أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئيةبيولوجيا

الأسماك البلطية في بحيرات الصدع (الرفت)

<=”” td=”” style=”font-family: tahoma; font-size: 12px; color: rgb(0, 0, 0);”>  

الأسماك البلطية في بحيرات الصدع (الرفت)(*)

يتحدى التنوع غير العادي للأسماك البُلطية الأفكار

الراسخة عن كيفية نشوء الأنواع الجديدة بسرعة.

<J.L.M.ستياسني> ـ <A. ماير>

 

إن المياه في بحيرة تانگانيقا صافية وعميقة ومظلمة، غير أن مياه حافتها الضحلة المشمسة هي المكان الذي تعيش فيه معظم الأسماك البُلطية (المُشطية)؛ إذ تزدهر أنواع الجنس إِرِتمودَس Eretmodus ـ ذات اللون البني أو الأخضر والبقع الزرق، والكاشطة للطحالب ـ وسط الأمواج المتكسرة، حيث تدفع المياه المضطربة ظهورها المستديرة نحو سطوح الصخور عوضا عن جرها بعيدا عنها. وتقضم هذه الأسماك الطحالب من الصخور بأسنانها الشبيهة بالأزاميل. أما جيرانها من أسماك تانگانيكودَس Tanganicodus، لاقطات الحشرات، فظهورها أيضا مستديرة غير أن رؤوسها المدببة وخطومها الحادة وأسنانها الطويلة الدقيقة تكيفت لاقتلاع يرقات الحشرات من الشقوق.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008274.jpg

 

أما في المياه الأكثر هدوءا فتنتشر هنا وهناك أصداف القواقع القديمة على الأرصفة الرملية بين الجلاميد الصخرية، وبداخل الأصداف تعيش إناث أسماك لامپرولوگس Lamprologus البالغة الصغر مع بيضها وصغارها. أما ذكورها ذات الألوان الصفراء أو الخضراء أو البنية فإنها كبيرة إلى درجة لا تسمح لها بالدخول إلى هذا المسكن الصغير. وعوضا عن ذلك تسرق الأصداف (وبداخلها الإناث أحيانا) بعضها من بعض، ثم تتوضّع مزهوة حول «حريمها».

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008275.jpg

تضم بحيرات شرق إفريقيا (تانگانيقا ومالاوي وڤيكتوريا) أكبر تشكيلة من أنواع البُلطيات. غير أن هذه الفصيلة تنتشر في المياه الدافئة في معظم الكرة الأرضية.

 

وكاشطات الطحالب الأخرى التي تنتمي إلى الجنس تروفيوس Tropheusتحوم أيضا حول الصخور الواقية. وقد يفصل أحيانا جرف رملي عرضه بضع مئات من الأقدام مجموعتين من الجلاميد إحداهما عن الأخرى، وهي مسافة كبيرة ومكشوفة لا تضمن سمكة صغيرة أن تعبرها في أمان. ونتيجة ذلك، تطورت البُلطيات من الجنس تروفيوس، التي تعيش في أكوام الصخور المبعثرة، بشكل يشابه كثيرا تطور الحساسين (طيور الشرشور) finches التي ذكرها داروين في جزر گالاباگوس: أي إنها تباينت بشدة خلال انعزالها. ففي نتوء صخري معين قد تجد نوعا من أسماك التروفيوس أسود اللون بخطوط رأسية صفراء، وفي موقع آخر نجد سمكة مماثلة ولكن بخطوط بيض وزُرق. وبالإجمال، تعرّف الباحثون نحو 100 من هذه الأشكال اللونية color morphs.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008276.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008277.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008278.jpg

البنيان التشريحي للبلطيات قابل للتكيف المدهش. فأشكال أسنان سمكة سيكلاسوما سيترينيلَّم Cichlasoma citrinellum يمكن أن تتخذ شكل ثاقبات حادة (a) أو طاحنات مفلطحة (b). وتبين الصورة الإشعاعية (c) مجموعتي فكوك إحدى البُلطيّات.

 

الكل في فصيلة

إن هذا التنوع الاستثنائي للفصيلة البُلطية Cichlidae قد رفعها إلى مرتبة أيقونة في كتب البيولوجيا التطورية. فالبلطيات أسماك تعيش في المياه العذبة ولها زعانف شوكية مشعة spiny-rayed، وتضم تشكيلة كبيرة متنوعة من الألوان والأشكال والسلوكيات، وتستوطن الأنهار والبحيرات الدافئة في إفريقيا ومدغشقر وجنوب الهند وسريلانكا والأمريكتين الجنوبية والوسطى ـ إضافة إلى نوع واحد هو بُلطي تكساس، يمتد انتشاره إلى أومريكا الشمالية. إن معظم هذه المناطق كانت جزءا من القارة الجنوبية القديمة گوندوانا Gondwana، التي تجزأت قبل 180 مليون عام؛ وتوحي هذه الملاحظة بقدم سلسلة نسبlineage  هذه الفصيلة. (والشيء الغريب أن السجل الأحفوري لا يقدم أي معلومات في هذا الصدد إلا عن ال300 مليون عام الماضية).

 

لقد أدى البحث الذي قامت به إحدانا (ستياسني) إلى تعرف 15 نوعا من البُلطيات في مدغشقر وثلاثة أنواع مشهورة من جنوب الهند. ويبدو أن هذه الأسماك هي التي كتب لها البُقْيا من بين سلاسل الأنساب lineages المبكرة جدا. (بقي الكثير من مثل هذه الأنواع القديمة على قيد الحياة في جزيرة مدغشقر، التي لم تصل إليها منافساتها التي تطورت في إفريقيا؛ وكانت الهند أيضا معزولة ملايين السنين). وتضم الأمريكتان نحو 300 نوع. بيد أن التنوع الأكبر في البُلطيات يوجد في إفريقيا، وعلى وجه الخصوص في البحيرات الكبرى بشرق إفريقيا، وهي: ڤيكتوريا ومالاوي وتنگانيقا.

 

وتشير المعلومات الجيولوجية إلى أن بحيرة ڤيكتوريا التي يشبه شكلها صحنا تبلغ مساحته مساحة إيرلندا قد تشكلت ما بين 250000 و 750000 عام مضى، وتحتوي على ما يربو على 400 نوع من البلطيات. أما بحيرتا مالاوي وتنگانيقا فهما عميقتان جدا وضيقتان، لأنهما تملآن الصدع rift الواقع بين الصفيحتين التكتونيتين tectonic plates  لشرق إفريقيا ووسطها.

 

ويبلغ عمر بحيرة مالاوي نحو أربعة ملايين عام، ويعيش فيها 300-500 نوع من البُلطيات، في حين يتراوح عمر بحيرة تنگانيقا ما بين 9 و 12 مليون عام ويعيش فيها نحو 200 نوع. وقد تبين في النهاية أنه على الرغم من العمر المديد للفصيلة البلطية والبحيرات التي توطنت فيها، فإن تنوعها المثير للعجب لم يحدث إلا في غضون ملايين السنين القليلة المنصرمة.

 

ويعتقد أن هناك عوامل متعددة وراء تنوع البُلطيات، ويتعلق أحد هذه العوامل بالنواحي التشريحية. فتتميز البلطيات بوجود مجموعتين من الفكوك: إحداهما في الفم لشفط أو كشط أو قضم اللقم الطعامية، ومجموعة أخرى في الحلق throat لطحن أو تطرية أو تقطيع أو تثقيب اللقم الطعامية قبل بلعها. وتُعد البُلطيات أسماك المياه العذبة الوحيدة التي تمتلك مثل هذه المجموعة المتحورة الثانية من الفكوك، والتي هي في الأساس عبارة عن أقواس خيشومية gill arches أعيد تشكيلها (وهي مجموعات من العظام التي ترتكز عليها الخياشيم). وكلتا المجموعتين من الفكوك قابلتان للمنابلة وللتكيف إلى حد بعيد. فقد بين أحدنا (ماير) أنه يمكنها أن تغير أشكالها حتى خلال فترة حياة الحيوان الواحد (بل إن أشكال الأسنان قد تتحول، بحيث تصبح الأسنان المدببة الثاقبة مسطحة طاحنة كالأضراس). وقد تبين أن البُلطيات التي تمت تغذيتها بنوع واحد من الغذاء دون نوع آخر، قد تتخذ مظهرا مختلفا جدا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008279.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008280.jpg

يتضمن إخصاب (تلقيح) بيض أوفثالموتيلاپيا ڤنترالس Ophthalmotilapia ventralis أسلوبا غير مألوف؛ فتضع الأنثى بيضة واحدة ثم تأخذها في فمها من أجل الحفاظ عليها (في اليمين)، ثم يطلق الذكر بعد ذلك نطافه (حيواناته المنوية) في المكان نفسه. وتحاكي البقع الصفراء التي تقع عند نهايات زعنفته البطنية البيضة، وتحاول الأنثى أن تجمع هذه البقع الصفراء أيضا (في اليسار). وخلال هذه السيرورة تستنشق الأنثى النطاف، وبذلك يتم إخصاب البويضة داخل فمها.

 

وهاتان المجموعتان من الفكوك المتوافقتان بدقة حسب عادات الغذاء، تتيحان لكل نوع أن يحتل موطنه البيئي ecological niche، الخاص جدا به. وبهذا الأسلوب يمكن أن تتعايش مئات الأنواع معا من دون أن تتنافس مباشرة فيما بينها. فلو أن هذه البلطيات حاولت، بدلا من ذلك، استغلال المصادر نفسها، لتعرّض معظمها للانقراض.

 

وأحد الأمثلة على هذا التخصص الغذائي يرتبط بآكلات الحراشف (القشور)scale eaters. فالبُلطيات التي تعيش في بحيرات شرق إفريقيا الثلاث جميعها، تقترب من البُلطيات الأخرى من الخلف وتكشط ملء أفواهها من الحراشف الموجودة على جوانبها. ويوجد في بحيرة تنگانيقا سبعة من هذه الأنواع، تنتمي إلى الجنس پيريسودَس Perissodus. فقد اكتشف <M.هوري> [من جامعة كيوتو] أن النوع پيريسودَس ميكروليپس P. microlepis آكل الحراشف يُوجد في شكلين متميزين، لهما رؤوس ناتئة وفكوك منحنية إما نحو اليمين وإما نحو اليسار. ولا يقتصر تخصص هذه الأسماك على مجرد اغتذائها بالحراشف ـ والحراشف فقط ـ وإنما يتعدى ذلك إلى تخصصها في كشط حراشف أحد جانبي السمكة دون الجانب الآخر: فتهاجم الأسماك «العسراوية» (اليسارية) الجانب الأيمن لفرائسها، وتهاجم الأسماك «اليمينية» الجانب الأيسر. إن عدم التناظر المدهش في الشكل وحتى في النوع نفسه من المرجح أن يكون قد تطور نظرا لأن الرأس الأعوج يتيح للسمكة الإمساك بالحراشف بشكل أكثر فعالية. وفي داخل الحلق، تُكدِّس المجموعة الثانية من الفكوك الحراشف كأوراق كتاب وذلك قبل بلعها كرزم من البروتين.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008281.jpg

تمثل سيرورة الحَضن في الفم استراتيجية تُؤمن البُقْيا لكثير من صغار البُلطيّات. وتستعيد هذه الأنثى ـ التي تنتمي إلى النوع نمبوكرومس ليڤنگستوني Nimbochromis livingstonii والتي تقطن بحيرة مالاوي ـ صغارها عندما يتهددها أي خطر.

 

(وتبقى الضحايا على قيد الحياة، وتصير حذرة من مهاجميها من كلا الجانبين. فإذا فاق تعداد الأسماك العسراوية تعداد الأسماك اليمينية، فإن الضحايا ربما تصير أكثر حذرا من الهجوم على جانبها الأيمن. ونتيجة لذلك، فإن آكلات الحراشف اليمينية ستصير في وضع أفضل وسيزداد تعدادها. إن هذه الاعتبارات تؤمن بقاء الأعداد النسبية للأسماك العسراوية واليمينية متساوية تقريبا).

 

وثمة عامل آخر أتاح للبلطيات استغلال تشكيلة متنوعة من الموائل habitats ـ ومن ثم تحقيق التنوع البيولوجي ـ وهو سلوكها التكاثري. وإن أكثر ما يميز البلطيات عن غيرها من الأسماك الوقت والطاقة اللذين توفرهما في تربية صغارها؛ إذ تعتني جميع البُلطيات بصغارها مدة طويلة بعد الفقس، وتتطلب المرافقة الطويلة الأمد بين الأبوين فقط والذرية تواصلا متقنا. فبينما يستطيع أحد الأبوين فقط حراسة البيض المُخَصَّب (الملقح)، فإن تعاون الأبوين غالبا ما يصير ضروريا بمجرد أن تصير الصغار قادرة على الحركة. وبعد ذلك تبدأ تشكيلة مدهشة من النُّظُم الاجتماعية ـ كالزواج الأحادي وتعدد الأزواج وحتى تعدد الزوجات ـ في ممارسة دورها.

 

إن إحدى الاستراتيجيات الشائعة لدى الكثير من البلطيات هي الاحتفاظ بالبيض المُخَصَّب أو الصغار في أفواهها. وبهذه الطريقة، تُؤمِّن الأسماك ملاذا آمنا لذريتها تلجأ إليه عندما يتهددها أي خطر. وإضافة إلى ذلك، قد يرعىgraze أحد الأبوين الطحالب أو يبتلع أغذية أخرى، ليُغذي الصغار الموجودين داخل فمه. وتستطيع أنواع كثيرة من البلطيات أن تسلك سلوك طير الوقواقcuckoo بأن تدس بيضها المُخَصَّب أو صغارها مع صغار أبوين آخريْن من البُلطيات، وبذلك تحرر نفسها من الأعباء الضرورية لتربية الذرية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008282.jpg

لقد تطورت أشكال البُلطيات بعيدة القرابة في بحيرتي تانگانيقا ومالاوي لتصبح متشابهة بشكل غامض بسبب احتلالهما مواطن بيئية (إيكولوجية) متماثلة. إن هذا يوضح كيف أن التشابه المورفولوجي قد يكون له علاقة ضعيفة بالقرابة الجينية أو سلسلة النسب التطورية (علاقات النشوء النوعي). فجميع بُلطيّات بحيرة مالاوي أوثق قرابة فيما بينها، من تلك التي تجمع بينها وبين أي من البُلطيّات التي تقطن بحيرة تانگانيقا.

 

وتضع الأسماك فمويات الحَضْن mouth brooders عددا من البيض أقل بكثير من الأسماك الأخرى وأحيانا لا يتعدى هذا العدد 100 بيضات ـ وبذلك تستثمر وقتا وطاقة أكثر لكل فرد من صغارها. وفضلا عن ذلك، كثيرا ما يكون العدد الكلي لإحدى جماعات النوع الفموي الحضن صغيرا، وبذلك يُحتمل أن تُشكل بضع مئات من الأفراد التي تعيش في نتوء صخري ما نوعا مستقلا. إن أي طفرة من المحتمل أن تنتشر عبر جماعة صغيرة بشكل أسرع من انتشارها عبر جماعة كبيرة، ويؤدي ذلك إلى نشأة نوع مستقل. ولذلك، فإن الأحجام المحدودة للجماعات، مدعمة بسيرورة الحضن الفموي، ربما ساهمت في تنوع البلطيات.

 

وفي بحيرات شرق إفريقيا، لا تعتني ذكور البُلطيات ذات الحضن الفموي بالذرية وإنما تتنافس فيما بينها لإخصاب أكبر عدد من البيض. وتشكل الذكور أحيانا حشودا يطلق عليها ليكات leks، حيث تندفع فيها بسرعة وتتخذ أوضاعا تستهدف اجتذاب الإناث. وقد يتكون الليك من 20 إلى 50 ذكرا، ولكن شُوهد في بعض الأنواع أكثر من50000 ذكر. أو قد تقوم الذكور ـ مثل ذكور الجنس أوفثالموتيلاپيا Ophthalmotilapia بألوانها الطاؤوسية المتوهجة ـ ببناء عرائشbowers متقنة تستعرض أجسامها فوقها لإغراء الإناث. ويمكن لأفراد لا يتجاوز وزنها المعتاد 300 غرام أن تنقل ما يزيد على 11 كيلوغراما من الرمل والحصى اللازم لبناء إحدى العرائش. وعندما يتم إغراء إحدى الإناث وتضع بضع بيضات فوق إحدى العرائش (وهي عادة تختار أكبرها)، يقوم الذكر بإخصاب البيض بسرعة، وبعد ذلك تأخذ الأنثى البيض في فمها وتتابع سباحتها باحثة عن ذكر آخر.

 

وغالبا ما تكون إناث البُلطيات ذات لون رمادي أو بني أغبر، وأما الذكور فتكون عادة ملونة بألوان زاهية. ومن المحتمل أن تنشأ الألوان المتباينة (مثل تلك التي تميز الأشكال اللونية التي سبق وصفها) بسبب التفضيل الذي تمارسه الإناث. وفي هذه الحالة، يبدو أن الذي يقود التنوع هو في الواقع الانتقاء (الانتخاب) الجنسي، وليس دافع البقاء الجسدي. فالألوان المختلفة للأسماك المتماثلة يمكن أن تُستخدم حاجزا لفصل الأنواع المتباينة، لأن أنثى أسماك التروفيوس، على سبيل المثال، التي تفضل ذكرا أصفر اللون لن تتزاوج بذكر أحمر اللون.

 

الأسرار تكمن في الجينات

لم يعرف البيولوجيون (علماء الحياة) إلى وقت قريب جدا صلات القربى بين هذه المئات من أنواع البُلطيات. أما الآن فقد أجابت التقنيات الجزيئية الحديثة عن بعض هذه الأسئلة، كما أنها أثارت أسئلة أخرى كثيرة. وعلى الرغم من أن الأبحاث الجينية تؤيد العديد من الفرضيات القديمة المبنية على علم التشريح، فإنها تتعارض أحيانا، وبصورة صارخة، مع بعض الآراء الراسخة.

 

ويبدو ـ كما سبق أن اقترح <M.نيشيدا> [من جامعة ولاية فوكُوِى] ـ أن سلاسل الأنساب المبكرة للبلطيات من غرب إفريقيا قد استقرت في البداية في بحيرة تانگانيقا. فبُلطيات هذه البحيرة القديمة متنوعة من الناحية الجينية؛ وهي تقابل 11 سلسلة نسب (أي إنها نشأت من 11 نوعا سليفا). وبعد فترة طويلة تركت بعض هذه الأسماك حدود البحيرة، وغزت شبكة الأنهار في شرق إفريقيا، حيث وصلت من خلالها إلى بحيرتي ڤيكتوريا ومالاوي. وقد بينت الدراسات، التي أجراها أحدنا (ماير) وزملاؤنا على المادة الجينية التي يطلق عليها الدنا الميتوكوندري mitochondrial DNA، أن البُلطيات في بحيرة ڤيكتوريا متقاربة جدا فيما بينها من الناحية الجينية ـ فهي أكثر قربا من بلطيات البحيرتين الأخريين التي تشبهها مورفولوجيا (من الناحية الشكلية) إذ إنها مشتقة بكاملها تقريبا من سلالة واحدة من فمويات الحضن.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N11_H03_008283.jpg

توضح شجرة الفصيلة احتمال انحدار بُلطيّات بحيرتي مالاوي وڤيكتوريا من سلسلة نسب واحدة من فمويات الحضن (هاپلوكروميني Haplochromini)، هربت من بحيرة تانگانيقا. فبُلطيات البحيرة الأخيرة، وهي الأقدم، تستعرض أعلى درجةٍ من التنوع الجيني. وتدل المقاطع العرضية للمخاريط على العدد التقريبي للأنواع ضمن القبيلة الواحدة.

 

ويدل هذا السيناريو ضمنا على أن التكيفات التطورية الشديدة التماثل يمكن أن تنشأ، بل نشأت فعلا، مرات عديدة بصورة مستقلة بعضها عن بعض. فالبُلطيات ذات الصفات التشريحية الفريدة ـ المصممة للاغتذاء بالأسماك الأخرى أو بالبيض واليرقات، أو لقضم الزعانف، أو لكشط الطحالب، أو لانتزاع الحراشف، أو لسحق الرخويات، أو لأي وظيفة من الوظائف الأخرى التي لا تُعد ولا تُحصى ـ توجد في البحيرات الثلاث جميعا. ولقد بدت هذه المعالم لبعضنا كبيولوجيين فريدة جدا، وأنه ليس من المحتمل أن تنشأ أكثر من مرة واحدة، حتى أننا اعتقدنا أن الأسماك التي لها التخصصات ذاتها لا بد أن تكون ذات صلات قربى وثيقة فيما بينها.

 

فإذا كان الأمر كذلك، فإن الميل لكشط الطحالب (مثلا) ربما يكون قد نشأ مرة واحدة فقط، وأن الأسماك التي مارسته انتشرت فيما بعد. إلا أن الأسماك الكاشطة للطحالب في بحيرتي ڤيكتوريا ومالاوي قد تطورت بصورة مستقلة عن تلك التي في بحيرة تانگانيقا، من سلف يتميز بقدرات أكثر عمومية. وهكذا تبين الدراسات الجينية أن التطور يكتشف بشكل متكرر الحلول نفسها للتحديات البيئية المتماثلة.

 

ويبدو أيضا أن الصفات المورفولوجية يمكنها أن تتطور بمعدلات غير منتظمة إلى درجة لا تُصدق، وأحيانا غير متساوقة البتة مع التغيرات الجينية. فبعض أنواع الأسماك في بحيرة تانگانيقا قد تغيرت تغيرا طفيفا من الناحية الجسمية على مر الزمن ـ فعدد من حفريات البلطيات، وعلى وجه الخصوص التِّلاپيات tilapias، تبدو مماثلة تماما لأنسالها الحديثة في البحيرة. وبصرف النظر عن ألوانها، بقيت أنواع الجنس تروفيوس ثابتة تقريبا (من الناحية المورفولوجية). وعلى الجانب المقابل، تطورت بُلطيات بحيرة ڤيكتوريا ـ بتنوعها في الحجم والنمط والشكل ـ في فترة قصيرة جدا. ومما يدعو للعجب، أن أنواع أسماك البحيرة ـ التي يربو عددها على 400 ـ تحوي تنوعا جينيا أقل مما في النوع الواحد للإنسان العاقل ـ هومو ساپينز Homo sapiens. وتوحي الساعات الجزيئية molecular clocks ـ التي تمت معايرتها بشكل تقريبي وفقا لمعدل حدوث الطفرات في الدنا الميتوكوندري ـ بأن المجموعة الكاملة لبُلطيات بحيرة ڤيكتوريا قد نشأت خلال ال 200000 عام الأخيرة.

 

وتشير المعلومات المناخية في العصور الجيولوجية القديمةpaleoclimatological data، التي قدمها حديثا <C.T.جونسون> وزملاؤه [من جامعة مينسوتا] إلى تحديد أكثر دقة لمنشأ مجموعات بلطيات بحيرة ڤيكتوريا: فيبدو أن البحيرة قد جفت تماما قبل أقل من 14000 عام. ولا يمكن أن يكون قد بقي على قيد الحياة بعد هذه المحنة سوى عدد صغير من أفراد البلطي، ناهيك عن أنواع منها. وفي هذه الحالة، يكون معدل تطور الأنواع speciation rate  الذي أبدته بُلطياتها لافتا للانتباه حقا، ولا يجاريه أي تطور للأنواع في الحيوانات الفقارية الأخرى. إضافة إلى ذلك، فإن بحيرة نابوگابو ـ وهي تجمع مائي صغير انفصل عن بحيرة ڤيكتوريا بحاجز رملي لم يتجاوز عمره 4000 عام ـ تضم خمسة أنواع مستوطنة من البُلطيات. ويُعتقد أن لهذه الأسماك أقرباء وثيقة الصلة تعيش في بحيرة ڤيكتوريا وتختلف عنها أساسا في التلوّن التزاوجيbreeding coloration  للذكور. بل هناك ما هو أكثر لفتا للانتباه، ذلك أنه ثبت في النهاية أن الطرف الجنوبي لبحيرة مالاوي جفَّ منذ قرنين فقط. ومع ذلك، تعيش هناك حاليا أنواع عديدة وأشكال لونية لا توجد في أي مكان آخر.

 

وتُوحي هذه الأمثلة، المدعمة بالمعلومات الدناوية الحديثة من بحيرة تانگانيقا، بأن ثمة آلية لسيرورة تطور التنوع في البُلطيات: وهي الانعزال المتكرر. ويبدو أن الانخفاض المتتالي في مستوى بحيرة تانگانيقا، بمقدار بلغ 600 متر، قد سهل تكوين الأشكال اللونية من الجنس تروفيوس وجميع البُلطيّات الأخرى التي تقطن الصخور. فالجماعات التي اعتادت تبادل الجينات صارت عوضا عن ذلك منعزلة في جيوب مائية صغيرة. لقد تطورت بصورة مستقلة، ثم عادت إلى الاتصال مرة ثانية عند ارتفاع منسوب الماء. ولكنها لم تعد قادرة على التناسل فيما بينها.

 

سجل أكثر مدعاة إلى الحزن

إذا كان معدل تطور الأنواع في بحيرة ڤيكتوريا قد ضرب رقما قياسيا، فإن معدل انقراضها كان كذلك أيضا. فمنذ نصف قرن، كانت البلطيات تشكل ما يربو على 99 في المئة من الكتلة الحيوية biomass  للأسماك في البحيرة، أما في الوقت الحاضر فإنها تشكل أقل من واحد في المئة. فقد انقرض الكثير من الأنواع تماما، وحدث انخفاض في تعداد الكثير من الأنواع الأخرى لدرجة صارت فرصتها للتعافي في حدها الأدنى. وربما يمكن تلخيص أسباب هذا الانقراض الجماعي بالأحرف الأولى لتلك الأسباب HIPPO، وهي: تخريب الموائل habitat destructionوالأنواع المُدْخَلَة (المستقدمة) introduced species والتلوث pollution والنمو السكاني population growth والاستغلال الجائر overexploitation.

 

لقد كان آخر مسمار في نعش بحيرة ڤيكتوريا هو إدخال إحدى الأسماك النهمة الضارية وهي الفرخ النيلي (قشر بياض، ساموس) Nile perch  العملاق،  فقد أُدْخلت إلى البحيرة في الخمسينات في محاولة غير مدروسة لزيادة إنتاجية المصايد. وبحلول الثمانينات حدث انفجار في أعداد أسماك الفرخ ـ وانخفضت وفرة البلطيات بمعامل قدره 10000. ونتج من ذلك، أن صار الجزء الأكبر من مياه البحيرة ناقص الأكسجين anoxic. ويُعزى ذلك إلى أن الكثير من البُلطيات التي تغتذي بها أسماك الفرخ كانت من آكلات الطحالب. ومع اختفاء تلك البلطيات، امتصت الطحالب الميتة والمتحللة الأكسجين الذائب في الماء. وعندما اصطاد صيادو المنطقة أسماك الفرخ التي يصل طولها إلى 180 سنتيمترا لم يتمكنوا من نشرها في الشمس لتجف مثلما كانت تجفف البُلطيّات الصغيرة. وعوضا عن ذلك كان عليهم تدخينها smoked، مستخدمين حطب الوقود المقطوع من الغابات المحلية. وقد أدَّت إزالة الغابات من المنطقة إلى انجراف التربة بمياه الأمطار، وانتقالها إلى البحيرة مسببة زيادة في عكارة مياهها وعوزها للأكسجين الذائب.

 

ومهما كانت الأسباب وراء هذا التغير، فالنتيجة النهائية هي صورة مألوفة تماما تعكس ما يحدث عند تحول مجتمع كان مزدهرا إلى مجرد ظل يحوي بقايا تنوعه السابق. فالمسرحية التطورية غير العادية التي صورت بُلطيات بحيرة ڤيكتوريا قد انتهت تماما وبصورة مفاجئة، بل إن النهاية كانت أسرع كثيرا من البداية.

 

المؤلفان

Melanie L. J. Stiassny – Axel Meyer

حصلت ستياسني على الدكتوراه في العلوم عام 1980 من جامعة لندن، وتشغل حاليا منصب أستاذ في قسم علوم الأسماك بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي. وتتركز أبحاثها على البُلطيّات (وهي مجموعة نموذجية في علم البيولوجيا التطورية) من ناحيتي التصنيف والمورفولوجيا التطورية، وتوسعت حديثا لتشمل بيولوجية الحفاظ على هذه الأسماك. أما ماير فقد حصل على الدكتوراه في العلوم عام 1988 من جامعة كاليفورنيا في بركلي، وهو الآن أستاذ البيولوجيا في جامعة كونستانز بألمانيا. وتتجه اهتماماته نحو أصول التنوع البيولوجي على مستوى الجزيئات وعلى مستوى الكائن الفرد ـ في الأسماك البُلطية بخاصة. لقد كان ماير أحد الأوائل الذين استخدموا التسلسلات الدناوية DNA sequences في دراسة سيرورات التطور.

مراجع للاستزادة 

FREQUENCY-DEPENDENT NATURAL SELECTION IN THE HANDEDNESS OF SCALE-EATING CICHLID FISH. Michio Hori in Science, Vol. 260, pages 216-219; April 9, 1993.

PHYLOGENETIC RELATIONSHIPS AND EVOLUTIONARY PROCESSES IN EAST AFRICAN CICHLID FISHES. A. Meyer in Trends in Ecology and Evolution, Vol. 8, No. 8, pages 279-284; August 1993.

DARWIN’S DREAMPOND: DRAMA IN LAKE VICTORIA. Tijs Goldschmidt. Translated by Sherry Marx-Macdonald. MIT Press, 1996.

AN OVERVIEW OF FRESHWATER BIODIVERSITY: WITH SOME LESSONS FROM AFRICAN FISHES. Melanie L. J. Stiassny in Fisheries, Vol. 21, No. 9, pages 7-13; September 1996.

Scientific American, February 1999

 

(*) Cichilds of the Rift Lakes

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى