أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الأحياء التطوريعلم الحيوانعلم المحيطات

الحيوانات الشفافة

الحيوانات الشفافة(*)

لقد تطورت تلاؤمات فيزيولوجية بارعة تمكّن

تشكيلة مذهلة من المخلوقات التي تعيش في أعماق

البحار، من أن تكون شفافة على نحو رائع.

<S. جونسين>

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00798.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00799.jpg

في وسط هذه الصورة، تشاهد مساحة رباعية الزوايا تمثل معدة قنديل بحر يسمى Nausithoe punetata. وتبرز في الصورة أيضا مناسل الحيوان الثمانية الحمراء. أما الجنس فرونيما Phronima (في الزاوية العلوية اليسرى)، الذي أشيع أنه الملهم لشخصية الوحش في الفلم السينمائي الغريب Alien، فهو في الواقع مخلوق غير مروّع يبلغ سنتيمترين أو ثلاثة طولا. وأما كونينا Cunina (في أقصى اليسار) فهو هيدروميدوز يندر اقتناصه، ويُعد ذا قرابة وثيقة بقناديل البحر.

 

مجموعة حيوانات بحرية شبيهة بالزجاج

ظهرت ألوان قزحية لهبية الشكل على أحد الهيدروميدوزات من الجنس أركتاپوديماArctapodema (الصورة الكبيرة في اليمين)  حينما أضاء النور الصادر عن جهاز التصوير التخططات العضلية الدقيقة على جسم الحيوان. أما الحلزون الشفاف تيروسوماPterosoma (في الزاوية السفلية اليمنى) فله  شبكية عينية متطاولة تُدخل الصور صفا بعد صف، بما يشبه طريقة أداء كاميرا التلفاز. وأما الصورة الواقعة إلى جانبه، فتبين مخلوقا حديث الاكتشاف جدا؛ حتى إنه لم يسمَّ بعد، فهو هلامي مشطي ينتمي إلى شعبة حاملات الأمشاط (المشطيات) Ctenophora، يجدف في الماء بتحريك اللويحات المشطية الموجودة على طول حواف جسمه. وأما مزدوج الأرجل أمفيپود amphipod الموضح في الأسفل والمعروف باسم سيستوسوما Cystosoma فيشبه نوعا من سمك الروش roach البلّوري يبلغ طوله  خمسة سنتيمترات. وتحصر قوقعته الخارجية داخلها على الأغلب ماء وافرا ومِعيً رأسيا دقيقا إبري الشكل لا يُرى في هذه الصورة. أما الأخطبوط الشفاف المسمى ڤتريليدونلا ريكاردي Vitreledonella richardi (في الأعلى)  فيندر اقتناصه ولا يعرف عنه إلا القليل.
http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00800.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00801.jpg

 

 

حاملات الممصات Siphonophores: واحدتها حشد كبير

تستعمل بعض الحيوانات الشفافة خاصية الخفائية invisibility لأبعد من مجرد التمويه. فحاملات الممصات قريبات فريدات لقناديل البحر، منها ما يعيش أفرادا مستقلة ومنها ما يشكل مستعمرات. وأحسن مثال معروف منها هو المحارب البرتغالي (البارجة البرتغالية) Portuguese man-of-war. وتكون معظم حاملات الممصات شفافة، لكن لبعضها أعضاء لسع ملونة تحاكي مظهر سمكة وليدة أو إربيان (گمبري) صغير أو غيرهما من الفرائس المغرية. وتطارد الحيوانات هذه الأعضاء، على غير دراية منها بكبر الحيوان الشفاف التي تلتصق به هذه الأعضاء، فتُقْتَل بسرعة. وتظهر في الأعلى صورة مخلوق من المجموعة التصنيفية المسماة پرايدprayid، وهو في حالة منضغطة بطول نحو 10-12 سنتيمترا؛ وما الأشياء الفاتحة اللون داخله إلا خلايا لاسعة. وفي وضعية الاصطياد يغير الحيوان من شكله فيتمدد حتى يبلغ المتر طولا، وتتدلى الخلايا اللاسعة، على نحو شبكي، خارج أعضاء طفوية. وثمة نوع آخر من حاملات الممصات يسمى ڤورسكاليا Forskalea (في اليمين)، وهو ذو قرابة وثيقة بحيوان المحارب البرتغالي، ويصطاد فرائسه بطريقة أشبه كثيرا بما يفعله الپرايد.
http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI_index_2000b16N10_H04_00802.jpg

 

 

الاستقطاب: السلاح السري للمفترسات

في سباق الأسلحة المستمر بين الآكل والمأكول، طورت بعض المفترسات أسلوبا لمواجهة التمويه الذي تضفيه الشفافية. ففي مياه المحيط تُبعثِر جزيئات الماء الكثير من الضوء، محدثةً ضوءا مستقطَبا polarized تتذبذب موجاته تذبذبا متوازيا. ولا يمكن للناس تمييز الضوء المستقطب إلا إذا كانوا يلبسون نظارات شمسية مستقطِبة (پولارويد) polaroid. ولكن العديد من الحيوانات، لا سيما القشريات والحبار squid، تستطيع رؤية مثل هذا الضوء بأعينها المجردة من دون حاجة إلى وسائل مساعِدة. وتفيد هذه المقدرة تلك الحيوانات في صيدها، لأن أنسجة بعض الحيوانات الشفافة التي تفترسها هذه الحيوانات إما أن تزيل استقطاب الضوء الذي يمر عبر الفريسة أو تدوّره. وكشف مثل هذا التغيير، يمكِّن المفترسات من الشعور بوجود فرائسها. ففي الصورتين الخاصتين بمجدافِِيِّ الأرجل لابيدوسيرا Labidocera نفسه (في الأعلى) تبين الصورة اليمنى ذلك الحيوان على نحو ما تشاهده العيون التي تستطيع اكتشاف التغير في الاستقطاب.

وحديثا أظهر <N. شاشار> وزملاؤه [في المختبرات البيولوجية البحريةMarine Biological Laboratories في ماساتشوستس] أن الحبار يستعمل مقدرته على رؤية الاستقطاب في اكتشاف الطعام الشفاف وفي إرسال إشارات سرية من حبار إلى آخر. وقد خيَّر شاشار [الذي يعمل الآن في مختبر ستانيتس للبيولوجيا البحرية في إيلات] الحبار بين خرزتين زجاجيتين لمهاجمتهما، بحيث كانت إحداهما تؤثر في استقطاب الضوء دون الأخرى. فوجد أن الحبار فضل مهاجمة الخرز الذي أثر في الاستقطاب الضوئي. وكذلك وجد شاشار أنه في حالة الإضاءة المستقطبة ـ التي هي الحالة الطبيعية للضوء في المحيطات ـ فإن الحبار يكون قادرا على اكتشاف المخلوقات التي تؤثر، على مدى أبعد، في الاستقطاب.

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI_index_2000b16N10_H04_00802.jpg

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00804.jpg

صورة لزنّار (حزام) ڤينوس Venus’s girdle (وهو أحد أنواع الهلاميات المشطية) منسابا أمام الغواص <N. سوانبرگ> على مبعدة من Bimini ـ إحدى جزر الباهاما. من الواضح أن هذا الحيوان، الذي لا يزيد سمكه على مليمترات قليلة ولكنه قد يصل المترين طولا، أكبر من أن يستطيع إناء العينات (الذي حمله معه سوانبرگ في أثناء الغطس) استيعابه. ونشير إلى أن الطرائق الشائعة لجمع المخلوقات البحرية مثل استعمال شباك الجر تخلف كتلة من الأنسجة المشوهة إذا ما استخدمت لجمع الحيوانات الشفافة [انظر ما هو مؤطر في أعلى اليمين]. ولهذا يجمع الغواصون العينات باليد حتى على عمق 30 مترا عن السطح. أما في الأعماق التي تزيد على هذه المسافة فإن البيولوجيين يستخدمون لهذا الغرض غواصات بحثية، مثل غواصة جونسون سي لنك Johnson Sea-Link (الصورة في أعلى اليسار). إن هذه الغواصة مزودة بأوانٍ يمكن فتحها وإغلاقها عن بعد باستخدام تقانات هدروليكية.

 

تنفغر الأعماق السحيقة تحتنا أكثر من ثلاثة آلاف متر عمقا.

فيما عدا قارب اللّنش الذي كنت أجلس فيه والسفينة الأم البيضاء الواقعة على مبعدة مني، لم يكن حولي سوى البحر والسماء. أخذت نَفَسًا من آلة تنظيم التنفس المحمولة على ظهري (السكوبا scuba1) وقفزت من جانب اللنش إلى المياه الصافية والخالية إلى الحد الذي كنت أستطيع منه رؤية ما مداه 100 متر تقريبا. وفيما كنت أنزل مع ثلاثة من زملائي، كانت زرقة الماء من حولنا تزداد قتامة، ثم تحولت إلى اللون الأرجواني مع توغلنا في الأعماق.

 

فعلى بعد مئات الكيلومترات من اليابسة كنا نغوص ليس بحثا عن حيد (حاجز) بحري reef مزدهر أو حطام سفينة تاريخية، ولكن إلى نقطة انتُقيت اعتباطا في المحيط الشاسع. فمن تحتنا تنفغر الأعماق السحيقة أكثر من ثلاثة آلاف متر عمقا. إننا هنا في أوسع موئل habitat على الأرض يحتل 999 في المئة من الحيز الملائم للعيش في كوكبنا، وهو عالم بلا تضاريس فيما عدا ألطف تدرجات الضوء واللون التي تعلن تغيرا في الزمان والمكان.

 

بالنسبة إلينا، يُفقِدنا انعدامُ المرجعية (المعالم) حسَّ الزمان والمكان إلى حد كبير. وبالنسبة إلى الحيوانات التي تعيش هنا، فذلك يعني عدم وجود مكان للاختباء.

 

توقفنا في هبوطنا عند عمق ثمانية عشر مترا، وشددنا أنفسنا بحبل أمان يتدلى من اللنش، وبدأنا استكشافنا. وما كان علينا أن ننظر بعيدا: فما إن تكيفت عيوننا حتى وجدنا أنفسنا محاطين بعشرات من حيوانات شفافة بطيئة الحركة. لقد رأينا وسط هذا المعرض الزجاجي الحيواني الغريب عددا من قناديل البحر، ولكننا لم نتعرف معظم سائر المخلوقات من فورنا. وقد تفاوتت حجومها بين إصبع الإبهام وما يفوق كرة السلة. وبينما أمكننا اكتشاف بعضها من خلال ما احتوته مَعداتها من طعام أو من خلال بقعة لونية عَرَضية أو ومضة من تقزّح اللون، فإن غيرها من الحيوانات كانت من الشفافية إلى درجة لم تكن مرئية حتى وهي على مبعدة سنتيمترات قليلة فقط. وقمنا بإخراج أوانٍ زجاجية من حقائبنا الشبكية وبدأنا بجمع العينات.

 

حياة هلامية

يتمثل القاسم المشترك بين الغالبية العظمى من هذه المخلوقات في أجسامها التي تتألف إلى حد كبير من مادة هلامية تمنحها منافع عديدة. ولما كانت هذه المادة تتكون في معظمها من الماء غير القابل للانضغاط، فإن تلك الحيوانات تكون محمية من الضغط الساحق في الأعماق. وتتمتع الحيوانات بطفويةbuoyancy كافية تسمح للعديد منها بالطفو مثل البالونات فوق أعماق سحيقة من الماء. إضافة إلى ذلك، فهذه المادة ليست حية ويسهل إنتاجها، الأمر الذي يجعل المخلوقات المتكونة منها تستطيع العيش على القليل جدا من الغذاء. أما عندما يتوافر الغذاء، فإن هذه المخلوقات تستطيع النماء والتكاثر بمعدلات استثنائية، حتى إن بعضها يزدهر في أسبوع واحد مكونا مستعمرات من بلايين الأفراد تغطي آلاف الكيلومترات المربعة.

 

ولعل أهم ميزة للمادة الهلامية ـ وهو ما يعد أساس نجاحها التطوري في عالم ما تحت سطح البحر ـ تعود إلى الشفافية التي تمنحها: إذ إن جميع الحيوانات في عرض المحيط تقريبا، باستثناء تلك التي تمتلك أسنانا أو ذيفانات (توكسينات) أو سرعة في الحركة أو قدودا (حجوما) صغيرة تحميها، تتمتع بدرجة ما من الخفائية invisibility. وفي الحقيقة، إن الأعماق السحيقة التي لا يخترقها ضوء الشمس أبدا تكاد تخلو من الكائنات الشفافة.

 

أما السيئ في الأمر فهو أن الحيوانات الهلامية تكون رهيفة بطيئة الحركة. فالكثير منها يعتمد اعتمادا تاما تقريبا على خفائيته، باعتباره الشكل النهائي للتمويه، في التملص من مفترساته وفي ختل فرائسه.

 

ومع ذلك تبقى أهمية الشفافية في البيئة البحرية من الخصائص الغامضة إلى حد كبير. ولهذا تركزت بحوثي على أسئلة أساسية نوعا ما من مثل: ما مبلغ صفاء هذه الحيوانات؟ وما الخصائص الفيزيولوجية غير المعتادة التي تمكن هذه المخلوقات من تحقيق مستويات عالية من الشفافية؟

 

إن الخطوة الأولى لفهمنا إيكولوجية الشفافية تكمن في تحديد درجة الشفافية الحقيقية لهذه الحيوانات. وفي هذا المسعى تتمثل أكثر النواحي صعوبة في اقتناص هذه الحيوانات بحالة جيدة، إذ إنها لا تكون شفافة على النحو المثالي إلا حينما تكون حية وسليمة البنية، وسرعان ما تصير معتمة بعد الموت. ويصعب الإمساك بحيوانات سليمة البنية بسبب هشاشتها البالغة، حتى إن بعضها يتمزق بفعل الاضطراب الناجم عن حفيف ذيل سمكة مجاورة. ولهذا السبب تعتمد تقانات جمع الحيوانات الهلامية على غطاسي السكوباscuba divers والغواصات(2) submersibles.

 

وباستعمال هاتين التقانتين، تمكنتُ مع زملائي من جمع تشكيلة كبيرة من الحيوانات الشفافة بحالتها المثالية. ومن ثم قمت في مختبر على سفينة الأبحاث بقياس شفافية هذه المخلوقات لِطيف الضوء المرئي مستعملا مقياسا للطيف مبنيا على القواعد التي يستخدمها أطباء العيون في قياس شفافية عين الإنسان.

 

لقد تفاوتت شفافية الحيوانات بمدى فاق كثيرا ما كان يمكن تخمينه اعتمادا على التقدير الإبصاري السريع، إذ تفاوتت كمية الضوء التي مرت عبر أجسامها ما بين 20 و90 في المئة. ولم يكن مستغربا أن تكون الحيوانات الأكبر حجما وذات النسج الأكثر وفرة قد عوضت ذلك بامتلاكها نسجا أكثر صفاء. ولكن الأمر الأكثر غرابة تمثل في أن الحيوانات التي اقتنصت على عمق 750 مترا كانت على درجة من الشفافية تماثل شفافية الحيوانات الموجودة قرب السطح.

 

لقد حيرتني تلك الملاحظة، إذ توقعت أن تكون الحيوانات الموجودة قرب السطح أكثر شفافية من تلك التي تقطن المياه العميقة؛ لأن العالم السطحي يكون أكثر ضياء ويكون الاختباء فيه أكثر صعوبة. ولكن تبين أن بعض حيوانات المياه الأعمق كانت أكثر شفافية مما يلزمها لتكون غير مرئية على بعد سنتيمترات، أو حتى مليمترات، من عيون مفترساتها.

 

وحتى نفهم كيف يمكن لمخلوق ما أن يكون شفافا إلى هذا الحد، ينبغي أن نذكر أن وضوح الشيء يعتمد على تباينه contrast، بمعنى سطوعه brightnessمقارنا بالوسط المحيط به. وبالنسبة إلى مخلوق بحري ما، فإن الماء الموجود بين الحيوان والمُشاهِد يُبعثِر ويمتص الضوءَ المنعكس عن المخلوق. وهكذا فكلما ابتعد الحيوان قل تباين صورته وصعبت رؤيته. وعلى مسافةٍ ما، تعتمد على التباين الأصلي للحيوان وعلى مدى تأثير الماء في الضوء، ينخفض التباين إلى أدنى مما يستطيع المشاهد رؤيته. وتعرف هذه المسافة باسم مسافة الرؤيةsighting distance، ويغدو الحيوان بعدها غير مرئي (وآمنا من الخطر).

 

الشفافية والبنية

خلافا لأشكال التمويه الأخرى، فإن الشفافية تشمل الجسم بكامله وليس سطحه الخارجي فقط. وتُبرز هذه الحقيقة بضع مشكلات آسرة بادَرَ التطور إلى حلها بطرق بارعة.

 

لماذا تكون القرنية صافية؟

لقد تبين أن تحليل فورييه Fourier analysis الذي يحدد التواترات السائدة في مجموعة من الموجات أو في غيرها من ظواهر متكررة أخرى، مفيد للغاية في تحليل الشفافية، ليس في الحيوانات الهلامية فحسب ولكن أيضا في قرنية عين الإنسان. فعلى غرار أجسام الحيوانات تتألف القرنية والصلبة (بياض العين) المحيط بها من ترتيبات arrangementsدورية أو شبه نظامية من پروتينات ليفية. فحينما تنتظم هذه الألياف انتظاما دقيقا وتتباعد «بطول موجي» wave length يقل مقداره عن نصف أقصر طول موجي للضوء المرئي، فإن ذلك النسيج يقترب من الشفافية التامة. ويكمن سبب ذلك في أن الضوء المار مباشرة عبر ذلك النسيج يعزز نفسه بصورة بناءة، في حين يُستأصل الضوء المتشتت على الجوانب بفضل ظاهرة التداخل الهدام.

يبين هذا الرسم البياني المعلومات التي جمعتُها عن القرنية والصلبة sclera. ففي كلتا الحالتين تنتظم ألياف النسيج في تشكيلة منوعة من نماذج متكررة، لكل منها طول موجي مختلف. وقد جرى رسم هذه الأطوال الموجية بيانيا على المحور الإحداثي س من المخطط في حين يشار إلى مدى سيادة نسيج ذي طول موجي معين بوساطة قيمته المقابلة على المحور الإحداثي ص. ففي القرنية على سبيل المثال، تسود الألياف المتكررة وفق النموذج ذي الطول الموجي البالغ نحو 50 نانومترا. وتقل تلك القيمة كثيرا عن ال200 نانومتر التي تقارب نصف طول موجة الضوء البنفسجي الذي يعد أقصر الأطوال التي تراها عين الإنسان. وعلى النقيض من ذلك تمتلك الصلبة قمما فوق 200 نانومتر مما يجعلها معتمة.

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00805.jpg

 

 

يمكن مشاهدة بعض الحلول بالعين المجردة. فبعض هذه المخلوقات يكون مسطحا ورقيقا، لأن الأشياء الرقيقة تُنفذ مزيدا من الضوء. فإذا كان سنتيمتر من حلزون شفاف يسمح بمرور جزء من تسعة أجزاء من الضوء عبره، فإن نصف السنتيمتر يسمح لثلث الضوء بالمرور. كما أن التسطح flatness يجعل من الصعب رؤية الحيوان مُجانَبةً. وقد استفاد بعض المخلوقات مثل اليرقات السمكية المدعوة لِپتوسيفالَسْ(3) leptocephalus، من هذه الميزة إلى أبعد الحدود، فغدت أشبه برقاقات حية لا يزيد سمكها على مليمتر أو مليمترين ويصل طولها إلى عشرات السنتيمترات. كما أن هناك هلامات مشطية comb jellies معينة تحمل الاسم الرومانسي المثير «زنّار ڤينوس» Venus’s girdle، تكون أجسامها طويلة ومسطحة كالزنار (الحزام). وكذلك تكون صغار الكركند (جراد البحر) الكاريبي الشائك Caribbean spiny lobsters في حجم قطعة نصف الدولار ومسطحة مثل الورقة. ولعل الطريقة الوحيدة لاكتشافها تكمن في تحقيق نظرة خاطفة لظلالها.

 

وتتضمن التغيرات الواضحة الأخرى أجزاء من الجسم لا يمكن جعلها شفافة لأسباب مادية؛ إذ لما كان لا بد لشبكيات العيون أن تمتص الضوء كي ترى، فإن جزءا من العيون على الأقل يبقى مرئيا على الدوام. وقد ظهرت ثلاثة حلول لهذه المشكلة. فبعض الكائنات الحية تمتلك عيونا تقع على نهايات سويقات طويلة بقصد إبعاد تلك العيون قدر المستطاع. وبعضها الآخر، كما في الحيوان القشري المسمى فرونيما Phronima [انظر الشكل في الصفحة 288]، يمتلك شبكيات مرصوصة بكثافة ويستعمل موصلات conduits طبيعية تشبه كَبْلات ألياف بصرية يعبرها الضوء وصولا إلى تلك الشبكيات. وهناك مجموعة ثالثة، كما في الحيوان القشري الكبير المسمى سيستوسوما Cystosoma [انظر الشكل في الصفحة 31]، يمتلك عيونا ضخمة ذات شبكيات شاحبة رقيقة تحت القرنية مباشرة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00806.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N10_H04_00807.jpg

إن النتوءات الدقيقة tiny bumps التي تغطي السطح الخارجي لجسم مخلوق شفاف يمكن أن تحسّن من درجة اختفائيته عبر تقليل الانعكاسات. فالنتوءات ذات العرض الذي يقل عن نصف طول موجة الضوء الساقط عليها ليس لها معامل انكسار واضح، بل إن معامل الانكسار يكون مساويا لمتوسط معاملات انكسار النتوءات والوسط المحيط. ولكن لما كانت النتوءات مستدقة الطرف على نحو تدريجي، فإن المادة عند قواعدها تكون أكثر منها عند القمم. وهكذا يتحول معامل الانكسار تحولا سلسا من معامل المادة إلى معامل الوسط. وهذا التحول التدريجي يتداخل مع قابلية السطح ذي النتوءات لكسر الضوء.

 

وتُعد المعدة عضوا آخر يبقى مرئيا على الدوام. ولا يكمن السبب في المعدة نفسها، بل في محتوياتها التي تضم حيوانات أو نباتات مهضومة جزئيا، وهي معتمة في العادة. وفي بعض الحيوانات التي يمكن الرؤية خلالها تكون المعدة إبرية الشكل وذات توجه نحو الأسفل على الدوام مهما كان اتجاه الحيوان. ويمكن لهذا التدبير أن يكون فعّالا؛ لأن العديد من الضواري تبحث عن فرائسها عن طريق النظر إلى أعلى بحثا عن الظلال التي تتكون قبالة الضوء الوارد من سطح البحر. وهناك استراتيجية أخرى تتمثل في حجب (إخفاء) المعدة بنسيج عاكس للضوء؛ ويكون مثل هذا النسيج في عرض البحر ـ كالمرآة ـ غير مرئي، لأن الضوء الذي يعكسه لا يميز عن الضوء الذي يقع خلفه. ونذكر هنا أن هذا المبدأ يفسر سبب كون الكثير جدا من الأسماك تمتلك حراشف فضية تشبه المرايا على السطح الخارجي من أجسامها.

 

ويعد الجلدُ العضوَ المزعج الثالث، لأنه يعكس على الدوام بعض الضوء ـ ولو جزئيا. وتتغلب بعض الحيوانات على ذلك بامتلاكها أشكالا جسدية بسيطة تقلل من كمية الجلد وتعقيد الانعكاسات. وعلى نحو أقل شيوعا، ولكن أكثر إثارة، تمتلك بعض المخلوقات على سطح أجسامها أديمًا (نسيجا) texture كثير النتوءات المجهرية التي تقلل إلى حد كبير ظاهرة الانعكاسية reflectivity على نحو رائع دقيق.

 

لقد كانت هذه الاستراتيجية موضوع نشرة علمية حديثة من قبل <A. پاركر> [من المتحف الأسترالي في سدني]. فهي تعتمد على معامل انكسار المادة الذي يدل على مدى سرعة عبور الضوء داخل المادة. فالضوء يعبر في المادة ذات معامل الانكسار العالي بصورة أبطأ من عبوره في المادة ذات معامل الانكسار المنخفض.

 

فإذا كان لسطح ما عدد كبير من النتوءات (الحدبات) التي يقل حجمها عن نصف طول موجة الضوء الساقط عليها، فإن السطح بأكمله يعمل بوصفه مادة منتظمة uniform ذات معامل انكسار يساوي متوسط معامل انكسار النتوءات والوسط المحيط بها (الذي هو الماء في موضوعنا). ولما كان قعر النتوء أكبر من سطحه العلوي، فإن معامل الانكسار عند القعر يكون أكثر قربا من معامل انكسار المادة، التي تكون عادة أعلى من معامل انكسار الماء. وللسبب نفسه يكون معامل الانكسار أقل بالقرب من السطح العلوي للنتوءات.

 

وهكذا، يحدث ازدياد وئيد ـ وليس مفاجئا ـ في معامل الانكسار مرورا من الماء المحيط إلى جسم الحيوان، ويقلل هذا الانتقال الوئيد من مقدار الانعكاس. وفي الحقيقة إن هذا الأمر يعمل بطريقة جيدة جدا، مما استدعى مصممي العدسات اليوم إلى استعمال ذلك المبدأ لتحسين طلاء coating العدسات في البصريات العالية الأداء. ويُذكر أن مؤسسة نورثروب گرومان Northrop Grumman  استخدمته في طائراتها الشبح القاذفة للقنابل من الطراز B2 بغية تقليل الانعكاسات  الرادارية عن سطح الطائرة.

 

متطلبات الخفائية

إن إبقاء الانعكاسات في حدها الأدنى أمر ضروري ـ ولكنه غير كاف ـ لتحقيق الخفائية. فالضوء يجب أن يمر من دون إعاقة عبر الجسم، الأمر الذي يتطلب ألا ينتاب الحزم الضوئية أثناء مرورها أي تشتت (تبعثر) scatter أو امتصاص. فكل من هاتين الظاهرتين من شأنه أن يجعل الجسم مرئيا بدرجة أكبر، ولكن من بين الاثنين يعد التشتت العائق الأهم لشفافية الحيوان؛ لأن القليل جدا من الجزيئات العضوية يمتص الضوء.

 

ينجم التشتت عن التغيرات في معامل الانكسار. فأثناء مرور الضوء من مادة إلى أخرى يغير تبدل معامل الانكسار من سرعة الضوء. إضافة إلى ذلك فإن الحزمة الضوئية ما لم تدخل المادة الجديدة دخولا عموديا تماما، فإن اتجاه الحزمة يتغير.

 

تمتلك الأنسجة الحيوانية عادة بعض الاختلافات في معامل الانكسار بسبب تنوع المكونات اللازمة للحياة (من خلايا وألياف ونوى وأعصاب وغيرها). وحتى الحيوانات الهلامية، التي تحتوي على كمية كبيرة نسبيا من الماء، تتصف باختلافات في معامل الانكسار. ونشير إلى أن العلاقة بين تباين معامل الانكسار وبين تشتت الضوء علاقة بالغة التعقيد، ولا نعرف تفاصيل توزيع معامل الانكسار داخل الأنسجة الحية.

 

ومع ذلك، فإنني ـ باستعمال نماذج مبسطة، إلى جانب الافتراض بأن النسيج يحتاج إلى حجوم معينة من المكونات المختلفة كي يبقى حيا ـ درست كيف يؤثر كل من حجم وشكل ومعامل انكسار هذه المكونات في الكمية الإجمالية لتشتت الضوء. ونشير هنا إلى أن صانعي الدهانات المنزلية يستعملون طرائق مشابهة لتعظيم التشتت الضوئي، ومن ثم القوة الحاجبة (الساترة) لدهاناتهم.

 

لقد كان توزيع المكونات وحجومها أهم عاملين. فإذا كانت إحدى الخلايا تتطلب حجما معينا من الدهون (الشحوم) لتبقى على قيد الحياة ولكن ينبغي في الوقت نفسه أن يكون تشتيت الضوء لديها في أدنى حدوده الممكنة، فإن أفضل استراتيجية لذلك تكون بتجزئة الدهون إلى عدد كبير من القطيرات البالغة الصغر. أما تجزئتها إلى قطيرات كبيرة وقليلة العدد فتُعد استراتيجية أسوأ قليلا من سابقتها، في حين أن الاستراتيجية الأسوأ تتمثل في تجزئة الدهون إلى قطيرات ذات أبعاد تقارب طول موجة الضوء. أما معامل انكسار الدهون فهو أقل أهمية، في حين يكون شكل القطيرات أقل العوامل أهمية. وتقدم هذه العوامل مرشدا لما ينبغي أن نبحث عنه في التشريح المجهري للحيوانات الشفافة.

 

ومع ذلك فإن التباين في معامل الانكسار لا يسبب تشتتا على الدوام. فإذا كانت مقادير التباين جميعها أقل من نصف طول موجة الضوء، فإن الضوء المشتَّت الناجم عن جميع التباينات يزول بفعل التداخل الهدام destructiveinterference؛ بمعنى أن تتراكب موجات الضوء على نحو تبطل فيه إحداها الأخرى.

 

فعلى سبيل المثال، يتألف كل من بياض العين (الصُّلْبَة) وقرنيتها من طبقات كثيفة من الألياف الكولاجينية؛ ولكن لما كانت ألياف القرنية أصغر حجما وأحكم تراصا، فإن التباينات في معامل الانكسار تكون جميعها أصغر من نصف الطول الموجي للضوء [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 36]. ولذلك، يحدث تداخل هدام قوي، ويكون العضو شفافا. ولولا هذا التداخل لكانت القرنية معتمة تماما. ونشير هنا إلى أن السَّاد (عتامة العدسة) cataract تنشأ مع تقدم العمر حينما يختل هذا التراص المتجانس للألياف، بحيث يقضي على تداخلها الهدام.

 

تعد الشفافية مثالا استثنائيا للتطور استجابةً للظروف الصعبة. فمن خلال تحويرات ذكية لأجسامها وخلاياها، وجدتْ هذه الحيوانات الرهيفة سبيلا لبقائها على قيد الحياة في بيئة مكشوفة خطرة. وكما يصدق القول غالبا، فإن طرائقها التي تطورت تطورا طبيعيا تضارع أحدث الإنجازات التقانية ـ في هذه الحالة: مجالات الألياف البصرية والطلاءات البصرية المضادة للانعكاس والدهانات المنزلية. وتعد دراسة هذه التحورات وثيقة الصلة ببحوث الساد، وبحقل تشخيص أمراض الجلد ومعالجتها باستخدام الضوء. إن هذه الحيوانات، بقدر ما هي منتشرة وغامضة في آن معا، لديها أشياء مذهلة نتعلمها منها.

 

 المؤلف

Sonke Johnsen

دخل حقل البيولوجيا بخلفية في الرياضيات والآداب. وقد اجتذبه إلى هذا الموضوع الأناقة الجمالية والرياضياتية للأشكال الحيوانية. وباعتباره باحثا في معهد وودز هول الأوقيانوگرافي بماساتشوستس، فقد ركز على كافة نواحي الضوء في البيولوجيا البحرية بما في ذلك الرؤية والتألق الحيوي وتأثيرات الإشعاعات فوق البنفسجية والحقول المغنطيسية.

 

مراجع للاستزادة 

THE OPEN SEA, ITS NATURAL HISTORY: THE WORLD OF PLANKTON. A. C. Hardy. Houghton Mifflin Company, 1956.

BENEATH BLUE WATERS: MEETINGS WITH REMARKABLE DEEP-SEA CREATURES. K. Madin and D. Kovacs. Viking Press, 1996.

THE PHYSICAL BASIS OF TRANSPARENCY IN BIOLOGICAL TISSUE: ULTRASTRUCTURE AND THE MINIMIZATION OF LIGHT SCATTERING. S. Johnsen and E. A. Widder in Journal of Theoretical Biology, Vol. 199, No. 2, pages 181-198; July 1999.

Scientific American, February 2000

 

(*) Transparent Animals

(1) Self-Contained Underwater Breathing Apparatus = scuba

(2) غواصة ذات مواصفات خاصة تستخدم لمراقبة الأحياء المائية وجمعها من الأعماق المختلفة للمياه.

(3) مصطلح يطلق على يرقات الأنكليس (ثعبان السمك) التي سميت بهذا الاسم اعتقادا بأنها أحد أنواع الأسماك بسبب اختلافها عن الأنكليس اليافع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى