أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلك وعلم الكونيات

المجرّات القزمة والاندفاعات النجمية

المجرّات القزمة والاندفاعات النجمية(*)

من حين إلى آخر تحدث في المجرات الصغيرة

اندفاعات تُكَوِّن نجوما مثيرة. وهذه الاندفاعات النجمية

توفّر للفلكيين لمحة عن التاريخ المبكر للكون.

<C .S. بيك>

 

على مسافة من الأرض تقدّر بنحو 12 مليون سنة ضوئية، توجد مجرة حلزونية كبيرة جميلة مخططة تسمى M83. وقد ظهرت صور هذه المجرة على الكثير من الملصقات وأغلفة الكتب المتعلقة بالفلك. وعند النظر عن كثب إلى هذه الصور، ربما نلاحظ على مسافة من أحد أطراف M83 سديما صغيرا إهليلجي الهيئة تقريبا: إنه المجرة القزمة NGC 5253. قد يظن الناظر المتعجل إلى الصورة أن هذه المجرة هي رفيق غير مهم للمجرة الحلزونية M83، غير أن النظر قد يكون خادعا، فهذه المجرة الصغيرة تقع في وسط اندفاع نجمي متطرف يجري فيه تكوّن نجوم بسرعة مذهلة. وإذا أدخلنا في اعتبارنا نسبة حجم NGC 5253 إلى حجم M83، فإن معدل تكوّن النجوم في المجرة القزمة الأولى أسرع من معدل تكونها في المجرة الكبيرة M83 بعدة مرات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N11_H05_003470.jpg

إن الاندماج بين المجرات يطلق العنان لتكوّن النجوم، كما نرى في هذا الشكل (الذي تخيله فنان) والذي يمثل مراحل نشوء وتطور مجرة الاندفاعات النجمية القزمة II Zw 40. ففي المرحلة الأولى (في أقصى اليمين) يقوم الجذب التثاقلي بسحب مجرتين قزمتين مكونتين من نجوم حمراء قديمة ومن سحب مكونة من غاز ذري (اللون الأصفر) بحيث تدور كل منهما في مدار حول الأخرى. ومع اقتراب إحداهما من الأخرى بحركة حلزونية تتطاول ذيول من الغاز والنجوم بفعل القوى المدية (في الأعلى)، وتبدأ بالتكوّن تكتلات من نجوم زرقاء فتية. وتصوّر المرحلة النهائية (في أعلى الصفحة) المجرة المدمجة كما تبدو في هذه الأيام في صور المقاريب (في اليمين).

 

لقد اكتشف الفلكيون في السنوات الأخيرة أن المجرات القزمة ـ مثل NGC5253 ـ هي أوسع انتشارا بكثير ممّا كان يفترض في الماضي. فضلا على ذلك، فإن هذه المجرات مختلفة جدا عن بنات عمومتها الأكبر منها: إنها تقضي بلايين السنين في حالة سبات، ثم تحدث فيها اندفاعات نجمية عنيفة قصيرة الأمد. صحيح إن هذه الاندفاعات النجمية تَحدث أيضا في المجرات الكبيرة، لكن الإشعاع الصادر عن هذه الاندفاعات يُحجّب عادة بإصدارات مجرية أخرى؛ ولا يتمكن الباحثون من إلقاء نظرة واضحة على هذه الظاهرة المخادعة إلا في الاندفاعات النجمية في المجرات القزمة. وأيضا تتضمن هذه المجرات مفاتيح لحل ألغاز التاريخ المبكر للكون ـ إنها بقايا متخلفة من زمن قديم العهد، وتتكون من مادة لم تتغير إلا قليلا منذ الانفجار الأعظم.

 

تُرى، ما الذي يُحدِث الاندفاعات النجمية في المجرات الصغيرة، وما سبب أهميتها الكبيرة للفلكيين؟ للإجابة عن هذين السؤالين، يجب علينا فحص آلية تكون النجوم. يعرف الفلكيون أن النجوم ظلت إلى حد ما تتكوّن منذ أن خلق الكون. والمجرة التي ننتمي إليها ـ وهي المجرة الحلزونية الضخمة التي تسمى درب التبانة ـ تحوي 100 بليون نجم على الأقل. إن تكوّن النجوم في درب التبانة يحدث نتيجة عملية بطيئة مستتبة تتقلص فيها غيوم شاسعة مكوّنة من الغاز والغبار الموجودين بين النجوم. وفي كل سنة، وسطيا، تتحول كمية من هذا الغاز والغبار، كتلتها قريبة من كتلة شمسنا، إلى نجوم جديدة.

 

وبالمقابل، فإن الاندفاع النجمي يحدث في مدة قصيرة نسبيا ـ بين مليون و20 مليون سنة ـ يكون معدل تكوّن النجوم خلالها أعلى بكثير من المتوسط. وقد رصد الفلكيون مجرات معدلُ تكوّن النجوم فيها أعلى بمئة مرة من معدل تكوّنها في درب التبانة. ونحن نعرف أن هذه المرحلة لا بد أن تكون قصيرة الأجل، إذ إنها لو تواصلت مدة تتجاوز بضع مئات من ملايين السنين، لما تبقّى في المجرة شيء من الغاز الذي تتكوّن منه النجوم.

 

إن المعدل المرتفع للتكون النجمي يسبب ازديادا غير عادي في سطوع المجرة. ولما كانت الاندفاعات النجمية قصيرة الأمد، فإنه تسودها الإشعاعات الصادرة عن النجوم الفتية الحارة التي تبلغ كتلها 20 كتلة شمسية أو يزيد، والتي لا تتجاوز أعمارها lifetimes بضعة ملايين من السنين. وهذه النجوم أشد سطوعا من الشمس بعشرات الآلاف من المرات. إنها تسخِّن وتؤين سحب الغاز والغبار الكثيفة التي تكونت منها أصلا؛ وتمتص السحُبُ الضوء المرئي والضوء فوق البنفسجي للنجوم، ثم تعيد إشعاع الطاقة ببث راديوي وأشعة تحت حمراء. ويمكن أن يكون سطوع اندفاع نجمي قوي مساويا تقريبا لسطوع كوازار (شبه نجم)(1) quasar، وهو أشد الأجرام سطوعا في الكون. ولما كانت ضيائيةluminosity  الاندفاع النجمي مركزة في الجزأين الراديوي وتحت الأحمر من الطيف، فإن هذه الظاهرة لم تعرف ولم تدرس إلا في السنوات العشرين المنصرمة، حين أتاحت السواتل والمقاريب الجديدة للعلماء رصد هذه الأطوال الموجية.

 

ويعتقد كثير من الفلكيين أن الاندفاعات النجمية تؤدي دورا حاسما في تطور المجرات وفي توليد الحشود النجمية. ولهذا السبب، فإن العلماء متلهفون إلى معرفة السبب الذي يؤدي إلى هذه الأحداث المفاجئة، وكيفية تطورها، وسبب انطفائها. وربما تكون الإجابة عن هذه التساؤلات في حالة المجرات القزمة ـ التي تحوي 100 مليون أو أقل من النجوم ـ أسهل منها في حالة المجرات الحلزونية الضخمة، كدرب التبانة أو M83.

 

طوفان من المجرات القزمة

لم يُول الباحثون اهتماما جادا للمجرات القزمة إلا في السنوات الأخيرة، وذلك يعود، ببساطة، إلى كون معظمها ذات سطوع ضعيف جدا. وأشهر مجرتين قزمتين هما السحابتان الماجلانيتان الكبيرة والصغيرة، اللتان تبدوان ساطعتين بسبب قربهما النسبي من مجرتنا (إذ إنهما تبعدان عنها أقل من 000 300 سنة ضوئية). ولا توجد مجرات قزمة أخرى يمكن رؤيتها بالعين المجردة. بيد أن المقاريب القوية، والمكاشيف الحديثة، وعمليات المسح على نطاق واسع، وجدت أن المجرات القزمة تفوق كثيرا في عددها المجرات الكبيرة. إن المجموعة الموضعية (المحلية) Local Group، وهي الحشد المجري الذي تقع فيه مجرتنا، تحوي مجرتين حلزونيتين كبيرتين ـ درب التبانة والمرأة المسلسلة Andromeda ـ ونحو  40 مجرة قزمة. ويبدو أن هذه النسبة بين هذين النوعين من المجرات نموذجية في معظم بقاع الكون القريبة.

 

تسمى بعض المجرات القزمة المجرات القزمة الإهليلجية (الناقصية) dwarfellipticals بسبب هيئتها، ويطلق على أصغر هذه المجرات وأضعفها سطوعا اسم المجرات الكروانية القزمة dwarf spheroidal galaxies. بيد أن معظم المجرات القزمة ليس لها بنية أو شكل بسيطان، ولهذا تسمى مجرات شاذة (لانظامية) irregularsوغالبا ما كان الباحثون يشيرون إليها على أنها لطخات blobs، أو زغب fuzzies، أو بيوض مقلية fried eggs، وهذا يعطي فكرة عن مظهرها النموذجي. بيد أنه يفضل في المطبوعات استعمال كلمة «الشاذة».

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N11_H05_003471.jpg

إن مجرات الاندفاعات النجمية القزمة، مثل المجرة (a) NGC 4212 تحوي تكتلات من نجوم زرقاء فتية محاطة بسحب من الغاز المتوهج. ويمكن أيضا رؤية تكتلات الاندفاعات النجمية في المجرة القزمة (b) NGC 2366؛ وتبين صورة أُخذت عن قرب قرب بمقراب هَبْل الفضائي حشدا كثيفا من النجوم الضخمة المطمورة في سحابة غازية (c). ومن الواضح أن الاندفاع النجمي في المجرة القزمة (d) Zw 0855 + 06 تكوّن نتيجة تلاقيها مع مجرة قزمة أخرى. وقد ولّد هذا التلاقي أيضا جسر النجوم بينهما. ولمجرة الاندفاع النجمي القزمة هنيز (e) 2-10 ذيل مدّي من الغاز جعل الفلكيين يعتقدون أنها ابتلعت مجرة أصغر. ولهنيز 10-2 أيضا أغلفة من الغاز قذفت بوساطة نجوم فتية ضخمة.

 

ليست المجرات القزمة نسخا مصغرة لمجرات أكبر منها. والواقع إن نشوءها وتطورها مدفوعان بآليات مختلفة. فالمجرات الحلزونية، التي لها سحب عملاقة من الهدروجين الجزيئي والهليوم والغبار، يمكنها أن تكوّن نجوما بسهولة. ويحافَظ على شكل أذرع المجرات الحلزونية بموجات الكثافة التي تطلق العنان لتكوّن النجوم، وذلك بضغط هذه الموجات للسحب الجزيئية التي تجتازها. ونتيجة لذلك فإن المجرات الحلزونية لا تكون هادئة تماما أبدا، إذ إنها تضم على الدوام نجوما حديثة الولادة.

 

وبالمقابل، فإن المجرات القزمة تحوي كميات قليلة من الهدروجين الجزيئي، كما تحوي مقادير كبيرة من الهدروجين الذري ـ أي ذرات من الهدروجين تنتشر بحرية بدلا من أن تكون مقيدة، مكونةً جزيئات من ذرتين. وفي مجرة قزمة نموذجية، تكون الكتلة المحتواة في سحب الهدروجين الذري أكبر بعشر مرات من الكتلة المحتواة في النجوم. ولما كانت كثافة هذه السحب تقل عن كثافة سحب الهدروجين الجزيئي، فإن احتمال انهيارها تثاقليا لتولّد نجوما هو احتمال ضعيف. فضلا على ذلك، فإن المجرات القزمة لا تحوي موجات كثافة أو حركات غازية منظمة أخرى تؤدي إلى انهيار هذه السحب. ومن ثم فإن المجرات القزمة تقضي القسم الأكبر من وقتها في حالة هامدة، ففي هذه المرحلة، تكون جميع نجومها ضعيفة السطوع (خافتة) وحمراء اللون وهرمة. والمجرات القزمة التي تحدث فيها اندفاعات نجمية هي الوحيدة التي تحوي نجوما حارة ساطعة زرقاء اللون، وهذا يشير إلى تكوّن نجمي حديث.

 

من الممكن العثور على أدلة على الهمود الذي يحدث طوال حقب طويلة في المجرات القزمة من محتواها الكيميائي. فتكوّن النجوم يغيّر تركيب المجرة: فعندما تدرك النجوم الضخمة نهاية حياتها، تنفجر كمستعرات أعظمية تثري الغاز المجري المحيط بها بالعناصر الثقيلة التي تكونت نتيجة التفاعلات النووية الحرارية thermonuclear في النجم. غير أنه إذا لم تولد نجوم جديدة، فإن المجرة تظل غير متطورة كيميائيا. ومن الممكن تعرّف التاريخ التقريبي لمجرة ما من كميات «المعادن» فيها. وجدير بالذكر أن الفلكيين يطلقون اسم «المعادن» على جميع العناصر الموجودة في المجرات عدا الهدروجين والهليوم (وهذا أمر يستهجنه الكيميائيون). وكلما انخفضت كميات المعادن في مجرة كانت تلك المجرة أقل تطورا.

 

وعموما تنحصر وفرة المعادن الموجودة في المجرات القزمة بين 2 و30 في المئة من تلك الموجودة في جوار الشمس، علما بأن ذروة توزعها هي نحو 10 في المئة. ولا يتمتع سوى القليل من المجرات القزمة ذات الاندفاعات النجمية النشيطة بوفرة في المعادن تقترب من وفرتها في المجرات الحلزونية. وقد زادت الحالة غير المتطورة للمجرات القزمة من احتمال العثور على مجرة بدائية فعلا ـ أي إنها بقيت على حالها من دون تغيير منذ الانفجار الأعظم. هذا وإن المجرتين ذواتي الوفرتين المعدنيتين المنخفضتين اللتين اكتُشفتا حتى الآن ـ وهما مجرتان قزمتان تسميان I Zw 18 وSBS 0335-052  ـ لا تبدوان بدائيتين، إذ يبدو أنهما اجتازتا بضعة أجيال من التكوّن النجمي. ومع ذلك فمازال البحث مستمرا. وفي الوقت نفسه، يمكن للكوسمولوجيين (علماء الكون) أن يدرسوا هذه المجرات بحثا عن الكيفية التي وُلِدت بها الأجيال الأولى من النجوم.

 

الامتلاء بالنجوم

تتسم المجرات القزمة التي تحدث فيها اندفاعات نجمية بمظهر فريد. فهي تحوي لطخات أو تكتلات من نجوم حارة فتيّة زرقاء اللون داخل غلاف أكبر وأضعف سطوعا (أشد خفوتا) مكوَّن من نجوم حمراء اللون أبرد وأَسَنّ. وسطوع المجرات القزمة ذات الاندفاعات النجمية رائع ولافت للنظر. وخلال الاندفاع النجمي، يمكن أن يكون سطوع المجرة القزمة معادلا لسطوع مجرة حلزونية كبيرة، في حين لا يتجاوز سطوع مجرة قزمة هامدة لها الحجم نفسه 1 في المئة أو أقل من ضيائية المجرات الحلزونية الكبيرة، وينشأ كل هذا النشاط عن منطقة صغيرة، إذ إن أقطار مناطق تكتلات الاندفاعات النجمية تكون عادة محصورة بين بضع مئات من السنين الضوئية وألف من هذه السنين. (وأقطار المجرات نفسها أصغر في المعتاد من 6000 سنة ضوئية.) ويحوي كل تكتل ما بين مئات وعشرات الآلاف من النجوم من النمطين – O و- B. ومن الممكن لمجرة قزمة حدثت فيها اندفاعات نجمية أن تحوي الكثير من التكتلات، وهي لا تقع عادة في مركز المجرة.

 

وخلافا لما عليه الحال في درب التبانة ومجرات كبيرة أخرى، فإن المجرات القزمة ذات الاندفاعات النجمية لا تملك توزعا من النجوم من جميع الأعمار؛ فهي لا تحوي عادة سوى تكتلات النجوم الفتية جدا، وغلاف النجوم التي هي أكبر عمرا ببضعة بلايين من السنين. ويقدّر الفلكيون أعمار النجوم في هذه المجرات عن طريق تقصي مراحل معينة للتطور النجمي. وربما كان أهم عمر مميز للنجوم الفتية هو الذي تبلغه في مرحلة وولف-راييت Wolf-Rayet، وهي المرحلة التي تبلغها النجوم الضخمة جدا (التي تتجاوز كتلها 25 كتلة شمسية) حين يكون عمرها محصورا بين مليونين و10 ملايين سنة. وخلال هذه المرحلة، تقوم النجوم بالتخلص من معظم كتلها الابتدائية وقذفها بسرعات تعادل بضعة آلاف من الكيلومترات في الثانية. هذا وإن عرض خطوط الإصدار (البث) للأيونات في هذه المادة المتحركة بمثل هذه السرعة يُكبَّر بوساطة مفعول (تأثير) دوپلر؛ وعوضا عن ظهورها على شكل شُرُط ضيقة في الطيف، فإنها تنتشر باتجاه طرفيه الأحمر والأزرق. وحين يرى الفلكيون هذا التعريض (زيادة العرض) في طيف تكتل اندفاع نجمي يدركون أنه يحتوي على عدد جوهري من نجوم وولف ـ راييت، ومن ثم لا يمكن أن تزيد أعمارها على 10 ملايين سنة.

 

وفي المجرات الكبيرة غالبا ما يكون تكتل اندفاع نجمي متراكبا superimposedمع النواة المجرية الساطعة أو بأحد الأذرع الحلزونية للمجرة، وهذا يجعل عمليات الرصد أكثر صعوبة. زد على ذلك أن الإشعاع الذي يسببه التكوّن النجمي المستمر في هذه المجرات يمكن أن يختلط بالإصدارات الناشئة عن تكتل اندفاع نجمي. ويكون تأثير هذه المشكلة سيئا بوجه خاص في الجزء الراديوي من الطيف. وكما لوحظ سابقا، تقوم النجوم الفتية الضخمة في تكتلات الاندفاعات النجمية بتأيين سحب الغاز المحيطة بها، وينشأ عن هذه السحب إصدارات راديوية ذات طيف حراري، وتختلف شدة هذه الإصدارات في تردداتها بطريقة مميزة. ولكن عندما تتحول النجوم الضخمة إلى مستعرات أعظمية، تُصدر بقايا الانفجار موجات راديوية في طيف غير حراري. والطيف الراديوي لمجرة كبيرة هو اتحاد للإشعاع الحراري الصادر عن الجيل الحالي من النجوم الضخمة، والإشعاع غير الحراري الصادر عن الأجيال السابقة. ومع ذلك فإن الإشعاع غير الحراري يمكن أن يكون أقوى وأن يدوم مدة أطول من الإشعاع الحراري. ومن ثم فإن الإصدارات المميزة الآتية من اندفاع نجمي في مجرة كبيرة غالبا ما تُغمر بإصدارات أخرى.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N11_H05_003472.jpg

من الواضح أن اندفاعا نجميا فتيا في مركز المجرة القزمة NGC 5253 (أعلى اليمين) بدأ عندما ابتلعت هذه المجرة سحابة غازية بين مجرية. إن أفتى جزء من هذا الاندفاع النجمي، الذي ربما كان عمره أقل من مليون سنة، لا يمكن أن يُرى إلا في الصور الراديوية وتحت الحمراء (أعلى اليسار) لأن نجومه مازالت ملفوفة بالسديم الذي تكونت منه. ويعتقد الفلكيون أن الرياح النجمية ستقوم بعد 10 ملايين سنة بقذف الغاز المحيط ـ كما هو مبين في هذه الصورة التي تخيلها فنان (في يمين الصفحة المقابلة) ـ وبأن تكتل الاندفاع النجمي سيتطور بعد عدة بلايين من السنين متحولا إلى حشد كروي، ربما يشبه NGC 6093 في مجرتنا (في يسار الصفحة المقابلة).

 

بيد أننا لم نسمع بعد عن تكون نجمي مستمر في المجرات القزمة، ومن ثم فإن رصد الاندفاعات النجمية يكون أسهل بكثير. وعلى سبيل المثال، ففي المجرتين القزمتين ذواتي الاندفاعين النجميين NGC 5253 وII Zw 40، تكون الإصدارات الحرارية من النجوم الفتية هي وحدها التي ترى؛ لأن الإصدارات الراديوية الآتية من اندفاعات مبكرة للتكون النجمي قد تلاشت. ويمكن استعمال غياب الإصدارات غير الحرارية لتقدير العمر: ويعني هذا أن أيا من النجوم في تكتل الاندفاع النجمي لم يتحول بعد إلى مستعر أعظمي، ومن ثم فإن عمر الاندفاع النجمي لابد أن يكون أقل من العمر الذي تنفجر فيه هذه النجوم الضخمة (وهو بضعة ملايين من السنين). ويتفق هذا التقدير مع أرصاد أخرى تشير إلى أن الاندفاعين النجميين في NGC 5253 وII Zw 40 هما أحدث الاندفاعات التي رصدت حتى الآن.

 

تتعذر الرؤية الضوئية لأكثر جزء من الاندفاع النجمي فتوة في NGC 5253، ذلك أنه مازال محجوبا بسحابة الغاز والغبار التي تكوّن منها. بيد أن ثمة دراسة مفصلة بينت أن إصدارَيْه الراديوي وتحت الأحمر مركزان في منبع صغير جدا يُعتقد أنه تكتل مؤلف من 000 100 من النجوم الفتية للغاية، موجود في منطقة قطرها محصور بين نحو ثلاث وست سنوات ضوئية. إن حجم هذا المنبع ومحتواه النجمي يشبهان إلى حد بعيد حجم الحشود الكروية globular clustersومحتواها النجمي ـ وهذه الحشود هي تكتلات نجمية كثيفة كروية تُرى في درب التبانة ومجرات كبيرة أخرى.

 

غير أن أعمار الحشود الكروية في درب التبانة تساوي على الأقل عدة بلايين من السنين، وهي تحوي أقدم النجوم في هذه المجرة. والنتيجة المنطقية هي أن مجرتنا لم تكوّن حشودا كروية طوال عدة بلايين من السنين، أو أن جميع الحشود التي تكوّنت حديثا مُزِّقت ودمرت بفعل الإجهادات التثاقلية عندما كانت هذه الحشود تسير في مداراتها عبر قرص المجرة. وربما كانت الاندفاعات النجمية في NGC 5253  ومجرات قزمة أخرى أيضا حشودا كروية في دور التكوّن. وإذا كان الأمر كذلك فقد تَكْشف النقاب عن سمات مخفية من تاريخ مجرتنا.

 

ومع ذلك، يتعين علينا التذكر أن ما هو صحيح في المجرات القزمة قد لا يكون صحيحا دائما في المجرات الكبيرة. ويتجلى أحد هذه الفروق المهمة في ظاهرة الانتشار النجمي star propagation ـ أي الكيفية التي يمكن بها أن تؤدي ولادة  نجوم في جزء من المجرة إلى تكوّن نجوم في جزء آخر منها. ويثير التوزع العشوائي الظاهر لتكتلات الاندفاعات النجمية في المجرات القزمة السؤال عن كيفية انتشار تكوّن النجوم عبر مجرة ليس لها أذرع حلزونية أو حركات غازية منظمة أخرى. والنموذج المفضل حاليا لهذه الكيفية يسمى التكون النجمي الاتفاقي الذاتي الانتشار Self-Propagating Stochastic Star Formation. وفي هذا النموذج، يُطْلِق تكتُّل اندفاع نجمي في جزء من المجرة العنان لاندفاعات نجمية ثانوية في أجزاء أخرى. وتُحدِث النجوم الفتية الضخمة الموجودة في المركز الأول من النشاط اضطرابا في الغاز الموجود في منطقة مجاورة من خلال الرياح النجمية والتأيين ونشاطات طاقية أخرى. بعد ذلك ينهار الغاز ويبدأ اندفاعا نجميا خاصا به. وتستمر العملية إلى حين لا يبقى في موضع ما، ما يكفي من الغاز لتمكين النجوم الفتية من التأثير فيه. ويبدو هذا النموذج ملائما لتقدم عملية التكون النجمي في المجرات القزمة، غير أن من المحتمل أن يكون غير قابل للتطبيق في المجرات الحلزونية. ويبقى سبب الانفجار النجمي الابتدائي سؤالا مفتوحا.

 

إن السؤال عن كيفية انطلاق الاندفاعات النجمية هو سؤال مهم في المجرات الكبيرة وأيضا في المجرات القزمة. ومما لا شك فيه أن الأجوبة عن هذا السؤال تختلف باختلاف المجرات. بيد أن أفضل دراسة تمت كانت عن مجرات اندفاع نجمي قزمة يبدو أنها متآثرة مع أجسام فلكية أخرى، أو مندمجة فيها، أو ممتصة لها. وعلى سبيل المثال، فإن II Zw 40 تبدو مكوّنة من مجرتين قزمتين مندمجتين [انظر الشكل في الصفحتين 32 و33]. أو انظر في هنيز Henize 2-10، وهي مجرة قزمة كبيرة نسبيا ذات اندفاع نجمي ناضج نسبيا (عمره قرابة 10 ملايين سنة)، التي يعتقد الفلكيون أنها التهمت مجرة أصغر منها بكثير، وربما كان ذلك قبل 100 مليون سنة. وقد جرى امتصاص المجرة الصغيرة، ولم يظل مرئيا منها سوى ذيل مدّي من الغاز ممتد من هنيز 10-2 [انظر الشكل في الصفحة 34]. وتتآثر مجرة الاندفاع النجمي القزمة Zw 0855 + 06 مع مجرة قزمة أخرى (لم يحدث فيها اندفاع نجمي) قريبة قربا كافيا يمكِّنها من إحداث اضطرابات مدّيّة في المجرة. وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى.

 

لقاءات المجرات القزمة

إن اللقاءات القريبة مع المجرات الكبيرة تُحدث اندفاعات نجمية أيضا. هذا وإن الاصطدامات والاندماجات التي تحدث بين المجرات لا تؤثر في النجوم الموجودة فيها ـ فالنجوم في مجرة لا تصطدم في الغالب بنجوم مجرة أخرى وذلك لوجود مسافات شاسعة بين النجوم، حتى في أكثف أجزاء المجرات. لكن التآثرات يمكن أن تؤثر تأثيرا شديدا في السُّحُب الغازية للمجرات التي تتعرض إلى صدمات وانضغاطات وإجهادات تثاقلية تجعلها تتشظّى وتنهار وتكوّن نجوما. وهذه العمليات لا بد أن تجري في المجرات القزمة بكفاءة مماثلة لجريانها في المنظومات الأكبر.

 

بيد أن الكثير من المجرات القزمة ذات الاندفاعات النجمية لا تلاقي مجرات قزمة أخرى بل منظومات أصغر حجما وأضعف سطوعا منها. وإذا كانت المجرات القزمة تمثل السمكة الصغيرة في البركة السماوية، فما هي الأسماك الأصغر التي تأكلها السمكة الصغيرة؟ يعتقد بعض الفلكيين أن هذه المنظومات الصغيرة هي سحب من غاز ذري (هدروجين في الأغلب) كتلها تقع بين مليون و10 ملايين كتلة شمسية. وعلى سبيل المثال، فربما جمعت المجرة NGC 5253مادتها من سحابة غازية صغيرة (كتلتها نحو مليون كتلة شمسية) كانت موجودة في الفضاء بين المجري. وقد أجرى الفلكيون بحوثا راديوية حساسة لكشف وجود سحب غازية بين مجرية تتسم بإصدارات مميزة للهدروجين الذري. وقد وجدوا أنه في المجرات القزمة ذات الاندفاعات النجمية يكون وجود مثل هذه السحب الغازية كرفقاء أكثر احتمالا من وجودها في المجرات القزمة التي لم تحدث فيها اندفاعات نجمية.

 

والفرضية القائلة بأن الاندفاعات النجمية في المجرات القزمة يمكن أن تطلقها تآثرات مع مجرات قزمة أخرى أو مع سحب غازية بين مجرية، قد تفسر سبب حدوث الاندفاعات متشتتة هنا وهناك وبفواصل زمنية طويلة. ولكن، ما الذي يوقف الاندفاع النجمي؟ قد نجد الجواب في سمة لافتة للنظر للمجرات القزمة التي حدثت فيها اندفاعات نجمية، إذ إن كثيرا منها إما محاط ببنى ضخمة من الغاز المؤيّن وإما حاو لهذه البنى. ولهذه البنى شكل الأصداف أو الفقاقيع أو الهالات أو شوكات الطعام، أو المداخن. وتعكس هذه البنى الحياة النشيطة للنجوم الفتية الضخمة التي تولِّد دفقاتٍ خارجية قوية من الغاز. وإذا كانت هذه النجوم ضخمة بقدر كاف، فمن الممكن أن تجتاز طور وولف ـ راييت ثم تموت كمستعرات أعظمية. هذا وإن الأكثر احتمالا هو أن تكون الأصداف والفقاقيع التي ترى في المجرات القزمة التي حدثت فيها اندفاعات نجمية هي بقايا رياح كثيفة تعود إلى طور وولف ـ راييت وانفجارات مستعرات أعظمية.

 

ويمثل الفقد الكبير في الكتلة صفة مميزة لجميع النجوم الفتية الضخمة، ولا يقتصر هذا الفقد على تلك النجوم الموجودة في المجرات القزمة. ثم إن الفقاقيع المؤينة والأعمدة والخيوط تُرى أيضا في المجرات الكبيرة التي تحدث فيها اندفاعات نجمية، لكن هذه البنى تمتد خارج المجرات القزمة مسافات أكبر بكثير من امتدادها خارج المجرات الكبيرة. والتفسير ببساطة هو أن الكتلة الأصغر والثقالة الأضعف لمجرة قزمة تمكنان الغاز المقذوف من الابتعاد مسافة أكبر عن المجرة، وفي كثير من الحالات، فإنهما تمكنانه من الإفلات كليا من المجرة. إن الاندفاعات النجمية هي، بوضوح، ذاتية الكبح ـ إذ إن النشاط النجمي الطاقيenergetic يمزق الغاز بين النجمي الذي يعتمد عليه تكوّن النجوم ويكبح عملية الاندفاع. والنجوم الأقل ضخامة المكوَّنة في الاندفاع النجمي، والتي لا تتحول إلى مستعرات أعظمية، تندمج في الغلاف التحتي للمجرة القزمة المؤلف من نجوم حمراء غير ساطعة. ثم تعود المجرة إلى حالتها الهامدة، إذ تتوقف عن كونها مجرة اندفاعات نجمية قزمة وتتحول إلى مجرة قزمية عادية غير منتظمة تنتظر لقاءها التالي مع مجرة أخرى.

 

وتقوم المجرات القزمة ذات الاندفاعات النجمية بجذب المزيد من الاهتمامات البحثية مع تحسن الإمكانات الرصدية. إن المقاريب الكبيرة الضوئية وتحت الحمراء الموجودة في الفضاء والمقامة على الأرض، وصفيفات الموجات المليمترية والراديوية، والسواتل التي تستكشف الإشعاع العالي الطاقة، كل هذه مكّنتنا من رصد التكوّن النجمي في المجرات القزمة بتفصيل لم يسبق له مثيل. وإذا ما ركّز الفلكيون اهتمامهم على هذه المنظومات الديناميكية، فإنهم يستطيعون دراسة ظواهر لا يمكن رؤيتها في أي مكان آخر من الكون. ومن الواضح أن المجرات القزمة ذات الاندفاعات النجمية هي من أفضل الأمثلة على أشياء جيدة عُثِرَ عليها في رزم صغيرة.

 

 المؤلفة

Sara C. Beck

محاضِرة أولى في مدرسة الفيزياء وعلم الفلك التابعة لجامعة تل أبيب. حصلت على الدكتوراه في الفيزياء عام 1981 من جامعة كاليفورنيا في بركلي. تتركز اهتماماتها البحثية الرئيسية في تكوّن النجوم في مجرتنا وفي غيرها من المجرات. وهي تستعمل الصور والأطياف تحت الحمراء والراديوية والمليمترية الموجة في بحوثها. كما أنها زميلة زائرة في JILA بجامعة كولورادو في بولدر، حيث بدأت أفكارها حول المجرات القزمة بالتبلور.

 

مراجع للاستزادة 

COLLIDING GALAXIES. J. Barnes, L. Hernquist and F. Schweizer in Scientific American, Vol. 265, No. 2, pages 26-33; August 1991.

WOLF-RAYET PHENOMENA IN MASSIVE STARS AND STARBURST GALAXIES. Edited by Karl A. van der Hucht et al. IAU series, Vol. 193. Astronomical Society of the Pacific, 1999.

THE RADIO SUPER NEBULA IN NGC 5253. J. L. Turner, S. C. Beck and P. T. P. Ho in Astrophysical Journal Letters, Vol. 532, No. 2, pages L109-L112; April 1, 2000.

Scientific American, June 2000

(*) Dwarf Galaxies and Starbursts

(1) وهو مجرة غريبة يتميز إشعاعها بانزياح نحو الأحمر شديد وبشدة سطوع عالية وبنواة غاية في الصغر. وتعد الكوازارات أشد الأجرام المعروفة سطوعا وأكثرها بعدا عنا. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى