أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجيافيزياء

محاكاة الماء وجزيئات الحياة


محاكاة الماء وجزيئات الحياة(*)

تكشف النمذجة الحاسوبية كيف يؤثر الماء في بنية ودينامية الجزيئات

 البيولوجية، كالبروتينات، مقدمةً بذلك حلولا لألغاز وظائف هذه الجزيئات.

<M. گيرشتاين> ـ <M. ليڤيت>

 

في معظم أرجاء العالم، الماء بخس الثمن، إن لم يكن مجانيا. ولكن خلال صيف 1986، أنفق واحد منا (ليڤيت) نصف مليون دولار على كمية من الماء يمكنها أن تبلل، بصعوبة، رأس دبوس. ولم يُصرف المبلغ لشراء تلك الكمية المتناهية الضآلة من الماء، بل دُفع مقابل أسبوعين تقريبا من المعالجة على حاسوب فائق عملاق، يمثل ذروة التقانة، تطلَّبه تكوين نموذج (طراز) modelلكيفية تأثير الماء في بنية وحركة بروتين معين.

 

وهذا البروتين هو مثبط الترپسين الپنكرياسي البقري bovine pancreatictrypsin inhibitor  BPTI ، الموجود في پنكرياس الماشية. وإن هذا البروتين جزيء مفضَّل في النمذجة الحاسوبية؛ لأنه صغير نسبيا وتسهل بالتالي دراسته أكثر من أي بروتين آخر. لقد سبقت نمذجته في عام 1977 من قبل <M. كاربلس> (وزملائه في جامعة هارڤارد)، ولكن فقط «في الخلاء (الخواء)»(1) (كما لو كان في الخلاء) ـ من دون وجود أي جزيء آخر يتآثر معه. ولم يتخيل أحد البروتينBPTI كما هو موجود فعلا في الخلية الحية، حيث تحيط به الآلاف من جزيئات  الماء.

 

لقد اتضح أن إنفاق نصف المليون دولار كان في مكانه الصحيح. فلم تشر النتائج فحسب إلى أنَّ نموذج البروتين BPTI في الخلاء، الذي سبق أن توصل إليه ليڤيت وزميلته <R. شارون>، هو منبئ رديء بصورة البروتين وبسلوكه في العالم الواقعي، بل إنَّ الاكتشاف ساعد على تمهيد الطريق أمام الكيميائيين، الذين يعتمدون على الحواسيب في عملهم، كي يحاكوا بنى الجزيئات البيولوجية الأخرى في بيئتها المائية الطبيعية.

 

أمَّا اليوم، ونتيجة للتقدم الكبير في الحوسبة computing، فيمكننا أن ننمذج جزيئات مثل البروتين BPTI وجزيئات الماء المرتبطة بها بوساطة حاسوب مكتبي، وذلك خلال بضعة أيام وبكلفة قدرها 0.88 دولار وهي ثمن الكهرباء المستهلكة. لقد حاكى الآن العلماء البنى المائية لأكثر من 50 بروتينا وحمضا نوويا مثل الدنا DNA.

 

ولكن ما أهمية فهم تأثير الماء في شكل الجزيئات البيولوجية؟ إن السبب أساسا هو أنَّ بنية الجزيء تقدم حلولا لفهم آلية عمل الجزيئات، الأمر الذي يساعد على فك مغالق التآثرات الكيميائية الحيوية التي تعني الحياة. أمَّا على المستوى الأكثر واقعية، فلعل فهم بنى الجزيئات البيولوجية وهي في الماء يساعد الباحثين يوما ما على تصميم عقاقير جديدة، تعمل بإعاقة (إحصار) سبل كيميائية حيوية مختلفة أو بتعزيزها.

 

الماء داخل الجزيء

ولكن كي نفهم كيف يؤثر الماء في بنية الجزيئات البيولوجية، يجب أن ندرك الخصائص المميزة للماء نفسه. إنَّ هذه الخصائص تنبثق من البنية المتفردة للماء، وكيف تتيح له هذه البنية أمر «تدبير» الشحنات الكهربائية للجزيئات الأخرى.

 

إن لجزيء الماء (H2O) المفرد هندسة رباعي السطوح، تشغل فيه ذرة الأكسجين المركز وتشغل ذرتا الهيدروجين زاويتين من الزوايا الأربع؛ في حين تشغل الزاويتين الأخريين سُحُبٌ من شحنة سلبية. وتنشأ هذه السحب عن الطريقة التي تتضام (تتوالف) combine فيها البنية الذرية للأكسجين والهيدروجين. وبتعبير مبسط، إن للأكسجين ثمانية إلكترونات سلبية الشحنة، تدور حول نواته ذات الشحنة الموجبة: اثنين في مدار shell  داخلي، وستة في مدار خارجي. والسعة القصوى للمدار الداخلي إلكترونان، فهي إذًا مليئة، بيد أنَّ المدار الخارجي يتسع لما يصل إلى ثمانية إلكترونات. وللهيدروجين إلكترون واحد؛ فعندما يتضام الأكسجين إلى ذرتي هيدروجين، فإنَّه يجتذب إلكترونيهما في محاولة لملء مداره الخارجي. ولأنَّ كل إلكترون هيدروجيني يستغرق حول ذرة الأكسجين زمنا أطول مما يستغرقه حول نواته الموجبة الشحنة، فإنَّ ذرة الماء مستقطبة polar: إنَّها تحمل سحابتين من شحنة سلبية ضعيفة حول ذرة الأكسجين، في حين تُستبقى لذرتي الهيدروجين شحنتان موجبتان ضعيفتان. بيد أنَّ هذين النمطين من الشحنات يوازن أحدهما الآخر، فتبقى جزيئات الماء حيادية كهربائيا.

 

ولا يرسم الكيميائيون عادة السحابتين السالبتي الشحنة حول ذرة أكسجينِ جزيء الماء، إنما يرسمون تقليديا جزيء الماء بشكل الحرف V [انظر الشكل في أعلى الصفحة 22]. ويناظر كل جانب من جانبي V رابطة أكسجينية-هيدروجينية، طولها 8-10 سنتيمتر تقريبا. وتقارب الزاوية بين جانبي V  نحو 106 درجات، أقل بقليل من الزاوية 109.55 درجة، الموجودة بين أي جانبين من جوانب رباعيِّ سطوحٍ مثالي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N1_H03_008492.jpg

نموذج الديناميك الجزيئي لمثبط الترپسين الپنكرياسي البقري (البروتين BPTI) ـ «جرذ المختبر» بالنسبة إلى الكيميائيين، مستخدمي الحاسوب في عملهم، وذلك بسبب بساطته النسبية ـ يظهر محاطا بالماء (الكرات الخضر والبيض). ومع أن الماء يعقد كثيرا الحسابات اللازمة لاستخراج نماذج البروتينات، فلا بد من وجوده كي نتفهم كيف تؤدي الجزيئات البيولوجية وظائفها في الوسط المائي للخلايا.

 

وتحبذ هذه القطبية التآثر بين الهيدروجين الموجب الشحنة لجزيء من جزيئات الماء وبين الأكسجين السلبي الشحنة لجزيء مائي آخر. ويطلق على هذه التآثرات اسم الروابط الهيدروجينية. وبناء على الهندسة الرباعية السطوح للماء، فإنَّ كل جزيء من جزيئات الماء السائل يشكل غالبا أربع روابط هيدروجينية: اثنتين بين ذرتي هيدروجين الجزيء وبين ذرتي أكسجين جزيئين مائيين آخرين، واثنتين بين ذرة أكسجين الجزيء المعني وبين ذرتي هيدروجين لجزيئين مائيين آخرين. بيد أنَّ البنية التفصيلية للماء السائل (وخلافا لبنية الجليد الذي يتألف عادة من بلورات شبكية lattice لجزيئات الماء، تنتظم في هندسة مثاليةٍ رباعيةِ السطوح) يمكن أن تكون عشوائية وغير منتظمة. ويتراوح عدد الروابط الهيدروجينية في كل جزيء مائي بين ثلاث وست روابط، بمتوسط قدره 4.5. إنَّ ضرورة الحفاظ على بنية رباعية السطوح هيدروجينية الروابط، يمنح الماء بنية «مفتوحةً» رخوةَ الارتزام(2)، مقارنة بمعظم السوائل كالزيوت أو الآزوت (النتروجين) السائل.

 

ولبناء نموذج حاسوبي للماء، يجب أن نأخذ بالحسبان نمطين مختلفين من القوى: قوى ضمن الجزيئات، وأخرى بينها. فتنمذج التآثرات ضمن جزيء الماء في صيغة قصيرة المدى، شبه رفَّازية (نابضية)، تكوّنها الروابط الكيميائية بين هيدروجينيْ الجزيء وأكسجينه. أمَّا التآثرات بين جزيئات الماء، فتُنَمْذج بقوى كهربائية طويلة المدى(3). ثمة مجموعة معينة من القيم تقيد أثر القوى ضمن الجزيء في أطوال الروابط بين أكسجين كل جزيء ماء وبين هيدروجينه، كما تقيد الزاوية المتشكلة بين هذه الروابط. وتسلك هذه القوى سلوك الرفَّازات: مع زيادة تحريف القوة الخارجية للرابطة تزداد مقاومة الرابطة لهذه القوة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N1_H03_008493.jpg

تمنح الروابطُ الهيدروجينيةُ الماءَ خصائصه المتفردة. لقد شكل الجزيء المركزي ـ في هذا النموذج للماء السائل ـ (الكرات الحمر والبيض) روابط هيدروجينية (الخطوط الخضر) مع خمسة جزيئات مائية أخرى (الأشكال V القرنفلية). لقد ارتبطت ذرات هيدروجينية (البيض) بأكسجينيْ جزيئين مائيين آخرين، وارتبطت ذرة أكسجينية (الأحمر) بذرة هيدروجين من كل جزيء من جزيئات الماء الثلاثة الأخرى. والعادة أن يشكل جزيء الماء السائل أربع أو خمس روابط هيدروجينية.

 

وتسلك القوى الطويلة المدى بين جزيئات الماء سلوكا مختلفا عن القوى ضمن الجزيء: يتناقص مقدارها مع تزايد المسافة. وتنشأ القوى الطويلة المدى أساسا عن التجاذب بين شحنات متعاكسة والتنافر بين شحنات متشابهة. وتتسبب هذه القوى في نشوء الروابط الهيدروجينية، وكذا في نشوء قوى الجذب الأضعف المعروفة بقوى ڤان درڤالس.

 

وتُعزى ريادة المحاكاة الحاسوبية لجزيئات الماء في نهاية الستينات، إلى كل من <أنيس الرحمن> و <F. ستيلنگر> من المختبرات بيل. لقد حاكى هذان الباحثان حركة 216 جزيئا من الماء في صندوق مستطيل. (اختار الباحثان طراز المئتين والستة عشر جزيئا؛ لأنَّ هذا الرقم يؤلف صندوقا من الماء لكلٍّ من عمقه وطوله وعرضه ستةُ جزيئات). فخلال محاكاة مدتها 5 بيكوثانية(4) (أطول مدة ممكنة في تقانات الحوسبة المتاحة حينذاك)، وجد الباحثان أن سلوك الماء هو النتيجة المباشرة للعلاقات الطاقية الموجودة بين جزيئاته. ولقد أمكن لهذه المحاكاة أن تنتج، كميا، الكثير من خصائص كتلة الماء، كمتوسط بنيته ومعدل انتشاره وحرارة تبخره.

 

محاكاة الحياة

لا ترجع أهمية الماء في السيرورات الحيوية (الحياتية) فقط إلى مقدرته على تشكيل روابط هيدروجينية مع جزيئات الماء الأخرى، بل أيضا إلى قابليته للتآثر مع أنواع مختلفة من الجزيئات البيولوجية. فبسبب طبيعته المستقطبة، يتآثر الماء بسهولة مع جزيئات أخرى مستقطبة ومشحونة، كالحموض والأملاح والسكاكر والمناطق (النواحي) المختلفة من البروتينات والدنا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N1_H03_008494.jpg

يوجد الموقع الناشط لليزوزيم (وهو إنزيم طبيعي يقتل البكتيريا بتحطيمه جزيئات السكر في جدران خلاياها) في الأخدود الرئيسي للبروتين (اليسار العلوي). يتخذ الأخدود شكلا ملائما تماما لإيواء الجزيء الذي سيشطره الإنزيم (الكرات الأرجوانية، اليمين العلوي). إن نمذجةَ كيفية تآثر الماء (الكرات الخضر والبيض) مع الأخدود (اليسار السفلي) تساعد العلماء على رسم خريطة الموقع النشيط (اليمين السفلي، يشير التظليل الأخضر إلى جزيئات مائية سهلة الإزاحة). وحتى هذه الخرائط قد تعمل كمفتاح لتصميم عقاقير جديدة لإعاقة (إحصار) نشاط إنزيم معين أو لتعزيزه.

 

ونتيجة لهذه التآثرات، فإنَّ بوسع الماء أن يحل(5) الجزيئات المستقطبة، التي توصف نتيجة لذلك بأنها «محبة (أليفة) للماء» hydrophilic. وبالمقابل، فإن الماء لا يتآثر جيدا مع الجزيئات اللامستقطبة كالدهون، وهذا هو أصل الملاحظة بأن الماء والزيت لا يمتزجان. ولذا، أُطلق اسم كارهة الماء hydrophobics  على الجزيئات  اللامستقطبة.

 

وتحتوي الجزيئات البيولوجية (كالبروتينات والدنا) على جزيئات محبة للماء وأخرى كارهة له، منتظمة في سلاسل طويلة. وتُمْلَى البنية الثلاثية الأبعاد لهذه الجزيئات بالطريقة التي تنطوي (تنثني) بها هذه السلاسل، في تراتب أكثر اندماجا (اكتنازا) compact، فتصير الزمر المحبة للماء على سطح الجزيء، حيث يمكنها أن تتآثر مع الماء؛ أما الزمر الكارهة للماء فتتوارى في الداخل. وفي عام 1959، اقترح <W. كوزمان> بأنَّ لظاهرة كره الماء هذه أثرا حاسما في ما يتعلق بطيّ البروتين. ولا يزال دور كره الماء في طي البروتين مهمّا جدا حتى يومنا هذا.

 

وعند بناء نموذج حاسوبي لجزيء بيولوجي في محلول مائي، يجب أن نأخذ بالحسبان ثلاثة أنماط من الماء: «الماء المتراتب» الذي يحيط بالجزيء ويتآثر معه بشدة، و«كتلة المياه» المحيطة بالجزيء، ثم أي مياه قد تتوارى داخل الجزيء. وتحتوي الخلية الواحدة على البلايين من جزيئات الماء. فالماء يكاد يملأ كل الحيز غير المشغول بذرات الجزيئات البيولوجية. وفي الحقيقة، إنَّ الخلايا البشرية ماء في معظمها، ويتكون جسم الإنسان من نحو 60 في المئة من وزنه ماءً.

 

ولكن كيف ننمذج هذا الماء كله جنبا إلى جنب مع الذرات الفردية لجزيء بيولوجي؟ سنصف أولا (بتعبيرات بسيطة) التآثرات الأساسية بين جميع الذرات، ثم ندع النظام يتطور وفقا لقوانين نيوتن في الفيزياء. وتتطلب هذه المحاكاة مقومتين أساسيتين، الأولى: طريقة لوصف التآثرات داخل وبين كل من جزيئات الماء والجزيئات البيولوجية (ونعني بذلك القوى ضمن الجزيئات والقوى فيما بين الجزيئات)، أمّا المقومة الأخرى فهي وسيلة لرسم حركة الجزيئات في الزمن، أو ما يطلق عليه اسم الديناميك الجزيئي moleculardynamics.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N1_H03_008495.jpg

تختلف الجزيئات، ذات الشكل المتطابق تقريبا، في تفاعلها مع الماء؛ إذ يتوقف ذلك على ما إذا كانت مستقطبة، أو كانت بعض ذراتها تحمل شحنات جزئية، أو لا تحمل أي شحنات وبالتالي تكون لامستقطبة. وجزيء اليوريا (البولة) المستقطب، الموجود في البول، يشكل مع جزيئات الماء روابط هيدروجينية (الكرات الأرجوانية، في الأعلى). وبالمقابل، فإن الإيزوبوتين اللامستقطب لا يشكل مثل هذه الروابط، وإنما ترتبط جزيئات الماء ببعضها هيدروجينيا حول الإيزوبوتين مشكِّلة بنية تشبه القفص (الكرات الخضر، في الأسفل).

 

ويُنتج الديناميك الجزيئي سلسلة من الأشكال، تماثل كثيرا صور الفيلم السينمائي. وتتحرك كل ذرة في الزمن في خطوات منفصلة، تعرف باسم الخطوات الزمنية timesteps. وأساسا، فإنَّ الموقع الجديد لذرة ما هو موضعها السابق مضافا إليه المسافة التي ارتحلتها خلال خطوة زمنية معينة. وإذا لم تؤثر قوى ما في ذرة معينة، فإنَّ المسافة التي تتحركها ستكون ببساطة دالة للسرعة التي كانت عليها في الموقع السابق، لأن المسافة تساوي جداء السرعة في الزمن. على أن القوى التي تمارسها الذرات الأخرى في أثناء خطوة زمنية، تدفع الذرة إلى التسارع (العجلة)، الأمر الذي يغير من سرعتها. فإذا كانت القوى ثابتة خلال خطوة زمنية، فإن قوانين نيوتن تنص على أن التغير في السرعة يتناسب مع القوة، وهكذا يمكننا أن نحسب السرعة المعدَّلة لتستعمل في حساب الموقع الجديد للذرة. ولا تستطيع جزيئات السائل ذات التآثر الشديد أن تتحرك بعيدا، ولذا فإنه من الضروري استعمال خطوات زمنية قصيرة جدا، أي من رتبة فمتوثانية(6). ويتحرك جزيء الماء خلال هذه الفترة الزمنية 500/1 فقط من قطره.

 

وفي المحاكاة الطويلة، ينتج من حساب كل خطوة زمنية لجميع الذرات في جزيء بيولوجي، بمائه المتراتب، كمية هائلة من البيانات. فمثلا، يُنْتِج بروتينٌ صغير في الماء نصف مليون مجموعة من الإحداثيات الديكارتية في النانوثانية(7)، كل منها يصف مواقع نحو عشرة آلاف ذرة. ويكون الفيلم السينمائي المستوحى من هذه المحاكاة متقن التفاصيل. يمكننا أن نرى كل جزيء مائي وهو يدور وينزاح ويهتز عبر ملايين الصور.

 

ولإيضاح الكيفية التي تستطيع بوساطتها المحاكاة الحاسوبية تصوير الطريقة التي يؤثر بها الماء في الديناميك الجزيئي، دعونا نتفحص اثنين من الجزيئات العضوية البسيطة: الإيزوبوتين (البوتين المتماثل) isobutene واليوريا (البَوْلَة) ولهما شكلان متشابهان، وإن تكن خصائصهما شديدة التباين. فالإيزوبوتين ـ وهو وقود تنتجه مصافي الزيوت ـ جزيء له شكل الحرف Y، لامستقطب (أي كاره للماء)، يتألف عموده الفقري (ركيزته) من أربع ذرات كربون: اثنتين منها تتماسكان برابطة مزدوجة. أمَّا اليوريا فهي نتاج استقلاب البروتينات، وتفرغ في البول، ولجزيئها أيضا بنية الحرف Y: مجموعة كربونيل (C = O) مرتبطة بمجموعتين أمينيتين (NH2). وخلافا للإيزوبوتين، فاليوريا جزيء شديد الاستقطاب، أي أليف للماء.

 

وعندما نجري محاكاة الديناميك الجزيئي لكل من الإيزوبوتين واليوريا، نلاحظ أن الماء يسلك سلوكا مختلفا حول نوعي الجزيئات [انظر الشكل في الصفحة السابقة]. تتآثر جزيئات الماء مع اليوريا تآثرا مباشرا، مشكِّلة روابط هيدروجينية مع ذرات أكسجينِ وهيدروجين اليوريا، وكذلك فيما بينها. وعلى العكس من ذلك تتحول جزيئات الماء بعيدا عن الإيزوبوتين الكاره للماء، وتشكل روابط هيدروجينية فيما بينها، منشئة قفصا من الماء المتراتب يحيط بجزيء الإيزوبوتين.

 

إن تصوُّر كيفية تفاعل جزيئات الماء مع مثل هذه الجزيئات البسيطة يساعدنا على فهم سلوك الماء مع الجزيئات البيولوجية الأكثر تعقيدا، كالبروتينات والحموض النووية. فعلى سبيل المثال، الماء جزء من بنية الدنا. ولقد أخفقت المحاولات الأولى لإنشاء نماذج الديناميك الجزيئي للدنا في الخلاء، ذلك أن قوى التنافر (التدافع) بين مجاميع الفسفات المشحونة سلبيا، التي تشكل العمود الفقري للولب الدنا المزدوج، تسبب تكسر الجزيء بعد 50 بيكوثانية. وفي أواخر الثمانينات، نجح ليڤيت و<M. هيرشبرگ> (من المعهد الوطني للبحوث الطبية بلندن) في صنع نموذج لدنا مدته 500 بيكوثانية بتضمينه جزيئات ماء ثبَّتت البنية المزدوجة للّولب (الحلزون) بتشكيلها روابط هيدروجينية مع مجاميع الفسفات. ولقد أوضحت المحاكاة التالية للدنا في الماء أن بوسع جزيئات الماء أن تتآثر مع كل جزء تقريبا من أجزاء لولب الدنا المزدوج، بما في ذلك أزواج القواعد (الأسس) التي تشكل الكود الجيني (الوراثي).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N1_H03_008496.jpg

إن للولب (حلزون) الدنا المزدوج (إلى أعلى) ركيزتين من الفُسْفات (الكرات الحمر والصفر) تلتفان حول كومة من أزواج القواعد (الكرات الرمادية والزرق والحمر والبيض). وتَُظهر شريحة عبر إطار دنا مُحاكى في الماء كيف تستطيع جزيئات الماء (الأشكال V الخضر والبيض) أن تنفذ إلى أعماق بنية لولب الدنا المزدوج مسببة استقراره. وتشير الكرات الأرجوانية إلى أيونات (شوارد) الصوديوم في محلول الماء.

 

ولكنا سنجد أن الماء لا يستطيع النفاذ إلى عمق بنية البروتين، الذي تندس المناطق الكارهة للماء فيه داخل الجزيء في لب وثيق التطابق. وعلى ذلك، فإنَّ محاكاة البروتين-الماء قد ركَّزت على سطح البروتين الأقل اندماجا (ارتزاما) بكثير من داخله.

 

وتنجم عن تآثر جزيئات الماء مع سطح البروتين هندسة مثيرة جدا، وبخاصة في ما يتعلق بالأخاديد (الميازيب) العميقة على سطوح الإنزيمات، وهذه بروتينات تحفز التفاعلات الكيميائية في الخلايا. وتلاقي جزيئات الماء المرتبطة بالهيدروجين صعوبة في التوافق داخل هذه الأخاديد، كما يسهل أن تزيحها الربيطات ligands ـ تلك الجزيئات التي يستهدفها الإنزيم ـ وفي هذا ما قد يفسر السبب في وجود المواقع الناشطة للإنزيمات دائما داخل أخاديد. وغالبا ما نلاحظ أن تراتب جزيئات الماء في موقع ناشط فارغ يحاكي هندسة وبنية الربيطة الحقيقية، وهذه معرفة تُسْتعمل أحيانا في تصميم العقاقير.

 

الحياة في العالم الواقعي

ولكن إلى أي مدى تكون محاكاة الجزيئات البيولوجية في الماء شبيهة بالواقع؟ لا نملك للأسف إجابة قاطعة عن هذا التساؤل، فليس ثمة تقنية يمكن أن تزودنا بمعلومات مفصَّلة عن الجزيئات المفردة وتآثراتها، كتلك الناتجة من النمذجة الحاسوبية. وكل ما يمكننا فعله أن نقارن مختلف القيم المجمعة (الكلية) والمتوسطة الناتجة من المحاكاة بالنتائج التجريبية.

 

من بين أهم المقاربات التجريبية، التي يمكن استعمالها للتحقق من بنى الجزيئات البيولوجية المحاكاة في الماء، هناك استطارة (تشتيت) scatteringالنيوترونات والأشعة السينية. وفي تجارب استطارة النيوترونات، تُوجَّه حزمةٌ من النيوترونات إلى عينة صغيرة، ثم تُسجَّل الطريقة التي بها تُستطار النيوترونات من قبل الجزيئات التي تشكل العينة. ويعمل كل حيز بين الجزيئات كشَقٍّ (فلعة) slit بالغ الصغر، لينتج نموذج حيود diffraction مميز. وبتحليل هذه النماذج يمكننا أن نعين على الفور الأحياز (المسافات) بين الجزيئات المختلفة. فإذا ما قارنا نتائج استطارة النيوترونات بمحاكاة الحاسوب، وجدنا عموما أن هذه المسافات تتوافق.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N1_H03_008497.jpg

يمكن للولب ألفا (الذي يوجد في معظم البروتينات) أن يُفكك في الماء بسهولة؛ لأن جزيئات الماء تحل محل الروابط الهيدروجينية (الخطوط الخضر)، التي تمسك أجزاء اللولب طبيعيا بعضها ببعض. ويظهر هنا جزيء من الماء (الأخضر) يصل بين ذرة أكسجين (الحمراء) وبين مجموعة آزوت (نتروجين)-هيدروجين (الزرقاء)، وهو ما يحدث طبيعيا في اللولب المطوي (المتثني).

 

وللتأكد من محاكاة الديناميك الجزيئي، يقارن السلوك المفترض للجزيء البيولوجي المحاكي في الماء بخصائصه التي تلاحظ في المختبر. فمثلا، تحتوي معظم البروتينات على لولب واحد على الأقل من النمط ألفا، إذ تنجدل الحموض الأمينية، التي تؤلف البروتين، لتشكل وشيعة (التفافًا) coil. ومن التجربة، نعلم أنَّ الحرارة تزيل الالتفاف، ومع هذا بقيت لوالب ألفا على ما هي عليه في المحاولات الأولى لمحاكاة سلوك لولب ألفا البسيط في الخلاء، وفي درجات حرارة مرتفعة. ولكن عندما أضاف ليڤيت و <V. داگت> (من جامعة واشنطن) الماء إلى عينة المحاكاة، تمكّنّا من تقليد السلوك الحقيقي للولب ألفا [انظر الشكل في هذه الصفحة].

 

وتقدم مثل هذه المحاكاة الحاسوبية معلومات، أكثر فأكثر، عن أشكال الجزيئات البيولوجية المختلفة وعن كيفية قيامها بوظائفها في الكائن الحي. بيد أننا نصادف باستمرار قصورا في الحوسبة وفي كلفة استعمال الحواسيب الفائقة، عند محاولة إجراء محاكاةٍ للجزيئات البيولوجية المتزايدة التعقيد في الوسط المائي. وعندما ينشر العلماء في المجلات المتخصصة نماذج للجزيئات البيولوجية، فغالبا ما يصورونها بألوان زاهية على خلفية سوداء. بيد أننا نعلم الآن بأن هذه الخلفية التي توجد فيها هذه الجزيئات (وهي الماء) لها من الأهمية بقدر ما للجزيئات نفسها.

 

 المؤلفان

Mark Gerstein – Michael Levitt

تعاونا معا منذ العام 1993، وذلك عندما صار گيرشتاين زميلا بعد الدكتوراه في قسم البيولوجيا البنيوية التابع لجامعة ستانفورد، الذي كان يرأسه (ولا يزال) ليڤيت. لقد حصل ليڤيت على الدكتوراه عام 1971 من جامعة كمبريدج، وشغل وظائف أكاديمية في مختبر البيولوجيا الجزيئية في كمبريدج بإنكلترا ومعهد سولك للدراسات البيولوجية في سان دييگو ومعهد وايزمان للعلوم. وباعتبار ليڤيت مستشارا دائما لشركات صيدلانية، فقد أنشأ شركة التقانة الحيوية: جماعة التطبيقات الجزيئية بكاليفورنيا. أما كيرشتاين فهو أستاذ مساعد في جامعة ييل، وقد حصل في عام 1993 على الدكتوراه من جامعة كمبريدج.

 

مراجع للاستزادة 

WATER: NOW YOU SHE IT, NOW YOU DON’T. Michael Levitt and Britt H. Park in Structure, Vol. 1, No. 4, pages 223-226; December 15, 1993.

PACKING AT THE PROTEIN-WATER INTERFACE. Mark Gerstein and Cyrus Chothia in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 93, No. 19, pages 10167-10172; September 17, 1996.

For electronic archives of molecular structures, visit bioinfo. mbb:yale.edu and hyper.stanford.edu on the World Wide Web.

Scientific American, November 1998

 

(*) Simulating Water and the Molecules of Life

(1) “in vacuo”.

(2) pack.

(3)long range.

(4)  15-10ثانية.

(Dissolve (5.    

(6) 5×9-10 ثانية.

(7)9-10ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى