أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بيولوجياعلم الحيوان

العلم في صور

العلم في صور

البراعة الفنِّية للكائنات المكروية(*)

تكوِّن مستعمرات من البكتيريا أو الأميبات (المتحوِّلات) أنماطا معقدة تشوِّش

الحدود الفاصلة بين الحياة واللاحياة.

<E. بِنْ جاكوب> ـ <H. ليڤاين>

 

في العقود القليلة الماضية تمكّن الفيزيائيون من فهم الكيفية التي تتكوَّن بها بعض الأنماط؛ مثل هيئة ندفة الجليد أو هيئة اللَّهب. دعونا نتمعَّن في الكيفية التي ينمو بها شكل «السَّعَفَة السرخسية» الثلجية snow fern على نافذة باردة. فجزيئات الماء المهاجرة عشوائيا على اللوح الزجاجي تصطدم بالسَّعفة السرخسية(1) بين الفيْنة والأخرى ملتصقة بها. ولما كان من الأرجح أن تصطدم  الجزيئات بالأجزاء البارزة من هذه السَّعَفَة السرخسية وتلتصق بها فإن أي منطقة تنتأ خارجا سوف تنزع إلى التنامي طولا. وتفضي هذه السيرورة إلى سلسلة من التفرعات. أضف إلى ذلك أن الجزيئات تكون أكثر مَيْلا إلى الالتصاق بمواضع معينة تعتمد على توجُّه جزيئات الجليد الموجودة مسبقا في السعفة السرخسية. ونتيجة لذلك يتنامى تركيب بلوري معقد على نحو تلقائي.

 

قد تتخذ مستعمرات الكائنات المكروية (المتعضيات الدقيقة) أشكالا أعقد حتى من ذلك بسبب مقوِّم إضافي ألا وهو الحياة. وقد اعترت الدهشة الفيزيائيين حينما وجدوا أن أنماط هذه المستعمرات كثيرا ما تشبه أنماط الأشياء غير الحيّة. بيد أن البكتيريا تختار بشكل واضح تصاميم معيَّنة دون غيرها لتيسير بقائها حية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H05_008393.jpg

سَعَفات متجعدة من العصوية الرقيقة (باسيلاس ساتيليس) تنمو في طبق به أگار Agar ليِّن. وتشير إلى أن الأصباغ الغذائية التي تضاف إلى الوسط لتضفي أثرا فنيا تُمتص على نحو تفضيلي بوساطة الأجزاء المختلفة من المستعمرة.

 

لنأخذ على سبيل المثال بكتيريا العصوية الرقيقة «باسيلاَّس ساتيليس»Bacillus subtilis. ففي أواخر الثمانينات أظهر<.M ماتسوشيتا> [من جامعة شوShou في طوكيو] ومعاونوه أن هذه الكائنات المكروية تستطيع أن تكوِّن أنماطا متفرعة عندما يتمُّ استنباتها على سطوح من الأگار(2) agar المحتوي على مُغَذِّيات (غذيات) nutrients محدودة. وهي تنمو وفق الأسس نفسها التي تنمو بها السعفة السرخسية الثلجية. دعونا نتخيل الحالة القصوى التي يكون فيها الأگار أقسى من أن يسمح للبكتيريا بالحركة. فجزيئات الغذاء تستطيع مع ذلك أن تتقافز عشوائيا خلال الهلامة، فتنحو بذلك إلى بلوغ البكتيريا التي تبرز من المستعمرة. عندئذ تتغذى البكتيريا وتنمو إلى ضعف طولها ثم تنقسم إلى اثنتين. بهذه الطريقة ينمو النتوء ببطء مكونا فرعا. وبالطبع فإن البكتيريا عادة ما تتحرك أيضا، فتندفع نحو المناطق التي يُتاح فيها مزيد من الغذاء ـ وهي تلك التي تقع في محاذاة ذُرا الفروع، مما يجعل تلك التفرعات تتنامى بشكل أسرع.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H05_008394.jpg

 العصوية الرقيقة (باسيلاس ساتيليس)، المأخوذة من مستعمرة كانت قد نمت على أگار صلب، تتحوَّل فروعها إلى جَعْدات عندما توضع في أگار ليِّن. وتطفر الكائنات لتأخذ شكلا أطول يتحرَّك بسرعة ولكنه يميل إلى تغيير اتجاهه نحو جانب واحد مما يؤدي إلى تكوين جَعْدات. أغلب الظن أن عدم التناظر هذا ينشأ عن الذيل اللولبي الذي يحرِّك كل خلية بكتيرية. أما في الأگار البالغ الصلابة فإن بكتيريا العصوية الرقيقة تتجمَّع في دوَّامات ملتزَّة دوَّارة تخترق الوسط كمنشار دائري. ويتيح هذا السلوك التعاوني للمستعمرة أن تنمو للخارج (المستطيل الصغير في الأعلى)؛ ونشير إلى أن «المنشار» هو النقطة القاتمة عند نهاية كل خط.

 

ألهم هذا الكشف أحدنا (بِنْ جاكوب) فقرَّر أن يَجِدَّ في البحث عن النقطة التي قد يَنُمُّ عندها النمط عن الطبيعة الحية لمكوِّناته. وقد وجد أنه إذا استنبتت البكتيريا على أگار أكثر ليونة فإن النمط الذي كان متفرِّعا في الأصل يتحوَّل تلقائيا إلى نمط مُجَعَّد يمتد بسرعة أكبر. وتحت المجهر تظهر كل خلية بكتيرية وقد استطالت بقدر كبير حين يبدأ النمط بالتجعد. ومع أن هذا التحول يساعد بوضوح على جعل البكتيريا أكثر قدرة على الحركة، وبالتالي على تحسين فُرصها في الحصول على الغذاء، فلا أحد يعرف كيفية انطلاقه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H05_008395.jpg

قد تنشأ أشكال شبكية هندسية عندما تقوم البكتيريا الشائعة الإشِريكية القولونية Escherichia coli، (b a) أو السلمونيلا التيفية الفأرية Salmonella typhimurium ، (d c) بترتيب نفسها. وعندما تُعرَّض الخلايا لمغذيات مُعَيَّنة أو لعوامل تسبِّب الكرْب (الإجهاد)، فإن هذه الخلايا تقوم بإفراز مواد كيميائية جاذبة وتتجمَّع استجابة لها. وتستطيع تلك المجموعات اعتمادا على الظروف السائدة أن ترتِّب نفسها في تشكيلات دورية منيعة من بقع أو خطوط. (الباحثان <O.E. بودرين> و <C.H. بيرگ>، جامعة هارڤارد).
وتظهر طُرُز الأنماط أيضا في عمليات المحاكاة الحاسوبية (الشكل الأيمن) التي تهاجر فيها البكتيريا نحو الكثافات الأشد للمادة الكيميائية الإشارية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H05_008396.jpg

تتكوّن دوائر مشتركة المركز داخل مستعمرة الإشريكية القولونية المستنبتة على أگار صلب. وفي هذه الظروف لا تستطيع البكتيريا أن تتحرك ولكنها تتكاثر نحو الخارج بالانقسام الخلوي. وتبدي الحلقات نشاطا كيميائيا دَوْريا: وفي هذه الصورة يمثِّل اللون الأزرق النواتج المستَقْلبة (الأيضية) لإنزيم ما. (الباحث< A.J. شاپيرو>، جامعة شيكاگو).

 

لا تقتصر البكتيريا على الإحساس ببيئتها وإنما هي أيضا تؤثِّر فيها كما يؤثر بعضها في بعض: فمستعمرات الإشِريكية القولونية (إشيريشيا كولاي)Escherichia coli تستطيع التجمع عبر إفرازها مواد كيميائية جاذبة. والأميبات التي تحتوي على نوى وبِنى أخرى تجعلها أكثر تعقيدا من البكتيريا ـ تكون أقوى بنية. فبينما كثيرا ما تستجيب البكتيريا لأشكال الكرب stress بتكوين سلالات مغايرة جديدة من ذاتها، نجد أن الأميبات مقاومة تماما للتغيير ولكنها تبدي سلوكا جماعيا على درجة مدهشة من الرُّقي.

 

يُعَدُّ أحد أنواع هذه الأميبات، واسمه ديكتيوستيليام ديسكويْديامDictyostelium discoideum، نوْعا مفضَّلا لدى علماء بيولوجيا التطورdevelopmental biology الذين يرغبون في دراسة الكيفية التي يمكن بها للخلايا أن تنضم بعضها إلى بعض لتكوِّن كائنات عديدة الخلايا. فلو تم نشر هذه الخلايا على سطح خالٍ تماما من الغذاء فإنها تُنشئ بعد نحو أربع ساعات جهازا إشاريا كيميائيا (لعلّه نداء تحذير؟)؛ إذ تمتلك كل خلية من الخلايا مستقبلات لمادة كيميائية نوعية specific هي أحادي فوسفات الأدينوزين الحلقي cyclicadenosine monophosphate (cAMP) ، الذي تطلقه الخلايا الأخرى؛ وعندما تكتشف خلية ما تلك المادة الكيميائية تقوم هي ذاتها بإطلاق مزيد منها. وتكون محصِّلة التأثير تدفُّق موجات لولبية نابضة من المادة cAMP في كافة أرجاء المنظومة.

 

عند نقطة ما تبدأ كل أميبا بالحركة نحو مركز أقرب لَوْلَب. وهي تصادف في طريقها تجمُّعات من خلايا أخرى فتندمج معها في نمط يشبه منظومة نهرية. ولقد بيَّن أحدنا (ليڤاين)، بالتعاون مع <A.D. كِسْلَر> [من جامعة بار إيلان Bar-Ilan]، أن هذه الانسيابات يمكن أن تتكوَّن من دون أي جهاز جيني (وراثي)genetic apparatus  مُتخصِّص كنتيجة لمبادئ فيزيائية بسيطة. وفي نهاية الأمر تتجمَّع الأميبات في أكوام ينبعث من كل منها عشرات الآلاف من الأبواغ التي تنتظر النقل إلى بيئة أكثر سخاء.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H05_008397.jpg

تنشأ المصطبات terraces عندما تتحوَّل بعض البكتيريا في مستعمرات پروتياس ميرابيليس Proteus mirabilis مؤقتا إلى خلايا طويلة «مُحتشِدة» تتحرك في توافق فوق الأگار الصلب لتستعمر مناطق جديدة. وتكوّن هذه الرائدات رُقعا صالحة للسُّكنى تملؤها خلايا عادية «سابحة». بعد ذلك تبدأ السيرورة من جديد، وربما تستهِلُّها ساعة داخلية. وتعد البكتيريا پروتياس ميرابيليس مسؤولة عن عداوى (أخماج) infections عديدة في مجرى البول لدى مرضى المستشفيات.. (الباحث < A.J. شاپيرو>).

 

في الوقت الحالي يعتمد علماء البيولوجيا في غالب الأمر على تقانات بيوكيميائية (كيميائية حيوية) وجينية لتحليل الكيفية التي تتحكم فيها إشارات خارجية في حركة الخلايا. وتتضمَّن مهمتهم حل ألغاز القوانين المكروية ( الصِّغْرية، المجهرية) للعبة. بَيْد أن الفيزيائيين قد تعلَّموا أن الانتقال من مثل تلك القوانين المكروية إلى الأنماط الماكروية (الكِبْرية، العيانية) هو أيضا مشكلة بالغة التحدي. نحن على ثقة من أن علم الكائنات المكروية وفنَّها سوف يستمران في افتتان العلماء عهودًا طويلة قادمة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H05_008398.jpg

شبكة نهرية (الصورة العلوية) تتكوَّن عندما تتجمع خلايا ديكتيوستيليام ديسكويْديام في ظروف الجوع لتكوِّن كومة، وينتهي الأمر بها إلى تكوين أبواغ شديدة التحمل. (الباحث <J.C. وايْجر>، جامعة داندي).

تبدأ السيرورة بأن تقوم الأميبات بإرساء منظومة إشارية كيميائية. وتنبض فوق المستعمرة موجات لولبية من مادة كيميائية تؤدي بكل أميبا إلى الانكماش: أي إنها تسحب جميع أقدامها الكاذبة فيتغير شكلها. ويمكن مشاهدة التغيير بوساطة مجهر المجال المعتم(3)الذي يقدِّم صورة للموجات الكيميائية (الصورة السفلية). (الباحث< R. گولدشتاين>، جامعة أريزونا).

http://oloommagazine.com/images/Articles/15/SCI99b15N12_H05_008399.jpg

 

المؤلفان

Eshel Ben-Jacob – Herbert Levine

فيزيائيان متخصِّصان بدراسة المادة المكثَّفة، تباعدت بحوثهما من النُّدف الثلجية إلى الكائنات المكروية. بن جاكوب أستاذ بجامعة تل أبيب. وليڤاين أستاذ فيزياء بجامعة كاليفورنيا في سان دييگو. وهما من أوائل من بَيَّنوا دور تباين الخواص anisotropy في الأنماط المتكوِّنة أثناء التجميد (التصليب) solidification.

 

Scientific American, October 1998

(*) The Artistry of Microorganisms

 

(1) السراخس ferns: نباتات لازهرية وعائية كالخنشار والفوجير وكزبرة البئر وغيرها. والسعفات السرخسية fern fronds هي أوراق السرخس وتكون محززة وعليها أكياس الأبواغ التي يتكاثر بها السرخس. ويرد ذكرها في هذه المقالة لشكلها الخاص الذي تشبَّه به بعض أنماط النمو في نُدف الجليد (ولذا استعمل تعبير «سرخس جليدي») وأنماط النمو في مستنبتات البكتيريا. (التحرير)

(2) غذاء هلامي يستخدم في استنبات البكتيريا في المختبر.

(3) (مجهر القعر المظلم) darkfield microscope: مجهر ضوئي مزوَّد بمكثِّف خاص يُمَرِّر شعاعا ضوئيا مائلا خلال العينة المفحوصة، ولا يُرى هذا الشعاع في العدسة العينية (وبذلك يكون الحقل معتما)، ولكن الضوء ينعكس أو يتبعثر من محتويات الخلية ويكون مرئيا. ويستخدم هذا المجهر في فحص خلايا دقيقة حَيَّة وغير مصبوغة (ملوَّنة). (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى