أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئيةبيولوجياعلم النبات

الحرب البيولوجية ضد المحاصيل الزراعية


الحرب البيولوجية ضد المحاصيل الزراعية

إن الإطلاق المتعمَّد لكائنات تقتل المحاصيل الغذائية

للعدو هو سلاح فتاك محتمل للحرب والإرهاب.

<P. روجرز> ـ< S. ويتبي> ـ <M. داندو>

 

في25/ 11/1969، أعلن الرئيس <ريتشارد نيكسون> أن الولايات المتحدة “ستتخلى، من جانب واحد، عن استعمال العوامل والأسلحة البيولوجية الفتاكة وجميع الطرائق الأخرى للحرب البيولوجية.” وكان السبب الرسمي الذي قُدِّم لهذا التخلي هو أن الأسلحة البيولوجية لم تكن لها سوى أهمية عسكرية محدودة. وفي شهادته أمام مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1989، أوجز<S.M. ميزلسون> [وهو باحث من جامعة هارڤارد متخصص في البيولوجيا الجزيئية وخبير في الأسلحة البيولوجية] الأسباب الحقيقية قائلا: “أولا، إن هذه الأسلحة لا تقل خطورة عن الأسلحة النووية؛ وثانيا، إن تطويرها وإنتاجها قد يكون أبسط وأقل كلفة من الأسلحة النووية؛ ثم ـ وهو الأهم ـ إنه من السهل استنساخ برنامج الأسلحة البيولوجية الهجومية… لقد قاد هذا التحليل الصريح إلى القول بأن برنامجنا للأسلحة البيولوجية يشكل تهديدا حقيقيا لأمننا ذاته.”

 

وترجع الأسلحة البيولوجية إلى عهد الإمبراطورية الرومانية على الأقل، عندما كان من الشائع إلقاء جثث الحيوانات النافقة في إمدادات مياه العدو لتسميمها. وقد عرَّفت حكومة الولايات المتحدة الحرب البيولوجية بأنها “الاستزراع أو الإنتاج المتعمد للكائنات المُمْرِضة من بكتيريا أو فطور أو ڤيروسات… ونواتجها الذيفانية(1)، بجانب مركبات كيميائية معينة، بهدف نشر المرض أو الموت.”

 

وتُصوَّر فظاعة الأسلحة البيولوجية عادة بالإشارة إلى تعمد تعريض جماعة بشرية إلى مرض فتاك، مثل الجمرة الخبيثة anthrax أو الطاعون plague. وقد حاول بعض الأشرار فعلا الحصول على عوامل تسبب الموت، على أمل استخدامها لأغراض إرهابية؛ وُفضحت هذه المحاولات كي تدرك الجماهير أخطار الأمراض البشرية التي تُنشر عمدا. على أن هناك نوعا آخر من الأسلحة البيولوجية أقل شهرة له قدرات تدميرية ضخمة ولكنه لا يسترعي إلا انتباها محدودا. وتشمل “الوسائل الأخرى للحرب البيولوجية”، التي ذكرها نيكسون، تلك التي تهلك المحاصيل لا الناس.

 

وأدرك<E.J .ڤان دير پلانك> [خبير أمراض النبات بمعهد وقاية النبات في پريتوريا ـ جنوب إفريقيا] أهمية الإجراءات المضادة للمحاصيل منذ أوائل الستينات؛ فكتب يقول “كثيرا ما نشبه الوباء بالمتفجرات، وهذه الصفة ملائمة تماما في زمن السلم، أما في زمن الحرب فقد يكون الأمر أكثر ترويعا بالمعنى العسكري؛ إذ لن يجد العدو من المتفجرات سوى القليل الذي يَبُزُّ كائنا مُمْرضا pathogen يتزايد بمعدل 400 في المئة في اليوم… ويستمر في التكاثر لأشهر عديدة… ينتشر خلالها الكثير من الأبواغ spores  بسهولة كما الدخان… يكفي أن تُنْثَر في الأماكن المناسبة وفي الوقت المناسب لتتولى الطبيعة إحداث الانفجار.”

 

إمكانيات الحرب ضد المحاصيل

ساعد القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة من جانب واحد على تمهيد الطريق لإبرام اتفاقية حَظْر الأسلحة البيولوجية والذيفانية (التوكسينية) لعام 1972، التي تلزم الدول الموقعة بوقف العمل في مجال الأسلحة البيولوجية وبتدمير مخزوناتها الحالية من تلك الأسلحة. ولكن على الرغم من موافقة 141 دولة على هذه الأحكام، فإن القلق تزايد كثيرا خلال العقد الماضي إزاء أخطار الحرب البيولوجية. وكان شبح الإرهاب أحد أسباب هذا القلق المتزايد. وثمة سبب آخر، هو اكتشاف أن العراق كان لديه برنامج ناشط للأسلحة البيولوجية قبل حرب الخليج يتضمن أسلحة مضادة للمحاصيل.

 

لقد بدأ برنامج العراق للأسلحة البيولوجية في السبعينات، وبلغ ذروته في الفترة من عام 1985 إلى عام 1991؛ وكان يُعْنَى بالكائنات الممرضة للإنسان مثل الجمرة الخبيثة، وبالسموم مثل التسمم البوتوليني (التسمم الوشيقي) botulism والأفلاتوكسينات aflatoxins. أما العمل على مضادات المحاصيل فقد تركز على تفحم القمح(2) wheat smut، وهو مرض نباتي تسببه أنواع من الفطور تنتمي إلى الجنس تيليشيا Tilletia؛ إذ يحل فطر تفحم القمح محل الجزء المزهر من نبات القمح، ليكوِّن كتلا من أبواغ سوداء سرعان ما تنتشر إلى النباتات الأخرى. وتفحم القمح مرض متوطن في الكثير من أنحاء العالم، وتُسبب الإصابة الشديدة به نقصا حادا في غلة المحصول. كان هدف العراق من هذه الجهود على الأغلب هو إيران، حيث يعتبر القمح أهم محاصيل الحبوب الغذائية لديها. (لتفحم القمح صفة إضافية فريدة تفيد عند شن الحرب: يُنتج الكائن المُمرض غاز ثلاثي ميثايل أمين trimethylamine القابل للاشتعال، والذي يمكن أن يفجر آلات الحصد التي جمعت  الحبوب المصابة.)

 

ويُظهر برنامج العراق المضاد للمحاصيل مدى الحاجة إلى الاهتمام بهذه الصورة من صور الحرب البيولوجية. وكما أشار ميزلسون فإنه يظل بإمكان الدولة التي تفتقر إلى الخبرة التقنية لإنتاج القنابل الذرية أن تصنع أسلحة قد تسبب مجاعات مهلكة أو خسائر اقتصادية فادحة.

 

وتتركز جميع المحاصيل الغذائية الرئيسية في عدد من الأصناف varieties، كل منها يلائم عادة مناخا معينا وظروف تربة معينة. وتتباين هذه الأصناف في حساسيتها لأمراضٍ بذاتها. وتوجد الكائنات المُمْرِضة بدورها في سلالات strains أو أعراق races تصيب وتدمر أصناف المحاصيل هذه بدرجات متفاوتة. وتستطيع الدولة المعتدية أن تستغل هذه الخصائص لعزل سلالات من الكائن الممرض تعمل كقنابل “ذكية” فلا تهاجم إلا مصادر العدو من المحاصيل الغذائية الرئيسية. إن المرض البشري الذي يمكن أن ينتشر عن طريق الهواء ـ مثل ڤيروس الإنفلونزا المسؤول عن الجائحة التي عمت العالم عام 1918 وقتلت 20 مليون شخص ـ يشكل تهديدا خاصا. وبالمثل سنجد أن الكثير من أسوأ الكائنات الممرضة للمحاصيل يمكنه ببساطة أن ينتقل من نبات إلى آخر في صورة أبواغ فطرية، يمكن أن تحملها الريح أو تعمل قطرة مطر على نقلها من ورقة نبات إلى أخرى.

 

ويمكننا أن نوضح قدرة الحرب المضادة للمحاصيل على إحداث التدمير الاقتصادي إذا نظرنا إلى ما تسببه أمراض النبات في الأحوال الطبيعية من خسائر. ففي عام 1970 دمرت لفحة الأوراق leaf blight ما قيمته بليون دولار من الذُّرة في جنوب الولايات المتحدة، وكثيرا ما يتسبب التفشي الدوري لأمراض الصَّدَأ rust والتفحم التي تصيب محاصيل الحبوب في هلاك غلال تقدر بمئات الملايين من الدولارات. فقد تسبب صدأ أوراق البنcoffee leaf rust في القرن التاسع عشر في تدمير مزارع البن بجنوب شرقي آسيا، كما تسبب هذا المرض خلال العقدين الماضيين في مشكلة ملحة في أمريكا اللاتينية.

 

قد يبدو وباء أصاب المحصول الغذائي نتيجة هجوم بيولوجي وكأنه قد جاء طبيعيا، وبذا يَسْلم المعتدي غير المعروف من اللوم ومن التبعات. وإذا ما احتاجت حكومة إلى موافقة شعبية على مواصلة أعمالها العدائية فإن اعتداء علنيا على النباتات ـ شأنه شأن العقوبات الاقتصادية ـ قد يكون أكثر قبولا من الناحية النفسية مقارنا بالهجوم على البشر. وعلى سبيل المثال، فإن هجوما بالجمرة الخبيثة على السكان العزل لمدينة ما قد يتسبب في قتل مئات الآلاف من البشر، يموتون سريعا بمرض كريه مؤلم للغاية. أما تدمير المحاصيل فيبدو في ظاهره أقل ضررا، إذ ليست له آثار فورية في المجتمعات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H01_008363.jpg

انبثقت الكيماويات اللاحقة chemical defoliants التي تسقط أوراق النبات ـ كتلك التي استُخدمت في حرب ڤيتنام (في الأعلى) ـ عن البرامج نفسها التي ترجع إلى الحرب العالمية الثانية والتي قادت إلى تطوير الأسلحة البيولوجية الموجهة ضد المحاصيل الغذائية.

 

على أن الواقع يقول إن النتائج قد تكون مروعة. فشن هجوم بيولوجي مدبر يلحق أضرارا جسيمة بنبات الأرز في دولة فقيرة يعتمد فيها ملايين المواطنين على الأرز غذاء أساسيا، قد يتسبب في مجاعة لا تقل خسائرها البشرية عن هجوم بالجمرة الخبيثة على مدينة؛ إذ سيعقب هذا الهجوم سوء تغذية ومجاعة تصيب أكثر ما تصيب القطاع الأفقر من السكان. وإضافة إلى الآثار المباشرة للجوع، ستنخفض المقاومة المناعية لعدد كبير من الأمراض الشائعة، ولن يقل مدى الآلام والمعاناة عما يسببه هجوم بالجمرة الخبيثة.

 

وفي كلتا الحالتين، ستُوجَّه الحرب أساسا ضد المدنيين من السكان، من دون ادعاء بإصابة أهداف “عسكرية”. وخلال المئة عام الماضية بذلت محاولات جادة لفرض سيطرة قانونية دولية على العمليات الحربية. ومن أمثلة ذلك، الحظرُ الذي فرض مؤخرا على الألغام الأرضية المضادة للأفراد. وتركزت الجهود على محاولة تقليل الهجوم على المدنيين العُزل، ولكن الأثر الأكبر للحرب المضادة للمحاصيل سيقع بالتحديد على هذه الفئة من السكان. إن صورة من الحرب قد تبدو غير شرسة، لا مفرقعات فيها ولا رصاص أو ألغام أو شظايا قنابل، قد تكون في واقع الأمر فعَّالة بشكل مرعب في إيقاع خسائر بشرية بالجملة.

 

والتاريخ خير شاهد على أن أمراض النبات قد تضاهي غزوا عسكريا في إلحاق الدمار بالسكان المدنيين. فقد تسببت اللفحة المتأخرة للبطاطس (البطاطا) في مجاعة1845 – 1846 بإيرلندا، التي قتلت مليونا من البشر وأجبرت مليونا آخر على الهجرة. وكان مرض التبقع البني brown spot للأرز من أسباب المجاعة التي حدثت في منطقة البنغال بالهند في عامي 1942-1943، والتي قضى فيها جوعا أكثر من مليون شخص.

 

إذًا، العوامل المضادة للمحاصيل قد تكون ـ من الناحية النظرية ـ جزءا فعالا من الترسانة الحربية للدولة، وهذه إمكانية جذبت اهتماما واسعا على مدى الجزء الأكبر من هذا القرن.

 

محاولات الحلفاء ودول المحور

بدأ البرنامج الفرنسي للأسلحة البيولوجية في عام 1921، وبحلول نهاية الثلاثينات كان البرنامج قد تضمن العمل على اثنين من العوامل المهلكة لمحصول البطاطس: اللفحة المتأخرة وخنفساء كولورادو Coloradobeetle. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية ركز البريطانيون جهودهم في مجال الحرب البيولوجية على الجمرة الخبيثة. (تضمنت الاختبارات إطلاق الجمرة الخبيثة في جزيرة جروينارد Gruinard قرب شاطئ اسكتلندا، الأمر الذي جعل الجزيرة غير صالحة للسكنى نحو خمسين عاما. ولقد تسبَّب القلق من قرب هذه الجزيرة من البر الرئيسي للبلاد في تحول الاختبارات عام 1943 إلى محطة تجارب صافيلد، وسط البراري المفتوحة في ألبيرتا ـ كندا.) وعمل البريطانيون أيضا على الأسلحة المضادة للمحاصيل، وركزوا على مبيدات مختلفة للأعشاب. وقد أدت بعض هذه المبيدات الكيميائية للنباتات دورا في المعارك التي نشبت في الخمسينات ضد المتمردين الشيوعيين في الملايو، وهيأت المسرح للاستعمال المكثف من قبل الولايات المتحدة للكيماويات اللاحقة chemical defoliants (التي تسقط أوراق النباتات) في الستينات والسبعينات بڤيتنام.

 

وبالمثل، أجرت ألمانيا بحوثا على الأسلحة البيولوجية أثناء الحرب العالمية الثانية، ودرست عوامل مضادة للبشر وأخرى مضادة للمحاصيل. وفي تقييم أمريكي تم بعد الحرب للبرنامج الألماني، جاء ما يلي: “ربما كان لدى العاملين في قطاع النبات من المشاريع والأفكار أكثر مما لدى العاملين في أي قطاع آخر… كان ثمة تأكيد متكرر على إمكانية استخدام العوامل المختلفة في الهجوم على إنكلترا، وورد ذكر أمريكا تحديدا في واحدة من الحالات”.

 

درست ألمانيا العديد من الأمراض التي تصيب المحاصيل، وكان من بينها اللفحة المتأخرة للبطاطس وصدأ القمح الأصفر والأسود اللذان يصيبان الأوراق، إلى جانب آفات حشرية مثل خنفساء كولورادو وخنفساء بذور اللفت وخنفساء الذرة. وبحلول عام 1943 كان برنامج ضخم لتربية خنفساء كولورادو في مراحله الأولى. وتشير السجلات إلى أن الخنفساء كانت جاهزة للاستعمال في الشهر 6/1944، ولكن الوقت كان عندئذ قد تأخر كثيرا لتدمير محصول تلك السنة من البطاطس في بريطانيا. وباستسلام ألمانيا في العام التالي، توقفت الدراسات المتعلقة بخنفساء كولورادو قبل مرحلة التجارب الحقلية.

 

أما برنامج اليابان للأسلحة البيولوجية في الحرب العالمية الثانية فقد أشرفت عليه الوحدة 731 السيئة السمعة. لقد قام أعضاء تلك الوحدة، بجانب استئصال أنسجة للفحص المجهري من الأسرى وهم أحياء، بتطوير عوامل بيولوجية مصممة للاستخدام ضد البشر. وبقيت تفاصيل البرنامج الياباني المضاد للمحاصيل غير معروفة على وجه التحديد، ولكن كان هناك ما يصل إلى مئة فرد يعملون في بحوث تُجرى على عدد من الكائنات المُمْرضة للنبات وعلى المبيدات الكيميائية للأعشاب. وانصب الاهتمام على الأمراض التي يمكن أن تصيب المحاصيل السوڤييتية والأمريكية، لا سيما ما يزرع منها في شمال غرب المحيط الهادي. ويبدو أن إصابة القمح بمرض التفحم وبالنماتودا، كانا أهم سلاحين لدى اليابانيين. ثم إنهم شيّدوا مرفقا يمكنه أن ينتج سنويا أكثر من 90 كيلوغراما من أبواغ صدأ محاصيل الحبوب بكافة أشكاله. ويمكن لمثل هذه الكمية من الأبواغ، إذ تنشرها الرياح كالغبار، أن تبيد أصقاعا هائلة من حقول الحبوب الغذائية الكهرمانية اللون في أمريكا.

 

الجهود الأمريكية

احتفظت الولايات المتحدة ببرنامج ضخم للحرب البيولوجية، يتضمن دراسات موسعة على الأسلحة المضادة للمحاصيل، وذلك من الأربعينات وحتى إعلان نيكسون عام 1969. وفي الواقع، كما يقول <P.J. روبنسون> [من جامعة ساسكس]، إن البحوث التي أجريت على العوامل المضادة للمحاصيل كانت مشجعة لدرجة أنها كانت السبب في الإبقاء على برنامج الولايات المتحدة للأسلحة البيولوجية بأكمله عندما واجه التوقف عدة مرات قبل عام 1969.

 

وقد رُفعت السرية الآن عن الكثير من قدرات الأسلحة البيولوجية الأمريكية وصارت المعلومات الخاصة بها متاحة، بموجب قانون حرية المعلومات. وفي عمله الذي شرح فيه مخاطر الأسلحة الكيميائية، أشار روبنسون لأول مرة إلى بعض ما كان خافيا من أسرار الحرب المضادة للمحاصيل. ثم اكتشف أحدنا (ويتبي) معلومات أخرى عن الأسلحة المضادة للمحاصيل في إطار ما كشف عنه باحثون آخرون في الموضوع الأعم للأسلحة البيولوجية.

 

وقد تناول برنامج الولايات المتحدة المضاد للمحاصيل الكثير من الأمراض، مثل اللفحة المتأخرة للبطاطس وعفن فطر سكليروتيوم sclerotium rot  الذي يصيب محاصيل مثل فول الصويا وبنجر السكر والبطاطا (البطاطا الحلوة) والقطن. على أن الهدف الرئيسي لبرنامج الولايات المتحدة كان القمح في غرب الاتحاد السوڤييتي سابقا وبخاصة في أوكرانيا، والأرز في آسيا وبخاصة في الصين.

 

 فيما بين عامي 1951 و1969 قامت الولايات المتحدة بتخزين أكثر من ثلاثين ألف كيلوغرام من أبواغ الفطرPuccinia graminis tritici الذي يسبب صدأ الساق في القمح؛ وربما كانت هذه الكمية كافية لإصابة جميع نباتات القمح على ظهر الأرض. ولهذا الفطر إمكانية ممتازة كسلاح، لأنه يحتفظ بحيويته في التخزين البارد فترة تربو على السنتين، كما أنه ينتشر بسرعة عند إطلاقه ـ قد تحمل حبة قمح واحدة مصابة 12 مليون بوغ، يمكن لكل منها أن يصيب نباتا جديدا. واختارت الولايات المتحدة مرض لفحة الأرز، الذي يسببه الفطر Piriculariaoryzae، عاملا رئيسيا لتدمير محصول الأرز. وبحلول عام 1966 كان لديها مخزون يقرب من الطن من أبواغ في حجم ذرات الغبار.

 

وطورت الولايات المتحدة أيضا عددا من نُظُم الأسلحة ـ يمكن أن يوصف بعضها بأنه بالغ الإتقان ـ صُممت لنشر العوامل المضادة للمحاصيل. وكان من بين الأسلحة المبكرة قنبلة تزن 500 رطل صُممت أصلا لإطلاق منشورات الدعاية، ولكنها عُبِّئت بريش طيور محمل بأبواغ الفطر الدقيقة. ربما لم يحدث منذ عهد ما قبل الثورة الأمريكية ـ عندما وزع البريطانيون على الهنود بطاطين ملوثة بالجدري ـ أن استُخدمت مثل هذه الأشياء الحميدة لمثل هذه الغايات المميتة. وأجرت الولايات المتحدة اختبارات حقلية على “قنبلة الريش” هذه في كامب ديتريك بماريلاند وفي جزر کيرجين الأمريكية. وعند إطلاق الريش من الحاويات، تطاير وسبح في الهواء ليهبط فوق مساحة شاسعة من الأرض، ولما هبط على المحاصيل انتقلت بعض الأبواغ المُمْرِضة من الريش إلى أوراق النباتات. وكما يقول تقرير من كامب ديتريك رُفعت عنه السرية: “يحمَّل الريش المعفر بعشرة في المئة من وزنه من أبواغ صدأ الحبوب الغذائية، والذي أطلق من مهايئ عنقودي محور من طراز M16A1 من ارتفاع400-550 مترا فوق سطح الأرض، يحمل من الأبواغ عددا يكفي لتفشي وباء صدأ الحبوب”.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H01_008364.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H01_008365.jpg
طورت الولايات المتحدة أساليب بارعة لنثر العوامل البيولوجية المضادة للمحاصيل. فقد حُمِّلت البالونات (في اليسار) المعبأة بالهيدروجين بزوارق يحتوي كل منها على خمس حاويات تحمل العوامل البيولوجية (تستند هذه الصورة التي تخيلها الفنان إلى الأوصاف الواردة في الوثائق التي رُفعت عنها السرية). تضم البالونات أجهزة لقياس الضغط الجوي وأجهزة توقيت تسمح بإطلاق الأسلحة الجرثومية على الارتفاع المناسب وفي الوقت المناسب بعد إطلاقها. بل إن هناك أساليب أكثر تطورا تشمل ما يسمى قنبلة الريش، التي يحمل ريش الدجاج الرومي فيها أبواغ المرض إلى الأرض بعد إطلاقه من “قنبلة” صُممت أصلا لإسقاط المنشورات الدعائية. تضم الوثائق السرية صورا مثل الصورة التخيلية الموجودة في اليمين. وقد اتضح أنه من الممكن لزغب الريشة ونصلها الاحتفاظ بأبواغ يبلغ وزنها الكلي نحو 10% من وزن الريشة بأكملها.

 

وتعتمد التقنيات الأمريكية الأخرى التي طُورت في الخمسينات لنقل الأبواغ، على رش الكائنات المُمرضة من قاذفات F-100 و F-105 و F-4C، وهذا هو النظام الذي استُخدم فيما بعد لرش المبيدات الكيميائية للأعشاب فوق ڤيتنام. وثمة استراتيجية أخرى تعتمد على بالونات غير مأهولة تسبح حرة، حاملة أوعية مصممة لنشر العوامل المضادة للمحاصيل.

 

لقد توقف برنامج الحرب الأمريكية المضادة للمحاصيل بعد قرار التخلي من جانب واحد عن برنامج الأسلحة البيولوجية بأكمله. وتشير المعلومات الواردة من المنشقين بأن الاتحاد السوڤييتي سابقا كان لديه برنامج ناشط مضاد للمحاصيل استمر حتى تفكُّك الاتحاد في عام 1991، غير أنه لم يعرف إلا القليل عن أي من هذه الجهود السرية حتى كشفتها لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالعراق في عام 1995.

 

أثمة تهديد يتنامى؟

في القرن الحادي والعشرين، سيظل لدى الدول النامية والدول المتقدمة على السواء الكثير مما تخشاه من الأعداء الذين قد يلجؤون إلى الحرب ضد المحاصيل ـ أمما أو طوائف سياسية أو إرهابيين. ومعظم أمراض النبات التي تنتشر بسرعة خلال موسم زراعي واحد لها فترة حضانة قصيرة، كما أنها تؤثر تأثيرا ملموسا في الأوراق. ومن الممكن الاعتماد مثلا على جهاز الإرشاد الزراعي القوي في الولايات المتحدة في الكشف المبكر عن تفشي المرض وفي التوصية بمبيدات الآفات الغالية الثمن لوقف تفشيه. على أن مثل هذا الكشف المبكر ومثل هذه الإجراءات الوقائية تتطلب موارد من نوع لا يتوفر عادة في الدول الأفقر.

 

ومن ناحية أخرى فإن البلدان المتقدمة في أمريكا الشمالية وغرب أوروبا تواجه أخطارا من نوع فريد، تنجم عن انتشار أسلوب زراعة صنف واحد فقط أو اثنين من المحاصيل الغذائية الرئيسية. فنقص التنوع في مثل هذه الزراعات الأحادية monocultures يترك المحصول بأكمله عرضة للكائنات التي تصيب هذه الأصناف بالمرض. ويمكن للعدو أن ينقل العوامل الممرضة عندما تتوفر الظروف الجوية المواتية ومرحلة نمو المحصول التي تضمن تفشي جائحة إقليمية. وحتى لو أمكن للدولة المعتدى عليها أن تنجح في وقف تفشي المرض قبل أن يدمر المحصول، فإنها قد تصاب بخسائر اقتصادية جسيمة.

 

ويمكن للثورة الحالية في التقانة البيولوجية biotechnology والهندسة الوراثية أن توسع القدرات التقنية لكل من لديه اهتمام بتطوير أسلحة بيولوجية، ومن ثم فهي تزيد التهديد. وتقوم الدراسات الأساسية الآن بفك شِفرة الجينومات (المجينات) النباتية وتآثرات النباتات مع مُمْرِضاتها. صحيح إن هذا العمل قد يدعم الإنتاجية الزراعية، ولكنه قد يخدم عن غير قصد من يهتمون بتصميم أسلحة أكثر فعالية لتدمير المحاصيل؛ إذ يمكن للباحثين أن ينتجوا سلالات من كائنات ممرضة أكثر تحملا، قد تكون مقاومة لمبيدات الآفات التقليدية أو قادرة على البقاء في مدى أوسع من درجات الحرارة والرطوبة.

 

وقد أوردت ورقة عمل للأمم المتحدة عشرة أمراض تصيب المحاصيل على مستوى العالم على أن لها إمكانات السلاح البيولوجي، ومعظم محاصيل الغذاء الرئيسية في العالم معرضة للإصابة بها. ويُعَدُّ صدأ القمح وتفحم قصب السكر ولفحة الأرز من بين أكثر الأمراض تدميرا. ومن المحاصيل الأخرى القابلة للإصابة: الذرة والبطاطس وأنواع عديدة من البقول وأنواع مختلفة من الفاكهة والبن، وقد تُستهدف أيضا أشجار الصنوبر المهمة اقتصاديا لإنتاج الأخشاب.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H01_008366.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H01_008367.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H01_008368.jpg

حقول البطاطس (البطاطا) يمكن أن تدمرها اللفحة المتأخرة late blight، كما يتضح بجلاء من هذه الصور التي تقارن بين نباتات بطاطس سليمة (في أعلى اليسار) وأخرى مريضة (في أعلى اليمين). وإذا فسدت البطاطس، ولو قليلا، بسبب اللفحة المتأخرة (في أسفل اليسار) غدت كريهة الطعم. وهذا المرض، الذي تسبب في المجاعة التي بدأت عام 1845 بإيرلندا، يمكن أن يكون سلاحا بيولوجيا فعالا.

 

وفي عصر ما بعد الحرب الباردة، فإن الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية يمكن ألا تقل أهمية عن المواجهة العسكرية المباشرة؛ إن مجرد القدرة على توجيه الموارد الاقتصادية نحو التصدي للأوبئة في بداياتها يعطي الحرب ضد المحاصيل قوة هائلة. وعلى هذا، فإن حظر الأسلحة المضادة للمحاصيل يجب أن يكون جزءا من الجهود الحالية لتعزيز اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية والذيفانية (التوكسينية).

 

وبُعَيْد حرب الخليج عام 1991، بدأت الاجتماعات في جنيف من أجل تحقيق هذا الهدف. ومن السبل المهمة لبلوغه التوصل إلى بروتوكول دولي يضمن التحقق من الالتزام بالحظر. وتتطلب هذه الخطة إقامة منظمة لتقييم الإعلانات declarations التي تصدرها الدول عن أهم مرافقها القادرة على تطوير أسلحة بيولوجية. على أن تكون لهذه المنظمة سلطة التحقق من مثل هذه الإعلانات، عن طريق زيارة المواقع مثلا. ولا بد أيضا من وجود ترتيبات لإجراء معاينات تأكيدية لهذه المرافق ـ توصف في مجتمع الحد من الأسلحة بأنها تُجرى “في أي وقت، في أي مكان، من دون حق الرفض” ـ عند الشك في خرق المعاهدة. كما ينبغي السماح بإجراء تحقيقات ميدانية في حالات الادعاء باستخدام أسلحة بيولوجية.

 

وبشدة، تؤيد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد آخر من الدول، عقد بروتوكول للتحقق يمكن أن يساعد على التوصل إلى اتفاق قبل عام 2001 (عندما يحين موعد انعقاد المؤتمر الخامس للمراجعة الدورية للاتفاقية الأصلية الذي يعقد كل خمس سنوات)، ولكن مثل هذه الموافقة الاجماعية ليست مؤكدة. فإلى جانب الصعوبات التقنية الهائلة التي تتطلبها خطط التحقق، تبقى أيضا مشكلات سياسية واضحة يلزم حلها. إن ثمة انقساما بين الدول الصناعية والدول النامية حول مستوى المساعدات العلمية والتقنية التي سيتضمنها أي بروتوكول. وينبغي ألا يكون البروتوكول ذاته أداة تُنقل بها التقانة المتقدمة غير المنضبطة، التي يمكن أن تستغل في ابتكار أسلحة الحرب، من الدول التي تمتلك هذه التقانات إلى الدول التي لا تمتلكها، وينبغي أيضا ألا يُستخدم في منع النقل القانوني للتقانة للأغراض السلمية. كما أن لدى الشركات الكبرى للتقانة البيولوجية ما يقلقها بشأن الخسائر المحتملة للملكية التجارية للمعلومات أثناء الزيارات وأعمال التفتيش. ثم إن بعض الدول بالطبع قد ترغب في الاحتفاظ بخيار تطوير الأسلحة البيولوجية.

 

الحرب البيولوجية ضد المخدرات: علاج ناجع أو سم ناقع

في العام 1998 وافق الكونگرس الأمريكي على برنامج لمكافحة المخدرات تبلغ ميزانيته 23 مليون دولار يتضمن بحوثا في مجال مُمْرِضات النبات. وتشمل النباتات المستهدفة تلك التي تنتج العقاقير المخدرة narcotics  مثل الكوكايين والهيروين والحشيش. ويرحب مؤيدو البرنامج به على أنه فتح محتمل. قال <B. ماكولام >نائب فلوريدا وأحد مقدمي التشريع، “تشير جميع الدلائل إلى أن هذا المشروع سيكون له أثر كبير في الحرب ضد المخدرات… وقد يكون هو العلاج الناجع.”

فالمادة الأولى من اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية والذيفانية (التوكسينية) لعام 1972 تمنع تطوير وإنتاج وتخزين العوامل البيولوجية المزمع استخدامها “لأغراض القتال أو في الصراعات المسلحة”. كما تحظر الأسلحة البيولوجية “التي ليس لها ما يبررها من أهداف وقائية أو حمائية أو غير ذلك من أهداف سلمية.” وعلى هذا يشير مؤيدو استخدام المُمْرِضات ضد نباتات المخدرات إلى أنها ستستخدم في برامج تعاونية تشارك فيها الدول التي تنتج فيها المخدرات.

أما معارضو هذه الخطط فتقلقهم ثلاثة أمور. أولها أن الأوبئة المستحثَّة قد تنتشر، في بعض الظروف، إلى نباتات أخرى. وثانيها أن ممرضات النبات قد تُستخدم في المناطق المنتجة للمخدرات من دون موافقة الدول المعنية. وفي حين أن هذا الاستخدام قد يلقى ترحيبا من وكالات مكافحة المخدرات، فمن المؤكد أنه سيمثل خرقا للاتفاقية، فضلا عن أنه يشكل سابقة خطيرة. أما مصدر القلق الأكبر فهو أن تطوير القدرة على تدمير محاصيل المخدرات بممرضات النبات سيوفر بكل تأكيد ثروة من المعارف والخبرات العملية يمكن أن تطبق بسهولة في حرب بيولوجية أكثر فتكا وتدميرا تستهدف المحاصيل الغذائية.

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H01_008369.jpg

نبات الكوكا

 

وإذا فشلت الجهود الحالية لتعزيز معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية والذيفانية، فسيواجه العالم احتمال فقدان السيطرة على مجموعة رئيسية من أسلحة الدمار الشامل خلال فترة تسارع التقدم العلمي والتقني. وقد تكون النتيجة عبر العقود القليلة القادمة ابتكار مجموعة مدمرة من الأسلحة الجديدة، سيوجه بعضها بالتأكيد نحو محاصيل الغذاء التي تطعم بلايين المواطنين في العالم.

 

المؤلفون

Paul Rogers – Simon Whitby – Malcolm Dando

هم أعضاء بقسم دراسات السلام في جامعة برادفورد بإنكلترا. حصل روجرز، رئيس القسم، على الدكتوراه في أمراض النبات ويحاضر في الكلية الإمبراطورية بلندن. عمل خلال العشرين عاما الماضية في قضايا الصراع حول الموارد وغيرها من جوانب الأمن الدولي. وويتبي، وهو مساعد باحث بقسم دراسات السلام، يكمل حاليا دراسة الدكتوراه في برامج الحرب البيولوجية ضد المحاصيل. وأما داندو فحاصل على الدكتوراه في فيزيولوجيا الأعصاب من جامعة سانت أندروز باسكتلندا، وهو أستاذ الأمن الدولي في برادفورد، كما أنه يرأس برنامج برادفورد لتعزيز معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية والذيفانية (التوكسينية).

 

مراجع للاستزادة 

ANTI-CROP BIOLOGICAL WARFARE-IMPLICATIONS OF THE IRAQI AND U.S. PROGRAMS. Simon Whitby and Paul Rogers in Defense Analysis, Vol. 13, No. 3, pages 303-318;1997.

PLANT PATHOLOGY. Fourth edition. George N. Agrios. Academic Press, 1997.

BIOTECHNOLOGY, WEAPONS AND HUMANITY. Malcolm Dando. British Medical Association, Harwood Academic Publishers, 1999.

The Bradford Program on Strengthening the Biological and Toxin Weapons Convention site is available atwww.brad.ac.uk/acad/sbtwc  on the World Wide Web.

The Chemical and Biological Warfare Conventions Bulletin of the Harvard-Sussex Program on CBW Armament and Arms Limitation site is available at fas-www harvard.edu/-hsp/ on the World Wide Web.

Scientific American, June 1999

 

(1) الذيفانات toxins: سموم تنتج عن كائنات حية.

(2) أو سوداء الحنطة، ويسمى في بلاد الشام ـ تصغيرا ـ سُوَيِّد الحنطة. (التحرير)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى