أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الاجتماععلم النفس

التعايش مع الازدحام

التعايش مع الازدحام(*)

يقول رأي شائع إن الكثافة السكانية المرتفعة سوف تؤدي لا محالة

إلى انتشار العنف. ولكن هذه الأسطورة التي تستند إلى أبحاث عن

سلوك القوارض لا تنطبق على البشر ولا على الرئيسيات الأخرى.

<M .B .F. دي وال> ـ < F. أوريلّي> ـ <G.P. جدج>

 

في عام 1962 نشرت ساينتفيك أمريكان مقالة كتبها الخبير النفسي التجريبي <جون B. كالهون>، بعنوان: “الكثافة السكانية والأمراض الاجتماعية”. وقد بدأت المقالة بداية مثيرة بملاحظة من <توماس مالتوس> [العالِم الديموغرافي الإنكليزي الذي عاش في القرن الثامن عشر]، وهي أن النمو السكاني يفضي تلقائيا إلى شيوع الرذيلة والبؤس. ومضى كالهون في تدوين ذلك، إذ بيَّن أنه على الرغم من قناعتنا بأن الزيادة السكانية تسبب انتشار المرض و نقص الغذاء، فنحن في الواقع لا نفهم شيئا عن تأثيرها في السلوك.

 

ألهمت هذه الأفكار كالهون أن يجري تجربة مفزعة بوضع سلالة من الفئران السريعة التكاثر في حجرة مكتظة، فلاحظ أنها شرعت على الفور في قتل بعضها بعضا، وانتشرت بينها الاعتداءات الجنسية، وانتهت إلى أكل لحوم بعضها بعضا. وقد حدث الكثير من هذا السلوك عند الفئران التي عاشت في قطاع تغذية مركزي(1). ومع وفرة الطعام في أمكنة أخرى من هذه الحجرة، فقد انساقت هذه الفئران نحو الإثارة الاجتماعية، وأخفق الكثير منها في الوصول إلى أوعية التغذية المركزية. هذه التجمعات المرضية pathological togetherness، التي وصفها كالهون ـ إلى جانب الفوضى والانحراف السلوكي فيها ـ دفعته إلى صياغة عبارة “الانحطاط السلوكي” behavioral sink.

 

وسرعان ما بدأ البعض بالتبسيط والتعميم، وذلك بمقارنة سلوك هذه الفئران بحالات إثارة الشغب الموجهة توجيها سياسيّا في الشوارع، ومقارنة سلوك الأفراد داخل المدن بالانحطاط السلوكي للفئران، وكذلك مقارنة المناطق الحضرية بحدائق الحيوان. ومع إطلاق التحذيرات من أن المجتمع يتجه إلى الفوضى والدكتاتورية، أشار الصحفي العلمي الأمريكي < R. أردري> في عام 1970، في دراساته للطبيعة الاختيارية للازدحام البشري، قائلا: “مثلما اختارت فئران كالهون بمحض إرادتها أن تأكل في الحظائر الوسطى، فنحن أيضا ندخل المدينة بمحض إرادتنا.” وسرعان ما أصبحت آراء كالهون معتقدات مركزية في الأدبيات الكثيرة التي تناولت السلوك العدواني.

 

وفي التعميم من سلوك القوارض إلى سلوك البشر، قفز هؤلاء المفكرون والكتاب قفزة فكرية هائلة. فعند النظر إلى التجمعات البشرية نستطيع أن ندرك الإشكالية في هذا التعميم. يمكنك، على سبيل المثال، أن تقارن بين معدلات جرائم القتل وعدد السكان في الكيلومتر المربع الواحد في دول مختلفة، مثلما فعلنا نحن، مستخدمين بيانات حصلنا عليها من الكتاب الديموغرافي السنوي للأمم المتحدة (طبعة العام 1996). فإذا ما كانت الأمور تسير بشكل سهل ومباشر، فلا بد أن تتغير الظاهرتان (الكثافة السكانية ومعدل الجريمة) في الاتجاه نفسه. ولكنه عوضا عن ذلك، لم تتضح أي علاقة ذات دلالة إحصائية بينهما.

 

ولكن ربما يجادل بعضهم في أن مثل هذه العلاقة قد طمست، بسبب تفاوت مستوى الدخل القومي أو التنظيم السياسي أو حدوث متغيرات أخرى. ولكن على ما يبدو فإن الدخل لا يؤثر في ذلك؛ فقد قسمنا الدول إلى ثلاث مجموعات: دول السوق الحرة (المفتوحة) ودول الكتلة الشرقية السابقة ودول العالم الثالث، ثم قمنا بإجراء التحليل مرة أخرى. وفي هذه المرة وجدنا ارتباطا ذا دلالة ولكنه كان في الاتجاه المعاكس: لقد اتضح أن أكثر الجرائم العنيفة تم ارتكابها في البلاد الأقل ازدحاما بالسكان في الكتلة الشرقية السابقة. كما كان الاتجاه مشابها في دول السوق الحرة، ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية، التي أظهرت أعلى معدلات جرائم القتل، على الرغم من قلة الكثافة السكانية؛ في حين أن هولندا (حيث الكثافة السكانية أكثر 13 مرة) كان معدل جرائم القتل بها أقل ثماني مرات.

 

ولما كان من المعروف أن الجريمة أكثر شيوعا بصفة عامة في المناطق الحضرية مما هي عليه في المناطق الريفية، فقد قمنا بتعديل البيانات تبعا لنسبة سكان المدن الكبيرة إلى إجمالي السكان في كل دولة، وعزلنا تأثير هذه النسب في النتائج. ولكن ما قمنا به من تعديل لم يُظْهِر ارتباطًا إيجابيًّا بين كثافة السكان ومعدلات القتل. إن الارتباط بين سعة المكان المتاح والسلوك العدواني عند البشر ليس واضح المعالم، هذا إن وُجِد أصلا. وربما يعود ذلك إلى التأثير البالغ للعوامل التاريخية والثقافية.

 

وحتى إذا ما نظرنا إلى تجارب بشرية على نطاق محدود، فلن نجد ما يدعم ما نسعى إليه.. فالحشود الهائلة من الأطفال وطلبة الكليات ـ على سبيل المثال ـ ينتج منها أحيانا إثارة وعدوانية متوسطة الشدة، ولكن معظم الأشخاص أظهروا الكثير من المهارات لتجنب الصراعات. وقد وجد < S .A. بوم> ومساعدوه [في قسم الطب النفسي في جامعة الخدمات الموحدة Uniformed Services University] أن المقيمين في المساكن الطلابية الذين يشاركون غيرهم في المرافق السكنية يقضون وقتا أقل في التفاعل الاجتماعي فيما بينهم، ويتركون أبواب حجراتهم مغلقة أكثر مما فعل أقرانهم الذين يعيشون في أمكنة أكثر اتساعا. وقد استنتج <بوم> أن تأثيرات الازدحام ليست بهذا القدر الخطير، كما كان يُفْتَرض. وقد نُشر في الثمانينات الكثير من البيانات (المعطيات) التي بدأت تقوّض وتهدم ـ في المجتمع العلمي على الأقل ـ فكرة أن البشر والفئران يتشابهون في استجاباتهم وبالطريقة نفسها إذا ما تعرضوا للازدحام. ففي المجتمع الحديث عادة ما يحتشد الناس في تجمعات كبيرة ـ في أثناء انتقالهم ـ يوميًّا من مساكنهم إلى أعمالهم، أو أثناء رحلات التسوق في الإجازات والمواسم ـ ويتحكمون في سلوكهم تحكما جيدًا جدًّا في معظم الأوقات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H03_00360.jpg

منذ عصر توماس مالتوس، ساد الاعتقاد بأن النمو السكاني سوف يؤدي إلى نتائج وخيمة، مثل انتشار الأمراض والنقص في الموارد والانحرافات الاجتماعية. وبدا الأمر وكأن الدراسات التي أجريت على القوارض تؤكد هذه النظرة المتشائمة. ولكن ليس هناك دليل على أن البشر يتأثرون بطريقة مشابهة، إذ يبدو أننا نستطيع التعامل مع الحشود الكبيرة بطرق جيدة في معظم الحالات.

 

أما عن نموذج كالهون، فيجب أن نستنتج أنه لا ينطبق على السلوك البشري بشكل عام. هل هذا بسبب أن ثقافتنا وذكاءنا يجعلاننا متميزين، أو لأن التعامل مع الازدحام هو جزء من إرث تاريخي قديم؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نرجع إلى الرئيسيات primates.

 

الرئيسيات تختلف عن الفئران

لقد أظهرت بحوث الرئيسيات في البداية دعمًا لذلك السيناريو المؤلم الذي قُدِّم عن الفئران. ففي الستينات أشار العلماء في بحوثهم إلى أن القرود التي تعيش في المدن بالهند كانت أكثر عنفا من أقرانها التي تعيش في الغابات. وقد ادعى علماء آخرون أن القرود التي تعيش في حدائق الحيوان تتميز بعنف زائد. إن هذه القرود كانت محكومة، كما يبدو، بذكور مرعبة سيطرت على مجموعة الحيوانات نتيجة للعيش في الأسر. وبكلمات أخرى، تميزت الحياة البرية الطبيعية لهذه الكائنات بالسلام والمساواة. وامتدادا لبعض الدراسات التي تتسم بالتبسيط والتعميم، تناولت دراسة منها الازدحام عند مجموعات صغيرة من قرود البابون baboon تعيش متزاحمة في حدائق الحيوان. ذهبت هذه الدراسة إلى حد تشبيه سلوك هذه الكائنات بسلوك البشر في أحياء الگيتو(2)  المغلقة، وهو السلوك المعروف باسم شغب الگيتوghetto riots.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H03_00361.jpg

من ثلاثة مواقع مختلفة، أظهرت قرود الريزوس معدلات متباينة من سلوك الألفة والملاطفة بعضها نحو بعض. ويبدو أن القرود تتوافق مع ظروف الازدحام بزيادة تواتر السلوك الودي والمداعبة. فقد لوحظ تزايد سلوك المداعبات عند الذكور، سواء فيما بينها أو بينها وبين الإناث، عندما تعيش في أمكنة مزدحمة مقارنة بسلوكها عندما تعيش في أمكنة أكثر رحابة وسِعَة. أما الإناث من غير الأقرباء فقد كان العنف منتشرا بينها، وازدادت حدته نتيجة للازدحام، ولكنه كان مقترنا بزيادة في المداعبة، مما أدى إلى انخفاض المنازعات والصراع.

 

وبتقدم الأبحاث تجمعت نتائج متضاربة، إذ يبدو أن الكثافة السكانية المرتفعة تزيد من السلوك العدواني بين الحين والآخر، ولكن العكس أيضا صحيح. فقد وصف تقرير ـ على سبيل المثال ـ الصراع الضاري والقتل اللذين حدثا عندما وُضعت مجموعة من قرود الماكاك macaque في حظيرة أكبر 733 مرة من تلك التي كانت بها سابقا، ثم عندما أعيدت القرود بعد عامين ونصف إلى حظيرة صغيرة مزدحمة؛ ارتفع السلوك العدواني إلى المستوى السابق نفسه.

 

وفي حين أن دراسة قرود الماكاك اعتمدت على تغيير كثافة المجموعة من خلال تغيير البيئة، فقد تناولت دراسة حديثة الموضوع ذاته بإضافة قرود جديدة إلى المجموعات الموجودة سابقا. وبسبب طبيعة القرود ـ وهي الخوف من الغرباء ـ اقتصرت هذه الاختبارات على قياس السلوك العدواني تجاه الغرباء، وهو يختلف كلية عن تأثير الكثافة العددية. وتبين أنه كلما أمكن إجراء ضبط أفضل لهذه التجارب، ازدادت الصورة غموضا. فقد أدت زيادة الكثافة العددية إلى ازدياد السلوك العدواني في إحدى عشرة دراسة فقط من بين سبع عشرة دراسة مصممة جيدا أجريت في العقود القليلة الماضية.

 

أما في الوقت الحالي فقد تغيرت النظرة إلى الرئيسيات البرية wild primates، إذ لم تعد هي المخلوقات المسالمة التي تعيش في ظلال المساواة كما كان يعتقد. ففي السبعينات بدأ العاملون الميدانيون بملاحظة حالات متفرقة من العنف، لكنها مميتة، عند أنواع عديدة من الرئيسيات، بدءا من قرود الماكاك إلى قرود الشمپانزي chimpanzee، وكذلك لاحظوا ثمة تحديدًا دقيق المعالم للتسلسل الهرمي (المراتبي) الذي بقي ثابتا على مدى عقود من الزمان. هذه النظرة إلى الحياة المفعمة بالقلق لتلك الكائنات أكدها الباحثون عندما وجدوا مستويات عالية من هرمون الكورتيزول(3) في دم القرود البرِّية [انظر: “المعاناة من الكرب عند الحيوانات الطليقة”، مجلة العلوم، العدد 4 (1992) ، ص 355].

 

ومع تزايد التعقيد في النظرة إلى الرئيسيات، وضعف السيناريو “المعتمد” حول الفئران بسبب تلك الأمثلة المتناقضة، بدأ الباحثون يتساءلون أتطورت لدى الرئيسيات آلية للتخفيف من سلوك الصراع في الأماكن المزدحمة. وقد رأينا أول إشارة إلى هذا الاحتمال في دراسة أجريت في حديقة الحيوان في مدينة أرنم Arnhem بهولندا، على أكبر مستعمرة في العالم تضم قرود الشمپانزي. لقد عاشت هذه القرود في فصل الصيف في جزيرة رحبة فسيحة تملَؤُها الغابات، أما في فصل الشتاء، فتم حشر هذه القرود بعضها مع بعض في مبنى مدفأ. ومع أن المساحة التي وضعت فيها صغيرة، بنسبة عشرين مرة مقارنة بتلك التي عاشت فيها في فصل الصيف، لم يرتفع العدوان عند هذه القرود إلا بنسبة ضئيلة. والواقع إن تأثير الازدحام لم يكن سلبيّا تماما، بل كانت هناك جوانب إيجابية فيه، تمثلت في إبداء العطف والرعاية friendly grooming من بعض هذه القرود لبعضها الآخر. وكذلك كانت هناك تحيات متبادلة، سواء عن  طريق القبلات أو عن طريق اللمسات الحانية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H03_00362.jpg

تتصف قرود الشمپانزي في البرية بعلاقات إقليمية territorial عدائية مع المجموعات الأخرى، وتنزعج الشمپانزي التي تعيش في الأسر من ضجيج جيرانها. وبمتابعة القرود تحت ظروف ثلاثة ـ تلك التي تعيش في أمكنة مزدحمة وتستطيع سماع جيرانها، وتلك التي تعيش في أمكنة مزدحمة من دون سماع هذه الأصوات المقلقة، وتلك التي تعيش في أفنية كبيرة منعزلة (الصورة السفلى) ـ أمكن قياس درجة الترابط بين السلوك العدواني والمكان والكرب. وتبين (الصورة جهة اليسار) عدم تغير السلوك العدواني، في حين اختلف مستوى الكرب نتيجة لضجيج الحيوانات المجاورة. فقد ظهر أن أكبر زيادة في مستويات الكورتيزول (هرمون الكرب) كانت لقرود الشمپانزي القاطنة في أمكنة صغيرة وتعرضت لسماع ضوضاء من مجموعات أخرى.

 

وقد تساءلنا أخفّف هذا السلوك الاسترضائي عند هذه الكائنات من حدة التوتر؛ ولذا بدأنا في استجلاء هذه الإمكانية. ومن دون إغفال حقيقة أن الازدحام يزيد من فرص نشوب الصراعات؛ فقد تنبأنا بأن الرئيسيات تستخدم استراتيجيات مضادة تتضمن تجنب المعتدين المحتملين وإظهار سلوك التهدئة أو تأمين الاتصال الجسدي(4). ولاحتمال أن تكون بعض هذه المهارات المستخدمة في تجنب العداء مكتسبة، فإن استجابات التعايش الأكثر فاعلية يمكن توقعها عند الحيوانات التي سبق أن عاشت تجربة كثافة عددية مرتفعة لفترة طويلة. وربما تمكنت هذه الكائنات من تطوير أشكال مختلفة من “الثقافة الاجتماعية” (السلوك الاجتماعي)، على غرار ما يفعله البشر في البقاع المختلفة من الأرض، في تبني معايير مختلفة تتعلق بالخصوصية وبالمسافة الشخصية والمناطق المريحة والآمنة المحيطة بالجسد. فعلى سبيل المثال، يوضح الكثير من الدراسات أن البيض في أمريكا الشمالية والبريطانيين يحتفظون بمسافات أكبر فيما بينهم في أثناء المحادثة، مقارنة بما يفعله العرب وشعوب أمريكا اللاتينية.

 

ثقافة التعايش

لقد سعينا إلى إيجاد عدة مجموعات من القرود تعود إلى النوع نفسه ولكنها تعيش في ظروف متباينة، للتحقق من وجود اختلافات سلوكية يمكن تمييزها. وقد جُمعت بيانات تفصيلية عن 122 قردا من نوع الريزوس rhesus من ثلاثة مواقع في الولايات المتحدة الأمريكية: من حظائر ضيقة نسبيّا بمركز وسكونسن لدراسة الرئيسيات في ماديسون، ومن حظائر واسعة مفتوحة في مركز يركيس للرئيسيات بأطلنطا، وفي جزيرة مورگان القريبة من ساحل كارولينا الجنوبية. وقد حظيت قرود المجموعتين الأخيرتين بمكان متسع يزيد 2000 مرة على المكان المخصص لكل حيوان في المجموعة الأولى ذات الكثافة العددية المرتفعة. وتجدر الإشارة إلى أن أفراد المجموعات الثلاث كانوا قد عاشوا كل مع مجموعته لعدة سنوات ولعدة أجيال، وكانت تتضمن قرودا من الجنسين. وكذلك كانت هذه المجموعات تتلقى الرعاية من بني البشر، إذ حظيت بالطعام والشراب والعلاج البيطري، مما يجعلها قابلة للمقارنة.

 

يتكون مجتمع الريزوس عادة من عدد من المجموعات الفرعية التي تعرف ب”السلالات الأمّوية”(5) matrilines، والمؤلفة من الإناث الأقارب وذرياتها. فإناث هذه القرود تبقى معا مدى الحياة، في حين أن الذكور تترك عند البلوغ المجموعة التي ولدت فيها. كذلك تميز قرود الريزوس تمييزا تامّا بين الأقارب وسواهم، إذ يتم التواصل الودي الحميم بين أفراد المجموعة التي تنتمي إلى السلالة الأموية نفسها، كما أن الإناث في السلالة الأمّوية الواحدة تدعم بعضها بعضا بضراوة في العراك ضد السلالات الأموية الأخرى. وبسبب تنظيمها الهرمي الدقيق من جهة وطبيعتها المشاكسة من جهة أخرى، تعد قرود الريزوس نماذج مثالية للدراسة. ولقد قدرنا أنه إذا أظهرت هذه الرئيسيات العدوانية استجابات تآلفية coping responses، فإن فرضيتنا تكون قد صمدت لأصعب الاختبارات.

 

كان أول اكتشاف لنا ـ وهو ما أدهشنا ـ أن الكثافة العددية للقرود لم تؤثر في السلوك العدواني للذكور منها ولم تجعلها أكثر عنفا. فالذكور البالغة دخلت في تواصل ودي متزايد تحت ظروف الازدحام، إذ زادت من ملاطفتها ورعايتها للإناث. وبدورها أكثرت الإناث من ملاطفة الذكور ورعايتها. (إن الملاطفة والرعاية يُعدّان سلوكا مهدئا، ففي دراسة أخرى أوضحنا أن معدل ضربات القلب لدى القرود يتباطأ حينما تجري ملاطفتها). كذلك كشفت الإناث عن أسنانها للذكور بصورة أكثر تواترا، وهو أسلوب الريزوس في إظهار الخضوع ومحاولة الاسترضاء وتهدئة العدوانية المحتملة لدى القرود المسيطرة.

 

لقد أظهرت الإناث استجابات مختلفة نحو الإناث الأخريات من السلالة الأموية نفسها؛ فقد تصارعت أكثر، ولكن من دون أن تغير من سلوكها الأصلي الذي يتسم بالتآثر الودي فيما بينها. أما في تعاملها مع السلالات الأموية الأخرى، فقد أظهرت المزيد من العدوانية أيضا، ولكنها اقترنت بالمزيد من الملاطفة والرعاية وإظهار تعابير الحنو والاستسلام.

 

بدت هذه الاكتشافات معقولة في ضوء الاختلافات بين العلاقات مع الأقارب والعلاقات مع سواهم. فالأقارب الإناث ـ كالأخوات والأمهات والبنات ـ ترتبط فيما بينها برباط وثيق يقاوم حالات الخصام. فقد اعتادت قرود الريزوس أن تدبر أمورها وتهدئ من صراعاتها العائلية مهما تكررت، ومن ثم فهي تسوي خلافاتها التي تنتهي بتواصل ودي. وظهر أن للازدحام تأثيرا ضعيفا في تغيير هذا السلوك باستثناء دفعه القرود إلى إعادة ترميم العلاقات العائلية بصورة أكثر تواترا. ولكن الازدحام يتسبب في خلق صراعات خطيرة بين السلالات الأموية المختلفة لقرود الريزوس؛ ففي الظروف العادية يكون التواصل الودي بين هذه السلالات نادرا، ويغلب عليها العداء. ولكن تناقص فرص الهرب من الأمكنة المزدحمة المغلقة يسهم في تصعيد المشاحنات. وتفيد البيانات المتوافرة لدينا أن إناث قرود الريزوس تبذل مجهودا مكثفا لتحسين علاقاتها المعرضة للتدهور في مثل هذه الظروف.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H03_00363.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H03_00364.jpg
إن تأثير المصعد يساعد على إيضاح كيفية تعامل قرد الشمپانزي، وكذلك الإنسان، مع الازدحام. فخلال فترات وجيزة من الازدحام، غالبا ما يعمد الناس إلى الحد من تآثراتهم الاجتماعية باعتبارها وسيلة لتجنب الصراعات (الصورة في اليمين). وتسلك قرود الشمپانزي سلوكا مماثل بتخفيض تآثراتها العدوانية (الصورة في الأعلى والشكل في اليمين). وهذا لا يعني أن ظروف الازدحام لا تتسبب في القلق، فقرود الشمپانزي المحبوسة في أمكنة ضيقة تميل إلى حك نفسها بدرجة أكبر وهو دليل على حالة الكرب التي تعانيها.

 

الانفعالات تحت الاختبار

وفي مشروع بحثي آخر، حوَّلنا اهتمامنا إلى قرود الشمپانزي؛ فهذه القرود هي الأقرب شبها إلى الإنسان من ناحية الشكل والخصائص النفسية والقدرات المعرفية. وكذلك يشابه التنظيم الاجتماعي للشمپانزي كثيرا ذلك الذي لدى الإنسان؛ مع روابط قوية بين ذكورها ـ وهي روابط نادرة في الطبيعة ـ تتميز بالتبادلية وفي الاعتماد على الأمهات في تربية الذرية. وفي البرية نجد قرود الشمپانزي متشبثة بأرضها extremely territorial، وأحيانا تغزو أراضي جيرانها وتقتل الذكور من أعدائها. وبطبيعة الحال، فإنها إذا ما وضعت في الأسر، توقفت مثل هذه التصادمات بينها.

 

لقد جمعنا بيانات عمّا يزيد على 100 شمپانزي من مجموعات مختلفة تعيش في مركز يركيس للرئيسيات. ومع أن بعض المجموعات عاشت في مساحة لا تتعدى 10% مما عاشت فيه مجموعات أخرى، لم يتضح أن للازدحام أي تأثير محسوس في سلوك العدوان عندها. وعلى عكس الكثير من القرود، تحافظ قرود الشمپانزي على السلوك الودي وعلى سلوك الملاطفة والاسترضاء، بصرف النظر عن المواقف التي تتعرض لها. فإذا كان الازدحام قد أثار بالفعل توترات اجتماعية، فإن قرود الشمپانزي على ما يبدو قد تمكنت من ضبط هذه التوترات مباشرة.

 

في العادة، نحن لا نرى أن الحيوانات تستطيع أن تتحكم في انفعالاتها، ولكن الأمر مختلف بالنسبة إلى الشمپانزي. إن تلك القرود معروفة بسلوكها المضلل؛ فهي ـ على سبيل المثال ـ تخفي نواياها العدوانية خلف وجه وديع هادئ، حتى يقترب الغريم ويصبح في متناول اليد. وفي دراستنا هذه، وجدنا أن الضبط الانفعالي(7) عند قرود الشمپانزي ينعكس أثره في طريقة استجابتها للإصدارات الصوتية للمجموعات المجاورة. وتلك الأصوات عادة ما تثير صياحا واستعراضات هجومية، وهي التي يستخدمها الشمپانزي في البرية لرد أي تعديات على منطقته الخاصة.

 

أما في الأمكنة الضيقة فإن قرود الشمپانزي تظهر ردود فعل مثيرة وهياجا عظيما. وقد وجدنا أن قرود الشمپانزي التي تعيش في أكثر الأمكنة ازدحاما تتفاعل مع الإصدارات الصوتية لجيرانها بنسبةٍ أقل بثلاث مرات من تلك القرود التي من فصيلتها وتعيش في أمكنة مفتوحة. وقرود الشمپانزي لديها الذكاء الكافي والمهارة الكافية لكبت استجاباتها للمؤثرات الخارجية، إذا ما أحست أنها قد تسبب لها المتاعب. ولقد وجد العاملون الميدانيون أن ذكور الشمپانزي أثناء قيامِها “بأعمال الدورية” في مناطقها الخاصة تكتم كل ضوضاء قد تصدر عنها إذا ما أحست أنها مرصودة من جيرانها، حتى تستبين الأمر تماما وتتأكد من أن الضوضاء لا تضر بها.

 

  إن كبت الاستجابات الطبيعية لا يكون من دون تكلفة. فنحن نعرف أن الكرب (الإجهاد) stress المستمر يمكنه أن يخمد(8) النظام المناعي للجسم، ومن ثم يؤدي إلى تأثيرات ضارة بالصحة وطول العمر [انظر: “التآثر في المرض بين العقل والجسد”، مجلة العلوم ، العدد 2/3 (1999) ، ص4 ]. وقد طورنا تقنيتين غير باضعتين nonintrusive لقياس الكرب عند الشمپانزي. إحدى هاتين التقنيتين هي تسجيل معدل حك قرود الشمپانزي لنفسها… تماما مثلما يحك أحد الطلبة رأسه حينما يواجه سؤال صعبا في امتحان ما، دلالة على القلق. أما التقنية الأخرى فهي جمع عينات غائطية (برازية)(9) لقرود الشمپانزي، وتحليلها لاكتشاف تركيز الكورتيزول فيها. وقد تبين من هذين الاختبارين التقنيين أن مجموعات قرود الشمپانزي التي تعيش في أمكنة ضيقة وتسمع الإصدارات الصوتية لجيرانها، تعاني كربا أكبر. ولكن عامل ضيق المكان ذاته لم يكن عامل سلبيّا مسببا للمشكلة، فقد وجد أن قرود الشمپانزي التي تعيش في مساحات صغيرة ولكنها خالية من جيران تثير الضوضاء، كانت تحافظ على مستوى الكرب نفسه كما لو كانت تعيش في مكان رحب فسيح.

 

وبما أن قرود الشمپانزي بينت أن الازدحام لم يجعلها أكثر عدوانية، فهذا لا يعني بالضرورة أنها قرود سعيدة بهذا الازدحام أو أنها تنعم بالراحة والاسترخاء فيه، ولكنها ربما تسعى جاهدة للمحافظة على الهدوء والسلام. أما إذا كان بإمكانها الاختيار، فإنها ستختار الأمكنة الفسيحة. وبقدوم فصل الربيع، حينما تسمع قرود الشمپانزي الموجودة في حديقة الحيوان بمدينة أرنم البابَ المؤدي إلى جزيرتها المكشوفة يُفتح أول مرة، فإنها تملأ المبنى بأغنيات جماعية تعبر عن الفرح الغامر، ثم تندفع خارجة من أمكنتها لتشارك في هذا الاحتفال الصاخب بقدوم الربيع، وتبدأ جميع القرود ـ صغيرها وكبيرها ـ بمداعبة بعضها بعضا، وتتبادل القبلات والأحضان، ويضرب كل واحد قرينه على ظهره مداعبا.

 

بل إن الصورة تبدو أكثر تعقيدا إذا ما أخذنا في الاعتبار فترات قصيرة من (الازدحام الشديد). إنها خبرة يومية في المجتمع البشري، سواء وجدنا أنفسنا في حافلة للنقل داخل المدن أو في صالة عرض سينمائي. وخلال الازدحام الشديد تظهر قرود الريزوس تصاعدا في سلوك العدوان المتوسط الشدة، كتهديدها بعض من حولها، ولكنه لا يصل إلى حد العنف. إن هذا التهديد يهدف إلى إبقاء الآخرين على مسافة كافية وتجنب الاتصال غير المرغوب فيه. وكذلك تتجنب القرود بعضها بعضا وتحد من الروابط الاجتماعية النشطة فيما بينها، وكأنها بذلك تحاول البقاء خارج دائرة الاضطرابات، وذلك باستلقائها على الأرض فاترة وذليلة.

 

أما قرود الشمپانزي، فهي تدفع بهذا الانسحاب التكتيكي خطوة إلى الأمام. فهذه الحيوانات في الواقع أقل عدوانية عندما تتعرض للازدحام لمدة قصيرة، وهذا يعكس ضبطا انفعاليّا أكبر. إن رد فعلها هذا يستدعي تذكر سلوك الناس في المصعد؛ إذ يحاولون تقليل الاحتكاك فيما بينهم، بالحد من حركات أجسادهم وبتجنب التبادل البصري فيما بينهم وبعدم التحدث بصوت عال. إننا نتحدث عن تأثير المصعد في سلوك الناس، باعتباره أحد السبل لإظهار كيف يسلك الإنسان والرئيسيات الأخرى في التعامل مع أخطار الأمكنة المغلقة مؤقتا.

 

إن أبحاثنا تقودنا إلى استنتاج مفاده أننا نتاج سلالات طويلة من الحيوانات الاجتماعية، القادرة على إظهار المرونة والتوافق مع جميع الظروف ـ طبيعية كانت أو غير طبيعية، كالحظائر المزدحمة وشوارع المدن. وهذا التكيف الطبيعي ربما لا يكون من دون تكلفة، ولكنه بالتأكيد أفضل من البديل المخيف المستمد من دراسات القوارض.

 

ومع ذلك يجب أن نضيف أنه حتى الانحطاط السلوكي لفئران كالهون، يجب ألا يفترض أنه نتيجة الازدحام فقط. وإن التنافس للحصول على الطعام يبدو وكأنه يؤدي أيضا دورا في هذا السلوك. وهذه الإمكانية تحمل في طياتها تحذيرا خطيرا لجنسنا البشري من هذا العالَم الذي يتفاقم ازدحامه بالسكان. فالمتشائمون الذين يتنبئون بأن الازدحام سوف يمزق النسيج الاجتماعي لا محالة، ربما أخطئوا التقدير. فنحن بني البشر لدينا ذكاء طبيعي لم يقدر حق قدره، يمكِّننا من التعامل المناسب مع الازدحام، ولكن الازدحام المتداخل مع ندرة الموارد أمر آخر.

 

المؤلفون

Frans B. M. de Waal – Filippo Aureli – Peter G. Judge

يشتركون في اهتمامات بحثية عن العلاقات الاجتماعية والاستراتيجيات السلوكية للرئيسيات. وعملهم في جوانب هذا الموضوع سوف يظهر في كتاب “تحليل الصراع الطبيعي” المزمع نشره في مطبعة جامعة كاليفورنيا. دي وال هو مؤلف سياسة الشمپانزي والشمائل الطيبة، وقد عمل لعدة سنوات في حديقة حيوانات أرنم بهولندا، قبل مجيئه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث هو الآن مدير مركز الروابط الحية في مركز يركيس الإقليمي لأبحاث الرئيسيات بأطلنطا، وأستاذ لعلم النفس في جامعة إيموري. وأوريلّي هو محاضر أول في قسم العلوم البيولوجية والجيولوجية (علوم الأرض) في جامعة ليفربول بإنكلترا. أما جدج فهو أستاذ مساعد في جامعة بلومسبرگ بپنسلڤانيا وباحث مشارك في مركز يركيس.

مراجع للاستزادة 

THE HIDDEN DIMENSION. E. T Hall. Doubleday, 1966.

CROWDING. A. Baum in Handbook of Environmental Psychology, Vol. 1. Edited by D. Stokols and I. Altman. Wiley,1987.

THE MYTH OF A SIMPLE RELATION BETWEEN SPACE AND AGGRESSION IN CAPTIVE PRIMATES. F. B. M. de Waal in Zoo Biology supplement, Vol. 1, pages 141-148; 1989.

INHIBITION OF SOCIAL BEHAVIOR IN CHIMPANZEES UNDER HIGHDEN-SITY CONDITIONS. F.  Aureli and F. B. M. de Waal in American Journal of Primatology, Vol. 41, No. 3, pages 213-228; March 1997.

RHESUS MONKEY BEHAVIOUR UNDER DIVERSE POPULATION DENSITIES: COPING WITH LONG-TERM CROWDING. P. G. Judge and F. B. M. de Waal in Animal Behaviour, Vol. 54, No. 3, pages 643-662; September 1997.

Scientific American, May 2000

(*) Coping with Crowding

(1) central feeding section

(2) الگيتو: الأحياء المغلقة الخاصة بالأقليات التي تعيش في حالة من العزلة في المدن الكبرى.

(3) هرمون الضغوط العصبية النفسية. (التحرير)

(4) reassuring body contact

(5) التي ترتبط بانتسابها للأم.

(6) self-scratching (التحرير)

(7) emotional control

(8)suppress

(9)fecal samples

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى