أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بيولوجياعلم الأحياء التطوري

كيف تتنامى الأطراف


كيف تتنامى الأطراف(*)

يُعَدُّ البروتين الذي أُطلق عليه للدَّعابة اسم القنفذ الصوتي(1) واحدا من  العوامل التي

طال البحث عنها والتي تُمْلي نموذج تنامي الأطراف(2).

<D.R.ريدل> ـ <J.C.تابين>

 

لقد كان الانتظار هو الجزء الأقسى، وأخيرا حان وقت تهشيم بعض البيوض. فقبل أسبوع، فتحنا نافذة صغيرة في قشرة بيضة كتكوت (صوص) آخذٍ بالتنامي وأقحمنا بضعة خلايا مُهَنْدَسة وراثيا (جينيا) genetically engineeredفي داخل واحد من البُرْعُميْن المتناهيين في الصغر والمخصَّصيْن لتكوين جناحي الجنين. وقد وكنّا قد هَنْدَسْنا هذه الخلايا لتصنع بروتينا اشتبهنا في أن يكون واحدا من المحدِّدات الرئيسية في تكوين النموذج الإجمالي لتنامي الأجنحة. والآن حانت لحظة الحقيقة: كيف أَثَّرت هذه الخلايا الإضافية في تكوين الطرفlimb؟

وفيما كنا نُنْعِم النظرَ تحت المجهر فَحْصًا للجنين بدقة، تحققت أعظم آمالنا حين شاهدنا أن الخلايا التي سبق إقحامها (زراعتها) أفضت إلى طقم جديد بالكامل لأصابع تشكلت في ذروة الجناح لتؤكد أننا توصلنا إلى تحديد عامل مهم في تنامي الأطراف.

 

إن هذه التجربة التي أجريناها في صيف عام 1993، أجابت بشكل جزئي عن سؤال طرحه البيولوجيون في أوائل هذا القرن: كيف «تتعرَّف» الخلايا في الطرف المتنامي الجهةَ اليسرى من الجهة اليمنى، وكذلك الجهةَ العليا من الجهة السفلى، والجهةَ الخلفية من الجهة الأمامية؟ وبتحديد أكبر: ما الذي جعل الإصبع ـ التي تتوجه نحو الأمام حينما تضع ذراعيك على جانبيك ـ تُكَوِّن إبهاما thumb، وما الذي جعل الإصبع التي تتوجه نحو الخلف تكوِّن خنصراpinkie؟ ما الذي ضَمِنَ أن يتشكَّل عظمُ ذراعِكَ العلوية قريبا (دانيا proximal) من جسمك، في حين تشكلت أصابعك في الناحية القاصية distal؟ ولماذا شكَّلت خلايا الجهة القاعدية (البطنية) من يدك راحتها المتغضِّنة، في حين بقيت الجهة الظهرية ملساء؟

 

حاول المختصون في علم الجنين التجريبي الإجابة عن هذه الأسئلة طوال عقود من الزمن. ولكن حتى وقت قريب تركَّزت معظم الدراسات حول تحديد الخلايا الضرورية للتنامي الناجح للأطراف. وباكتشاف تقانات البيولوجيا الجزيئية يستطيع العلماء في الوقت الحاضر أن يحلِّلوا الجينات النوعية التي توجِّه تكوين الأطراف. ومن اللافت للنظر في غرابته أن العديد من الجينات (والبروتينات التي تصنعها هذه الجينات) تقترب بدرجة كبيرة مع جيناتٍ تتحكم في تنامي أطراف ذباب الفاكهة، على الرغم مما يُظَنُّ من أن الفقاريات والحشرات تطوّرت من سلف مشترك كان يفتقر إلى الأطراف كليا.

 

إنّ مثل هذه الدراسات، إلى جانب كونها تُشْبِع الفضول القديم قدم الدهر بشأن معجزة الحياة، إنما تساعد الباحثين على فَهْمِ كيفية وسببيَّة الأخطاء التي تقع بها أحيانا سيرورات التنامي الجنيني على نحوٍ يؤدي إلى العيوب (النقائص) الولادية. وأكثر من ذلك، فهي تشير إلى أن البروتين نفسه الذي يؤسِّس الجهة الأمامية والجهة الخلفية للأطراف المتنامية يؤثر في عدد من سيرورات التنامي الأخرى تأثيرا يتراوح ما بين تكوين الجهاز العصبي المركزي وبين النمو الخلوي الذي يمكن أن يسبِّب شكلا من أشكال سرطان الجلد.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N10_H04_008181.jpg

تتشكل اليد البشرية وجناح الكتكوت بوساطة الإشارات الكيميائية نفسها أثناء التنامي الجنيني. ويعكف الباحثون الآن على تحديد الإشارات التي تخبر الخلايا في الأطراف الحديثة النشوء أيا هي الجهة العليا من الجهة السفلى، وأيا هي الجهة الأمامية من الجهة الخلفية وأيا هي الرأس من الذيل.

 

ويتساءل البيولوجيون منذ قديم الأزل ما إذا كانت الكائنات الحية جميعها تتشارك العوامل أو السيرورات نفسها التي توجه التنامي الجنيني، أم أن كل كائن أو مجموعة كائنات تتنامى بطريقة فريدة تخصُّها. وقد يكون من الواضح أن ذراعي الإنسان تتناميان بشكل يشبه نمو ذراعي الشمپانزي على سبيل المثال، ولكن ما درجة التشابه بين ذراعي الإنسان والشمپانزي من جهة وبين جناحي الكتاكيت (الصيصان) من جهة أخرى؟ وهل يوجد شيء مشترك بين نمو أذرع الثدييات وبين تشكُّل (تكوّن) أجنحة الذباب؟

على مدى سنوات عديدة افترض البيولوجيون أنَّ العوامل التي تشكِّل مستقبلا

 

الرجْلين المتناميتين لراقصة الباليه وتلك التي تعطي أرجل ذبابة الفاكهة المزعجة إنما يختلف بعضها عن بعض تماما، وأن أي مشابهات بينها ما هي (حسبما كان يعتقد) إلا نتيجة تطور متقارب convergent evolution، وفيه تنشأ بنى متشابهة عبر وسائل مختلفة كليا. أما اليوم فقد ظهرت فكرتان ثوريتان تغيّران ذلك النهج من التفكير.

 

فأولا، يعرف البيولوجيون الآن أن الجينات نفسها أو جينات مشابهة تحدِّد شكلَ تنامي بنى مضاهئة عديدة على امتداد طيف المملكة الحيوانية (من الذباب إلى الفئران إلى البشر). فمثلا يمتلك كل حيوان تقريبا رأسا في إحدى نهايتيه وذيلا في النهاية الأخرى، وذلك بسبب نشاط عائلة (مجموعة) من الجينات تدعى الصندوق المِثلي homeobox أو الجينات “Hox” [انظر: «(المهندسون) المعماريون الجزيئيون مصمّمو الجسم»،مجلة العلوم، العدد1 (1995)، ص 53]. وثانيا، إن الجينات التي توجِّه تكوين أحد مظاهر التنامي (مثل نحت الأطراف) تستطيع كذلك أن تؤدي دورا في أمر آخر مختلف تماما مثل تكوين الجهاز العصبي. فالطبيعة على ما يبدو تستعمل صندوق العُدَّة toolboxذاته مرات ومرات في تجميع (إنشاز) كائنات متباينة إلى حد مذهل.

 

تُعَدُّ بيوض الكتاكيت مفيدة بشكل خاص لدراسة طريقة تشكل الأطراف. فمنذ زمن أرسطو، عرف العلماء أن المرء إذا ما أراد ملاحظة طريقة تشكّل جنين الكتكوت لا يحتاج إلا إلى فتح نافذة (ثقب) في قشرة بيضة ملقحة. وقد تمكن علماء الجنين خلال ما ينوف على مئة عام من تغيير أجنَّة كتاكيتٍ بشكل جراحي عبر مثل هذه النوافذ الصغيرة، ومن ثم إغلاق تلك النوافذ بشمع البرافين (أو حديثا باستعمال لاصق سكوتش) وحضن البيوض حتى الفقس (النَّقْف) hatching.

 

وعبر مثل هذه الدراسات لاحظ الباحثون أن الأطراف تتشكل في البداية من براعم تظهر على امتداد جانبي الجسم المتنامي. وتتألف هذه البراعم من «معطف» من خلايا خارجية (أي الأديم الظاهر ectoderm) تحيط «بِلُبٍّ» من خلايا أخرى تدعى الأديم المتوسط mesoderm. ومع أن براعم الأطراف المبكرة ليست بنى مكتملة التعضي، فهي تحتوي على جميع المعلومات المطلوبة لتشكيل الطرف، بدليل أن استئصال أحد البراعم الطرفية المبكرة وغرسه في موضع آخر لجنين ما إنما يتسبب في نمو طرف سوي في موقع شاذ.

 

وفي هذه المراحل المبكرة من التنامي لا تكون الخلايا الموجودة في أحد براعم الأطراف «ملتزمة» بأن تغدو جزءا من إبهام أو خنصر، بل تكون جميعها في خضم سيرورة قد تجعلها هذه الإصبع أو سواها. وتبعا لذلك يمكن حثها وتوجيهها لمساعدة الباحثين على فَهْم قواعد تنامي الأطراف.

 

وفي كل برعم لطرف يوجد قادة وتابعون. فقد أقرّ علماء البيولوجيا التطورية عبر السنين بأن كل محورaxis  لطرف متنامٍ (سواء أكان «أماميا-خلفيا» أم «دانيا-قاصيا» proximal-distal أم «ظهريا-بطنيا») إنما تُرتبه أنماط متميزة من الخلايا في مواقع متميزة من برعم الطرف. ويشار إلى هذه الخلايا باسم مراكز إصدار الإشارة signaling centers.

 

فعلى سبيل المثال، لا يصنع الأديمُ الظاهر إلا جزءًا من جلد الفرد البالغ، إلا أنه يؤسس المحور الظهري البطني الذي يؤثر في مكان وتشكل كل من العضلات والأوتار tendons. وقد عرف العلماء منذ سنوات أن استئصال أديم ظاهر من برعم مبكِّر لأحد الأطراف وتدويره 180 درجة ثم إعادته إلى مكانه يجعل العضلات التي تتنامى عادة على الجانب الظهري لجناح الكتكوت ينتهي بها الأمر إلى الجانب البطني من الجناح، والعكس بالعكس. وينجز الأديم الظاهر ذلك عن طريق إرسال إشارات كيميائية إلى الخلايا الواقعة تحته والتي ستشكِّل العضلات والأوتار في نهاية المطاف.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N10_H04_008182.jpg

تتنامى ذراع الإنسان وجناح الكتكوت (في أعلى الصفحة يسارا) بشكل متشابه على طول المحاور الثلاثة جميعها: «الظهري-البطني» و«الأمامي-الخلفي» و«الداني-القاصي». فعن طريق منابلة manipulating مجموعات معينة من الخلايا موجودة على براعم أطراف الكتكوت المتنامية سواء تلك التي ستصبح أجنحة أم تصبح أرجلا (في الأسفل يسارا وفي الأعلى يمينا)، توصل الباحثون إلى تحديد أي الخلايا يكون حاسما في تكوين المحاور الثلاثة بنجاح لدى جميع الفقاريات، بما في ذلك الإنسان. كما تعرف الباحثون بعض البروتينات التي تنتجها الخلايا التي توجه التكوين السوي للطرف الجنيني.

 

وفي أواخر الأربعينات من هذا القرن لاحظ <W.J.سوندرز، جونير>[من جامعة ولاية نيويورك في ألباني] وزملاؤه أن مجموعة معينة من خلايا الأديم الظاهر عند ذروة كلّ برعم طرفي متنام لأحد الكتاكيت (كانوا قد أطلقوا عليها مصطلح المَتْن القمي للأديم الظاهر apical ectodermal ridge أو AER اختصارا) تكون هي المسؤولة عن تأسيس النمط «الدّاني القاصي» للطرف. فعندما أزالوا مَتْن الخلايا هذا لم تتنامَ إلا جَدْعَة stump للطرف، وحينما اغترسوا مجموعة إضافية من الخلايا فوق برعم طرفي سَوِي آخر تنامت المجموعة إلى طرف مزدوج. وعلاوة على ذلك، فقد حَدَّد توقيت الجراحة المجهرية مقدار العضو الذي سيتشكَّل وكم يبعد موضع نمو الطرف الثاني أسفل الطرف الأول. وهذا ما أوضح أن وجود المجموعة الخلوية AER شرط لازم وكاف لظهور الطرف. وأكثر من ذلك، فلما كانت الأطراف تُنَمِّي البنى الدانية أولا ثم البنى القاصية لاحقا، أظهرت هذه التجربة  أن المجموعة الخلوية AER  تنظم التنامي على طول المحور  الداني القاصي.

 

وكذلك حدَّد سوندرز ومعاونوه مجموعة ثانية من الخلايا تُملي المحور الأمامي الخلفي للطرف المتبرعم. وتقع هذه الخلايا تحت الأديم الظاهر مباشرة على طول الحافة الخلفية لبرعم الطرف. وحين اغترس الباحثون خلايا مأخوذة من الجانب الخلفي لبرعم أحد أطراف الكتكوت في الجانب الأمامي لبرعم ثانٍ وَجَدوا أن الطرف قد شكَّل طقما كاملا من أصابع إضافية لا تتوجه إلا نحو الوراء، بحيث واجَهَ المعادل الكتكوتي لإصبعنا الصغير الجهةَ الأمامية. وبما أن الخلايا المُغْتَرَسَة لم تُحرِّض الخلايا الأمامية لتشكيل أصابع إضافية فحسب، بل وأدارتها أو غيرت قطبيتها كذلك، فقد وصف فريق سوندرز المنطقة التي أخذوا منها الخلايا بأنها منطقة الفعالية الاستقطابية zone of polarizing activity  (أوZPA اختصارا).

 

وفي منتصف السبعينات وجد<C.تيكل>[في جامعة داندي] أن المنطقة ZPAتعمل بطريقة تعتمد على التركيز: فكلما ازداد عددُ الخلايا المُغترَسة ازدادت ازدواجية الأصابع المتكوِّنة. وقد أوحى هذا الدليل بأن المنطقة ZPA  تعمل عن طريق إفراز مادة كيميائية تدعى مورفوجين(2) morphogen يقل تركيزها كلما انتشرت في أرجاء برعم الطرف. (وكانت فكرة المورفوجين قد اقترحت أول مرة قبيل بداية هذا القرن، ثم راجت كثيرا في أواخر الستينات بفضل <L.وولپرت>الذي يعمل حاليا في الكلية الجامعية بجامعة لندن). وحسب فرضية المورفوجين هذه فإن الأصابع الأمامية تتشكَّل من الخلايا الأبعد عن المنطقة ZPA والتي تتعرّض للتراكيز المنخفضة من المورفوجين، في حين تتشكل الأصابع الخلفية من الخلايا الأقرب إلى المنطقة ZPA  والتي تتعرض إلى تراكيز أكبر من المورفوجين. ولكن هوية هذا المورفوجين والطريقة التي يعمل بها مازالتا غامضتين.

 

شكل الأشياء المقبلة

لقد قدَّم مجيء البيولوجيا الجزيئية للباحثين الوسائلَ اللازمة لتحديد الجينات ذات الشأن في السيرورات الجنينية مثل تنامي الأطراف. فما إن يتم استنساخ (تنسيل) cloning أحد الجينات (بمعنى عزل الدنا الخاص به) فإن هذا الأخير يصبح أداة بحث قوية. وبقراءتنا ترتيب «الحروف» الكيميائية التي تؤلف دنا تلك الجينة، يستطيع العلماء التنبؤ ببنية البروتين الذي يكوِّدهencode. ويمكن أيضا استعمال قِطَع من الدنا كمسابير probes  لتحديد أين تكون الجينة فعالة في الجنين المتنامي ومتى يبدأ تشغيلها. وربما كان الشيء الأهم أن الجينة ما إن يتم استنساخها حتى يستطيع العلماء تغيير تعبير expressionتلك الجينة، بحيث يشغلونها في أماكن لا تعمل فيها عادة أو يوقفونها في الأماكن التي تعمل فيها عادة. وبعملهم هذا يستطيع الباحثون الشروع في استكشاف وظيفة الجينة أثناء التنامي السوي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N10_H04_008183.jpg

تتطلب براعم أطراف الكتكوت الجنينية بروتينا يدعى القنفذ الصوتي (التظليل بالأسود) لكي تتنامى إلى أجنحة وأرجل ذات توجه «أمامي خلفي» صحيح. ويتم صنع البروتين على طول الحافة الخلفية لكل برعم.

 

وخلال الثمانينات والتسعينات اكتشف الباحثون الذين يدرسون ذباب الفاكهة أن الأجزاء الخلفية من القطع segments التي تؤلف المخطط الجنيني لجسم ذبابة الفاكهة تنتج بروتينا حيويا لتنامي الذبابة. وقد دُعي هذا البروتين باسم القنفذ hedgehog؛ لأن يرقات الذبابة ذات الطفرات في الجينة التي تكود ذلك البروتين لا تتنامى بشكل سوي، بل إنها تظهر عوضا عن ذلك متقبضة ومشوَّكة مثل القنافذ الخائفة.

 

ولمعرفة ما إذا كان هناك بروتين مشابه يمكن أن يؤدي دورا في تنامي الفقاريات، فقد تعاونّا مع باحثين بقيادة<P.A.مكماهون>[من جامعة هارڤارد] ومع<W.P.انگهام>[في جامعة شيفيلد حاليا]على استعمال مسابير من جينة قنفذ الذبابة fly hedgehog gene لغرض البحث عن جينات مقابلة لدى الفئران والكتاكيت والأسماك. ولقد تداول بعضنا مع بعض ثلاث نسخ من الجينة وليس نسخة واحدة، وأطلقنا على هذه النسخ أسماء تذكِّر بثلاثة أنماط من القنفذ، وهي: قنفذ الصحراء بالنسبة إلى النوع السائد في شمال إفريقيا، والقنفذ الهندي نسبة إلى أحد الأشكال الفطرية الخاصة بشبه القارة الهندية، والقنفذ الصوتي نسبة إلى صفة اللعبة الحاسوبية “Sega” الموجودة في صالات الڤيديو في أنحاء العالم.

 

اكتشفنا أن الجينات الثلاث جميعها موجودة في الفئران والكتاكيت والأسماك، ولكن لكل منها وظيفة مختلفة في تنامي تلك الكائنات. فقنفذ الصحراء، على سبيل المثال، مهم في إنتاج النطاف لأن الفئران الذكور ذات الطفرات في هذه الجينة تكون عقيمة. أما القنفذ الهندي فيتم التعبير عنه في الغضروف أثناء النمو، إذ يؤدي دورا في تنامي الغضروف وتشكله. أما القنفذ الصوتي فله نموذج من التعبير متميز حقا، بحيث يوحي بأنه يعمل في تنامي أعضاء جسمية أخرى كذلك. هذا ولا يقتصر نشاط القنفذ الصوتي على المناطقZPAs لبراعم الأطراف، بل يمارس نشاطه كذلك في منطقة لتنامي الحبل (النخاع) الشوكي تعمل كمركز لإصدار الإشارات بحد ذاته. يضاف إلى ذلك أن المعروف عنه أنه يستحث نمو أصابع إضافية إذا تم اغتراسه في طرف متبرعم.

 

ولما كان علماء آخرون قد تبينوا إفراز بروتين قنفذ ذبابة الفاكهة، فقد خمّنا أن القنفذ الصوتي قد يكون واحدا من الإشارات signals التي تعطي نمو أطراف الفقاريات شكله. وكيما نختبر هذه الفكرة  بشكل مباشر، شَبَكنا جينة القنفذ الصوتي داخل خلايا كتكوت جنينية تمت تنشئتها في المختبر، مما يجعل الخلايا تنتج بروتين القنفذ الصوتي؛ ومن ثم غرسنا هذه الخلايا في الجانب الأمامي لبرعم طرفي لكتكوت. فكان الذي حدث موافقا تماما لتجارب سوندرز، إذ استحثت الخلايا المغترَسة تكوين طقم مزدو من أصابع كانت موجهة إلى الوراء.

 

هذا وكان كل من تيكل ومكماهون قد وجدا، منذ دراساتنا في عام 1993، أن بروتين القنفذ الصوتي المنقى له نفس تأثير الخلايا ذات الجينة المشبوكة، الأمر الذي يثبت أن هذا البروتين هو بحق المسؤول عن تأسيس المحور الأمامي الخلفي أثناء نمو الطرف في الفقاريات. وعلاوة على ذلك، فإن القنفذ الصوتي يعمل مثلما نتوقع أن يعمل المورفوجين: أي ينتج طقما كاملا من أصابع إضافية معكوسة الترتيب إذا كان بتراكيز عالية، في حين أنه في التراكيز المنخفضة يُفضي إلى بنى قليلة مضاعفة موجَّهة إلى الوراء. ويدرس العلماء الآن الطبيعة الجزيئية لتأثير التركيز هذا.

 

أثبتت السنوات الأولى من التسعينات أنها سنوات متميزة في مجال بيولوجية التنامي. ففي الوقت نفسه تقريبا الذي كنا فيه نحن ومعاونونا نحدِّد هوية القنفذ الصوتي، باعتباره الإشارة الكيميائية التي تؤسِّس المحور الأمامي الخلفي للطرف المتنامي، كان آخرون غيرنا يعزلون (يستفردون) العوامل التي تصنعها المجموعة الخلوية AER التي تُقِيم المحور الداني القاصي. وكل على حدة، وجد تيكل مع<R.G.مارتن>[من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو] و<F.J. فالون>[من جامعة وسكونسن-ماديسون] أن المجموعة الخلوية AER تصنع بضعة بروتينات تدعى عوامل نمو الأرومة الليفية fibroblastgrowth factors وتُخْبِر الخلايا في الطرف المتبرعم عن البعد الذي يمكن لها أن  تبلغه ابتعادا عن الجسم.

 

لقد أثبت تيكل ومارتن وفالون أن عوامل نمو الأرومة الليفية المنقاة يمكن أن تحل محل الخلايا المغترَسة المأخوذة من المجموعة الخلوية AER في توجيه تنامي الطرف بعيدا عن الجسم، إذ لاحظوا أن الأطراف السوية قد نمت لدى تثبيتهم في نهاية أحد براعم الأطراف خرزات دقيقة منقوعة في هذه العوامل، بعد أن كانوا قد أزالوا المجموعة الخلوية AER لذلك البرعم. ومثل براعم الأطراف هذه لا تتنامى في العادة إلا إلى أطراف شديدة القصر.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N10_H04_008184.jpg

يطلِق بروتين القنفذ الصوتي فعالية ونشاط بروتين يدعى المُرَقَّعَة pathced. وينظم هذا البروتين بدوره مقدرة بروتين آخر يدعى المُمَلَّسَة smoothened بهدف إرسال إشارة نمو إلى خلايا الجلد. ويغيب بروتين المرقَّعة في سرطانة الخلايا القاعدية أو يغدو خاملا (غير وظيفي) بحيث يسمح للخلايا الجلدية بالنمو على نحو ورمي.

 

إننا نعلم الآن أن إنتاج القنفذ الصوتي وإنتاج عوامل نمو الأرومة الليفية يكونان متناسقين في الطرف المتنامي على نحو يسمح بالنمو على طول المحور الأمامي الخلفي بما يتماشى مع النمو على طول المحور الداني القاصي. ولقد برهنت الدراسات التي أجرتها مجموعاتنا وكذلك التي أجراها<A.L.نيسواندر>[من مركز سلون-كيترنگ التذكاري للسرطان في مدينة نيويورك] أن إزالة (استئصال) المجموعة الخلوية AER المولِّدة لعامل نمو الأرومة الليفية من برعم طرف أحد الكتاكيت تُوقف مقدرة المنطقة ZPA الخاصة بذلك البرعم عن صنع القنفذ الصوتي. وبالمثل، فإن استئصال المنطقة ZPA يمنع المجموعة الخلويةAER من إنتاج عوامل نمو الأرومة الليفية. ولكن إضافة عوامل نمو الأرومة الليفية مجددا تسمح بصنع القنفذ الصوتي. وكذلك، فإن إعادة إدخال القنفذ الصوتي تشجع إنتاج عوامل نمو الأرومة الليفية.

 

لقد كان<A.P.بيتشي>[من كلية طب جامعة جونز هوپكنز] و<H.وستفال>[من المعهد القومي لصحة الطفل والتنامي البشري] ومعاونوهما أول من بيّن أن القنفذ الصوتي ضروري للأداء الصحيح لكل من المجموعة الخلوية AERوالمنطقة ZPA لدى الفئران؛ إذ أزالوا (خَبَنوا) جينة القنفذ الصوتي ليولِّدوا ما يدعى فئرانا معطلة knockout mice، فوجدوا أن هذه الفئران طورت أطرافا بالغة القصر وأخفقت الأطراف بالتنامي على طول كل من المحور الأمامي الخلفي والمحور الداني القاصي. ولذلك، يُعَدُّ القنفذ الصوتي شرطا لازما وكافيا لتنامي طرف سوي.

 

عيوب الولادة

هذا وقد أشارت الفئران المعطَّلة إلى دور مثير آخر يؤديه بروتين القنفذ الصوتي، يتمثل في قيامه بتكوين أُنموذج pattern في الدماغ والنخاع (الحبل) الشوكي يحدد، على سبيل المثال، ما إذا كانت الخلايا العصبية المبكرة ستغدو عصبونات محركة أو حسية. وإلى جانب إنمائها أطرافا أمامية شديدة الاختزال، فإن الفئران التي تفتقر إلى القنفذ الصوتي لا تمتلك إلا عينا واحدة وتعاني عيبا دماغيا شديدا يدعى الأذية الكاملة للدماغ الأمامي holoprosencephaly  حيث يخفق الدماغ الأمامي forebrain بالانقسام إلى فِصّين. إن التنامي السوي للعصبونات المحركة والحسية وتكوين العينين والدماغ المتناظر الجانبين يعتمدان على نشاط القنفذ الصوتي في الأنبوب العصبي neural tube (الذي هو  سليفة الجهاز العصبي المركزي لدى البالغين) وفي الخلايا الواقعة تحت ذلك الأنبوب.

 

تعد «الأذية الكاملة للدماغ الأمامي»أكثر شذوذات الدماغ الولادية تكرارا بالنسبة إلى مقدم الدماغ لدى البشر. وقد يظهر هذا العيب بين الفينة والفينة، ولكنه يتكرر كذلك في العائلات كواحد من العديد من الاضطرابات الموروثة النادرة. وتتفاوت درجة هذا العيب كثيرا لدى الأفراد المصابين به، فبعضهم يصاب بنقائص معرفية خفيفة، في حين يتصف آخرون غيرهم بعُطْل واضح ترافقه تشوهات هيكلية في الوجه والرأس.

 

لقد ذكر<A.M. مونيكة>[من مستشفى الأطفال في فيلادلفيا] و<W.S.شيرر> [من مستشفى الأطفال المرضى في تورونتو] وزملاؤهما أن الطفرات التي تعطل القنفذ الصوتي تكون مسؤولة عن بعض الحالات المتفرقة والحالات الموروثة للأذية الكاملة للدماغ الأمامي، فمن دون قيام القنفذ الصوتي بالتحديد الصحيح للمحور «الظهري البطني» في الدماغ الأمامي المتنامي، فإن أنسجة هذا الدماغ وكذلك أنسجة العينين تخفق في تحقيق بنى متناظرة الجانبين.

 

حول القنافذ والسرطان

ربما كان من غير المستغرب أن تسهم جينة منظمة للتنامي مثل القنفذ الصوتي في عيوب الولادة، ولكن الباحثين اكتشفوا كذلك مؤخرا وجود رابطة غريبة حقا بين هذه الجينة والسرطان. فالبروتين الذي يكوِّده القنفذ الصوتي يصدر الإشارات (الإيعازات) إلى الخلايا عن طريق ارتباطه بنفس البروتين الموجود على سطح الخلية والذي يشارك في إحداث سرطان الجلد المسمى بسرطانة الخلايا القاعدية basal cell carcinoma.

 

تتآثر معظم العوامل الكيميائية مع الخلايا الحساسة لها عن طريق ارتباط تلك العوامل ببروتينات موجودة على سطح الخلية تدعى المستقبلات receptors. ويُطلق ارتباط العوامل بمستقبلاتها النوعية شلالا (سلسلة) cascade من الإشارات داخل الخلية، يقود في نهاية المطاف إلى تشغيل الجينات أو إيقافها.

 

وتتألف المستقبلات التي يرتبط بها القنفذ الصوتي من وحدتين فرعيتين: تدعى إحداهما المُمَلَّسة smoothened  وهي مهيأة لإرسال إشارة إلى داخل الخلية، في حين تمنع الأخرى التي تدعى المُرَقَّعة patched الوحدة الفرعية الأولى من إرسال إشارتها. فحينما يرتبط القنفذ الصوتي بالمُرَقَّعة يجعلها تُحرِّر المُمَلَّسة التي هي الوحدة الفرعية الباعثة للإشارة. ومع ذلك، ففي الخلايا التي تؤوي طفرات تمنعها من صنع بروتينات المرقَّعة الناشطة، فإن النصف الباعث للإشارة يبقى ناشطا باستمرار، كما لو كان القنفذ الصوتي غامرًا الخلايا غمرًا مستديما. أما الآلية الدقيقة التي يؤثر بها القنفذ الصوتي في التنامي السوي للجلد، والكيفية التي يفضي بها الانبعاث الشاذ للإشارات في الوحدة الفرعية المُمَلَّسة إلى تسرطن الخلايا القاعدية، فإنهما تخضعان حاليا لدراسة مكثفة.

 

إن سرطانة الخلايا القاعدية هي خباثة في البشرة أو في خلايا الجلد المبطنة لِجُرَيْبات الشعر التي غالبا ما تنجم عن طفرات يسببها فرط التعرض للأشعة فوق البنفسجية في ضوء الشمس. ففي عام 1996 وجد<E.A.بيل>[من جامعة ييل] و <P.M.سكوت>[من جامعة ستانفورد] ـ كل على حدة ـ أن السرطان ينشأ حينما تطور خلايا جُرَيْب الشعرة طفرات في كل من نسختي جينة المرقَّعة اللتين تمت وراثة إحداهما من الأم والأخرى من الأب. ويمكن أن تحدث الطفرات في نسختي الجينة كلتيهما بعد الولادة، أو قد يولَد أفراد ذوو طفرة في إحدى النسختين تجعلهم ذوي استعداد كبير لنشوء سرطانات خلوية قاعدية متعددة إذا أصيبت النسخة الأخرى بالتطفر لاحقا.

 

يمكن إلى حد كبير علاج سرطانة الخلايا القاعدية، ولكنها كثيرا ما تعاود الحدوث. وإذا ما تمكّن الباحثون من اكتشاف جزيئات صغيرة تعيق نشاط المملَّسة، فإن هذه المركبات يمكن استعمالها لمنع السرطانات. ولما كان في الإمكان وضع مثل هذه العقاقير على الجلد مباشرة بدلا من تناولها عبر الفم، فإنها يمكن أن تجنب المرء التأثيرات الجانبية للمعالجات الكيميائية المجموعية (الجهازية) systemic.

 

لا ينبغي استغراب دور إرسال الإشارات من قبل القنفذ الصوتي في السرطان. فقد أظهرت البيولوجيا الجزيئية في بضع حالات أن السيرورات التي تُملي التنامي والسرطان تتشارك في عدة خصائص أساسية. فالعوامل ذاتها التي تنظم النمو الخلوي والتنامي في الأجنة على سبيل المثال، تفعل الشيء نفسه لدى البالغين. وعندما تنشأ طفرات في الجينات التي تكوِّد لهذه العوامل في الأجنة تحدث عيوب ولادية. أما عندما تحدث طفرات كهذه لدى البالغين فقد تتشكل الأورام.

 

أما ما يحتمل أن يكون مستغربا فإنه يتمثل في الدرجة التي يستطيع عامل واحد مثل القنفذ الصوتي أن يؤدي فيها أدوارا مختلفة في تشكيل كائن حي ما وأدائه لوظائفه. ويبدو أن القنفذ الصوتي قديم الوجود: إذ وجدتْ كل من الذباب والفقاريات عدة استعمالات له ولجينات جنينية عديدة أخرى غيره. فحالما يتأسَّس مسار pathway جزيئي مرسِل للإشارة، غالبا ما تعثر الطبيعة على طرق لاستخدامه في عدة أطر (مهمات) أخرى. وقد يكون صوت القنفذ الصوتي واحدا من الألحان الرئيسية التي تتكرر في سمفونية الحياة.

 

المؤلفان

Robert D.Riddle-Cliford J.Tabin

تعاونا في دراسات تنامي الأطراف منذ عام 1990 حين التحق ريدل بمختبر تابين في كلية طب جامعة هارڤارد زميلا لما بعد الدكتوراه. ويعمل ريدل الآن أستاذا مساعدا في كلية طب پنسلڤانيا، وقد حصل على الدكتوراه من جامعة نورث وسترن عام 1990. أما تابين فهو عضو في هيئة التدريس بجامعة هارڤارد منذ عام 1987، وقد حصل على الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتقانة، حيث ساعد على تحديد إحدى الطفرات في الجينة ras التي تسهم في إحداث أنواع مختلفة من السرطانات.

 

مراجع للاستزادة 

DEVELOPMENTAL BIOLOGY. Fifth edition. Scott F. Gilbert. Sinauer Associates, 1997.

FOSSILS, GENES AND THE EVOLUTION OF ANIMAL LIMBS. Neil Shubin, Cliff Tabin and Sean Carroll in Nature, Vol. 388, pages 639-648; August 14, 1997.

CELLS, EMBRYOS AND EVOLUTION. John Gerhard and Marc Kirschner. Blackwell Science, 1998.

Scientific American, February 1999

 

(*) How Limbs Develop

(1) Sonic hedgehog

(2) limb development

(2) مادة أو مواد تتحكم في تنامي شكل الكائن وبنيته.  (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى