ما ولكن لأنها تجذب الانتباه ـ وهو فرض أيده بشدة وبشكل جلي رايان و<J.  إندلر> (من جامعة چيمس كوك بأستراليا). فمثلا، تفضل إناث السمك السيفي الذنب(3) swordtails (زيفوفورس هيلِّيري Xiphophorus helleri) ذكورا لها «سيوف» طويلة على زعانفها الذيلية. وعلى الرغم من أن ذكور نوع وثيق القرابة به ـ وهو سمك الخيفان(2) platyfish (زيفوفورس ماكيولاتوس Xiphophorusmaculatus) ـ تخلو من السيوف تماما، وجدت <L .A.  باسولو> (من جامعة نبراسكا) أنه عندما ألصقت سيوفا بلاستيكية صنعية بتلك الذكور الخالية من السيوف طبيعيا، أظهرت إناث سمك الخَيْفان تفضيلا سريعا وقويا وثابتا للذكور ذات السيوف المزيفة. وبمعنى آخر، كان لدى إناث سمك الخيفان محاباة سابقة الوجود للسيوف الطويلة، مع أن السيوف لا تبين شيئا يتعلق بحيوية ذكور سمك الخيفان ولياقتها.

 

وقد تعمل هذه الأنماط التطورية منفصلة أو مترافقة، ومن الصعب جدا أن نفككها تجريبيا. فمثلا، قد تحابي إناث سمك الگوپي الذكورَ البرتقالية اللون؛ لأن الألوان الفاقعة علامة على الجرأة والصحة الجيدة (فمن المحتمل أن الذكور ذات الصبغ الأبهى تتغذى جيدا). ولكن ربما كان التفضيل قد نشأ أصلا لأن الإناث أكثر تناغما مع ألوان ذات طول موجة معينة، ثم بعد ذلك تطورت من خلال آلية خاطفة.

 

وتفترض كل هذه الأنماط أن انتقائية الإناث محددة جينيا (وراثيا). ومع ذلك أوضحت دراسات حديثة أن عوامل اجتماعية، كالتقليد، قد تؤثر أيضا في تخير الرفيق.

 

طيور وأسماك مُقَلِّدَة

بعض الشباب يفوزون بجميع البنات. فمثلا، في «ليك» lek مكتظ بطيور الحَجَل يحظى الذكر الفائق بنحو ثمانين في المئة من كل فرص التزاوج. فهل هو ـ ببساطة لا يُقاوَم، أم هل تأخذ الإناث انتقاء الأخريات في الاعتبار عند تخير الرفيق؟ في أوائل التسعينات بدأت مجموعة من الباحثين الاسكندنافيين بإشراف <J. هوگلاند> و <A. ليندبرج> (من جامعة أوپسالا) و <R. ألاتالو> (من جامعة جيفا سكيلا) بإجراء دراسة تفصيلية عن تقليد تخير الرفيق في طائر الحَجَل الأسود black grouse (تتراو تتركس Tetrao tetrix) باستخدام دُمى محشوة لتمثل الإناث الراغبة. وأوضح الباحثون أن أنثى الحَجَل قد تزاوجت انتقائيا بالذكر الذي بدا أن لديه إناثا أخريات في منطقة نفوذه.

 

ماذا تريد الإناث

صفة ذكرية تفضيل الإناث النوع
النداء (أغنية) كثافة أكبر

تردد أعلى

فترة أطول

تعقيد أكثر

ذخيرة أوسع من الأغاريد

طائر كافي الغياض

تودة (ضفدع) أمريكية

ضفدع الشجر الأخضر

ضفدع التانگارا

عصفور مغرد

استعراضات غَزَلية تردد أعلى حجل السِّج
حجم الجسم حجم أكبر سمك البلطي
الذيل ذيل أطول

ارتفاع أكبر للذيل

عدد أكبر من «البقع العينية»

الخُطَاف

النيوت ذو العرف

الطاووس

المشط مشط أكبر طائر الأدغال الأحمر
تعريشة (للعش) تعريشة أكثر تزويقا طائر التعريشة الصقيلي
شريط الصدر شريط أكبر حجما طائر القُرُقُف الكبير
لون الجسم ألوان أكثر زهوّا

مساحة أكبر من

اللون البرتقالي

عصفور (حَسَّون) الدور

سمك الگوپي

 

لماذا التقليد؟ من المحتمل أن التقليد يعلِّم الإناث ما الذي ينبغي أن تتطلع إليه في الذكر. ففي مجموعة كبيرة من التجارب على تقليد تخير الرفيق في سمك الگوپي، حددنا أن الإناث الصغيرة من المحتمل جدا أن تقلد الإناث الأكبر والأكثر خبرة في تخير الرفيق وليس العكس، إضافة إلى احتمال أن يوفر التقليدُ الوقت. والاعتماد على حكم الأخريات قد يسمح لإحدى الإناث أن تتخير بسرعة وكفاءة رفيقا محتملا، وهذا يترك لها وقتا أكثر للبحث عن الطعام أو الاختباء من المفترسات.

 

وثمة سؤال مثير يبرز عن الأنواع التي تقلد فيها الإناث: إلى أي مدى يعتمد تخير الأنثى رفيقَها على الغريزة وإلى أي مدى يعتمد على التقليد؟ لفصل الإسهامات النسبية للعوامل الجينية (الوراثية) والاجتماعية الداخلة في تخيّر الرفيق لدى سمك الگوپي الذي يعيش في نهر پارْيا بترينيداد، أجرى أحدنا (دوگاتكِن) تجربة للمعايرة titration  السلوكية. في البداية سَمَح لإحدى إناث الگوپي أن تُفاضِلَ بين ذكرين يكون الاختلاف فيما بينهما في كمية(4) اللون البرتقالي الذي يكسو جسميهما. وكما هو متوقع، تخيرت الإناث في جميع الأحوال ـ من الناحية العملية ـ أشد الذكرين المعروضين تلونا بالبرتقالي. ثم أعدَّ الباحث مسرحا يسمح بالتقليد، حيث هيأ للأنثى المراد اختبارها فرصة مراقبة أنثى أخرى يبدو وكأنها تتخير ذكرا أقل برتقالية رفيقا مفترَضا لها.

 

فأي الذكريْن تتخير عندئذ لنفسها؟ تذكّر أن استعدادها الجيني (الوراثي) يشدها نحو الذكر الأكثر برتقالية، في حين أن الدالاّت الاجتماعية وإمكانية التقليد تجذبها بقوة نحو الذكر الأفضل لونا. في النهاية اعتمد تخيرها على مقدار اختلاف الذكور في ألوانها. فعندما تختلف أزواج الذكور في كمية اللون البرتقالي بدرجات قليلة (12 في المئة) أو متوسطة (25 في المئة)، كانت الأنثى تختار على الدوام الذكر الأقل تلوُّنا بالبرتقالي من بين الذكرين. وفي هذه الحالة تكون الأنثى قد انساقت وراء ضغط النظير peer pressure. فقد طغى استعدادها للتقليد على تخيرها الجيني للذكور البرتقالية اللون. ومع ذلك، إذا اختلف الذكران بمقدار أكبر (40 في المئة) من اللون البرتقالي، تجاهلت الأنثى النصيحة مبدية السوء وتخيرت الذكر الأكثر برتقالية، وبذلك يكون استعدادها الجيني قد حجب أي آثار للتقليد.

 

ويبدو أن هناك عتبة لونية color threshold في سمك الگوپي، تحتها توجِّه الدالات الاجتماعية تخير الأنثى للرفيق، أما فوقها فتسود العوامل الجينية. ويقوم دوگاتكن بإجراء تجارب لاحقة ليبين ما إذا كان سلوك التقليد لسمك الگوپي هو نفسه يُورَث. فعلى الرغم من أن التقليد يبدو مؤسَّسا على الدالات الاجتماعية، فمن الممكن أن الجينات تتحكم في احتمالات ممارسة أنثى الگوپي سلوك التقليد.

 

ومع أن البشر أكثر تعقيدا من أسماك الگوپي وطيور الحَجَل، فإن بعضا من قواعد اختيار الرفيق قد ينطبق على تحديد مواعيد اللقاءات الغرامية لدى البشر. وبناء على الحكمة الذائعة، فإن إناث البشر هن الجنس الأكثر تدقيقا عندما يحين الوقت لاختيار الرفيق. ويواجه النوع البشري معايير لتخير الأنثى رفيقها: فالرجال، من ناحيتهم، يتجنبون القتال حتى الموت للفوز بيد فتاة شابة. كذلك تستطيع النساء أن تميز بين الذكور المتباينين بناء على بعض الاختلافات في صفاتهم، فبعض الرجال أكثر إقداما واندفاعا والبعض الآخر أكثر تألقا، وآخرون لهم حسابات أكبر في البنوك.

 

بل إن النساء يمكنهن أن يمارسن تخير الرفيق بالتقليد. فالتقليد على أية حال، أمر مهم في الكثير من أنماط التعلّم البشري. ولتحديد ما إذا كان التقليد يسهم بدور عند تصنيف النساء لجاذبية أحد الرجال، يتعاون حاليا دوگاتكن مع مختصين في علم النفس الاجتماعي: <M. كاننگهام> و <D. لُندِي> (من جامعة لويزفيل). ومع أن نتائجهم أولية فقد وجدوا الأكثر احتمالا أن تُعبر النساء عن اهتمامهن بمصاحبة رجل، إذا علمن بأن ثمة امرأة أخرى تجده جذابا.

 

وطبعا، لن يكون باستطاعة النظرية التطورية أبدا التفسير الكامل لحانات العُزَّاب والإعلانات الشخصية والرومانسية السيبرانية(5). حتى بين الحيوانات يبدو أن مكاسب وتكاليف التدقيق عند اختيار الرفيق، تختلف في الأنواع المتباينة وفي البيئات المختلفة وأحيانا في أوقات اليوم المختلفة. وعلى أية حال، إذا كانت حيوانات بسيطة كسمك الگوپي، يمكنها الأخذ بآراء نظرائها عند تخير الرفيق، فلك أن تتخيل مبلغ تعقيد الدالات(6) التي ترشد البشر عند بحثهم عن  الرفيق المثالي.

 

 المؤلفان

Lee Alan Dugatkin – Jean-Guy J. Godin

التحقا في البداية بالجيش في ترينيداد، وهناك أصبحا مبهورين بالسلوك التزاوجي لسمك الگوپي. وكعالم في البيولوجيا التطورية، عمل دوگاتكن أستاذا مساعدا لعلم الأحياء بجامعة لويزيڤيل منذ عام 1995. وقد حصل على الدكتوراه في علم الأحياء من جامعة ولاية نيويورك في بنگامتون عام 1991. وتشمل اهتماماته البحثية تطور التعاون والإيثارية، وتفاعل العوامل الجينية (الوراثية) والاجتماعية في تشكيل السلوك. أما گودن فهو عالم في الإيكولوجيا السلوكية وأستاذ لعلم الأحياء في جامعة ماونت ألسون بنيوبرونزيك في كندا، وهو ضمن أعضاء هيئة التدريس منذ عام 1981. وقد حصل على الدكتوراه في علم الحيوان من جامعة بريتش كولومبيا. وكان زميلا زائرا في جامعة أكسفورد. وتتركز بحوثه على السلوك الإيكولوجي لأضداد المفترسات antipredator والبحث عن الغذاء والقرارات التزاوجية عند الحيوانات.

 

مراجع للاستزادة 

SEXUAL SELECTION. M. Andersson. Princeton University Press, 1994.

INTERFACE BETWEEN CULTURALLY BASED PREFERENCES AND GENETIC PREFERENCES: FEMALE MATE CHOICE IN POECILIA RETICULATA. L. A. Dugatkin in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 93, No. 7, pages 2770-2773; April 2,1996.

FEMALE MATING PREFERENCE FOR BOLD MALES IN THE GUPPY, POECILIA RETICULATA. J. G. J. Godin and L. A. Dugatkin in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 93, No. 19, pages 10262-10267; September 17,1996.

SEX, COLOR AND MATE CHOICE IN GUPPIES. Anne E. Houde. Princeton University Press, 1997.

SEXUAL SELECTION AND MATE CHOICE. M. Ryan in Behavioural Ecology: An Evolutionary Approach. Fourth edition. Edited by J. R. Krebs and N. B. Davies. Blackwell Science, 1997.

Scientific American, April 1998

 

(1) How Females Choose Their Mates.

(2) (حَجَل الأرتيميزيا): نوع من الحجل كبير الحجم يعيش في غربي أمريكا الشمالية، وينتشر في سهول نبات السيج المرّ المذاق من الجنس أرتيميزيا Artemisia، ولذا كان لحم هذا النوع من الحجل مرا في الغالب. ويطلق على هذا الطائر، خطأ وتوهما، اسم الطيهوج الحكيم. (التحرير)

(3) نوع من أسماك المياه العذبة يتميز بوجود زعانف ذيلية طويلة تشبه السيف.

(4) نوع من السمك المتعدد الألوان يعيش في المياه العذبة ويُسْتَوْلَد (يُربى) في البرك وأحواض الزينة.

(5) amount.

(6) cyber – romance.

(7) cues.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى