أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الحيوان

استراتيجيات التزاوج عند الحشرات «أبو دقي


استراتيجيات التزاوج عند الحشرات «أبو دقيق»(*)

تَلْقى الحشرات أبو دقيق (العُثّ) رفاقها،وتستميلها ثم تفوز بها، مستخدمة إشارات

مغرية واستراتيجيات بارعة شحذها التطور.

<L .R. راتوسكي>

 

كما يعرف أي إنسان تجاوز سن البلوغ، يتأثر اهتمام الأفراد بأزواجهم (أو أزواجهن) المحتملين تأثرا شديدا بالدّالاّت الحسية. فلمحة إلى شَعرٍ برّاق أو إلى عينين نفّاذتين تستطيع فجأة أن تفتن الرجل بامرأة ما أو تستهوي امرأة أحد الرجال. ولعل التنبه إلى رائحة مثيرة أو لمسة شهوانية يشعل أيضا نار الرغبة.

 

وعلى الرغم من المفاتن الواضحة لـ <G. كيلي> و<E. فلين>، قد يجد المراقب المحايد أن حشرات أبو دقيق أكثر إغراء من الناحية الجنسية من البشر. فلا غرابة إذًا في أن الدالات البصرية والحسية الأخرى تتحكم أيضا في قرارات هذه الكائنات البالغة الدقة بشأن اختيار الأزواج. فعند الفناء لا شيء أقل من فرصة لإنتاج ذرية تحمل جينات (مُورِّثات) الفرد طوال الزمن.

 

ومع أن <Ch. داروين> لم يكن يعرف شيئا عن الجينات، فقد كان يعرف الكثير عن الجنس (لم تكن دراسة <G. مندل> قد أعيد اكتشافها حتى بواكير القرن العشرين)؛ إذ دلَّل داروين أولا في عام 1871 على أن الأنواع تميل إلى تطوير الصفات والسلوكيات التي تعزِّز الغزل ـ وبالتالي النجاح التناسلي. ويمكن لبعض السمات أن تجعل الفرد أكثر جاذبية للجنس الآخر، في حين أن سمات أخرى تمكّنه من الفوز على خطباء (طلاب) الأنثى المتنافسين. لقد كان داروين يفكر في حشرات أبو دقيق على وجه الخصوص عند اقتراحه هذه النظرية للانتقاء (الانتخاب) الجنسي، غالبا بسبب نقوش الحشرات المبهرة والتي أشعرته بأنها قد تكون مؤثِّرة في اختيار الرفيق. «إن ألوانها وأشكالها الأنيقة مرتبة وبادية كما لو كانت مُعَدَّة للعرض. وهذا قد أدَّى بي إلى افتراض أن الإناث عموما تفضل، أو تثار بدرجة أكبر، الذكور الأكثر تألقا»، هذا ما ذكره داروين في كتابه «أصل الإنسان، والانتقاء وعلاقته بالجنس».

 

إن الدراسات التجريبية الحديثة التي أجريت على حشرات أبو دقيق أيدت تنبؤات داروين قبل أكثر من قرن. فنحن نعرف الآن أن اللون يثير الرغبة الجنسية في بعض أنواع عالَم أبو دقيق، وهذا أيضا ما تفعله بعض الدالات الحسية الأخرى التي كانت أبعد من إدراك الحس البشري لداروين. ولكن تلك المخلوقات أقدر على التمييز مما قد توحي به هذه الملاحظة. فالألوان أو الرائحة اللتان تفيضان زهوا يمكن أن تؤديا دورا أكثر من مجرد جذب الانتباه. وقد يكون المظهر والرائحة علامتين مختزلتين للدلالة على صحة (عافية) حاملها وقوته.

 

دالاّت اللون

إن أوضح الأدلة على الدور الذي يقوم به اللون في الانجذاب الجنسي بين حشرات أبو دقيق يأتي من دراسات الأنواع التي يكون فيها للذكور والإناث مظاهر مختلفة متميزة. وبَدَهِيّ أنه لكي يتم التزاوج بنجاح، لا بد أن يكون للأفراد القدرة على تحديد ما إذا كانت حشرات أبو دقيق الأخرى (من النوع ذاته) من شقها الجنسي نفسه أو من الشق الآخر. وما تَبَقَّى يمكن اعتباره دقة في ضبط التناغم والانسجام.

 

وثمة نوع آخر من أبو دقيق رائع الجمال تختلف ذكوره عن إناثه في اللون وهو الأصفر الصغير Little Yellow (يوريما ليزا Eurema lisa). يظهر الجنسان متماثلَيِ الاصفرار لعيْن الإنسان، وينتج اللون من أصباغ في حراشف دقيقة تغطي الأجنحة الشفافة لتلك الحشرات. ومع ذلك تظهر الذكور والإناث مختلفة تماما في حشرات أبو دقيق التي تستقبل ضوءا طول موجاته يقع خارج النطاق المرئي للإنسان ـ في المنطقة فوق البنفسجية. فحراشف الجناح الصُّفْر الموجودة على السطح العلوي لأجنحة الذكور تعكس الضوء فوق البنفسجي، أما تلك الخاصة بالإناث فلا تفعل ذلك.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008704.jpg

التزاوج ذروة غزل تقوم فيه الدالات الكيميائية والبصرية بأدوار حاسمة. ويظهر في الشكل أبو دقيق «الكبريتي البرتقالي» (كولياس يوريثيم Colias eurytheme)، الشائع في مناطق كثيرة بأمريكا الشمالية. وأبو دقيق المتمسك بورقة النبات هو الذكر.

 

وعندما يلتقي ذكرٌ من النوع «الأصفر الصغير» أنثى، يحوم حولها قليلا قبل الهبوط ومحاولة السفاد. أما عند مقابلة ذكر آخر فإنه يبتعد بسرعة ويستمر في البحث. وهذه السلوكيات البسيطة جعلتني أجري اختبارا لتحري الدالات التي تستخدمها الذكور لتعرُّف الإناث. أولا لصقتُ أجنحةَ «الأصفر الصغير» على بطاقات وعرضتها للذكور. هبطت الذكور على أجنحة الإناث، بل إنها حاولت أن تسافدها؛ في حين أن الذكور موضع التجربة لم تُعِرْ أجنحة الذكور الملصقة بالطريقة عينها اهتماما يُذكر.

 

وأوضحت المرحلة الثانية من التجربة أن اللون كان المسؤولَ عن هذا الاختيار. لقد جهزتُ بطاقة عليها مجموعتان من أجنحة الذكور، غُطِّيت إحداهما بشريحة من الكوارتز تنفذ كلا من الضوء المرئي والضوء فوق البنفسجي، وغُطِّيت الأخرى بمرشح يحجب موجات الضوء فوق البنفسجي. وبعد ذلك حاولت الذكور التزاوج مع أجنحة الذكور المغطاة بالمرشح ـ الأجنحة التي ظهرت وكأنها أجنحة أنثى. ولقد توصل <E .R. سلبرگلايد> و <R .O. “Chip” تيلور، جونير> (وهو حاليا بجامعة كانساس) إلى نتائج مشابهة في دراستهما على أبو دقيق الكبريتي البرتقالي Orange Sulphur (كولياس يوريثيم Colias eurytheme). وهذا النوع يبدو للعيان مختلفا جنسيا في انعكاس الضوء فوق البنفسجي، مشابها في ذلك أبو دقيق «الأصفر الصغير». فعندما يُزال انعكاس الضوء فوق البنفسجي للذكر تتعامل الذكور الأخرى معه كما لو أنه أنثى.

 

ويمكن أن يؤثر اللون أيضا في تعرّف الإناث رفاقَها. ولدراسة هذه الظاهرة، استفادت مجموعتي البحثية (في جامعة ولاية أريزونا) من عشيرة (تجمع)population كثيفة ـ من نوع يعرف باسم أبو دقيق الأبيض الشطرنجي CheckeredWhite (پونتيا پروتودايس Pontia protodice) ـ في منطقة ريفية بالقرب من مدينة فينكس. لقد ركَّزنا على ما هو معروف من أن الإناث البكر (وكذلك تلك التي لم تتزاوج حديثا) تميل إلى الاقتراب من الذكور، بل إنها تتعقبها أحيانا.

 

لقد اصطدنا حشرات أبو دقيق «الأبيض الشطرنجي» من كلا الجنسين، وقيدناها بربط طرف خيطٍ حول الخصر بين الصدر والبطن وربط الطرف الآخر بنهاية سلك متين. استخدمنا هذا السلك كعصا صيد السمك لعرض حشرات أبو دقيق المقيدة على مرأى من الإناث في الحقل. لقد طارت هذه الإناث الطليقة خلف الحشرات المقيدة؛ ولكن مطاردتها للإناث المقيدة كانت تتوقف سريعا، في حين كانت تطير في مثابرة أكبر صوب الذكور.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008705.jpg

إن الانعكاس فوق البنفسجي لذكر أبو دقيق «الكبريتي البرتقالي» (الأعلى جهة اليسار) يُبْعد الذكور الأخرى ويجتذب الإناث؛ أما الحراشف الموجودة على أجنحة الإناث فلا تعكس الضوء فوق البنفسجي. وهذا الفرق يساعد الحشرات ـ التي تستطيع أن تتبين أطوال موجات الضوء فوق البنفسجي ـ على تمييز الأفراد من الجنس الآخر. وفي قريبه أبو دقيق «الكبريتي الغائم» (كولياس فيلودايس C. philodice)، لا أحد من الجنسين يعكس الضوء فوق البنفسجي. وهذه الكائنات تستخدم دالاّت أخرى لتعرّف رفاقها المحتملة، وربما مركبات كيميائية تفرزها حراشف خاصة على أجنحة الذكور.

 

وكما في حشرات أبو دقيق «الأصفر الصغير» تبدو ذكور وإناث هذا النوع مختلفة تماما في طول موجة الضوء فوق البنفسجي، ولكن في الاتجاه المضاد. فالإناث هي التي تعكس الضوء فوق البنفسجي، في حين تحوي أجنحة ذكور أبو دقيق «الأبيض الشطرنجي» صبغًا ماصًّا للضوء فوق البنفسجي. ويُستخلص هذا الصبغ بسهولة بغمر الأجنحة في محلول نشادر مخفَّف. ومثل هذه المعاملة جعلت أجنحة الذكر عاكسة للضوء فوق البنفسجي، مثل أجنحة الإناث، من دون تغيير أي علامات أخرى.

 

لقد صنعتُ نماذج شبه حية من أجنحةٍ مُعامَلة بمحلول النشادر، ثم استخدمتُ «عصا الشص» في عرض تلك النماذج لأبو دقيق في الحقل. لقد تجاهلتِ الإناث أجنحة الذكور العاكسة للضوء فوق البنفسجي ـ في حين أن الذكور خُدعت كثيرا. وهكذا اتضح أن كلا من إناث أبو دقيق «الأبيض الشطرنجي» وذكوره يستفيد من الفروق الجنسية في اللون لتمييز الأزواج المحتملة من تلك الأفراد التي هي من جنسها.

 

وبعض إناث أبو دقيق تفاضل أيضا على أساس اللون عندما تختار أزواجها من بين طالبي وُدِّها الكثيرين. فلقد درستْ <C .D. ويرناز> (في جامعة هوستون) هذا السلوك عند أبو دقيق الأبيض الغربي Western White  (پونتيا أكسيدنتاليزP. occidentalis)، القريب الشبه بأبو دقيق «الأبيض الشطرنجي». لقد أطلقت هذه الباحثة إناثا عذارى في الحقل واصطادت الذكور التي غازلتها بنجاح. ووجدت أن لهذه الذكور علامات أدكن عند نهايات أجنحتها الأمامية من تلك الخاصة بطالبيها المرفوضين. واستطاعت ويرناز أن تجعل الذكور غير جذابة للإناث العذارى باستخدام طلاء أبيض يقلل من حجم العلامات الدكناء الحاسمة. وهذه هي الدراسة الوحيدة من نوعها التي بين أيدينا، ولكنها توضح أن بعض الإناث تفاضل بين الذكور على أساس الفروق الدقيقة في اللون.

 

والإناث التي تفضل الذكور الأبهى لونا يمكن أن تفوز بالرفاق الأكثر شبابا وقوة. ولاختبار هذه الفكرة، أمضيتُ ومجموعتي صيفا حارا رطبا مع أبو دقيق «الكبريتي البرتقالي» في حقول البرسيم (الفصة) alfalfa بأريزونا. وقد أوضحت دراسات أجريت في السبعينات أن إناث «الكبريتي البرتقالي» تجد أن انعكاس الضوء فوق البنفسجي عن أجنحة الذكور يكون جاذبًا للإناث ـ ولكن عندما تفقد أجنحة الذكر الحراشف مع تقدم العمر يضمحل لونها فوق البنفسجي. ولذلك تشككنا فيما إذا كان التقدم في العمر يقلل من مفاتن الذكر المغرية. ولكن شكوكنا هذه تأكدت عندما وجدنا أن الإناث العذارى كانت تفضل حقا الذكور ذات الأجنحة السليمة على الذكور ذات الأجنحة البالية(1)، وهو اختيار نتج ظاهريا من اللون، ولكنه يضمن الفوز برفيق أصغر سنا.

 

كيمياء جيدة

بمجرد أن يرى ذكر وأنثى أبو دقيق أحدهما الآخر، يبدأ الغزل بينهما في حماسة، ويكون هدف الذكر أن يستميل الأنثى لِتَحُطَّ وتبقى ساكنة متأهبة للتزاوج الذي يستمر أحيانا ساعة أو أكثر. وفي بعض الأنواع لا بد للأنثى من أن ترفع بطنها من بين جناحيها الخلفيين لتمكن الذكر من نفسها. ولقد درس البيولوجيون المتخصصون في أبو دقيق الطقوس التي تسبق التسافد الفعلي في بضع عشرات فقط من نحو 12000 نوع من أبو دقيق، ولكن يبدو بوضوح أن ما يعتبره البشر رائحة، يمكن أن يكون لغة حب عند أبو دقيق، وأن مفردات هذه اللغة كيميائية في طبيعتها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008706.jpg

إن فقدان الحراشف مع التقدم في العمر (من أعلى لأسفل) يقلل انعكاسَ الضوء البنفسجي لذكر أبو دقيق «الكبريتي البرتقالي» ويجعله أقل جاذبية للإناث.

 

وأفضل ما نعرفه من حالات التواصل اللابصري عند أبو دقيق هو ما يتعلق بالنوع المعروف باسم أبو دقيق الملكة Queen butterfly (دانوس گليپاس Danausgilippus). وتنتج ذكور هذا النوع فيرومونات(2) تنتشر من تراكيب تشبه الفرشاة وتسمى أقلاما شعرية hair pencils، وتوجد هذه في نهاية بطن الذكور فقط. وللأقلام الشعرية مساحة سطحية متسعة بالنسبة إلى حجمها الصغير، وبذلك تكون صالحة جدا لنشر الكيماويات. وعندما يطير الذكر لأعلى وأسفل أمام الأنثى يلمس قَرْنَيْ استشعارها بقلميْه الشعريين البارزين، مودعا بذلك قليلا من الفيرومونات على قرنيْها. وتستجيب الأنثى لهذه الإشارة الكيميائية بالهبوط والبقاء ساكنة، في حين يقوم الذكر بسفادها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008707.jpg

إن الاستعراض الانحنائي لِلِّنْگ الرمادي (هيپارشيا سيميل Hipparchia semele)، يؤدي إلى جعل قرني استشعار الأنثى يلامسان الحراشف الشبيهة بالفرشاة على أجنحة الذكر. وهذه الحراشف ربما تُنتج مواد كيميائية تحث الأنثى على تقبله.

 

ويحتمل أن كثيرا من أبو دقيق يستخدم الفيرومونات في الغزل. فغالبا ما تمتلك الذكور تكاوين مشابهة للأقلام الشعرية في «الملكة» كرقع من حراشِفَ غير عادية على الأجنحة أو تراكيب شبيهة بالفرشاة على الصدر. ويكون لهذه الحراشف والشعيرات مساحات سطحية متسعة نسبيا، يُفترض أنها تسرع من انتشار الفيرومون كما هي الحال في الأقلام الشعرية. وللذكر من فصيلة أبو دقيق المصنفة بالكبريتيات حراشف خاصة على أجنحته الزاهية الاصفرار أو البرتقالية عادة، تفرز في الحقيقة مركبات يمكن أن تؤثر في سلوك الأنثى.

 

ولقد كوّنت بعض أنواع أبو دقيق لأنفسها استعراضات طقوسية غزلية تؤدي إلى تعرض الإناث لفيرومونات الذكر، بالضبط كطيران أبو دقيق «الملكة» إلى أعلى وإلى أسفل ليسمح للأقلام الشعرية بملامسة قرون الاستشعار. وعلى سبيل المثال، إن ذكر أبو دقيق اللِّنْگ الرمادي Grayling (هيبارشيا سيميلHipparchia semele) يهبط مباشرة أمام الأنثى ويمسك بقرنيِ استشعارها بين جناحيه، ثم ينحني ببطء إلى الأمام حاكًّا قرني استشعار الأنثى بخصلة من الحراشف يُظن أنها تحمل فيرومونات. أما ذكر أبو دقيق الكبريتي المخططBarred Sulphur (يوريما ديرا Eurema daira)، فيجثم خلف الأنثى ويرفرف بجناحيه الأماميين إلى أعلى وإلى أسفل، ساحبا طرف جناحه على طول قرن استشعارها مع كل خفقة من جناحه. كذلك يجلس ذكر أبو دقيق الفريتلاري الخليجي Gulf Fritillary (أگروليس ڤانيلّي Agraulis vanillae)، خلف الأنثى ويرفرف بجناحيه يفتحهما ويطبقهما. وغالبا ما يمسك بأقرب قرن استشعار للأنثى له بين جناحيه، حيث يلامس حراشف تشبه الفرشاة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008708.jpg

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008709.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008710.jpg

تنتشر الكيماويات الجاذبة على ذكر أبو دقيق «الملكة» (دانوس گليپاس Danaus glippus) بوساطة تراكيب تشبه الفرشاة وتسمى الأقلام الشعرية، (أبو دقيق العلوي في أقصى اليسار). وتُنتَج هذه الفيرومونات من مواد كيميائية تحصل عليها الذكور بامتصاص بعض النباتات من مثل الكروتالاريا Crotalaria (في الأسفل).

 

ومع ذلك فمثل هذه التآثرات interactions المتقنة ليست هي القاعدة في عالم أبو دقيق، بل الحقيقة أن الغزل لا يدوم إلا فترة قصيرة في معظم الأنواع. وقد يستغرق أقل من 30 ثانية، ويشمل في معظم الأحيان رفرفة الذكر حول الأنثى. ولعل الغزل الأكثر نموذجية هو ذلك الخاص بأبو دقيق «الأصفر الصغير»، إذ يلاطم الذكر الأنثى ثواني قليلة قبل الهبوط ومحاولة السفاد. وقد يكون هذا النشاط البسيط كافيا ليدفع بالفيرومونات إلى قرنيِ استشعار الأنثى ليجعلها راغبة في التزاوج.

 

وعلى الرغم من الطبيعة الفاتنة للذكر ومحاولاته التوَّاقة، تظل بعض الإناث غير مبالية لأي من هذه الملاطفات. والإناث التي تزاوجت حديثا بنجاح تكون أكثر تَمَنُّعًا. وهذه الإناث تتخذ وسائل دفاعية لتثبط همَّة الذكر غير المرغوب فيه. فإذا كانت جاثمة أخذت تخفق بأجنحتها بسرعة، أما إذا كانت طائرة فإنها تفر بعيدا مندفعة أحيانا عشرات من الأقدام إلى أعلى في مناورة تسمى الطيران الصاعد. وإذا كان الذكر المرفوض مثابرا، فإن المغازلة الهوائية هذه قد تستمر عدة دقائق. ومثلما أن إشاعة عن خلاف مثير يمكن أن تفرض نفسها أكثر من قصة أُلْفَة مملة، فإن هذه العروض الجلية للرفض تجذب مشاهدي أبو دقيق أكثر مما تفعله المغازلات السريعة التي تنتهي بالتزاوج.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008711.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008712.jpg

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N4_H01_008713.jpg

طريقة محكمة التنظيم للبحث عن الرفاق تبنتها ذكور «الإمبراطورة ليليا» (أستيروكامپا ليليا Asterocampa leilia)؛ فهي تحدد أشجار الكرز البري، حيث يحتمل ظهور الإناث الخارجة حديثا من طور العذراء أو بُعَيْد ذلك لتضع البيض. وفي الصباح الباكر تجثم الذكور على الأرض في بقعة مشمسة، حيث تحقق المراقبة والتدفئة معا (في الأعلى). وبعد ذلك تتحرك داخل الأشجار (يمينا، أعلى وأسفل) ـ بالضبط إلى الارتفاع النموذجي لطيران الإناث.

 

المكان، المكان، المكان

إن الأجنحة المزركشة والحركات اللطيفة والفيرومونات لا تفيد ذكر أبو دقيق إذا لم يجد أنثى يمارس معها شهواته. ولذلك تتبنى ذكور كثير من أنواع أبو دقيق استراتيجية البحث في أثناء الطيران، متجولة فيما حولها باحثة عن الرفيقات. وغالبا ما تتفحص الأماكن الواعدة مثل النباتات التي تميل الإناث إلى وضع بيضها عليها أو الأماكن التي تخرج فيها حشرات أبو دقيق العذارى (البكر) من شرانقها.

 

وتستخدم الذكور من نوع الإمبراطورة ليليا Empress Leilia (أستيروكامپا ليليا Asterocampa leilia) طريقة غاية في التنظيم. فلأن يرقات هذا النوع تتغذى بأشجار الكرز البري الصحراوية وتتحول عليها إلى عذارى، ولأن الإناث لا تتزاوج إلا مرة واحدة خلال فترة حياتها القصيرة، تحدد الذكور بالضبط مكان تلك الأشجار في البحث عن عذارى صغيرة. وبعد الفجر بساعات قلائل، وبمجرد أن تخرج الإناث من الشرانق وتصير مستعدة للطيران لأول مرة تبدأ الذكور بمراقبتها.

 

وفي الصباح الباكر تجثم الذكور على الأرض في أماكن مفتوحة مشمسة بالقرب من الأشجار. وهذا الحمام الشمسي في الصباح الباكر ربما يسمح للذكور بمراقبة حشرات أبو دقيق الأخرى في أثناء تدفئة أجسامها بالقدر الذي يساعدها على المطاردة. (لما كانت حشرات أبو دقيق لا تستطيع تنظيم درجة حرارة جسمها داخليا، فإنها تصير بطيئة الحركة إذا كانت درجة الحرارة المحيطة بها باردة للغاية). وفي الصباح المتأخر تطير الذكور بين الأشجار بالضبط إلى متوسط ارتفاع مستوى طيران إناث «إمبراطورة ليليا»، أي نحو متر واحد فوق الأرض. وقد لاحظتُ وتلاميذي أنه حتى عندما تجثم ذكور أبو دقيق على منحدر، فإنها ترفع رؤوسها حتى تكون أعينها ناظرة أفقيا خارج الشجرة. ويظهر أن هذا التوجيه يضمن أن أكثر مناطق البصر حدة ـ وهي التي تقع في شريط عند خط استواء(3) المجال البصري (الساحة الإبصارية) ـ تتوافق  مع المستوى الأكثر احتمالا لطيران الأنثى.

 

وتحمي ذكور «الإمبراطورة ليليا» إقليمها بحرص مدة ساعة أو ساعتين. وتطير خلف أي شيء يقترب منها، سواء كان أبو دقيق أو طائرا أو حجرا مقذوفا. وهذه الذكور اليقظة تتعقب الإناث أو تطارد الذكور المعتدية قبل أن تعود إلى مكان جثومها الأصلي. وتُظْهر أنواع كثيرة من أبو دقيق إقليميةً أوسع، مدعية المطالبة بأماكن للتزاوج تتميز بسمات جغرافية أكثر من كونها غنية بمصادر غذائية مثل أشجار الكرز البري الصحراوية: أماكن جرداء، بقع مشمسة، أودية صغيرة وأخاديد، وبالأخص قمم التلال.

 

وليس بوسعنا إلا أن نخمن فقط لماذا تبحث ذكور أبو دقيق (وفي الحقيقة حشرات أخرى كذلك) عن هذه الأماكن. فالبقعة المشمسة يمكن أن تجذب الإناث للتوقف وتدفئة نفسها؛ والبقعة الجرداء يمكن أن تكون موقعًا مفضلا للاتصال البصري؛ وقمة التل من بين الأماكن الأكثر إثارة للاهتمام، فالإناث البكر (لا الإناث التي سبق لها التزاوج) في بعض الأنواع تفضل الطيران إلى أعلى التل، ولكن معضلة السبب والتأثير في تطور سلوك التوجه إلى قمة التل لم تزل من دون حلّ.

 

يبدو أن عناصر مغازلة ذكر أبو دقيق ـ من لون الجناح الجذاب إلى الفيرومونات المغرية إلى الأماكن الواعدة ـ معدة وموجهة لتأكيد تزاوجات ناجحة كثيرة بقدر الإمكان. حتى تفضيل الذكر للإناث الشابة له أساس منطقي، فإحصائيا الإناث الأصغر سنا عندها فرصة أفضل للحياة بالقدر الكافي لإنتاج الكثير من ذريته.

 

ولدى الذكور التزام قوي متعلق بما جُبلت عليه من نزعة لنقل مادتها الجينية (الوراثية) إلى الجيل التالي، وهو أن تمنع قريناتها الإناث من التزاوج مرة أخرى. وفي الواقع تقدم ذكور أبو دقيق إسهاما جوهريا للإناث في أثناء التسافد ناقلة إليها كمية كبيرة من المواد الغذائية. وهذا الخزين الغذائي، المسمَّى حامل المَنِيّ spermatophore، قد يكوِّن من 6 إلى 10 في المئة من وزن جسم الذكر، ولا يمكن لذكر أن يمنح مثل هذا الاستثمار لأنثى ستستخدم مَنِيَّ منافسه في إخصاب بيضها [انظر: «الهدايا الغُدِّيَّة»، مجلة العلوم، العددان 8/9 (1997)، الصفحة 24]. وفي الحقيقة، لقد أتى التطور بآلية تفضِّل الذكر الذي نجح في التزاوج أولا. إن وجود حامل المني في جهاز الأنثى التناسلي يجعلها غير متقبلة لعروض جنسية أخرى. ويدعم هذا الاستنتاج دليل تجريبي: إن الملء الاصطناعي للجهاز التناسلي لأنثى عذراء يجعلها لا تهتم بالتزاوج، في حين أن قطع الأعصاب الموصلة لهذه المنطقة في أنثى ملقَّحة يعيد إليها اهتمامها التزاوجي. وللذكر طريقة أخرى ـ أقل أناقة ـ لمنع مريدي التزاوج من وليفته، وهي أنه يترك عائقا يسد جهازها التناسلي.

 

وتواجه الإناث ضغوطا تطورية مختلفة. فهي غالبا لا تحصل إلا على فرصة واحدة للتزاوج، ولذلك يجب أن تكون انتقائية بدرجة عالية. فبقبولها للذكر الأصلح فقط، تستطيع الأنثى أن تضمن لذريتها منحة جينية (وراثية) رفيعة المستوى، وتضمن لنفسها أيضا حامل مني أكثر عطاء؛ يعينها غالبا على حياة أطول، وبالتالي أن تضع بيضا أكثر. إن ألوان الذكر والفيرومونات والاستعراضات قد تمكِّن الإناث من الحكم على الصلاحية الكاملة لمريدها ومدى نجاحه في الحياة. إننا نظن أن الإشارات الكيميائية تبين نوعية غذاء الذكر: ففيرومون التزاوج الحاسم لذكور أبو دقيق «الملكة»، على سبيل المثال، يُنْتَج فقط عندما تتغذى الذكور بنباتات معينة. والألوان الزاهية تومئ لأفراد أصغر سنا وأكثر صحة.

 

وكما في الجنس البشري، تكون بعض خصائص الغزل وسلوكياته في أبو دقيق معقدة تماما، في حين يكون بعضها الآخر بسيطا إلى حد بعيد. وسواء أكان الغزل معقدا أم بسيطا، سيظل الغزل والتزاوج الآليةَ التي تتبعها سنة الحياة والتطور. وسواء أكان مراقب حشرات أبو دقيق يشاهد سربا متجمعا من أبو دقيق «الملكة» يتزاوج في جبال وسط المكسيك، أم مداعبة بين اثنين من أبي دقيق البرسيم (الفصة) في حديقة منزله، فإنه سيكون سعيد الحظ لمشاهدة نتائج التطور والسبيل التي يسلكها على مر الزمن.

 

 المؤلف

Ronald L. Rutowski

أمضى ما يقرب من 25 سنة في دراسة السلوك التزاوجي لدى حشرات أبي دقيق. فبعد حصوله على الدكتوراه من جامعة كورنيل عام 1976، انضم إلى هيئة تدريس جامعة ولاية أريزونا، حيث يعمل أستاذا ومساعدا لمدير برنامج علم الحياة والمجتمع في قسم البيولوجيا (علم الحياة).

 

مراجع للاستزادة 

THE EVOLUTION OF INSECT MATING SYSTEMS. R. Thornhill and J. Alcock. Harvard University Press, 1983.

THE BIOLOGY OF BUTTERFLIES. Edited by F. Ackery and R. Vane-Wright. Academic Press, 1984. THE DEVELOPMENT AND EVOLUTION OF BUTTERFLY WING PATTERNS. H. F. Nijhout. Smithsonian Institution Press, 1991.

THE EVOLUTION OF MATE-LOCATING BEHAVIOR IN BUTTERFLIES. R. L. Rutowski in American Naturalist, Vol. 138, No. S, pages 1121-1139; November 1991.

QUESTIONS ABOUT BUTTERFLY BEHAVIOR: THE CASE OF THE EMPRESS LEILIA. Ronald L. Rutowski in American Butterflies, Vol. 2, pages 20-23; May 1994.

SEXUAL DIMORPHISM, MATING SYSTEMS, AND ECOLOGY IN BUTTERFLIES. R. L. Rutowski in Evolution of Mating Systems in Insects and Arachnids. Edited by Jae C. Choe and Bernard J. Crespi. Cambridge University Press, 1997.

Scientific American, July 1998

 

(*) Mating Strategies in Butterflies

(1) worn.

(2) pheromones: مركبات كميائية مُصَنَّعة تُستخدم كلغة تخاطب، إذ تُحدِث ردود فعل محددة بين أفراد الكائن الحي التابعة للنوع نفسه. وهي في حال حشرات أبو دقيق ذات أهمية جنسية. وتقوم باستقبال الفيرومونات أعضاءُ الحس بصفة رئيسية وأعضاء التذوق بصفة ثانوية. وأصل كلمة فيرومون مشتق من اللاتينية «فيرين» pherein ومعناها ينقل و«هرمون» hormon ومعناها يثير أو ينشط، واستُخدم هذا اللفظ ليحل محل لفظ الهرمون الخارجي ectohormone الذي كان مستخدما من قبل.

(3) equator

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى