أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الدماغعلم الأعصاب

التآثر في المرض بين العقل والجسد


التآثر في المرض بين العقل والجسد(*)

يتبادل الدماغ والجهاز المناعي إشارات

مستمرة، وغالبا عبر المسالك نفسها. وقد يفسر

ذلك كيف تؤثر الحالة العقلية في الصحة.

<M .E. سترنبرگ> ـ <W .Ph. گولد>

 

يعود تاريخ الاعتقاد بأن للعقل دورا مهما في الاعتلال الجسدي إلى الأيام الأولى للطب. فمن عهد الإغريق وحتى بداية القرن العشرين، كان كل من الطبيب والمريض يقبل عموما بأن بوسع العقل أن يؤثر في سيرورة المرض، وبدا طبيعيا تطبيق هذا المفهوم في المعالجة الطبية للمرض. ولكن بعد اكتشاف المضادات الحيوية شاع افتراض جديد مفاده أن معالجة الأمراض الخَمَجية (العدوائية) أو الالتهابية تحتاج فقط إلى التخلص من الكائن الحي أو العامل الغريب الذي استثار الاعتلال. وفي اندفاعهم لاكتشاف مضادات حيوية وعقاقير جديدة تشفي أخماجًا وأمراضا معينة، فإن الباحثين الطبيين تجاهلوا إلى حد بعيد حقيقة أن بوسع استجابة الجسم نفسه أن تؤثر في الاستعداد للمرض وفي سيرورته.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008583.jpg

يمكن تغيير الاستجابة المناعية
على المستوى الخلوي بوساطة
هرمونات الكرب.

 

ومن سخرية القدر أن الأبحاث في نطاق الأمراض الخمجية والالتهابية قد دفعت، في بداية الأمر، طب القرن العشرين إلى رفض فكرة أن العقل يؤثر في الاعتلال الجسدي. وتعود الآن الأبحاث الجارية في النطاق نفسه – بما في ذلك الأبحاث التي يقوم بها مختبرنا والمختبر المتعاون معنا في معاهد الصحة الوطنية – لتثبت عكس ذلك. ولقد أتاحت لنا الوسائل الجزيئية والدوائية تعرّفَ شبكة معقدة توجد بين الجهاز المناعي والدماغ وتتيح لهما تبادل الإشارات على نحو مستمر وسريع. فكيميائيات معينة ينتجها الجهاز المناعي تعمل كإشارات في الدماغ، فيقوم هذا بدوره بإرسال إشارات تقيد الجهاز المناعي. كما أن هذه الإشارات الكيميائية نفسها تؤثر في السلوك تجاه الكَرْب stress  وفي  الاستجابة له. ويعمل تعطل شبكة الاتصال هذه (سواء كان هذا التعطل موروثا أو بوساطة العقاقير أو المواد السامة أو الجراحة) على تفاقم الأمراض التي يصون الدماغ والجهاز المناعي الجسمَ من الإصابة بها، سواء كانت هذه الأمراض خمجية أو التهابية أو مناعية ذاتية أو أي اضطراب له علاقة بالمزاج.

 

ويرجح أن يكون الانعكاس السريري لهذه الاكتشافات بعيد الأثر. إنها تَعِد بتوسيع طيف المعالجات الدوائية المتاحة للاضطرابات المختلفة، حيث اتضح أن العقاقير (التي كان يعرف أنها تعمل بصورة أساسية على الجهاز العصبي) فعّالة أيضا في معالجة أمراض مناعية معينة، والعكس بالعكس. كما أنها تساعد على إقامة الدليل على صحة الاعتقاد الشعبي ـ الذي مازال مستبعدا من قبل بعض الدوائر الطبية ـ والقائل بأن في وسع حالتنا العقلية أن تؤثر في مدى مقاومتنا للأمراض الخمجية أو الالتهابية أو في مدى شفائنا منها.

 

تشريح جهازي الكرب والمناعة

الاستجابة الكربية

تصل الأعصابُ الدماغَ بالأعضاء وبالنسج كافة. وتعمل مواقف التحدي أو التهديد على استثارة الاستجابة الكربية للدماغ، التي تعمل بدورها على إطلاق هرمون ينبه تيقظا فيزيولوجيا وينظم الجهاز المناعي. والمكونات المفتاحية للاستجابة الكربية هي: الوطاء والموضع الأزرق في الدماغ والغدة النخامية والجملة العصبية الودية وغدة الكظر.

الاستجابة المناعية

يعمل الجهاز المناعي كشبكة لامركزية، يستجيب آليا لأي شيء يغزو الجسم أو يعطله. وإن خلايا الجهاز المناعي، التي تتولد في نقي العظم والعقد اللمفية والطحال والتوتة، تستعمل بروتينات صغيرة من أجل اتصال بعضها ببعض. وبوسع هذه المراسيل الكيميائية أيضا أن تبعث إشارات إلى الدماغ عبر الدم أو المسالك العصبية، كالعصب المبهم والسبيل المفرد.

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008584.jpg

 

وتُفَعِّل الحالات المنذرة بالخطر نظام استجابة الدماغ للكرب. ويستجيب الجهاز المناعي تلقائيا للمُمْرِضات(1) وللجزيئات الغريبة. ويعتبر جهازا الاستجابة المشار إليهما وسيلتي الجسم الرئيسيتين للحفاظ على حالة استقراره الداخلي، أو ما يعرف بالاستتباب homeostasis. هذا وإن نسبة مهمة من الماكينة الخلوية البشرية مكرسة لصيانة هذا الاستتباب.

 

فعندما يضطرب الاستتباب أو يُهدد، فإن مجموعة من الاستجابات الجزيئية والخلوية والسلوكية تُستثار. وتحاول هذه الاستجابات إبطال فعل القوى المسببة للاضطراب بغية العودة إلى حالة الاستقرار. وقد تكون هذه الاستجابات نوعية تجاه غازٍ غريب بعينه أو كرب معين أو أنها تكون عامة ولانوعية عندما يتجاوز التهديد للاستتباب عتبة معينة. ويمكن لهذه الاستجابات التلاؤمية نفسها أن تتحول إلى مُكْرِبات قادرة على إحداث المرض. ولقد بدأنا لتونا فهم الطرائق العديدة التي يتوافق فيها الدماغ والجهاز المناعي، وكيف يساعدان على تنظيم أو تضاد تنظيم أحدهما للآخر، وكيف يختلان وظيفيا فيسببان المرض.

 

وتدعم استجابة الكرب التغيرات الفيزيولوجية والسلوكية التي تعزز البُقيا(2) في الحالات المنذرة بالخطر والإرهاق. فمثلا، عندما نواجه حالة تنطوي على خطر مهدّد للحياة، فإن استجابة الدماغ للكرب تستثار لتعزيز تركيز انتباهنا وخوفنا واستجابتنا الغريزية المتمثلة بعبارة «الكرّ أو الفرّ»(3)، بالتزامن مع تثبيط السلوكيات الخاصة بالإطعام والجنس والنوم، والتي يمكن أن تقلل من فرص البُقيا المباشرة. بيد أنه لابد من تنظيم الاستجابة الكربية كي لا تصبح مفرطة، أو دون الحد الأمثل(4)، فتظهر عندئذ اضطرابات تصيب التيقظ والتفكير والمشاعر.

 

يعمل الجهاز المناعي على الحيلولة دون وصول الممرضات الغريبة إلى الجسم، وتخريب ما يخترق منها سطوحه الواقية. وعلى الجهاز المناعي أيضا تعديل الذيفانات toxins ذات الخطورة الكامنة، وتسهيل تصليح النسج المتأذية أو المهترئة، والتخلص من الخلايا اللاسوية. وتكون استجابات الجهاز المناعي على درجة من القوة بحيث تتطلب تنظيما مستمرا للتأكد من أنها لن تصبح مفرطة أو غير مُميِّزة، على أن تحتفظ في الوقت نفسه بفاعلياتها. وإذا ما تملص الجهاز المناعي من هذا التنظيم الرقابي، فإن أمراض المناعة الذاتية والأمراض الالتهابية ومتلازمات العوز المناعي تبدأ بالظهور.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008585.jpg

عندما نواجه موقفا فيه تهديد للحياة، تسارع استجابة الكرب الدماغية إلى العمل لتعزز تركيز انتباهنا وخوفنا ويقظتنا الغريزية للاستجابة الفطرية، المتمثلة بعبارة «الكرّ أو الفرّ»، كابتةً في الوقت نفسه الإطعام والجنس والنوم.

 

وللوهلة الأولى يبدو الجهاز المناعي والجملة العصبية المركزية مختلفين في تنظيمهما (تعضيهما) اختلافا بيِّنا. ويُنظر إلى الدماغ عادة على أنه مقر قيادة مركزي يرسل ويستقبل ـ عبر مسالك ثابتة ـ إشارات كهربائية وكأنه شبكة هاتفية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الجهاز المناعي يتميز بعدم مركزيته، إذ تتوضع أعضاؤه (الطحال والعقد اللمفية والتوتة thymus ونقي العظم) في أنحاء الجسم كافة. ووفقا للنظرة التقليدية، فإن اتصال أعضاء الجهاز المناعي بعضها ببعض يتم عن طريق تحريرها في الدم خلايا مناعية تطفو فيه كالزوارق ليوصلها إلى مواضعها الجديدة، حيث تبلغ رسائلها أو تؤدي وظائف أخرى محددة.

 

بيد أن الجملة العصبية المركزية والجهاز المناعي يتماثلان في حقيقة الأمر أكثر مما يتباينان، وذلك في طريقة تلقيهما الإشارات التي ترد من الوسط الخارجي، وفي تعرف هذه الإشارات ومكاملتها، وكذلك في تصميمها البنيوي لإنجاز هذه المهمات. ويمتلك كل من الجملة العصبية المركزية والجهاز المناعي عناصر «حسية» تتلقى معلومات من الوسط الخارجي ومن أقسام أخرى من الجسم، كما يمتلكان عناصر «محركة» تنفذ الاستجابات الملائمة.

 

اتصال متقاطع(5)

إن كلا من الدماغ والمناعة يعتمدان للاتصال فيما بينهما على الوسائط الكيميائية؛ فالإشارات الكهربائية مثلا على طول المسالك العصبية تُحوَّل في المشابك بين العصبونات إلى إشارات كيميائية. ولا تقوم المراسيل(6)، التي تنتجها الخلايا المناعية، بالاتصال بأجزاء الجهاز المناعي الأخرى فحسب، بل أيضا بالدماغ والأعصاب. كما أن بوسع الكيميائيات، التي تحررها الخلايا العصبية، أن تعمل كإشارات تستثير الخلايا المناعية. وتنتقل هرمونات الجسم عبر الدم إلى الدماغ، كما أن الدماغ يصنع هو الآخر هرمونات معينة. وقد يكون الدماغ أكثر الأعضاء الصُّمِّ في الجسم إنتاجا للهرمونات، فيُنْتِج عددا كبيرا منها تؤثر في الدماغ نفسه وفي نسج الجسم المختلفة.

 

ويعد الهرمون المحرر للموجهة القشرية corticotropin-releasing hormnone CRHأحد الهرمونات الأساسية التي تتشارك فيها الجملة العصبية المركزية والجهاز المناعي؛ وينتجه الوطاء hypothalamus ومناطق أخرى من الدماغ، ويوحد استجابات الكرب والاستجابات المناعية. ويُحرر الوطاء الهرمونَ CRH في دارات دموية متخصصة، توصل هذا الهرمون إلى النخامة (الغدة النخامية) التي تتوضع تحت الدماغ مباشرة. ويدفع الهرمون CRH النخامة لتحرر الهرمون الموجِّه لقشرة الكظر adrenocorticotropin hormone ACTH في الدم، فيعمل هذا الأخير على تنبيه الغدة الكظرية لتنتج الكورتيزول cortisol، وهو الهرمون المعروف أكثر فيما يتعلق بالاستجابة للكرب.

 

وباعتباره هرمونا ستيرويديا، فإن الكورتيزول يزيد معدل تقلص القلب وقوته، ويحسس الأوعية الدموية لتأثير النورإپينفرين norepinephrine (هرمون شبيه بالأدرينالين)، الذي يؤثر في العديد من الوظائف الاستقلابية؛ أي الأفعال التي تساعد على تحضير الجسم لمواجهة حالة كرب. أضف إلى ذلك، أن الكورتيزول منظم مناعي قوي وعامل مضاد للالتهاب. فهو يؤدي دورا حاسما في منع الجهاز المناعي من أن يستجيب استجابة مفرطة ضد النسج المصابة والمتأذية. علاوة على ذلك، فإن الكورتيزول يثبط تحرير الهرمون CRH من قبل الوطاء بعروة تغذية (تلقيم) ارتجاعية(7) بسيطة، تضبط باستمرار هذا المكون من الاستجابة المناعية. وهكذا، فإن الهرمون CRH والكورتيزول يربطان ربطا مباشرا استجابة الجسم للكرب، التي ينظمها الدماغ، بالاستجابة المناعية.

 

وترسل عصبونات الوطاء المفرزة للهرمون CRH أليافا إلى مناطق معينة من جذع الدماغ تساعد على تنظيم الجملة العصبية الودّية sympathetic nervoussystem، وإلى منطقة أخرى في الدماغ تعرف بالموضع الأزرق locus ceruleus. وتنبه الجملة العصبية الودية ـ التي تستنفر الجسمَ أثناء الكرب ـ أعضاء مناعية، كالتوتة والعقد اللمفية والطحال، وتساعد على تنظيم الاستجابات الالتهابية في مناطق الجسم كافة. ويؤدي تنبيه الموضع الأزرق إلى استثارات سلوكية واستنهاض الخوف وزيادة حدة التيقظ.

 

وقد تكون اللوزة amygdala أكثر الأعضاء أهمية في تحريض أنواع السلوك المرتبطة بالخوف، حيث تصبح تنبيهات معينة ـ ترد من النواحي الحسية للدماغ ـ مكربة في حالات معينة فقط. وترسل العصبونات المفرزة للهرمون CRH، والموجودة في النواة المركزية للوزة، أليافا إلى الوطاء والموضع الأزرق وإلى أقسام أخرى من جذع الدماغ. وتشكل هذه العصبونات المحررة للهرمون CRH هدفا للمراسيل التي تحررها الخلايا المناعية أثناء الاستجابة المناعية. وبتعبئتها للعصبونات المفرزة للهرمون CRH، فإن الإشارات المناعية لا تُفَعّل فقط الحجرَ على الاستجابة المناعية التي يتوسطها الكورتيزول، بل إنها أيضا تحرض سلوكيات تساعد على الشفاء من الاعتلالات والإصابات. كما أن للعصبونات المفرزة للهرمون CRH  اتصالات بمناطق الوطاء التي تنظم المدخول من الطعام والسلوك التوالدي. أضف إلى ذلك وجود هرمونات وألياف عصبية مختلفة تؤثر في التآثرات بين الدماغ والجهاز المناعي، كالدرقة (الغدة الدرقية) وهرمونات النمو والهرمونات الجنسية الأنثوية والمسالك النخاعية الوديةsympathomedullary.

 

إشارات الجهاز المناعي

يعمل الجهاز المناعي أيضا كسلسلة لعدد من الأحداث الخلوية المحكمة الدقة، هدفها تخليص الجسم من المواد الغريبة والبكتيريا (الجراثيم) والڤيروسات.

 

ويتمثل أحد الاكتشافات الرئيسية في علم المناعة المعاصر بأن كريات الدم البيض تنتج بروتينات صغيرة القد، تنسق تنسيقا غير مباشر استجابات أجزاء الجهاز المناعي الأخرى نحو المُمْرضات. فبروتين الإنترليوكين 1 (IL-1) مثلا، يُصنع من قبل نمط من الخلايا البيض الدموية، يعرف بالوحيداتmonocytesأو البلعميات الكبيرة macrophages. إن الإنترليوكين 1 ينبه نمطا آخر من الكريات البيض الدموية لتنتج الإنترليوكين 2 (IL-2)، الذي يحرض بدوره اللمفاويات لتتنامى إلى خلايا مناعية ناضجة. إن بعض اللمفاويات الناضجة، وتعرف بالخلايا الپلازمية (الپلزمية)، تصنع الأضداد antibodies التي تكافح الخمج (العدوى)؛ في حين أن خلايا أخرى، تعرف باللمفاويات السامة للخلاياcytotoxic، تقتل الڤيروسات مباشرة. وتتوسط إنترليوكينات أخرى تنشيط خلايا مناعية معينة ذات علاقة بالتفاعلات الأرجية (التحسسية) allergic.

 

المحور HPA (الوطاء ـ النخامة ـ الكظر)

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008586.jpg

يعد المِحْور HPA (الوطاء ـ النخامة ـ الكظر) مكونا مركزيا لاستجابة الدماغ الهرمونية (الغدية الصماوية) العصبية للكرب. فعندما يُنبّه الوطاء، يُفرز الهرمون المحرر للموجهة القشرية (CRH) في الجملة البابية النخامية، التي تزود النخامة الأمامية بالدم. وعندئذ ينبه الهرمون CRH النخامةَ (تبيّن الأسهم الحمر السبل التنبيهية) لتفرز في الدم الهرمون الموجه لقشرة الكظر (ACTH). ثم يدفع هذا الهرمون غدة الكظر لتحرر الكورتيزول، الهرمون المُتعارف للكرب والذي يستثير الجسم ليواجه مواقف التحدي. بيد أن الكورتيزول يعدل آنئذ الاستجابة الكربية (تشير الأسهم الزرق إلى التأثيرات المثبطة) بتأثيره في الوطاء، ليثبط التحرير المستمر للهرمون CRH. ولكونه أيضا منظما مناعيا قويا، فإن الكورتيزول يعمل على أجزاء من الجهاز المناعي كي يمنعها من أن تفرط في فاعليتها، فلا تلحق الأذية بالخلايا والنسج الصحيحة.

 

وسُميت الإنترليوكينات بهذا الاسم كي يعكس ما كان يعتبر وظيفتها الأولية: الاتصال بين (“-inter”) الخلايا البيض الدموية (“leukins”). ولكن يعرف الآن أن الإنترليوكينات تعمل أيضا كإشارات كيميائية بين الخلايا المناعية وبين أنماط خلوية وأعضاء أخرى، بما في ذلك أجزاء من الدماغ؛ ولهذا ابتُكِر لها اسم جديد هو السيتوكينات cytokines. فالسيتوكينات هي جزيئات بيولوجية تستعملها الخلايا في الاتصال. إن كل واحد منها نوع من الجزيئات البروتينية المتفردة تكوده(8) جينة خاصة به ويستهدف نمطا خلويا محددا. ويمكن للسيتوكين إما أن ينبه استجابة ما أو أن يثبطها، وذلك بالاعتماد على وجود سيتوكينات أخرى أو منبهات أخرى وتبعا للحالة الظرفية للفاعلية الاستقلابية. وتتيح هذه المرونة للجهاز المناعي اتخاذ أكثر التدابير ملاءمة بغية استقرار الوسط الخلوي الموضعي والحفاظ على الاستتباب.

 

وبوسع سيتوكينات الجهاز المناعي للجسم أن ترسل إشارات إلى الدماغ بطرائق عديدة. وعادة ما يقي الحاجزُ (الحائل) الدموي الدماغي(9) blood-brainbarrier الجملةَ العصبية المركزية من الجزيئات ذات الخطورة الكامنة الموجودة في الدوران الدموي. بيد أن هذا الحاجز يصبح أكثر نفوذية أثناء الالتهاب أو الاعتلال، فتُحمل السيتوكينات عندئذ مع الغُذيات(10)  الموجودة في الدم إلى الدماغ. ومع أن سيتوكينات أخرى تعبر هذا الحاجز باستمرار، فإن تأثيراتها لا تتطلب بالضرورة اجتيازها الحاجز الدموي الدماغي. ويمكن للسيتوكينات التي تصنعها بطانة الأوعية الدموية للدماغ، أن تنبه تحرير إشارات كيميائية ثانوية في نسج الدماغ المحيطة بالأوعية الدموية.

 

ويمكن أيضا للسيتوكينات أن تبعث إشارات إلى الدماغ عبر سبل عصبية مباشرة، كالعصب المبهم vagus الذي يعصب القلب والمعدة والمعي الدقيق وأعضاء أخرى في الجوف البطني. فَحَقْن الإنترليوكين11 في هذا الجوف يُفَعِّل نواة السبيل المفرد tractus solitarius (المنطقة الرئيسية في جذع الدماغ)، التي تتلقى الإشارات الحسية الحشوية. وقطع العصب المبهم يحصر تفعيل السبيل النووي بوساطة الإنترلوكين 1. هذا وإن إرسال الإشارات عبر السبل العصبية يُعتبر الآلية الأسرع (من رتبة ملّي ثانية)، التي تقوم السيتوكينات بوساطتها بتوصيل الإشارات إلى الدماغ.

 

إن تفعيل الدماغ بوساطة السيتوكينات الواردة من الأقسام المحيطية للجسم، يُحرِّض سلوكيات استجابة الكرب، كالقلق والتجنب الحذر؛ هذه السلوكيات التي تُبقي الفرد بعيدا عن إمكانات التأذي ريثما تزول المسببات تماما. ومن عانى الوسن lethargy وفرط النوم خلال اعتلال ما، يتعرّف هذه المجموعة من الاستجابات المميزة، التي تعرف «بسلوك السُّقام»(11).

 

وتنتج العصبونات وخلايا الدماغ اللاعصبونية سيتوكينات تصنعها بنفسها. وتنظم السيتوكينات في الدماغ نمو الخلايا العصبية وموتها، كما أنها تُعبأ من قبل الجهاز المناعي لتنبه تحرير الهرمون CRH. ومنظومة السيتوكين -الإنترليوكين1 في الدماغ هي حاليا أفضل ما دُرس من منظومات، فلقد تم تعرُّف جميع مكوناتها، بما في ذلك المستقبلات والضادات antagonistsالطبيعية الحدوث، التي تترابط بمستقبلات الإنترلوكين 11 من دون أن تفعِّلها. ويتم حاليا وضع خريطة التوضعيْن التشريحي والخلوي لدارات الإنترليوكين 1 على نحو تفصيلي، كما أن هذه المعارف ستساعد الباحثين على تصميم عقاقير تعوق أو تعزز أفعال تلك الدارات والوظائف التي تنظّمها.

 

تأثر الدماغ والجهاز المناعي

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008587.jpg

يمكن للدماغ والجهاز المناعي (الأسهم الحمر) إما أن يُنبه أو يثبط أحدهما الآخر (الأسهم الزرق). فخلايا الجهاز المناعي تنتج السيتوكينات (إشارات كيميائية)، التي تنبه الوطاء عبر الدورة الدموية (الدوران) أو الأعصاب المنتشرة في أنحاء الجسم. ويُنشِّط الهرمون CRH، الذي ينتجه الوطاء، المحور HPA. ويعمل تحرير الكورتيزول على إخماد الجهاز المناعي. وبتأثيره في جذع الدماغ، فإن الهرمون CRH ينبه الجملة العصبية الودية التي تستثير الأعضاء المناعية، وينظم هذا الهرمون الاستجابات الالتهابية في أنحاء الجسم كافة. ويؤدي تعطل هذه الاتصالات بأية طريقة من الطرق، إلى استعداد أكبر للإصابة بالأمراض وإلى مضاعفات مناعية.

 

ويمكن لكميات زائدة من السيتوكينات في الدماغ أن تغدو سامة للأعصاب. وتبدي الجينات المغترسة في فئران مهندسة جينيا (والتي تُعبِّر بإفراط عن السيتوكينات) تأثيرات سامة للأعصاب. كما أن بعض الأعراض العصبية للإيدز في الإنسان تنجم عن تعبير مفرط في الدماغ من سيتوكينات معينة. ولقد وُجدت تراكيز عالية من الإنترليوكين 1 (ومن سيتوكينات أخرى) في نُسجٍ دماغية أُخذت من مرضى يتعايشون مع الإيدز، وتبين أن هذه التراكيز تتمركز في مناطق تحيط بالبلعميات العملاقة التي تجتاح نسج دماغ المريض.

 

ويؤدي ضعف الاتصال بين الدماغ والجهاز المناعي إلى تعاظم الاستعداد للإصابة بالأمراض الالتهابية، وأحيانا إلى زيادة وخامة الاختلاطات المناعية. فعلى سبيل المثال، تغدو الحيوانات (التي قطعت لديها الاتصالات الدماغية-المناعية بالجراحة أو بالعقاقير) كثيرة التعرض للاختلاطات المميتة التي تنشأ عن الإصابة بالأمراض الالتهابية والخمجية.

 

ويترافق الاستعداد للإصابة بالأمراض الالتهابية مع الضعف الجيني (الوراثي) للاستجابة الكربية لدى أنواع حيوانية عديدة، كالجرذان والفئران والدجاج، وربما لدى الإنسان أيضا، علمًا بأن الدليل هنا غير مباشر. فذرية لويزLewis الجرذية مثلا هي عرضة بشكل طبيعي للإصابة بأمراض التهابية عديدة نتيجة ضعف شديد للمحور HPA (الوطاء ـ النخامة ـ الكظر)، حيث يُنْقِص هذا الضعف كثيرا إفراز الهرمون CRH كاستجابة للكرب. وعلى النقيض من ذلك، فإن المحور HPA المفرط الاستجابة لدى الذرية الجرذية فيشر Fischer  يمنحها مقاومة  عالية تجاه الأمراض الالتهابية.

 

الهرمون CRH والموضع الأزرق والجملة العصبية الودية

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008588.jpg

الهرمون الوطائي CRH تغيرات مهمة في تلاؤم الكرب والالتهاب بطرق تختلف عن تحريض تحرير الكورتيزول من غدة الكظر. وتمتد السبل الصادرة عن العصبونات المفرزة للهرمون CRH في الوطاء إلى الموضع الأزرق في جذع الدماغ. وتؤثر سبل مستقلة لعصبونات وطائية أخرى (متجهة إلى جذع الدماغ) في فاعليات الجملة العصبية الودية التي تعدل الاستجابات الالتهابية، كما أنها تنظم الفاعليات الاستقلابية والقلبية الوعائية. ويحدث تنبيه الموضع الأزرق بوساطة الهرمون CRH سلوكا صائنا كالتيقظ والخوف (يشير اللون الأحمر إلى التنبيه والأزرق إلى التثبيط). ويزود الموضع الأزرق بدوره الوطاء بتغذية (بتلقيم) ارتجاعية، ليستمر في إنتاج الهرمون CRH، ويؤثر أيضا في الجملة العصبية الودية. وإن التغذية الارتجاعية الذاتية التثبيط تُبقي على فعاليات الهرمون CRH والموضع الأزرق تحت السيطرة.

 

وتزودنا الدراسات الدوائية والجراحية بالأدلة عن العلاقة السببية بين الاستجابة الكربية المُضعفة وبين الاستعداد للإصابة بالأمراض الالتهابية. فالمداخلات الدوائية، كالمعالجة بعقار يعيق مستقبلات الكورتيزول، تعزز أمراض المناعة الذاتية الالتهابية. كما أن حقن جرع منخفضة في جرذان لديها استعداد للإصابة بالأمراض الالتهابية يعزز مقاومتها لهذه الأمراض. واستئصال الغدة النخامية أو الكُظْريْن من جرذان تقاوم عادة الأمراض الالتهابية، يجعلها ذات استعداد كبير للإصابة بهذه الأمراض. وتأتي أدلة أخرى إضافية من دراسات تم فيها اغتراس نسيج الوطاء لجرذان مقاومة لهذه الأمراض في أدمغة جرذان أخرى ذات استعداد للإصابة، فأدى ذلك إلى تحسن مثير لديها في مقاومة هذه الأخيرة للأمراض الالتهابية المحيطية(12).

 

وتوضح هذه الدراسات التي أجريت على الحيوانات بأن اختلال استجابة الدماغ للكرب يعزز استجابة الجسم للأمراض الالتهابية، وأن إعادة بنيان الاستجابة الكربية تُخفض الاستعداد للالتهاب. ويتمثل أحد الأمور، التي تقتضيها هذه الاكتشافات، بأن تعطيل منظومة الاتصال الدماغي المناعي بوساطة عوامل التهابية أو سُمّية أو خمجية، يسهم في حدوث بعض التباينات في سيرورة الاستجابة الالتهابية للجهاز المناعي.

 

الهرمون المحرر للموجهة القشرية والاكتئاب

ومع أن البرهان على دور الاستجابة الكربية في الأمراض الالتهابية لدى الإنسان أكثر صعوبة، فإن الأدلة تتنامى على أن طيفا واسعا من هذه الأمراض يترافق مع إخلال المحور HPA  (الوطاء ـ النخامة ـ الكظر) ومع مستويات أكثر انخفاضا من إفراز الهرمون CRH الذي يدفع في النهاية الجهاز المناعي ليغدو مفرط الفاعلية. وعلاوة على ذلك، فإن مرضى اضطراب المزاج، المعروف بالاكتئاب اللانمطي atypical depression، يعانون أيضا استجابة كربية موهنة وضعفا في وظيفة الهرمون CRH، الأمر الذي يؤدي بهم إلى الوسن والتعب وزيادة النوم وارتفاع تواتر الإطعام الذي غالبا ما ينجم عنه زيادة في وزن الجسم.

 

كما أن المصابين بأمراض تتميز بالوسن والتعب، كمتلازمة التعب المزمن والألم العضلي الليفي fibromyalgia والاضطراب الاعتلالي الفصلي(SAD) (13)، يبدون ملامح الاكتئاب وفرطا في فاعلية الجهاز المناعي. وعلى نحو نموذجي، يُظهر مريض متلازمة التعب المزمن وسنا موهنا أو إرهاقا يطول مدة ستة أشهر أو أكثر من دون سبب طبي واضح، ويصاب بحمى ويعاني آلاما في المفاصل والعضلات، كما يُظهر أعراضا أرجية ومستويات عالية من الأضداد الخاصة بطيف واسع من المستضدات الڤيروسية (بما في ذلك ڤيروس إپيشتاين ـ بارEpstein-Barr virus).

 

ويعاني مرضى الألم العضلي الليفي أوجاعا عضلية وآلاما في المفاصل واضطرابا في النوم وأعراضا تماثل بداية التهاب المفصل الرثياني rheumatoidarthritis غير الحاد. ويترافق كل من هذين الاعتلالين بتعب شديد، يشبه تعب الاكتئاب اللانمطي. أما الاضطراب الاعتلالي الفصلي SAD، الذي يحدث عادة في الشتاء، فيتميز نمطيا بالوسن والتعب وزيادة المدخول الطعامي واتساع فترات النوم. إن كثرة من أعراض المرض SAD تماثل تلك الخاصة بالاكتئاب  اللانمطي.

 

ويسهم عوز الهرمون CRH في حدوث الوسن لدى مرضى يعانون متلازمة التعب المزمن. إن حقن مرضى هذه المتلازمة بالهرمون CRH يؤدي إلى إفرازٍ آجلٍ ومتباطئ للهرمون ACTH من قبل المِحْور HPA. ولقد لوحظت الاستجابة نفسها في مرضى أُصيبت وطاءاتهم وفي مرضى أصيبوا بأورام. كما أن التعب وفرط فاعلية الاستجابة المناعية، يترافقان مع عوز الكورتيزول الذي يحدث عندما يتناقص إفراز الهرمون CRH. إن تراكيز الهرمون واستجابات مرضى متلازمات التعب لا تُبرهن، إنما تقترح فقط أن وظائف المحور HPA  لديهم قد ضَعُفت، فنجم عن ذلك انخفاض في إفراز الهرمون CRH والكورتيزول وازدياد في فاعلية الجهاز المناعي. إن هذه الاكتشافات بعضها مع بعض تشير إلى أنه يمكن معالجة الاعتلال البشري المتميز بالتعب وفرط المناعة، وذلك بعقاقير تحاكي تأثيرات الهرمون CRH  في الدماغ.

 

وعلى النقيض من ذلك، فإن الشكل المعهود للاكتئاب، أو السوداويةmelancholia، هو في واقع الأمر ليس تعطلا وكبتا للأفكار والمشاعر؛ بل يمثل، على الأصح، حالة منظمة من القلق. إن قلق السوداوية هو أساسا فرط في الحرص على الذات. ويشعر المرضى السوداويون أنهم مُفْقَرون ومعيبون، وغالبا ما يشعرون باليأس فيما يمكن أن تتوقعه نفوسهم التي يعتبرونها غير جديرة بالحب أو بالنجاح في العمل. كما أن فرط فاعلية القلق لدى المرضى السوداويين يتبدى بشعورهم أنهم غير حصينين وأنهم معرضون دائما للهجوم. وغالبا ما يفسر المرضى السوداويون تلميحا حياديا نسبيا على أنه نذيرُ تَخَلٍّ عنهم أو ارتباكٌ يحل بهم.

 

إن المرضى السوداويين يُظْهرون أيضا تغيرات سلوكية تشير إلى فرط استثارة فيزيولوجية. كما أنهم يعانون على نحو مميز الأرقَ (الاستيقاظ عادة في ساعة مبكرة) وفقدان الشهية والفاعليةِ الجنسية والحيض. ويُعد الفرط المستدام لإفراز الكورتيزول أكثر الشذوذات البيولوجية انتشارا لدى مرضى السوداوية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008589.jpg

تنتقل الإشارات المناعية إلى الدماغ عبر الدورة الدموية إما مباشرة وإما بصورة غير مباشرة. فالخلايا المناعية، كالوحيدات (نمط من الخلايا الدموية البيض)، تنتج مرسالا كيميائيا، يعرف بالإنترليوكين IL-1) 1) الذي لا يجتاز عادة الحاجز الدموي الدماغي. بيد أن أوعية دموية دماغية تحوي موصلات فيها مَسرب، تسمح لجزيئات الإنترليوكين 1 بالعبور إلى الدماغ. عندئذ تفعّل هذه الجزيئات المحور HPA وجملا عصبية أخرى. كما أن الإنترليوكين 1 يترابط بمستقبلات موجودة على الخلايا البطانية (التي تبطن الأوعية الدموية الدماغية). ويدفع هذا الترابط إنزيمات الخلايا لتنتج أكسيد النتريك أو الپروستاگلاندينات prostaglandins، التي تنتشر إلى الدماغ وتؤثر مباشرة في العصبونات.

 

لقد أُجريت دراسات عديدة على مرضى الاكتئاب الخطير بغية تحديد ما إذا كان المستوى المرتفع للكورتيزول والمترافق مع الاكتئاب، ذا علاقة بالاستجابة المناعية المكبوتة. لقد وجد بعضهم علاقة بين الكورتيزولية المفرطةhypercortisolism والكبت المناعي، في حين لم يلحظ بعضهم الآخر هذه العلاقة. ولأن للاكتئاب أسبابا عقلية وكيميائية حيوية متنوعة، يُلاحظ الكبت المناعي لدى بعض مرضى الاكتئاب فقط.

 

وبصورة أساسية ينجم الإفراز المفرط للكورتيزول لدى مرضى السوداوية من الإفراز الزائد للهرمون CRH، الذي يتأتى بدوره من عيب في بنية الوطاء أو في البنى التي تعلوه. وهكذا، فإن المظاهر السريرية والكيميائية الحيوية للسوداوية، تعكس استجابة كربية شاملة، تملصت من التنظيم المضاد المعتاد، الأمر الذي يبقيها في الوضعية الفاعلة.

 

إن تأثيرات الأدوية الثلاثية الحلقات المضادة للاكتئاب على مكونات الاستجابة الكربية، تدعم المفهوم القائل بأن السوداوية تترافق مع استجابة كربية حادة. فإعطاء الجرذان (على نحو منتظم) جرعا معتدلة من مضاد الاكتئاب الثلاثي الحلقات إيميپرامين imipramine  يخفض تخفيضا معنويا طلائع الهرمون CRH في الوطاء. كما أن إعطاء الإيميپرامين مدة شهرين لأناس أصحاء يتمتعون بمستويات سوية من الكورتيزول، يخفض تخفيضا تدريجيا ومستديما إفراز الهرمون CRH والوظائف الأخرى للمحور HPA، الأمر الذي يشير إلى أن التنظيم النازل(14) لمكونات مهمة من الاستجابة الكربية هو تأثير داخلي  المنشأ للإيميپرامين.

 

ويترافق الاكتئاب أيضا مع الأمراض الالتهابية. فعشرون في المئة من مرضى التهاب المفصل الرثياني يتطور لديهم اكتئاب سريري في مرحلة ما من مراحل سيرورة إصابتهم المفصلية. وغالبا ما يستعمل السريريون في تشخيص الاكتئاب استبيانا يشتمل على نحو دزينة من الأسئلة، يجاب عنها دائما بالإيجاب من قبل مرضى التهاب المفاصل.

 

الاكتئاب والاعتلال

في الماضي كان الأطباء يعتبرون أن الترابط بين الأمراض الالتهابية والكرب هو نتيجة ثانوية بالنسبة إلى الألم المزمن والوهن اللذين يحدثهما المرض. إن الاكتشاف الذي حدث مؤخرا للأساس المشترك للاستجابتين المناعية والكربية، يقدم تفسيرا لملاحظة أن المريض يبدي استعدادا للأمراض الالتهابية وللاكتئاب في آن واحد. فخلل التنظيم الهرموني، الذي يشكل أساسا مزدوجا للأمراض الالتهابية وللاكتئاب، إما أن يؤدي إلى الاعتلال (في حال أن المنبه المؤثر يحرض على الالتهاب) أو إلى الاكتئاب النفسي. وهذا ما يفسر لماذا لا يتوافق دائما في مرضى التهاب المفصل تعاظم، أو تضاؤل، الاكتئاب مع ثورة الالتهاب.

 

إن الاعتقاد الشائع بأن الكرب يعمل على تفاقم الاعتلالات الالتهابية وإن الارتخاء أو إزالة الكرب يحسن حالة المريض الالتهابية، يستند فعلا إلى أساس واقعي. فالتآثرات بين الكرب والجهاز المناعي والاستجابة الهرمونية، التي تتشارك هذه الجمل فيها، تفسر كيف تؤثر المحاولات الواعية في الاستجابة المناعية من أجل تلطيف الاستجابة الكربية.

 

ولا يُعرف حتى الآن مقدار الاستجابة الكربية المحدد جينيا (وراثيا)، ولا يعرف أيضا نسبة ما يمكن للوعي أن يتحكم فيه. ولكن من المؤكد إلى حد ما أن عتبة استهلال الاستجابة الكربية محددة جينيا. فيمكن لحدث معين أن يكون فيزيولوجيا شديد الكرب فيما يتعلق بفرد ما، وأن يكون أقل كربا بكثير فيما يتعلق بفرد آخر؛ إذ إن ذلك منوط بدرجة نزوع الفرد الوراثية للتفاعل مع الهرمونات. فالدرجة، التي يمكن للكرب أن يعجل أو يفاقم فيها المرض الالتهابي، تعتمد عندئذ على شدة المنبه المُكرب وعلى عتبة استهلال عمل الجهاز الكربي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H01_008590.jpg

يُعد تبديل الفاعلية الجينية للخلايا المناعية أحد تأثيرات الكورتيزول. وإن مستقبلة الكورتيزول في الخلية المناعية تُطوى وتربط ببروتينات «صدمة حرارية» ضخمة. فعندما يدخل الكورتيزول الخلية وينضم إلى مستقبلته، ينزاح البروتين وتنبسط المستقبلة. وعندئذ تنضم المستقبلة إلى الدنا DNA في النواة، مغيرة بذلك انتساخ الخلية للرنا المرسال mRNA) وإنتاجها للبروتين. ويترابط جزيئان آخران، هما c-foc و c-jun، بالمستقبلة لزيادة نوعية فعلها. تغادر البروتينات المُنتَجة الخليةَ وتؤثر تأثيرا مباشرا في إنتاج السيتوكينات واللمفاويات.

 

ويمكن للكرب النفسي أن يؤثر في استعداد المرء للإصابة بالأمراض الخمجية. فتنظيم الجهاز المناعي بوساطة منظومة الكرب الهرمونية العصبية يزودنا بالأساس البيولوجي لفهم الكيفية التي يؤثر وفقا لها الكرب في هذه الأمراض. وهنالك ما يدل على أن الكرب يؤثر فعلا في الاستجابة المناعية للإنسان تجاه الڤيروسات والبكتيريا. فلقد أوضحت الدراسات، التي أجريت على متطوعين أُعطوا جرعا معيارية من ڤيروس الزكام (الڤيروس الأنفيrhinovirus)، بأن الأفراد الذين تعرضوا تزامنيا للكرب أصيبوا بعدد أكبر من الجسيمات الڤيروسية وأنتجوا كميات أكبر من المخاط مقارنة بأقرانهم غير المكروبين. كما أن طلبة الطب، الذين تلقّوا لقاح التهاب الكبد أثناء امتحاناتهم النهائية، لم يطوروا حماية كاملة ضد التهاب الكبد. وتنطوي هذه الاكتشافات على جوانب مهمة فيما يتعلق ببرمجة التلقيح. فالناس الذين يتم تلقيحهم أثناء فترات الكرب لا يطورون على الأرجح حماية ضدية تامة.

 

وتقدم الدراسات التي تُجرى على الحيوانات دليلا إضافيا على أن الكرب يؤثر في سيرورةِ وشدة الاعتلال الڤيروسي والمرض البكتيري والصدمة الإنتانية. ويجعل الكرب شدة الإنفلونزا (النزلة الوافدة) لدى الفئران أسوأ، ويؤثر في كل من المحور HPA والجملة العصبية الودية. وتشير الدراسات التي أجريت على الحيوانات إلى أن آليات هرمونية (غدية صماوية) عصبية تؤدي دورا مماثلا في أخماج ڤيروسية أخرى، بما في ذلك ڤيروس العوز المناعي البشري (HIV)، وتقدم آلية لفهم الملاحظات السريرية التي تشير إلى أن الكرب قد يعمل على تفاقم سيرورة الإيدز. ويزيد الكرب استعداد الفئران للخمج بالمتفطرة السلّية mycobacteria  التي تسبب التدرن (السل). ولقد أمكن البرهان على أن سلامة المحور HPA تصون الجرذان من التأثير الإنتاني المميت لبكتيريا السالمونيلاّ. وأخيرا، فإن فهم التآثرات بين الاستجابة المناعية والاستجابة الكربية، يساعد على تفسير الملاحظات المحيرة التي تشير إلى أن التكييف النفسي المعهود للحيوان يمكن أن يؤثر في استجاباته المناعية. فمثلا، مزج كل من <R. أدر> و <N. كوهن> (من جامعة روشستر)، في عملهما على الجرذان، الماء المنكَّه بالسكارين مع عقار كابت مناعيا، فتبين لهما في النهاية أن السكارين بمفرده أنقص الوظيفة المناعية على نحو يماثل ما سبّبه العقار.

 

وليس الكرب شخصيا فحسب، بل إنه يُدرك عبر التآثرات مع الآخرين. فالتآثرات الاجتماعية قد تزيد، أو تنقص، الكرب النفسي وتؤثر على نحو مماثل في الاستجابة الهرمونية تجاه هذا الكرب، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير الاستجابة المناعية. وهكذا، فإن الكرب الاجتماعي النفسي الذي يعانيه الفرد، يؤثر في استعداده للإصابة بالأمراض الالتهابية والخمجية، كما يؤثر في سيرورة المرض. فمثلا، بيَّنت الدراسات أن الأشخاص الذين يتعرضون لكرب اجتماعي مزمن لأكثر من شهرين، يزداد استعدادهم للإصابة بالزكام.

 

وأوضحت دراسات أخرى أن الاستجابات المناعية للذين يسهرون فترة طويلة على راحة المريض، كأزواج مرضى ألزايمر، تغدو مكبوتة. كما أن هذه الاستجابات تكون كذلك لدى الأزواج التعساء في حياتهم الزوجية ولدى المطلقين أيضا، وغالبا ما يتولد لدى الزوجة شعور باليأس وتعاني القدر الأعظم من الكرب. وفي مثل هذا السيناريو، تبيّن أن مستويات هرمونات الكرب قد ارتفعت وأن درجات الاستجابات المناعية غالبا ما تنخفض لدى الزوجة وليس لدى الزوج.

 

وعلى النقيض من ذلك، فإن البيئة الإيجابية المشجِّعة لعلاقات اجتماعية واسعة أو لمعالجات نفسية جماعية، تعزز الاستجابة المناعية ومقاومة الأمراض، بما في ذلك السرطان. كما أن النسوة اللواتي أُصِبْْن بسرطان الثدي مثلا ويتلقين أثناء المرض تشجيعا اجتماعيا إيجابيا قويا، تكون أعمارهم أطول بشكل بيّن من أعمار قريناتهن اللواتي كن محرومات من ذلك التشجيع.

 

مقاربات علاجية جديدة

ولقرون عديدة، كانت المعالجة المتاحة لكثرة من الأمراض المزمنة تتم حصرا إما في مصح جبلي أو في منتجع للمياه المعدنية الحارة. بيد أن الفهم المعاصر للاتصال بين الدماغ والجهاز المناعي زوّد الباحثين بتفسير فيزيولوجي لنجاح هذه المعالجات في بعض الأحيان. فتعطُّل شبكة الاتصال هذه يؤدي إلى زيادة الاستعداد للمرض ويجعل سيرورة الاعتلال أسوأ. كما أن إصحاح منظومة الاتصال هذه (سواء بوساطة عوامل دوائية أو بمؤثرات الارتخاء لمنتجع للمياه المعدنية الحارة) سيشكل الخطوة الأولى على طريق الشفاء.

 

والنتيجة الطبيعية لهذه الاكتشافات هي أنه يمكن استعمال العقاقير الفاعلة نفسيا لمعالجة الأمراض الالتهابية، وأن الأدوية التي تؤثر في الجهاز المناعي قد تكون مفيدة في معالجة بعض الاضطرابات النفسية. وتتنامى الأدلة على أن نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخرين، وأسلوب تعاملنا مع الكرب، وكذلك تركيبنا الجيني (الوراثي)، تؤثر كلُّها في فاعلية الجهاز المناعي. وبالمثل، تتوافر أدلة قوية على أن الأمراض المرتبطة بالالتهابات المزمنة تؤثر تأثيرا بارزا في مزاج المرء ودرجة قلقه. وأخيرا، فإن هذه الاكتشافات تشير إلى أن تصنيف الأمراض في اختصاصات طبية ونفسية، وكذلك الحدود التي وضعت بين العقل والجسد، هي أمور مصطنعة ليس إلا.

 

المؤلفان

E. M. Sternberg – Ph. W. Gold

قاما ببحوثهما على الكرب والجهاز المناعي في المعهد الوطني للصحة العقلية، حيث ترأست سترنبرگ شعبة علم الغدد الصماوية العصبية والسلوك، ويرأس گولد فرع علم الغدد الصُّمّ السريري. حصلت سترنبرگ على الدكتوراه في الطب من جامعة ماگيل، وقد أسفرت بحوثها على آلية الاتصال المناعي العصبي وأساسها الجزيئي عن تنامي الاعتراف بأهمية التآثر العقلي الجسدي. كما أنها تعد حجة فيما يتعلق بمتلازمة الألم العضلي الناجم عن كثرة الحَمِضات للترپتوفان اليساري (المدور لليسار) L-tryptophan eosinophilia myalgia syndrome، هذه المتلازمة التي كادت تشكل وباء (جائحة) عام 1989. أما گولد، فتلقى تدريبه الطبي في جامعتي ديوك وهارڤارد، قبل أن يلتحق عام 1989 بالمعهد الوطني للصحة العقلية. يعد گولد وفريقه من الأوائل الذين قدموا بيانات تشير إلى تورط الهرمون المحرر للموجهة القشرية (CRH) ، والهرمونات الأخرى ذات الصلة بهذا الهرمون، في الفيزيولوجيا المرضية للاكتئاب السوداوي وللاكتئاب اللانمطي وفي آليات تأثير العقاقير المضادة للاكتئاب.

 

مراجع للاستزادة 

NEURAL-IMMUNE INTERACTIONS. David L. Felton and Suzanne Y. Felton in Encyclopedia of Human Biology. Academic Press, 1991.

THE CONCEPTS OF STRESS AND STRESS SYSTEM DISORDERS. G. P. Chrousos and P. W. Gold in Journal of the American Medical Association, Vol. 267, No. 9, pages 1244-1252; March 4, 1992.

ENDOCRINE AND IMMUNE FUNCTION. J. K. Kiecolt-Glaser, W. Malarkey, J. T. Cacioppo and R. Glaser in Handbook of Human Stress and Immunity. Edited by R. Glaser and J. K. Kiecolt-Glaser. Academic Press, 1994.

STRESS: MECHANISMS AND CLINICAL IMPLICATIONS. G. P. CIIIOUS05, R. McCarty, K. Pacak, G. Cizza, Esiher M. Sternberg, Philip W. Gold and R. Kvetnansky in Annals of the New York Academy of Sciences, Vol. 771, 1995.
EMOTIONS AND DISEASE: FROM BALANCE OF HUMORS TO BALANCE OF MOLECULES. Esther M. Sternberg in Nature Medicine, Vol. 3, No. 3, pages 264-267; March 1997.

THE NEUROLOGIC BASIS OF FEVER. Clifford B. Saper and Christopher D. Breder in New England Journal o f Medicine, Vol. 330, No. 26, pages 1880-1886; June 30, 1997.

EMOTIONS AND DISEASE. Catalogue for an Exhibition at the National Library of Medicine and National Institutes of Health. Edited by Esther M. Sternberg and Elizabeth Fee. Friends of the National Library of Medicine, Bethesda Md. May 1997.

National Institutes of Health World Wide Web site for information on emotions and disease:http://ohrm.od.nih.gov/ose/snapshots/

 

(*) The Mind-Body Interaction in Disease

 

(1) pathogens: العوامل المسببة للأمراض.

(2) survival: البقاء على قيد الحياة.

(3) fight-or-flight: رد فعل غريزي هرموني عصبي، يتكون عند مواجهة خطر مهدد للحياة، وتُحْشد له وظائف التصدي والقتال أو الهرب.

(4) suboptional

(5) cross communication

(6) messengers

(7) feedback

(8)encode.

(9) [انظر: «اختراق الحاجز الدموي»، مجلة العلوم، العددان 8/9(1994)، ص 30]

(10) nutrients

(11) sickness behavior: مجموعة من الاستجابات تتميز بالكرب والقلق والتجنب الحذر وفرط النوم والوسن.

(12) peripheral inflammation

(13) seasonal affective disorder: اعتلال يتميز بالوسن والتعب والاكتئاب وغالبا ما يحدث في الشتاء.

(14) down regulation: تنسيق وظائف الجزيئات من موضع تركيبها باتجاه الأعضاء المستفعلة بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى