أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الدماغ

مشكلة الوعي


مشكلة الوعي(*)

يمكن الآن معالجة هذه المشكلة بالتقصي العلمي

للجهاز الإبصاري، وسيتطلب حلها تعاونا وثيقا بين

علماء النفس وعلماء الجهاز العصبي إلى جانب المنظِّرين(1).

< F. كريك> ـ < Ch. كوخ>

 

في هذه الأيام، يتناول السؤال المحوري في البيولوجيا العصبية العلاقةَ بين العقل والدماغ، فالجميع متفقون على أن ما نسميه “العقل” له علاقة حتمية ببعض نواحي سلوك الدماغ، وليس بالقلب كما ظن أرسطو. وأكثر نواحي هذه العلاقة غموضا هو الوعي، أو الاطلاع الشعوري awareness، الذي يمكن أن يتخذ أشكالا كثيرة، بدءا من الإحساس بالألم وانتهاء بالوعي بالذات self-conscoiousness. وغالبا ما اعتُبر العقل (أو الروح) في الماضي شيئا غير مادي (كما كان يعتقد ديكارت)، وأنه منفصل عن الدماغ ولكنه يتفاعل معه بطريقة ما. ولايزال بعض المشتغلين بالعلوم العصبية، مثل السير .J> إيكلز<، يؤكدون أن الروح مستقلة عن الجسد. إلا أن معظم المختصين بالعلوم العصبية يعتقدون الآن أن كل نواحي العقل، بما في ذلك الوعي الذي هو أكثر نواحي العقل إثارة للحيرة، يمكن تفسيرها بطريقة أكثر مادية على أساس اعتبارها سلوك مجاميع كبيرة من الخلايا العصبية المتفاعل بعضها مع بعض. وكما قال <وليام جيمس> (أبو علم النفس الأمريكي) قبل نحو قرن، فإن الوعي ليس شيئا ملموسا بل سيرورة process.

 

إلا أن كُنْه هذه السيرورة بالضبط مازال ينتظر الاكتشاف. ولسنوات عديدة بعد أن خط جيمس كتابه “مبادئ علم النفس”، بقي الوعي مفهوما محظورا في علم النفس الأمريكي، بسبب هيمنة الحركة السلوكية behaviorist movement. ومع ميلاد العلم الاستعرافي cognitive science في أواسط الخمسينات، صار من الممكن لعلماء النفس مرة أخرى أن يعتبروا السيرورات العقلية تقابل سلوك الملاحظة ليس إلاّ. وعلى الرغم من هذه التغيرات، تجاهل العلماء الاستعرافيون مسألة الوعي حتى وقت قريب جدا، كما فعل ذلك أيضا جميع المشتغلين بالعلوم العصبية. فقد كانت هذه المشكلة تعتبر إما مشكلة “فلسفية” خالصة، أو أنها أكثر وَهْما من أن تُدرس دراسة تجريبية. وقد كان من العسير على مشتغلٍ بالعلوم العصبية أن يحصل على منحة من أجل مجرد دراسة الوعي.

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008591.jpg

يمكن استخدام قطة <لويس كارول>

الغائبة عن النظر لدراسة الشعور الواعي

 

وفي رأينا أن هذا الجُبْن مدعاة للسخرية، ولهذا فقد بدأنا منذ سنوات قليلة نفكر في الطريقة المثلى لاقتحام هذه المشكلة اقتحاما علميا. فكيف يمكننا تفسير الأحداث العقلية على أنها نتاجُ اضطرامِ firing مجاميعَ كبيرة من العصبونات؟ وعلى الرغم من أن هناك من يعتقد أن هذا المدخل ميؤوس منه، فإننا نشعر أنه من غير المجدي أن نقلق كثيرا على نواحي المشكلة التي لا يستطاع حلها علميا، أو بتعبير أدق لا يمكن حلها فقط باستخدام الأفكار العلمية السائدة. فقد تكون هناك حاجة حقيقية إلى مفاهيم جديدة بشكل جذري. ولنا أن نستعيد إلى الذاكرة تحورات التفكير العلمي التي فرضتها علينا ميكانيكا الكم quantum mechanics. ولعل المدخل المعقول الوحيد هو دفع البحوث التجريبية قُدُما، إلى أن تواجهنا معضلات تستدعي طرقا جديدة من التفكير.

 

هناك مقاربات (مداخل) كثيرة ممكنة لحل مشكلة الوعي. ويشعر بعض علماء النفس أن أي نظرية كي ما تكون مُرضية يجب أن تحاول تفسير أكبر عدد ممكن من نواحي الوعي، بما في ذلك الانفعال والتخيل والأحلام والخبرات الصوفية وغيرها. وعلى الرغم من أننا سنحتاج إلى مثل هذه النظرية الشاملة على المدى الطويل، فإننا نعتقد أنه من الحكمة البالغة أن نبدأ بتلك الناحية من الوعي التي يحتمل أن تكون أكثر سهولة في الخضوع للتجربة العلمية. أما ما هي هذه الناحية من الوعي فهذا أمر متروك للتقدير الشخصي. وقد اخترنا الجهاز الإبصاري للثدييات؛ لأن البشر حيوانات تعتمد على الإبصار اعتمادا كبيرا، ولأنه سبق وتم فعلا الكثير من العمل التجريبي والنظري في هذا المجال. [انظر: “الصورة الإبصارية في العقل والدماغ”،مجلة العلوم، العدد 5 (1995)، الصفحة 26].

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008592.jpg

يتضمن الوعي الإبصاري بصفة أساسية رؤية ما أمامك مباشرة. ولكنه قد يتأثر بتمثيل ثلاثي الأبعاد، يحتفظ به الدماغ للشيء المرئي. فإذا ما نظرت إلى الناحية الخلفية لرأس شخص ما، فإن دماغك يستنتج أن هناك وجها في الناحية الأمامية. ونحن نعلم صحة هذا الاستنتاج، إذ سينتابنا العجب لو أن مرآة كشفت لنا أن الأمام والخلف متماثلان تماما، كما يبدو في هذه اللوحة التي تحمل اسم “ممنوع الاستنساخ” للفنان < R. ماگريت> (1973).

 

وليس من السهل أن نحيط إحاطة دقيقة بما نريد أن نفسره، وسيحتاج الأمر إلى العديد من التجارب المنضبطة قبل أن نصل إلى توصيف علمي للوعي الإبصاري. ونحن لم نحاول أن نعرّف الوعي الإبصاري نفسه، بسبب أخطار التعريف السابق لأوانه. (وإذا بدا هذا نوعا من الهروب، فلنحاول مثلا تعريف كلمة “الجين” gene، فلن نجد هذا الأمر سهلا). ومع ذلك، فإن البراهين التجريبية المتاحة حاليا تمدنا بلمحة عن طبيعة الوعي الإبصاري تكفي لتوجيه البحث العلمي. وفي هذه المقالة، سنحاول أن نبين كيف تمهد هذه البراهين الطرق لاقتحام هذه المشكلة العميقة والمحيرة.

 

ويتفق المنظرون الإبصاريون visual theorists على أن مشكلة الوعي الإبصاري يجري عرضها عرضا سيئا. ويعني المصطلح الرياضياتي “عرض سيئ” illposed حاجتنا إلى قيود إضافية لحل المسألة المطروحة. ومع أن الوظيفة الأساسية للجهاز الإبصاري هي إدراك الأشياء والأحداث في العالم المحيط بنا، فإن المعلومات المتاحة لعيوننا لا تكفي بذاتها لإمداد الدماغ بتأويله المتميز للعالم المرئي. ولكي يؤوِّل الدماغ ما يصل إلى عيوننا من معلومات، يجب عليه أن يستخدم الخبرات السابقة (سواء أكانت خبراته الذاتية أم خبرات أسلافه القدماء، والتي تتضمنها جيناته). ومن أمثلة ذلك استنباط التصور الثلاثي الأبعاد للعالم المحيط انطلاقا من الإشارات ذات البعدين التي تقع على شبكية عَيْنَيْنا أو حتى على إحداهما.

 

ويتفق المنظِّرون الإبصاريون أن الرؤية سيرورة تركيبية، فهي سيرورة يكون على الدماغ فيها أن ينفذ أنشطة مركَّبة (تسمى أحيانا تقديرات computations) كي يستطيع أن يقرر أي تأويل سيتبناه لمدخلاته الإبصارية الغامضة. ويعني مصطلح “التقديرات” أن الدماغ يقوم بتكوين تمثيل (تصوُّر) representationرمزي للعالم الإبصاري، مع رسم خريطة ـ بالمعنى الرياضياتي ـ لنواح معينة من ذلك العالم على بضعة عناصر في الدماغ.

 

وكما هي الحال مع معظم العلماء الاستعرافيين، يفترض < R. جاكندوف> (من جامعة برانديس) أن ما يقوم به الدماغ من تقديرات يتم في اللاوعي، وأن ما نشعر به نحن هو نتائج هذه التقديرات. إلا أن جاكندوف اقترح نظرية للوعي متوسطة المستوى، على الرغم من أن الرأي الرائج هو أن الوعي يحدث عند أعلى مستويات منظومة التقديرات.

 

ويقترح جاكندوف أن ما نراه يكون ذا علاقة بتمثيل للسطوح المرئية لنا مباشرة، إضافة إلى خطوطها الكِفافِيّة (الكنتورات) contours واتجاهاتها وألوانها ونسيجها وحركاتها. (وهذه الفكرة تشبه ما دعاه الراحل < C .D. مار>، من معهد ماساتشوستس للتقانة: “المخطط ذو البعدين ونصف البعد”. وهو أكثر من مخطط ذي بعدين، لأنه يحمل اتجاهات السطوح المرئية؛ كما أنه أقل من المخطط الثلاثي الأبعاد؛ لأنه ينقصه التمثيل الصريح للمعلومات الدالة على العمق). وفي المرحلة التالية يقوم الدماغ بمعالجة هذا المخطط ليصنع تمثيلا ثلاثي الأبعاد. ويزعم جاكندوف أننا لا نعي إبصاريا هذا التمثيل الثلاثي الأبعاد.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008593.jpg

كثيرا ما استعمل <سلڤادور دالي> في لوحاته صورا مبهمة. ففي لوحته “Slave Market with the Disappearing Bust of Voltaire (1940)” يظهر التمثال النصفي للفيلسوف الفرنسي ڤولتير على مبعدة ولكنه يتحول إلى صور لثلاثة أناس إذا ما تم النظر إلى اللوحة عن قرب لصيق. ونشير هنا إلى أن الدراسات على الأشكال المبهمة للنسناس أثناء الأداء قد وجدت أن العديد من الباحات القشرية المخية العليا لا يستجيب إلا للشكل الذي يتم إدراكه حاليا، إذ يحدث إقصاء (كبت) الاستجابة العصبونية للصورة غير المشاهدة unseen image.

 

وقد يتضح الأمر إذا ما ضربنا لهذا مثلا، فأنت إذا نظرت إلى شخص من قفاه فإنك ترى السطح الخلفي لرأسه، ولكنك لا ترى وجهه. ومع ذلك يستنتج دماغك أن هذا الشخص له وجه. إننا نستطيع أن نستنتج بهذا القدر، لأنه إذا استدار ذلك الشخص ولم نجد له وجها فسنصاب بالدهشة.

 

فالتمثيل الذي يركِّز عليه الناظر لقفا الرأس المرئي هو ما تلمّ به أنت بشكل واضح. أما ما يستنتجه دماغك عن واجهة الرأس فإنه يصدر عن نوع من التمثيل (التصور) الثلاثي الأبعاد. ولا يعني ذلك أن المعلومات تتدفق فقط من تمثيل مسطَّح إلى تمثيل ثلاثي الأبعاد، بل يكاد يكون من المؤكد أن المعلومات تتدفق في كلا الاتجاهين. وعندما تتخيل واجهة الوجه فإن ما تلم به هو تمثيل مسطح تولده المعلومات المنبثقة من نموذج model  ثلاثي الأبعاد.

 

ومن المهم أن نميز بين التمثيل الصريح والتمثيل المضمر. فالتمثيل الصريح (الظاهر) explicit representation هو شيء يضم الرمز دون المزيد من المعالجة. أما التمثيل المُضْمَر implicit فيحتوي على المعلومات نفسها ولكنه يتطلب مزيدا من المعالجة لجعله صريحا. فنمط النقط الملونة على شاشة تلفاز مثلا، يحتوي على تمثيل مضمر للأشياء (ولنقل وجه شخص ما)، ولكن الشيء الصريح إن هو إلا البقع الضوئية ومواضعها. وعندما ترى وجها على الشاشة، فلا بد أن يكون هناك عصبونات يَرْمُز اضطرامها بمعنى ما إلى ذلك الوجه.

 

ونسمي هذا الطراز pattern من العصبونات neurons الضارمة تمثيلا إيجابيا. ولا بد أن هناك أيضا تمثيلا كامنا للوجه يختزنه الدماغ، وربما كان ذلك على شكل طراز خاص من الاتصالات المشبكية بين العصبونات. [انظر: “كيف تتعلم الشبكات العصبية من الخبرة”،مجلة العلوم، العدد 5 (1994)، الصفحة 108]. وعلى سبيل المثال، قد يكون هناك تمثيل في دماغك لتمثال الحرية، وهو تمثيل يكون في العادة خاملا. وعندما تفكر فعلا بذلك التمثال يصبح هذا التمثيل نشيطا، إذ ينتاب الاضطرامُ العصبوناتِ ذات العلاقة.

 

وقد يحدث أن يتم تمثيل شيء ما بأكثر من طريقة. فقد تمثله صورة إبصارية أو مجموعة من الكلمات وما يتعلق بها من أصوات، أو قد تمثله لمسة أو رائحة. وهذه التمثيلات المختلفة يحتمل أن يتآثر interact بعضها مع بعض. كما يُحتمل أن يتوزع التمثيل على عدد من العصبونات في موقع واحد (حسبما ذُكر في المقالة “كيف تتعلم الشبكات العصبية من الخبرة”)، أو بشكل شمولي سواء بسواء. وقد لا يكون مثل هذا التمثيل بسيطا ومباشرا بالقدر الذي يمكن أن يشير إليه الاستبطان غير الحاسم(1). فهنالك أدلة ذات مغزى ـ نابعة من دراسة كيفية اضطرام العصبونات في الأجزاء المختلفة من دماغ النسناس من جهة، ومن فحص تأثيرات أنماط معينة من أذيات الدماغ لدى البشر من جهة أخرى ـ تشير إلى أن النواحي المختلفة من الوجه ومضامينه يمكن أن تتمثل في أجزاء مختلفة من الدماغ.

 

فهناك أولا تمثيل الوجه على أنه وجه: بمعنى، عينان وأنف وفم وهلم جرّا. وهنا تكون العصبونات الضالعة في هذا التمثيل عادة غير منمَّقة فيما يخص الحجم المضبوط للوجه أو مكانه في الساحة الإبصارية visiual field، كما لا تكون حساسة جدا للتغيرات البسيطة في اتجاهات الوجه. وفي النسانيس توجد عصبونات تستجيب أفضل استجابة عندما يستدير الوجه نحو جهة معينة، في حين يبدو أن بعض العصبونات الأخرى تهتم أكثر باتجاه تحديق العينين.

 

فهناك إذًا تمثيلات لأجزاء الوجه منفصلة عن التمثيلات الخاصة بمجموع الوجه. وإضافة إلى ذلك، فإن مضامين رؤية وجه ما، مثل جنس الشخص من حيث هو ذكر أو أنثى، وتعبيرات الوجه، ومدى ألفتنا هذا الوجه أو استغرابنا له، وعلى الأخص هوية صاحب هذا الوجه، كل ذلك مرهون بعصبونات تخص كلا منها وتضطرم في أمكنة أخرى من الدماغ.

 

ففي أية لحظة ليس ما نعيه ـ بمعنى أو بآخر ـ شيئا بسيطا. وقد اقترحنا أنه قد يوجد شكل عابر جدا من وعي سريع الزوال يمثل ملامح بسيطة فقط ولا يحتاج إلى آلية للانتباه. ويبني الدماغ من هذا الوعي الخاطف تمثيلا مركزي المنظور (وهو ما نراه بوضوح وحيوية) يتطلب الانتباه فعلا. وهذا بدوره ربما يقود إلى تمثيلات شيئية ثلاثية الأبعاد، ومن ثم إلى تمثيلات أكثر استعرافية.

 

هذا ويحتمل أن يكون للتمثيلات المقابلة للوعي الواضح صفات مميزة خاصة. وقد اعتقد <وليام جيمس> أن الوعي يشتمل على الانتباه والذاكرة القصيرة الأمد كليهما. ويتفق معظم علماء النفس اليوم مع هذا الرأي. ويقول جاكندوف: إن الوعي “يثريه” الانتباه، مشيرا بذلك إلى أنه في حين لا يكون الانتباه أساسيا لبعض أنواع معينة ومحدودة من الوعي، فإنه ضروري للوعي الكامل. إلا أنه ليس من الواضح تماما أي أشكال الذاكرة يدخل في هذه السيرورة. فهل هناك حاجة إلى الذاكرة الطويلة الأمد؟ إن بعض أنواع المعرفة المكتسبة ضالعة في آلية المعالجة العصبية إلى الحد الذي يجعلها تُستخدم بالتأكيد حين تأسيس وعينا بشيء ما. ومن ناحية أخرى، توجد أدلة من دراسات على مصابين بأذيات دماغية تشير إلى أن القدرة على خزن ذاكرات عارضة جديدة طويلة الأمد ليست أمرا أساسيا للوعي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008594.jpg

لاحظ <وليام جيمس>، الذي يعد “أبو علم النفس” الأمريكي، أن الوعي ليس شيئا ملموسا بل هو سيرورة.

 

يصعب علينا أن نتصور أن شخصا ما يمكن أن يكون واعيا إذا خلا من أي ذاكرة لما حدث توًا، حتى ولو كان حدثا قصيرا جدا. وفي مجال الإبصار، يتحدث علماء النفس عما يسمّونه الذاكرة الإيقونية iconic memory التي تدوم جزءا من الثانية، وعن الذاكرة العاملة working memory (مثل تلك المستخدمة في تذكر رقم هاتفي جديد) التي لا تدوم إلا ثواني قليلة ما لم يُجْرَ تكرارها. وليس من الواضح ما إذا كان هذان النمطان من الذاكرة أساسيين لحدوث الوعي. وعلى كل حال فإن تقسيم الذاكرة القصيرة الأمد إلى هاتين الفئتين قد يكون تقسيما فجًا إلى درجة كبيرة.

 

إذا كانت سيرورات الوعي الإبصاري المعقَّدة هذه لها مواضعها الخاصة في أجزاء من الدماغ، فما هي السيرورات المحتملة لكل من تلك المواضع؟ صحيح إن عدة مناطق من الدماغ يمكن أن تتشارك، ولكن من المؤكد تقريبا أن القشرة المخية الحديثة cerebral neocortex تؤدي دورا مسيطرا. وتصل المعلومات الإبصارية الواردة من الشبكية إلى القشرة الحديثة أساسا عن طريق جزء من المهادthalamus، هو النواة الركبية الجانبية (الوَحْشِيّة) lateral. وهناك مسار إبصاري مهم آخر يأتي من الشبكية إلى الأكيمة العلوية superior colliculus في أعالي  جذع الدماغ.

 

تتألف القشرة المخية في الإنسان من صفيحتين من النسيج العصبي مطويتين بشكل معقَّد، وتقع كل واحدة منهما في جانب من الرأس، كما تتصل الواحدة منهما بالأخرى بوساطة سبيل كبير large tract يضم نحو نصف مليار محوار axon ويسمى الجسم الثفني (الجاسئ) corpus callosum. ومعروف جيدا أنه إذا قطع هذا الجسم الثفني (على شاكلة ما يحدث عند معالجة بعض الحالات المستعصية من الصرع) يفقد أحد جانبي الدماغ وعيه لما يراه الجانب الآخر. وبوجه خاص، يبدو أن الجانب الأيسر من الدماغ (في الأشخاص الذين يفضلون استخدام يدهم اليمنى) لا يعي المعلومات الإبصارية التي يستقبلها الجانب الأيمن من الدماغ حصرا. وهذا يبين أن المعلومات المطلوبة لحدوث الوعي الإبصاري لا يصل منها شيء إلى الجانب الآخر من الدماغ أثناء النزول إلى جذع الدماغ ومن ثم العودة إلى المخ مرة أخرى. وفي الشخص السوي تستطيع هذه المعلومات الوصول إلى الجانب الآخر عن طريق استخدام محاوير الجسم الثفني فحسب.

 

ويدخل جزء آخر من الدماغ هو المنظومة الحُصَيْنيّة hippocampal system في تكوين ذاكرات التأثير الأوحد، أي الذاكرات العارضة episodic، وهي التي تمر في غضون أسابيع أو أشهر إلى القشرة المخية الحديثة. وهذه المنظومة تحتل موقعا يسمح من جهة باستقبال المُدْخَلات inputs من أجزاء كثيرة من الدماغ، ومن جهة أخرى بإرسال المُخرجات outputs إلى مناطق كثيرة أخرى منه. وعلى هذا قد يظن المرء أن المنظومة الحصينية هي المقر الأساسي للوعي، إلا أن الأمر ليس كذلك، فدراسة حالات المرضى بتلف الدماغ تُظهر أن هذه المنظومة ليست أساسية بالنسبة إلى الوعي الإبصاري، مع أنه من الطبيعي أن الشخص الذي تنقصه مثل هذه المنظومة يعاني إعاقة بالغة في ممارسة الحياة اليومية لكونه لا يستطيع تذكُّر أي شيء استغرق حدوثه أكثر من دقيقة أو نحوها في الزمن الماضي.

 

تجربة قط تِششَر Cheshire

توضح هذه التجربة البسيطة باستخدام المرآة إحدى نواحي الوعي الإبصاري. وتستند إلى ظاهرة تدعى تنافس العينين. وتحدث هذه الظاهرة حينما تتلقى كل عين مدخلات مختلفة من الجزء نفسه من المجال (الساحة) الإبصاري. وتستطيع الحركة في مجال إحدى العينين أن تسبب محوا كليا أو جزئيا للصورة؛ لأن الحركة تأسر انتباه الدماغ.

ولملاحظة هذا التأثير يَقْسِم الناظر مجال إبصاره بوساطة مرآة موضوعة بين العينين (a)، فترى إحدى العينين القط، في حين ترى العين الأخرى انعكاسا في المرآة لحائط أبيض أو خلفية بيضاء. ثم يُلوِّح الناظر يده الموافِقة للعين الناظرة إلى المرآة، بحيث تمر اليد عبر المساحة التي تظهر فيها صورة القط بالنسبة إلى العين الأخرى (b). والنتيجة هي أن القط قد يختفي. وإذا كان الناظر منتبها لملمح خاص قبل أن يلوح بيده، فإن ذلك الملمح (مثل العينين أو حتى البسمة الساخرة) قد يبقى (c).

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008595.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008596.jpg

 

وبشكل عام، يُحتمل أن القشرة المخية الحديثة للحيوانات اليقظة تعمل بطريقتين. فعن طريق بناء تشبيك وصلات عصبي wiring فج وفضفاض إلى حد ما، تُنتِجه جيناتنا وسيروراتنا الجنينية embryonics، تستدرج القشرةُ المخية الحديثة الخبراتِ الإبصارية لتعيد ببطء تشبيك ذاتها من أجل تكوين قطاعاتcategories (أو قَسَمات features) تستطيع أن تستجيب لها. ولا يكتمل تكوين قطاع جديد في القشرة المخية الحديثة بمجرد التعرض لمثال واحد من هذه الخبرات فقط، مع أن بعض التحويرات الصغيرة للاتصالات العصبية قد تحدث نتيجة ذلك.

 

والوظيفة الثانية للقشرة المخية الحديثة (على الأقل في الجزء الإبصاري منها) هي الاستجابة بسرعة فائقة للإشارة الواردة. ولكي تؤدي تلك الوظيفة فهي تستخدم القطاعات التي تعلَّمَتْها، وتحاول أن تجد التجمعات العصبونية النشيطة التي يحتمل أن تكون أكثر قدرة على تمثيل الأشياء والأحداث ذات العلاقة بالموضوع في تلك اللحظة ضمن العالم الإبصاري، وذلك استنادًا إلى الخبرات السابقة. وإن مثل هذه الائتلافات coalitions  من العصبونات النشيطة قد يسهم كذلك في تكوينها تَدَخُّلات biases آتية من أجزاء أخرى من الدماغ؛ نذكر مثالا عليها إشارات تُخبر القشرة الحديثة بأفضل ما تنتبه إليه أو بأعلى مستويات التوقُّعات المتعلقة بطبيعة المنبه في المجال الإبصاري.

 

وكما لاحظ جيمس، فإن الوعي دائم التغير. فهذه الائتلافات المتكونة بسرعة يتم حدوثها في مستويات مختلفة، وتتفاعل فيما بينها لتكوين ائتلافات أوسع. وهي مرحلة عابرة لا تستمر عادة أكثر من جزء من الثانية. ولكون الائتلافات في المنظومة الإبصارية تشكل أساس ما نراه، فقد عمل التطور على أن تتكون بأسرع ما يمكن، وإلا لما استطاع حيوان أن يبقى على قيد الحياة. فالدماغ قاصر فيما يخص تشكيل الائتلافات العصبونية بسرعة؛ لأن العصبونات تعمل ببطء شديد إذا ما قورنت بمعايير حاسوبية. ويعوض الدماغ هذا البطء النسبي تعويضا جزئيا باستخدامه عددا كبيرا من العصبونات في الوقت نفسه وعلى التوازي. وكذلك عن طريق ترتيب المنظومة بطريقة مراتبية hierarchical  إلى حد  ما.

 

فإذا كان الوعي الإبصاري في أي لحظة يتطابق مع اضطرام مجاميع من العصبونات، فإن السؤال الواضح يكون عندئذ: أين تقع هذه العصبونات في الدماغ، وبأي أسلوب تمارس اضطرامها؟ فمن غير المحتمل أن يشغل الوعي الإبصاري جميع عصبونات القشرة المخية الحديثة التي يصدف أن تضطرم فوق المعدل الأساسي لاضطرامها في لحظة معينة. ولنا أن نتوقع من الناحية النظرية على الأقل أن بعض هذه العصبونات ستدخل في إجراء التقديرات بحيث تحاول تحقيق أفضل الائتلافات، في حين تُعبِّرُ عصبونات أخرى عن نتائج هذه التقديرات، أو أنها ـ بكلمات أخرى ـ تُعبِّر عما نرى.

 

ومن حسن الحظ أنه أمكننا التوصل إلى براهين تجريبية تساند هذا الاستنتاج النظري. فهناك ظاهرة تسمى تنافس العينين binocular rivalry  يمكن أن تساعد على تحديد العصبونات التي يَرْمز symbolize اضطرامُها للوعي. ونستطيع مشاهدة هذه الظاهرة بشكل بالغ الإقناع من خلال عرضٍ أعدّه كل من < S. ديونسنك> و < B. ميلر> في مركز الاستكشافات بسان فرانسيسكو.

 

يحدث التنافس بين العينين عندما تتلقى كل عين مدخلات إبصارية تختلف عن الأخرى فيما يخص الجزء نفسه من المجال الإبصاري. فالمنظومة الإبصارية المبكرة في الجانب الأيسر من الدماغ تستقبل مدخلات من العينين ولكنها لا ترى سوى جزء من المجال الإبصاري يقع إلى الجانب الأيمن من نقطة التركيز. والعكس بالعكس بالنسبة إلى الجانب الأيمن. فإذا قام التنافس بين هاتين المجموعتين المتعارضتين من المدخلات، فإننا لا نراهما تتراكبان بل نرى مجموعة المدخلات الأولى أولا ومن ثم المجموعة الأخرى وهكذا دواليك بشكل متعاقب.

 

وفي العرض المسمى “قطة تشِشَر” Cheshire Cat يضع الناظرون رؤوسهم في مكان مثبت ويطلب إليهم أن يبقوا نظرهم مثبتا. وبوساطة مرآة موضوعة بشكل مناسب [انظر الشكل في الصفحتين أدناه] يمكن لإحدى العينين أن تنظر إلى وجه شخص آخر من الأمام مباشرة، في حين ترى العين الأخرى شاشة بيضاء ناصعة إلى جانبه. فإذا ما لوّح الناظر بيده أمام هذه اللوحة الشاغرة، عند الموضع نفسه في مجال إبصاره الذي يشغله الوجه، فإن هذا الأخير ينمحي. فالحركة تستولي على انتباه المخ لأنها ذات وقع شديد من الناحية الإبصارية. ومن دون الانتباه لا يمكن رؤية الوجه، فإذا حرك الناظر عينيه عاد الوجه إلى الظهور.

 

وفي بعض الأحيان لا يختفي سوى جزء من الوجه فقط. فقد تبقى مثلا في بعض الأحيان عين واحدة أو العينان معا. وإذا ما نظر الرائي إلى البسمة على وجه الشخص المرئي، فقد يختفي الوجه تاركا الابتسامة فقط. ولهذا السبب يسمى ذلك التأثير “تأثير قطة تششر” تمشيا مع اسم القطة في رواية لويس بعنوان “مغامرات أليس في بلاد العجائب”.

 

ومع أنه من الصعب جدا أن نسجل النشاط العصبي من خلية منفردة في المخ البشري، إلا أن هذا ممكن في النسانيس. وقد تمت دراسة مثال بسيط لهذا التنافس بين العينين على نسناس، قام بها < K .N. لوكوثيتيس> و < .J .Dشال> حينما كانا معا في معهد ماساتشوستس للتقانة (MIT). فقد قاما بتدريب نسناس من نوع المكاك على أن يُبقي عينيه ساكنتين، وأن يعطي إشارة تدل على ما إذا كان يرى حركة حاجز شبكي أفقي إلى أعلى أو إلى أسفل. ولإحداث ظاهرة التنافس بين العينين يتم إسقاط الحركة العلوية على إحدى عيني النسناس والحركة السفلية على العين الأخرى، بحيث تتراكب الصورتان في الساحة (المجال) الإبصارية. وهنا يعطي النسناس إشارات بأنه يرى الحركتين العلوية والسفلية بالتناوب مثلما يفعل الإنسان. ومع أن المنبه الحركي الوارد إلى عيني النسناس هو ذاته على الدوام، فإن إدراك النسناس يتغير في كل ثانية أو نحو ذلك.

 

تُعدّ الباحةُ القشرية MT، التي أسماها سمير زكي الباحة (V5) في مقاله “الصورة الإبصارية في العقل والدماغ”، باحةً معنية بالحركة بشكل رئيسي. فماذا تفعل العصبونات في الباحة MT حينما يكون إدراك النسناس نحو الأعلى حينا ونحو الأسفل حينا آخر؟ (وقد درس الباحثون الاستجابة الأولى للنسناس فقط). إن الإجابة المبسطة عن هذا السؤال (لكون البيانات الحقيقية أكثر غموضا) هي أنه: في حين يرتبط اضطرام بعض العصبونات بالتغيرات في الإدراك يبقى المعدل الوسطي لاضطرام العصبونات الأخرى ثابتا نسبيا ولا يعتمد على اتجاه الحركة التي يراها النسناس في تلك اللحظة. ولهذا فمن غير المحتمل أن يُقابل الاضطرامُ في جميع عصبونات القشرة الإبصارية الحديثة في لحظة ما الوعيَ الإبصاري للنسناس. ويبقى علينا أن نكتشف أي العصبونات يقابل الوعي فعلا.

 

لقد افترضنا أننا حينما نرى شيئا ما بوضوح لا بد أن يكون هناك عصبونات تضطرم بشكل نشيط لتمثِّل ما نرى، وهذه القاعدة يمكن أن نسميها قاعدة النشاط activity principle. وهنا نجد أيضا بعض الأدلة التجريبية، وأحد أمثلتها هو اضطرام العصبونات في الباحة القشرية V2  استجابة لخطوط كفافية (خطوط عامة) خادعة، كتلك التي وصفها زكي. ومثال آخر قد يكون أكثر جذبا للانتباه نجده في حالة “ملء filling in البقعة العمياء”. والبقعة العمياء في كل عين سببها غياب المستقبلات الضوئية في منطقة الشبكية التي يخرج عندها العصب البصري من المقلة باتجاه الدماغ. ويبعد موقع هذه البقعة نحو 15 درجة عن الحُفَيْرة fovea (المركز الإبصاري للعين). وعلى الرغم من ذلك فإنك إذا  أغلقت عينا واحدة لا ترى ثغرة في مجالك الإبصاري.

 

ويتميز الفيلسوف < C .D. دينيت> من (جامعة تافتس) بين الفلاسفة باهتمامه بكلٍّ من علم النفس والدماغ، ونحن نرحب بهذا الاهتمام. وفي كتاب له تحت عنوان: Consciousness Explained، جادل بأن من الخطأ الحديثَ عن سيرورة ملء filling in، واستنتج بحق أن “غياب معلومة ما يختلف عن معلومة الغياب”. وانطلاقا من هذه القاعدة العامة، فإنه يرى أن الدماغ لا يملأ البقعة العمياء، بل يتجاهلها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008597.jpg

يوضح الخداع البصري، الذي صممه < S .V. راماشاندران>، قدرةَ الدماغ على ملء ما ينقص من معلومات إبصارية، أو بناء تلك المعلومات الناقصة بسبب وقوعها على البقعة العمياء للعين. فعندما تنظر إلى نماذج القضبان الخضراء المنكسرة يولد الجهاز الإبصاري خطين كفافيين (كونتورين) two contours يحددان شريطا شاقوليا. والآن، أغلق عينك اليمنى وركِّز بصرك على المربع الأبيض في سلسلة القضبان الخضراء، ثم حرك الصفحة نحو عينك إلى أن تختفي النقطة الزرقاء (نحو ست بوصات إلى الأمام من أنفك). ويذكر معظم الناظرين أنهم يرون الشريط الشاقولي مكتملا عبر البقعة العمياء ولا يرون الخطوط المنكسرة. والآن أعد التجربة نفسها مع السلسلة المؤَّلفة من القضبان الحمراء الثلاثة فقط، ستجد أن الخطوط الكفافية (الكنتورات) الشاقولية المضللة أقل تحديدا وأن الجهاز الإبصاري يميل إلى ملء القضيب الأفقي عبر البقعة العمياء. وهكذا يملأ الدماغ الفراغ بأشكال مختلفة تستند إلى السياق الإجمالي للصورة.

 

إلا أن حجة “دينيت” في حد ذاتها لا تبرهن على عدم حدوث الملء، ولكنها تقترح فقط إمكانية عدم حدوثه. وينص دينيت أيضا على أن “دماغك لا يمتلك آلة [للملء] في ذلك الموضع”. ولكن هذا النص غير صحيح، فالقشرة الإبصارية الأولية (V1) ينقصها مُدْخَل مباشر من إحدى العينين، ولكن “الآلة” السوية موجودة من أجل التعامل مع مدخلات العين الأخرى. وقد أظهر < R. كاتاس> (من جامعة ريودي جانيرو الفيدرالية) أن بعض العصبونات في الباحة المخصصة للبقعة العمياء من القشرة V1 لدى نسناس المكاك تستجيب فعلا لمدخلات تَرِدها من كلتا العينين. وربما ساعد على ذلك مدخلات آتية من أجزاء أخرى من القشرة المخية. وعلاوة على ذلك ففي حالة المَلْء البسيط تستجيب بعض العصبونات في هذه المنطقة كما لو كانت تقوم بهذا الملء بشكل فعال.

 

وعلى هذا، فإن ادعاء دينيت حول البقع العمياء ليس صحيحا. إضافة إلى ذلك، بيّن < S .V. راماشاندران> في تجاربه النفسية أن ما يتم ملؤه قد يكون في غاية التعقيد ويعتمد على السياق الإجمالي للمشهد الإبصاري. ويجادل راماشاندران متسائلا: كيف يمكن لدماغك أن يتجاهل شيئا ما يدعو هو نفسه في الحقيقة للانتباه؟

 

وعلى هذا فلا يمكن استبعاد سيرورة الملء على أنها لا وجود لها أو أنها غير عادية. فمن المحتمل أنها تمثل سيرورة استكمال أساسية يمكن أن تحدث في مستويات عديدة بالقشرة المخية الحديثة. وهي، بالمناسبة، مَثلٌ جيد لما تعنيه عبارة السيرورة البنائية constructive process.

 

كيف يمكننا اكتشاف العصبونات التي يَرْمُز اضطرامها إلى إدراك معيَّن؟ لقد أجرى < T .W. نيوسوم> وزملاؤه (في جامعة ستانفورد) سلسلة من التجارب البارعة على عصبونات في الباحة القشرية MT من دماغ المكاك. وبدراسة أحدها يمكن أن نكتشف أنه يستجيب أفضل استجابة لملمح إبصاري معين له علاقة بالحركة. وعلى سبيل المثال، قد يضطرم عصبون ما بقوة، استجابةً لحركة قضيب في مكان معين داخل الساحة الإبصارية، ولكن ذلك لا يتم إلا إذا كان هذا القضيب موجَّها بزاوية معينة ويتحرك في أحد الاتجاهين العموديين على طوله ضمن مدى معين من السرعة.

 

ومن الصعب تِقنِيا أن نستثير مجرد عصبون واحد، ولكنه من المعروف أن العصبونات (التي تستجيب لموضع القضيب نفسه على وجه التقريب، وبالتوجه واتجاه الحركة نفسيهما) تميل لأن يقع بعضها قريبا من بعض في الصفيحة sheet القشرية المخية. وقد علَّم المجرِّبون النسناس عملا بسيطا في تمييز الحركة باستخدام خليط من النقط، كان بعضها يتحرك حركة عشوائية، في حين أن الباقي يتحرك دائما في اتجاه واحد. وقد بين هؤلاء المجربون أن التنبيه الكهربائي لمنطقة صغيرة في المكان الصحيح من المنطقة القشرية MTسيجعل تمييز حركة النسناس ينحاز على الدوام إلى الاتجاه المتوقع.

 

يمكن أن يكون الاضطرام الإيقاعي (النظمي) والمتزامن هو المتلازمة (المترابطة) العصبية للشعور الواعي، ويمكن له أن يجمع بين الفعاليات التي تخص الشيء نفسه والكائنة في باحات قشرية مخية مختلفة.

 

وعلى هذا، فإن تنبيه هذه العصبونات يمْكنه التأثير في سلوك النسناس، وربما أيضا في إدراكه الإبصاري. وعلى الرغم من ذلك لا تبيّن هذه التجارب بشكل قاطع أن اضطرام مثل هذه العصبونات هو القرين correlate العصبي الدقيق للإدراك. فقد يكون القرين قيام النشاط في مجموعة فرعية subset من العصبونات. أو ربما يكون القرينُ (التلازم) الحقيقي اضطرامَ عصبونات في جزء آخر من التنظيم المراتبي hierarchy الإبصاري تتأثر تأثرا بالغا بالعصبونات المنشطة في الباحة MT.

 

ومثل هذا التحفظ ينطبق أيضا على حالات التنافس بين العينين. ومن الواضح أن مشكلة العثور على العصبونات التي يَرْمُز symbolize اضطرامها إلى مُدْرَك معيّن لن تكون سهلة. وسنحتاج إلى عدة تجارب دقيقة لاقتفائها حتى ولو لنوع واحد من المدركات.

 

يبدو بوضوح أن الغرض من الوعي الإبصاري الناشط هو تغذية مناطق القشرة المخية ذات العلاقة بمتضمنات ما نراه. ومن هنا تُحْمل المعلومات من جهة إلى منظومة الحصين كي يتم تكويدها (مؤقتا) على شكل ذاكرة عارضة طويلة الأمد، كما تَجُول من جهة أخرى في مستويات التخطيط planning levels التابعة للجهاز الحركي. ولكن هل يمكن أن تذهب هذه المعلومات من المُدْخَلات الإبصارية إلى أحد المُخْرَجات السلوكية من دون أي وعي إبصاري يرتبط بها؟

 

مثل هذه السيرورة يمكن حدوثها، وتتوضح في مجموعة المرضى الجديرين بالملاحظة الذين يعانون “الإبصار الأعمى” blindsight. فجميع المصابين بتلف في القشرة الإبصارية يستطيعون أن يشيروا بدقة معقولة إلى أهداف بصرية أو أن يتتبعوها بأعينهم، في حين أنهم ينكرون بشدة رؤيتهم لأي شيء. وفي الحقيقة، نجد هؤلاء المرضى يندهشون من قدراتهم هذه، وكذلك أطباؤهم. ولكن كمية المعلومات التي “تمر إلى أدمغتهم” تكون محدودة: فمرضى الإبصار الأعمى يتمتعون ببعض القدرة على الاستجابة لأطوال الأمواج الضوئية وللتوجهات والحركات، ولكنهم لا يستطيعون التمييز بين المثلث والمربع.

 

من الطبيعي أن يَعْظُم اهتمامنا بمعرفة أي المسارات العصبية يستخدمه هؤلاء المرضى. وقد ظن الباحثون أول الأمر أن هذا المسار يمر بالأُكَيْمَة العلوية. ولكن التجارب الحديثة تقترح إمكانية اشتراك اتصال ضعيف مباشر بين النواة الركبية الجانبية وباحات قشرية أخرى مثل الباحة V4. وليس من الواضح ما إذا كانت سلامة المنطقة V1 ضرورية للوعي الإبصاري الآني. ومن المعروف أن الإشارة الإبصارية في حالة الإبصار الأعمى تكون من الضعف بحيث لا يستطيع النشاط العصبي تكوين الوعي، مع أنه يبقى من القوة بما يكفي لتمريره إلى الجهاز الحركي.

 

يستجيب أصحاب الإبصار السوي بانتظام للإشارات الإبصارية من دون أن يعوها بشكل كامل. وفي الأنشطة التلقائية (الأتوماتيكية)، مثل السباحة وقيادة السيارة، تحدث أفعال معقَّدة ولكنها نمطية من دون أن يصحب ذلك وعي إبصاري، أو بأقل قدر من هذا الوعي. وفي حالات أخرى تكون المعلومات المنقولة إما محدودة جدا أو واهنة جدا. وعلى ذلك فنحن نستطيع القيام بوظائفنا من دون وعي إبصاري، إلا أن سلوكنا من دونه يكون محدودا نوعا ما.

 

من الواضح أن شعورنا بإدراكٍ واعٍ يحتاج إلى بعض الوقت. ومن الصعب تحديد الوقت اللازم لإدراك حدثٍ من أحداث الوعي الإبصاري. ولكن إحدى نواحي المشكلة، التي يمكن تبيانها بالتجربة العملية، هي أن الإشارات التي نستقبلها في زمن متقارب جدا يتعامل الدماغ معها على أنها متزامنة.

 

يتم إنارة قرص ضوئي أحمر مدة 20 ملّيثانية مثلا، ثم يتبع ذلك وَمْضة من الضوء الأخضر للمدة نفسها وفي المكان نفسه. فنجد أن الشخص موضع التجربة يذكر أنه لم ير ضوءا أحمر يتبعه ضوء أخضر، ولكنه رأى بدلا من ذلك ضوءا أصفر وكأنه تعرَّض للضوءين الأحمر والأخضر في الوقت نفسه. ولكن هذا الشخص لا يمكنه الإحساس باللون الأصفر إلا بعد أن تكون معلومة الومضة الخضراء تمت معالجتها ومكاملتها (دمجها) مع الومضة الحمراء التي سبقتها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N2-3_H02_008598.jpg

ومضات خاطفة من ضوءٍ ملوَّن تُمكّن الباحثين من استنتاج الزمن الأدنى المطلوب لحدوث الوعي الإبصاري. فإذا أسقطنا قرصا من اللون الأحمر مدة 20 ملّيثانية (a) وأتبعنا ذلك على الفور بومضة من اللون الأخضر مدة 20 ملّيثانية (b)، نجد أن الناظر يذكر أنه يرى ومضة وحيدة من اللون الأصفر (c) وهو اللون الذي يظهر إذا أسقطنا اللونين الأحمر والأخضر في وقت واحد. ولا يستطيع الشخص المفحوص أن يعي اللون الأحمر متبوعا باللون الأخضر إلا إذا تجاوز الفرقُ بين الومضتين ما مقداره 60 إلى 70 ملّيثانية.

 

لقد أدت التجارب من هذا النوع بعالِم النفس < R. إيفرون> (وهو الآن في جامعة كاليفورنيا بديڤز) إلى أن يستنتج أن الوقت اللازم لمعالجة المعلومات وصولا إلى الإدراك يبلغ نحو 60 إلى 70 مليثانية. ونجد أيضا مُدَدًا مماثلة في التجارب التي استخدمت النغمات في الجهاز السمعي. إلا أنه من الجائز دائمًا أن تختلف أوقات المعالجة في الأجزاء العليا من التركيبة المراتبية الإبصارية وفي أمكنة أخرى من الدماغ. وكذلك تكون المعالجة أكثر سرعة لدى الناظرين المدربين مقارنة بمن هم على الفطرة.

 

ونظرا لما يبدو من أن الأساس العصبي للانتباه له دوره في بعض أشكال الوعي الإبصاري، فسيكون عونا لنا أن نكتشف هذا الأساس. وتعد حركة العين نوعا من الانتباه ـ مادامت باحة المجال الإبصاري التي نرى فيها بدرجةٍ عاليةِ المَيْز resolution صغيرةً بشكل ملحوظ ـ يشبه على وجه التقريب نسبة أبعاد ظِفْر الإبهام إلى طول الذراع. وعلى هذا فنحن نُحرِّك أعيننا للتحديق في الشيء مباشرة حتى نراه بوضوح. وتتحرك عيوننا عادة ثلاث أو أربع مرات في كل ثانية. ولكن علماء النفس بيَّنوا أن هناك، على ما يبدو، نوعا أسرع من الانتباه يجول هنا وهناك بمغزى ما حينما تظل أعيننا ثابتة.

 

أما الطبيعة النفسية الدقيقة لآلية هذا الانتباه السريع فهي مثار جدل في الوقت الحاضر. ولكن كثيرًا من المختصين في العلوم العصبية ـ بمن في ذلك <R. ديسميون> وزملاؤه في المعهد القومي للصحة العقلية ـ أثبتوا أن معدل الاضطرام في عصبونات معينة بالجهاز الإبصاري لدى المكاك تعتمد على الشيء الذي ينتبه إليه المكاك في ساحة إبصاره. وعلى هذا، فالانتباه ليس مجرد مفهوم نفسي، بل توجد له أيضا أقران correlates عصبية يمكن ملاحظتها. وقد وجد عدد من الباحثين أن الوسادة pulvinar (وهي إحدى مناطق المهاد  البصري) تدخل على ما يبدو في سيرورة الانتباه الإبصاري. ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن المهاد يستحق أن يسمى “عضو الانتباه”، ولكن هذه المكانة بحاجة إلى إثبات.

 

وتكمن المشكلة الكبرى لدينا في تحديد النشاط الدماغي الذي يقابل بشكل مباشر الوعي الإبصاري. وقد اقتُرِح أن كل باحة قشرية مخية تُولِّدُ وعيا يخص فقط الملامح الإبصارية التي تكون “عمودية”، أي مرتَّبة في أكداس أو أعمدة من العصبونات تتعامد مع سطح القشرة. وعلى هذا فإن الباحة V1 تستطيع أن تصنع كودًا code للتوجه، في حين تصنع الباحة MT كودًا للحركة. وإلى الآن ـ وكما بيّن سمير زكي ـ لم يجد المجربون منطقة معينة واحدة في الدماغ تلتقي عندها جميع المعلومات المطلوبة للوعي الإبصاري. وقد سمى دينيث مثل هذا المكان الافتراضي “المسرح الديكارتي”. ومن الناحية النظرية فإنه يرى أن هذا المكان غير موجود.

 

ويبدو أن الوعي ليس موزعا فقط على مقياس موضعي، كما في بعض الشبكات العصبية التي وصفها هنتون، بل هو موزع توزيعا أوسع مدى على القشرة المخية الحديثة. ومن غير المحتمل أن يكون الوعي الإبصاري موزعا على كل باحة قشرية؛ لأن بعض الباحات لا تُبْدي أي استجابة للإشارات الإبصارية. فالوعي مثلا قد يرتبط فقط بتلك الباحات التي ترسل اتصالات راجعة بشكل مباشر إلى الباحة V1 أو بشكل بديل إلى الباحات التي ترسل استطالاتها نحو الطبقة الرابعة لباحات أخرى. (وتكون هذه الباحات الأخيرة في المستوى نفسه من التنظيم المراتبي الإبصاري على الدوام).

 

فالقضية الأساسية تكمن إذًا في كيفية تشكيل الدماغ تمثيلاته الكلية من الإشارات الإبصارية. وإذا كان الانتباه مطلوبا للوعي الإبصاري حقا، فإن الدماغ يستطيع أن يشكل تمثيلاته بالانتباه إلى شيء واحد فقط في الوقت نفسه، ومن ثم التحرك بسرعة إلى الشيء الذي يليه. وعلى سبيل المثال، فإن العصبونات التي تحقق تمثيل جميع النواحي المختلفة للشيء المُنْتَبَه إليه يمكنها أن تضطرم معا بسرعة فائقة ولمدة قصيرة، وربما في انبعاثات (هَبّات) سريعة.

 

إن هذا الاضطرام السريع المتزامن fast simultaneous firing قد لا يستثير فقط تلك العصبونات التي ترمز إلى مضامين ذلك الشيء، بل إنه قد يقوّي أيضا ـ وبصورة مؤقتة ـ المشابك ذات الصلة، بحيث يمكن استدعاء هذا النسق الخاص من الاضطرام بسرعة. وهذا شكل من أشكال الذاكرة القصيرة الأمد. وإذا احتاج الأمر إلى حِفْظِ تمثيلٍ واحد فقط في الذاكرة القصيرة الأمد ـ كما يحدث عند تذكر عمل وحيد ـ فإن العصبونات المشتركة في هذا النشاط قد تستمر في الاضطرام بعض الوقت [انظر: “الذاكرة العاملة والعقل”،مجلة العلوم، العدد 5 (1994) ، الصفحة 56].

 

وتنشأ مشكلة أخرى عندما يكون من الضروري الإحاطة الواعية بأكثر من شيء واحد في الوقت نفسه بالضبط. فإذا كانت جميع الصفات المميِّزة لشيئين أو أكثر يتم تمثيلها من قبل عصبونات تضطرم بسرعة، فإن صفاتهما هذه ستتداخل بشكل مشوَّش، بحيث يرتبط لون أحدهما مثلا بشكل الآخر. ويحدث هذا أحيانا في العروض الوجيزة جدا.

 

ومنذ بعض الوقت، اقترح < Ch. ڤون در مالسبرگ> (وهو الآن في جامعة بوخوم) أن هذه الصعوبة سيتم التغلب عليها إذا كانت العصبونات المرتبطة بالشيء الواحد تضطرم بشكل متزامن (أي إذا كانت أزمنة اضطرامها متقارِنةcorrelated فيما بينها)، ولكن بعيدا عن تزامن العصبونات التي تمثل الأشياء الأخرى. ومؤخرا جدا، ذكر فريقان في ألمانيا أنه يظهر بالفعل حدوث اضطرام متقارن بين العصبونات في القشرة الإبصارية للقط، وغالبا ما يكون ذلك بأسلوب نظمي (إيقاعي) ذي تواتر (تردد) يتراوح مقداره ما بين 35 و 75 ذبذبة في الثانية، أو أحيانا في سوية ذبذبات گاما (g) ذات الأربعين ذبذبة في الثانية.

 

لقد حثَّنا افتراض مالسبرگ أن نقترح أن هذا الاضطرام النظمي والمتزامن قد يكون هو القرين العصبي للوعي، وأنه قد يخدم الربط بين النشاط في الباحات القشرية المختلفة فيما يخص الشيء الواحد نفسه. وهذه المسألة لاتزال غير محسومة، ولكن الأدلة التجريبية المتفرقة والمتوافرة حاليا لا تؤيد هذه الفكرة إلا قليلا. والاحتمال الآخر هو أن الذبذبات ذات الأربعين هرتزا hertz قد تساعد على التمييز بين الشكل والأرضية ground أو تساعد آلية الانتباه.

 

هل هناك أنماط معيّنة من العصبونات تتوزع على القشرة المخية الإبصارية الحديثة ويرمز اضطرامها بشكل مباشر إلى محتوى الوعي الإبصاري؟ تقول إحدى الفرضيات البسيطة جدا: “إن الأنشطة في الطبقات العليا للقشرة المخية تكون غير واعية إلى درجة كبيرة، في حين أن أنشطة الطبقات السفلية (الطبقتين الخامسة والسادسة) تترابط في معظمها بالوعي. وقد تساءلنا فيما إذا كانت العصبونات الهرمية في الطبقة الخامسة من القشرة المخية الحديثة، ولا سيما الضخمة منها، قد تؤدي هذا الدور الأخير.

 

هذه هي العصبونات القشرية الوحيدة التي ترسل أليافا مباشرة ترتسمproject بعيدا عن المنظومة القشرية (أي إنها لا ترسل أليافا إلى القشرة الحديثة ولا إلى المهاد ولا إلى العائق claustrum). فإذا كان الوعي الإبصاري يمثل نتائج التقديرات العصبية في القشرة المخية، يمكننا أن نتوقع أن ما ترسله القشرة إلى أي مكان سيرمز إلى تلك النتائج. وأكثر من هذا فإن العصبونات في الطبقة الخامسة تبدي ميلا استثنائيا نوعا ما للاضطرام بشكل انبعاثات (هبّات). ولئن كانت الفكرة القائلة: “إن الطبقة الخامسة قد تمثل بشكل مباشر الوعي الإبصاري” لها جاذبيتها، فإننا مازلنا في مرحلة مبكرة جدا لنحكم على مدى صحتها.

 

من الواضح أن الوعي الإبصاري مشكلة صعبة. ومازلنا في حاجة إلى مزيد من الجهد لاكتشاف الأسس النفسية والعصبية لكل من الانتباه والذاكرة القصيرة الأمد جدا. وقد يكون المساق التجريبي الأقوى لحل هذه المشكلة هو دراسة العصبونات أثناء تغير المدركات على الرغم من بقاء المدخلات الإبصارية ثابتة. وينبغي علينا بناء نظريات بيولوجية عصبية للوعي الإبصاري، ومن ثم اختبارها باستخدام تشكيلة مجتمعة من الدراسات الجزيئية والبيولوجية العصبية والتصويرية السريرية.

 

ونحن نعتقد أننا لو تمكنا يوما من معرفة سر هذا الشكل البسيط من الوعي فقد نقترب من فهم سر مركزي للحياة البشرية، ألا وهو العلاقة بين الأحداث الفيزيائية التي تدور في أدمغتنا أثناء التفكير والتصرف في العالم وبين إحساساتنا الذاتية، أي العلاقة بين الدماغ والعقل.

 

لقد ظهرت بضعة تطورات ذات صلة بهذا الموضوع منذ تمّ نشر هذه المقالة للمرة الأولى. ويبدو الآن من المرجَّح وجود منظومات سريعة ومتكاملة تخص استجابات حركية نمطية التجسيم stereotyped  مثل حركة اليد أو حركة العين. فهذه المنظومات غير واعية وتفتقر إلى الذاكرة. وبالمقابل فإن النظر الواعي يبدو أبطأ سرعة وأكثر عرضةً للخداع البصري. فالدماغ يحتاج إلى تكوين تمثيل واعٍ للمشهد الإبصاري الذي يمكن أن يُسْتَخدم لاحقا في عدة أفعال وأفكار مختلفة. ولكن معرفة كيفية عمل جميع هذه المسارات pathways وطرائق تآثرها بعضها مع بعض يبقى أمرا غامضًا.

 

لقد أُجري المزيد من التجارب عن سلوك العصبونات التي تستجيب للمدركات الحسية الإبصارية ذات الاستتباب الثنائي bistable visual percepts مثل منافسة الرؤية بالعينين، ولكن يحتمل أن يكون من السابق لأوانه جدا استخلاص استنتاجات ثابتة من هذه التجارب في شأن المتلازمات (المترابطات) correlatesالعصبية الدقيقة للوعي الإبصاري. وبالاستناد إلى أسس نظرية مبنية على التشريح العصبي لنسناس المكّاك فقد اقترحنا أن تكون الرئيسيات لا تعي بشكل مباشر ما يحدث في القشرة المخية الإبصارية الأولية primary visualcortex، على الرغم من مرور معظم المعلومات الإبصارية عبر هذه القشرة. ومع أن بعض الأدلة التجريبية تؤيد هذه الفرضية فإن الأمر لايزال موضع تضاربٍ وجدل.

 

 المؤلفان

F. Crick – Ch. Koch

يتشاركان الاهتمام بالدراسة التجريبية للوعي. وقد تعاون كريك مع < J. واتسون> في اكتشاف البنية الحلزونية المضاعفة للدنا DNA. وأثناء وجوده في مختبر مجلس البحث الطبي للبيولوجيا الجزيئية في كامبردج، أجرى تجاربه على الكود الجيني وعلى علم الحياة التطوري. ومنذ عام 1976 بقي في معهد سولك للدراسات البيولوجية بسان دييگو. ويتركز اهتمامه الرئيسي على فهم الجهاز الإبصاري للثدييات. أما كوخ فقد حصل على الدكتوراه في علوم الفيزياء الحيوية من جامعة توبنگن. وبعد قضائه أربع سنوات في معهد ماسّاتشوستس للتقانة التحق بمعهد كاليفورنيا للتقانة، حيث يعمل الآن أستاذا مساعدا في التقديرات computations والمنظومات العصبية. وهو يدرس الآن كيف تُعالِج الخلايا الدماغية المنفردة المعلومات وكذلك الأساس العصبوني للإدراك الحركي والانتباه الإبصاري والوعي. وفي الوقت نفسه يقوم كوخ بعمل تصاميم تحاكي شيپات chips الرؤية للمنظومات الذكائية.

 

مراجع للاستزادة 

PERCEPTION. Irvin Rock. Scientific American Library, 1984.

CONSCIOUSNESS AND THE COMPUTATIONAL MIND. Ray Jackendoff. MIT Press/Bradford Books, 1987.

COLD SPRING HARBOR SYMPOSIA ON QUANTITATIVE BIOLOGY, VOL. LV: THE BRAIN. Cold Spring Harbor Laboratory Press, 1990.

TOWARDS A NEUROBIOLOGICAL THEORY OF CONSCIOUSNESS. Francis Crick and Christof Koch in Seminars in the Neurosciences, Vol. 2, pages 263-275; 1990.

THE COMPUTATIONAL BRAIN. Patricia S. Churchland and Terrence J. Sejnowski. MIT Press/Bradford Books, 1992.
THE VISUAL BRAIN IN ACTION. A. David Milner and Melvyn A. Goodale. Oxford University Press, 1995.

ARE WE AWARE OF NEURAL ACTIVITY IN PRIMARY VISUAL CORTEX? Francis Crick and Christof Koch in Nature, Vol. 375, pages 121-123, May 11, 1995.

 

(*))The problem of Consciousnessوقد نشرت في العدد 5 (1994) من العلوم.

(1) theorists

(2)uncritical introspection

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى