أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الآثارهندسة معمارية

نابادا: مدينة دفينة في شمالي سورية

نابادا: مدينة دفينة في شمالي سورية(*)

كشفت الحفريات في شمالي سورية حاضرة(1) نابادا التي تأسست

قبل 4500 عام. لقد نافست بإدارتها المُحْكمة وحضارتها تلك الحضارات

التي تمتعت بها المدن الأسطورية في جنوبي بلاد الرافدين.

<J. بريتزشنايدر>

 

منذ نهاية القرن التاسع عشر وعلماء الآثار يسعون جاهدين إلى الكشف عن تاريخ الشرق الأدنى القديم، وتتبُّع الآثار التوراتية للمنطقة. وقد ركزوا اهتمامهم على الهلال الخصيب الواقع بين نهري الفرات ودجلة في العراق، حيث تقع خرائب دول المدن القديمة: آشور وبابل وأور وأوروك. إن العمارة والرُّقُم(2) والأدوات الأخرى تمثل تاريخا صاخبا ابتدأ قبل أكثر من 5000 عام. لقد افترض العلماء أنه هنا فقط، جنوبي بلاد الرافدين، كانت مراكز القوة وأصول الحضارة والمدنية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00340.jpg
تل بيدر عام 1927، قبل المباشرة بأعمال التنقيب تظهر الصورة الأكروبولس القديم في تل بيدر عند الغروب. في مقدمتها صالة الاحتفالات في القصر. ومن المحتمل أنه تمت هنا استضافة بعض حُكّام المقاطعات المجاورة. وgلإبراز خصوصية المكان طُليت جدرانه وأرضياته بالكلس الأبيض بعناية بالغة. وكان القصر مقاما على عدة مستويات، كما تبين الصورة الحاسوبية الصغيرة (في الصفحة المقابلة). وحول القصر وجدت المناطق السكنية وسور المدينة، ولم يتبق من السور حتى الآن سوى جزء بسيط. وتشير المنخفضات إلى مواقع بوابات المدينة. وفي خلفية الصورة تشاهد قرية حديثة.

 

وحتى عهد قريب كانت السهوب الواقعة شمالي بلاد الرافدين (في سورية حاليا) مهملة إلى حدٍّ كبير من قبل علماء الآثار. ولكن عندما قطعت الحرب التي نشبت بين العراق وإيران في الثمانينات، الطريق إلى المواقع الجنوبية، أُجبر علماء الآثار على إعطاء اهتمام أكبر للمناطق المحيطة. لقد باشر فريق عمل برئاسة <M. لوبُو> [من المركز الأوروبي لدراسات المنطقة العليا لبلاد الرافدين] و<أنطون سليمان> [من مديرية الآثار والمتاحف في سورية] بإجراء حفريات في تل بيدر، وهو تل كبير يبرز وسط السهوب المنبسطة قرب نهر الخابور. وكان الفريق يتشكل من <K. فان ليربيرگ> [من جامعة لوڤِن] و<Ph. تالون> [من جامعة ڤينيسيا (البندقية)] و<L. ميلانو> [من جامعة بروكسل] و<بريتز شنايدر> [من جامعة مُنستِر]. وكان هذا التل يشير إلى وجود مدينة دفينة منذ زمن بعيد. وبعد ثماني سنوات من البحث والتنقيب المكثفين نستطيع أن نقول إن تل بيدر لم يخيّب الآمال.

 

لقد عثر علماء الآثار داخل التل الدائري، الذي يرتفع نحو 28 مترا، على مجمع يكاد يكون بحجم قلعة ترويا Troy القديمة. ومن الواضح أن هذه المدينة، التي كانت تُعرف في العصور القديمة باسم نابادا، تمتعت بأوج ازدهارها خلال أوائل العصر البرونزي، بين عامي  2800 و2200 قبل الميلاد (ق.م)، وقد تركَّزت التنقيبات على هذه الفترة. وكان هدفنا تعرّف كيف نشأت دول المدن(1) ـ تلك الحواضر التي حكمت الأرياف المجاورة لها، وفي بعض الأحيان، مدنا أخرى في شمالي بلاد الرافدين. وكما يظهر بوضوح من خلال الرُّقُم والأختام فإن إدارة معقدة كانت قد تطورت في ذلك الزمان.

 

في بعض الأمكنة، ظهرت طبقات العصر البرونزي على السطح مباشرة، في حين لم تظهر هذه الطبقات في أمكنة أخرى إلا على عمق بضعة أمتار. لقد كان جميع أعضاء الفريق تقريبا، سواء كانوا من الجهاز العلمي أو الطلبة، يعملون من دون مقابل، وبذلك فإن العطل الصيفية في الجامعات الأوروبية هي التي كانت تُملي طول مدة حملة التنقيب: من نهاية الشهر 8 حتى نهاية الشهر 10. وكنا نقوم بالعمل بهمَّة ونشاط تحت أشعة الشمس اللاهبة والعواصف الرملية وبين العقارب أحيانا. وكنا نشرع في العمل من الساعة الخامسة صباحا ونستمر في العمل في وسط خانق من العرق والغبار حتى الواحدة بعد الظهر، عندما نعود إلى الظلال لمعالجة وتسجيل وتحليل اللُّقى التي كشفناها. ويُستأنف الحفر في وقت متأخر من بعد الظهر؛ وعندما تغيب الشمس بسرعة عند الساعة السادسة كان علينا أن نعمل تحت الأضواء الكهربائية وأحيانا تحت أضواء الشموع. وفي الليل يخيم قناع من السكون الملائكي على الموقع الآبد.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00341.jpg

مدن شمالي بلاد الرافدين

إن السهوب الواقعة في شمالي بلاد الرافدين قرب نهر الخابور، والتي تقع في سورية، هي موطن للعديد من خرائب المدن الآبدة، بما في ذلك نابادا. لقد وصلت نابادا إلى أوج ازدهارها في الألف الثالث ق.م.، عندما كانت السلطة السياسية والاقتصادية مركّزة في مراكز كبيرة قليلة: كيش، لاگاش، أومّا، أور، وأوروك في العراق وفي خويرة ، إيبلا، ماري، ناگار، نابادا، وتوتول في شمالي سورية.

استُخدمت نابادا والمدن الأخرى المجاورة محطات مراقبة للقوافل المسافرة على الطرق القديمة (الخطوط الحمراء)، وذلك بين الأناضول (تركيا حاليا) وبابل أو بين مصر وبلاد الرافدين. وقد كشف علماء الآثار مجموعة منوعة من الأدوات في نابادا تعكس دور المدينة كمركز ثقافي وتجاري (الصور في اليسار).

 

في أوائل القرن العشرين أقام عالم الآثار الألماني <M. ڤون أوبنهايم> الدليل على أن الأمكنة الفسيحة، المهجورة في الوقت الحاضر، والواقعة شمالي سورية كانت مستوطنة بكثافة في الأزمنة الغابرة. ويعرف الآثاريون الآن نحو 300 تل تبرز بجلاء من السهول المنبسطة. وفي أحد هذه التلال، وهو تل حلفHalaf  ، وجد <ڤون أوبنهايم> فخاريات مميزة التشكيل والتكوين يعود تاريخها إلى الألف الخامس قبل الميلاد. كما قام بمسح بعض التلال الدائرية اللافتة للنظر، التي تتحلق حول المجرى الأعلى لنهر الخابور. إن مثل هذا التل، والذي سماه “Kranzhügel”، أي التل الإكليلي، يكون محاطا بحلقة هي بقايا سور دفاعي دائري من لبنات الآجر الطيني. وقد أشار <ڤون أوبنهايم> إلى أن السويّات الأدنى لهذه المدن كانت قد أُسست في الفترة الزمنية نفسها تقريبا، وكانت تشكل وحدة سياسية وحضارية، أو ما يسمى حضارة التلال الإكليلية(3).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00342.jpg

 

ومن المكتشفين الآخرين في منطقة نهر الخابور الإنكليزي <L .E .M. مُولوان> الذي قام بحفريات في تل براك، وهو جبل يُعرف حاليا بأنه يخبئ داخله مدينة ناكار، كما قام بحفريات في تل شغر بازار Chagar Bazar، وهو موقع أصغر بكثير. وفي عام 1958 باشر فريق صغير يرأسه <A. مورتكات> [من جامعة برلين الحرة] بدراسة منهجية لتل خويرة، وهو تل دائري بقطر يبلغ نحو كيلومتر واحد. وقد كشفت الحفريات اللاحقة في تل خويرة عن مجمع مدني يعود تاريخه إلى النصف الأول من الألف الثالث. ومع أن خويرة كانت مشكَّلة من لبنات الآجر الطيني المجفف تحت أشعة الشمس، كما كان شائعا في الحواضر جنوبي بلاد الرافدين، فإن معابده كانت مبنية على بلاطات حجرية ضخمة.

 

أما مَن بنوا تل خويرة ومن أين أتوا فيبقى لغزا. ومن الغريب واللافت للنظر أن تل بيدر، وهو التل الدائري الوحيد الآخر الذي يجري التحري عنه بشكل منهجي، مختلف تماما وبشكل واضح.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00343.jpg

أثاث مرصع بالعاج 1400 ق.م

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00344.jpg

زهرية احتفالية، 1400 ق.م

 

لقد ميّزنا في تل بيدر بين ثلاث مراحل من الاستيطان. ويقوم الباحثون بتأريخ هذه المراحل باستخدام تقنيات عدة في آن معا: مقارنة الاتجاهات في تصميم الفخاريات؛ وقياس وجود الكربون المشع في الرماد وفي المخلَّفات الأخرى من أصل عضوي؛ وإيجاد الصلة بين الأسماء التي تظهر على الرُّقُم وبين تلك التي تم الحصول عليها من مصادر أخرى. وفي رأيي فإن عدم التثبت من التواريخ يبلغ نحو 50 إلى 100 عام فقط، مع أن علماء آخرين يختلفون حول ذلك.

 

مدينة إكليلية(4)

لقد بدأت أول وأهم مرحلة بتأسيس نابادا نحو 2800 ق.م. ومن الواضح أنه تبعا لمخطط موضوع أنشأ البناؤون تجمعا سكنيا دائريا بقطر 100 متر. وقد حَمَوه ببناء سور بسماكة خمسة أمتار، بني على قاعدة جسرية. وكان يخترق هذا السور أربع بوابات تشاهد حاليا على شكل فتحات في السور الخارجي المدفون. وتلتصق بالجانب الداخلي للسور مساكن الفلاحين ومحلات الحرفيين، كما هي الحال في مدن القرون الوسطى في أوروبا. لقد تم حتى الآن الكشف عن نحو 20 مترا قرب السور، والذي كانت قاعدته المرتفعة تستخدم على ما يبدو، مقبرة.

 

إن هذه القبور، التي يقع بعضها أيضا تحت البيوت، تزودنا بمفتاح للغز المعتقدات الدينية للناس. ففي إحدى الحالات يؤدي ممر رأسي Shaft إلى حجرة الدفن المبنية من اللبنات الطينية والمسدودة بالأختام. والرجل الميت، وهو على ما يبدو شخصية رسمية مهمة، يستلقي في وضعية جانبية مع وضع الساقين في حالة القرفصاء (وضعية جنين) محاطا بالأسلحة والمجوهرات والفخاريات لتسهيل مروره إلى العالم الآخر، كما كان قبر آخر مزودا بفأس من البرونز وجرار خزفية مملوءة بالقمح، إضافة إلى أشياء أخرى. وبينما كان الجنود يُدفنون مع أسلحتهم، كان الحرفيون يوارون التراب مع عُددهم. ويدلل غنى تنوع هدايا الدفن على الترتيب الطبقي للمجتمع.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00345.jpg

الحياة داخل أسوار نابادا

أسست نابادا نحو 2800 ق.م. وذلك بإنشاء تجمع سكني دائري بقطر 600 م. حمى السكان الأوائل مدينتهم بسور سماكته 5 أمتار، وقد بني على مصطبة مرتفعة (الشكل أدناه). وحتى قبل المباشرة بأعمال التنقيب في نابادا كانت الأسوار الخارجية للمدينة واضحة في الصحراء السورية (الصورة العلوية في اليسار). وقد تم الكشف عن نحو 20 مترا من تلك المصطبة. وفي أحد هذه القبور يوصل ممر شاقولي إلى حجرة الدفن، التي كانت مبنية بلبنات طينية وكانت مختومة. أما الرجل الميت، وهو على ما يبدو أحد المسؤولين المهمين فيستلقي في وضع القرفصاء (كالجنين في بطن أمه) محاطا بالهدايا كالأسلحة والمجوهرات والفخاريات، التي كان يظن أنها تُسهِّل له المرور إلى العالم الآخر (الصورة السفلية في اليسار). وكان ثمة سور داخلي بقطر 300 متر يحمي قلب هذا التجمع السكني، وعلى ارتفاع 20 مترا أُقيم قصر نابادا (وسط الصورة). وكان المجمع الملكي يغطي مساحة  60x 50 مترا مؤلفا من 50 غرفة في الطابق الأرضي وحده. وكانت هناك ساحة مركزية يتم الوصول منها بسهولة إلى غرف القصر الكثيرة.

 

وتصف مصادر بابلية لاحقة أحد القبور على أنه مدخل إلى العالم السفلي، مكان للّعْنةِ الذي لاعودة منه؛ وأن تقديم الطعام والشراب من قبل الأقارب يؤدي إلى تغذية روح الميت في هذا العالم المظلم والكئيب. ومن الواضح أن مواطني نابادا كانوا يعتنقون معتقدا مشابها.

 

وثمة سور داخلي بقطر 300 متر كان يحمي قلب التجمع السكني، وربما كان يُسمح للتجار بأن يمضوا لياليهم بين السورَيْن، ليكونوا في مأمن من اللصوص وقُطّاع الطرق، لكن من دون أن يشكلوا خطرا على مواطني نابادا النائمين. وربما كان السور المزدوج يُؤوي الفلاحين من المناطق المجاورة عند وقوع الاضطرابات. ومن البوابات كانت تنطلق شوارع شعاعية (قطرية) تنتهي إلى الرابية المركزية التي كان يبرز فوقها قصر. وكانت تصطف على جوانب شوارع المدينة مجمّعات من المنازل تملأ الفراغ بين القصر وسور المدينة الداخلي. وكانت توجد منظومة لتصريف المياه المستهلكة من المنازل وساحة القصر إلى قنوات تقع تحت الشوارع والأزقة المرصوفة.

 

وفي القسم الشرقي من المدينة كان يوجد مبنى يبلغ طوله 27 مترا، مازالت جدرانه قائمة حتى ارتفاع ثلاثة أمتار. وكانت تصل بين الغرف الأربع التي يتألف منها المبنى، أبواب أعلاها مقوس. وتُظهِر قواعد سفلية في الجدران أن الغرف كانت لها أرضية مرتفعة من الخشب لتخزين القمح أو الصوف، وكانت المواد المخزَّنة تبقى جافة بفضل التهوية من الأسفل. وتشير المستودعات بهذا الحجم إلى عمليات اقتصادية معقدة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00346.jpg

 

ومن المذهل أن المدينة داخل تل بيدر لا تحتوي، مقارنة بحجمها، إلاّ على عدد قليل من المنازل، وقد تألف معظمها من قصر شامخ كقلعة على حصن مركزي يبلغ ارتفاعه 20 مترا. (أي إن ثمة 20 مترا على الأقل من السويات الحضارية والخرائب التي تعود لقصور متعددة، جميعها من أوائل العصر البرونزي، تقع أسفل الحفريات الحالية). لقد كان المجمع الملكي يغطي مساحة تبلغ 50x 60 مترا، ويتألف من نحو 50 غرفة في الطابق الأرضي فقط. ومازالت مجموعة من الجدران المشكلة من اللبنات الطينية محافظة على حالتها بشكل ممتاز، وترتفع حتى 4 أمتار ولها أبواب مازالت سليمة أعلى معظمها مقوس وقد كُسيت جدران عدة غرف منها بطينة كلسية بيضاء ناعمة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00347.jpg

 

وكانت هناك ساحة مركزية واسعة توفر اتصالا سهلا بغرفه المتعددة. وكانت جدران الغرف مزيّنة بأفاريز مرصّعة بعناقيد العنب الطينية. كما كانت توجد أدراج توصِل إلى صالة العرش (حيث كان الملك يجتمع برعاياه) وإلى صالات الاحتفالات على مستوى أعلى. وهذه الغرف، كما يستنتج المهندسون المعماريون من مذابحها وأشكالها المميزة الأخرى، كانت لها ملاحق مزودة بممرات شاقولية من الطين النضيج (التِّرَاكوتا) بعمق 20 مترا. وربما كانت الغرف الصغيرة تُستخدم لطقوس التغسيل والطهارة، وكانت القنوات فيها لتصريف المياه.

 

ومن هذه الساحة الكبيرة يمكن الوصول إلى ساحة أخرى صغيرة تقع في الجنوب الشرقي منها. ومن هذه الساحة الصغيرة كانت هناك سلالم أخرى تؤدي إلى المستوى الأعلى، حيث كان هناك على ما يبدو جناح لسكن الحاكم. وكانت تحيط بكامل القصر غرف مستودعات مازالت مملوءة بجرار فخارية ضخمة كانت يوما تطفح بالمواد. وكان الجزء الجنوبي من القصر يتميز بوجود كوى جدارية ومنصات تقديم القرابين. وربما كانت أضرحة الحكام تدفن تحت الأرضية تبعا للتقاليد السورية القديمة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00348.jpg

أختام اكتشفت في نابادا

يمكن الحصول على صورة عن شكل الحياة في نابادا من دمغات الأختام. ولإنتاج ختم من هذه الأختام كان المسؤولون في القصر يدوّرون أسطوانة حجرية محفورة بدقة على طين مبلّل؛ وعندما يجف الطين يكون قد تم ختم الأوعية أو الوثائق أو حتى الأبواب. تمثل العديد من الدمغات بعض الاحتفالات، أو الحركة النشيطة على الطرق التجارية أو الحروب أو الأنشطة الدبلوماسية. تبين الصورة في اليسار ختما يمثل استعمال العربات في الاحتفالات الدينية وفي الحروب.

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00349.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00350.jpg

 

في عام 1999، كشف المنقبون عن مجموعة من المصاطب المثيرة للاهتمام، وهي تشير إلى أنه من المحتمل أن نجد قريبا سلالم ضخمة تؤدي إلى القصر من البوابة الجنوبية للسور الخارجي. وربما كانت هذه السلالم تشكل منحدرا شديد الميل أو هرما درجيا تصطف عليه المعابد، وربما كان كل ذلك يشكل مدخلا ضخما لكبار الزوار والمواكب المرافقة لهم.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00351.jpg

لغة جديدة

إن الكتابات التي وجدت في نابادا غير عادية، فالخط سومري في حين أن اللغة سامية. وتمثل الرقُم (الألواح) التي وجدت في تل بيدر (الصورة في اليسار) أكبر مجموعة من النصوص السامية القديمة التي وجدت في منطقة الخابور. وقد ترجم خبراء اللغات هذه الرموز. ونشاهد أدناه نموذجا لمعجم هذه اللغة.

 

القيود المحاسبية في نابادا

في عامي 1993 و1994 حقق المنقّبون اكتشافا مدهشا: فقد وجدوا مجموعة من الألواح الفخارية (الرقُم) تحتوي على سجلات بالغة الدقة للحسابات اليومية للقصر. ومنذئذ عثرنا على 170 لوحا مخطوطة بحروف مسمارية كتلك المعروفة في جنوبي بلاد الرافدين. وقد كانت معظم الرقُم جزءا من أرضية المبنى؛ مما يدل على أنها كانت قد طُرحت ثم أعيد استعمالها كمادة للبناء. وقد مررنا مؤخرا بكومة من النفايات الملقاة على سور القصر تحتوي على العديد من الرقُم. ويعود تاريخ هذه الوثائق المخطوطة إلى 2350 ق.م. إن عمرها يجعلها مفتاحا مهما للحضارة.

 

وهذه الرّقُم هي من الغرابة بمكان من ناحية أن الكتابة عليها سومرية ولكن اللغة سامية. ويفترض علماء اللغات القديمة أن الساميين هاجروا إلى بلاد الرافدين نحو نهاية الألف الرابع ق.م.، مختلطين بالسومريين، حيث هيمنوا في النهاية على حضارة هذه البلاد. وقد اعتمدوا الكتابة السومرية ـ وهي الوحيدة التي كانت موجودة ـ للتعبير بها عن لغتهم الخاصة بهم. تمثل رقُم تل بيدر أكبر مجموعة من النصوص السامية القديمة التي عُثِر عليها في منطقة الخابور.

 

لقد قدّمت لنا المدن الملكية السامية ماري وإيبلا وثائق تاريخية مهمة عن هذه الفترة. فمدينة ماري التي اكتشفت في الثلاثينات من القرن العشرين تقع في منتصف الطريق بين جنوبي بلاد الرافدين وشماليها، مشكلّة نقطة اتصال بين الحضارتين. ونحو عام 2400 ق.م. كانت هذه المدينة تحكم معظم المنطقة الواقعة في شمالها. أما إيبلا فقد اكتشفت في عام 1968 من قبل فريق إيطالي من جامعة روما. وقد وجد الآثاريون فيها سجلا واسعا من الرقُم المسمارية، والتي تصف العلاقات التجارية مع ناگار Nagar وماري. وقد قيل إن ناگار كانت تقع على طريق تجاري دولي يصل بين الجبال التي كانت غنية بخاماتها وبين جنوبي بلاد الرافدين، وكان مركزها الرئيسي في كيش Kish.

 

تتحدث بعض الرُّقم، التي تم تحليلها وتفسيرها من قبل <W. سالابيرگر> [من جامعة ميونيخ] عن قرى صغيرة مجاورة تديرها نابادا. وتُعلِمُنا مجموعة من النصوص عن العناية التي كان يلقاها المسافرون، مع تدوين دقيق لحجم الوجبات للإنسان والحيوان. ويصف أحد النصوص إحدى عشرة مجموعة مؤلفة من 44 حمارا أخدريا onager ـ وهي نوع من الحمر الوحشية التي يوجد بعض منها اليوم في شمالي إيران ـ تمت رعايتها أربعة أيام، مما كلف المدينة كميات كبيرة من الحبوب. وقد استنتج سالابيرگر من نصوص أخرى أن حمرا أخدرية من نوعية عالية كانت تُربّى في منطقة نابادا وقد امتد الاتجار بها إلى مئات الكيلومترات، وصولا إلى مدينة إيبلا.

 

كما يأتي ذكر ملك ناگار في أحد النصوص. وعلى ما يبدو، فقد حكم هذا الملك نابادا نحو عام 2350 ق.م. وقد جاء في هذا النص أن الملك زار «المقاطعة» province، والمقصود هنا نابادا، في بعض المناسبات كاجتماعات المجالس والطقوس الاحتفالية. وقد وُجِد مؤخرا لوح مدوّن عليه الأشياء الشهية التي قُدِّمت إلى امرأة اسمها پابا Paba، والتي يحتمل أن تفون ملكة ماري وزوجة الملك إيبلول-إيل Iblul-il. وتوضح زيارتها مدى العلاقات السياسية الذي وصلت إليه المدينة.

 

أما الفعاليات اليومية في هذه المدينة الأثرية فتظهرها كذلك طبعات الأختام. فقد كان لدى الشخصيات المهمة في القصر أسطوانات حجرية منحوتة بدقة، كانوا يديرونها على كتل من الطين لختم الأبواب والحاويات والوثائق [انظر الشكل في الصفحة 10]. وقد عثرنا في تل بيدر على العديد من الأختام على بعض الأوعية وأبواب غرف المستودعات، وكذلك على مداخل المعبد وغرفة العرش. وربما كانت هذه الغرف لا تُفتح إلا في مناسبات معينة. إن كثيرا من هذه الأختام هي قطع فنية منمنمة تصور احتفالات، حركةَ سير نشيطة على طرق تجارية، حروبا وأنشطة دبلوماسية.

 

يعرف المؤرخون الآن أن السلطة السياسية والاقتصادية في بلاد الرافدين كانت خلال النصف الأول من الألف الثالث ق.م. مركزة في مراكز كبيرة قليلة. وهكذا، فقد كان من بين هذه المراكز مدن مثل كيش ولاگاش Lagash وأُومّا Umma وأور Ur وأوروك Uruk الواقعة في العراق حاليا، وكذلك خويرة وإيبلا وماري وناگار Nagar وأوركيشUrkesh ونابادا وتوتّول Tuttulالواقعة في شمالي سورية (وتعود لهذه الحقبة كذلك الطبقات المبكرة في ترويا في شمال غربي آسيا الصغرى، كما يعود إلى هذه الحقبة الاحتلال المبكر لطرابلس على الساحل اللبناني). لقد كان في كل من هذه المدن أسوار دفاعية وقصور ومستودعات ومجمعات من المعابد.

 

إن البنية الاقتصادية والسياسية لجنوبي بلاد الرافدين مفهومة جيدا نسبيا. فالإنتاج الزراعي المزدهر سمح بتربية المواشي محليا. وقد مكّن الفائض في الغذاء المهارات الحرفية والإدارية أن تتفتح وتنمو، كما أن التجارة المزدهرة بالمواد الخام كالنحاس حثّت على تطوير السلطة والقوة المركزية، كما حثت على الاقتتال. وربما كان التجديد الأبعد أثرا هو حرفة الكتابة.

 

وليس من الواضح إن كانت المدن الشمالية قد اتبعت نمطا مشابها. وكما هي الحال في الجنوب ربما كانت المدن الكبيرة تسيطر على مناطق واسعة ذات طرق تجارية حيوية. ويبدو أن نابادا والمدن الأخرى المجاورة لها عملت كمحطات مراقبة للقوافل المسافرة على الطرق القديمة الواصلة بين الأناضول (تركيا حاليا) وبابل، أو بين مصر وبلاد الرافدين. وكان يتولى الحكم عائلات مهمة ومجلس من كبار السن، كما هي الحال في الجنوب. وكانت تقدم القرابين للآلهة المحليين. وقد أدى نمو عدد التجمعات السكانية إلى نشوب نزاعات مسلحة حول حقوق المياه والأراضي الزراعية والمراعي والتحكم في طرق التجارة.

 

وتبقى أسئلة كثيرة من دون إجابة عنها. فالمؤرخون يودّون أن يعرفوا من هم الذين أسسوا نابادا والمدن الشمالية الأخرى، ومن أين أتوا، وأية لغة تكلَّموا، وما هي المبادئ السياسية والأخلاقية التي كانت ناظمة لمجتمعهم. إضافة إلى ذلك يبدو أن نابادا تتميز بوضوح عن التل الدائري الآخر، الذي قمنا بدراسته وهو تل خويرة. (على أية حال، فإن تل خويرة أقدم من المستويات التي كشفنا عنها حتى الآن في تل بيدر؛ لذا فإن المقارنة المباشرة لا يمكن إجراؤها). فالعمارة في خويرة هي عمارة حجرية (وليس فقط من اللبنات الطينية كما في نابادا). والناحية الأكثر أهمية هي أن عمليات الحفر مدة 15 عاما لم تثمر أي دليل حول الكتابة . وهذا يدعو إلى الاحتمال أن نابادا كانت مرتبطة بجنوبي بلاد الرافدين أكثر من تل خويرة، الذي كانت له علاقات أقرب مع الحضارة في تركيا.

 

وبعد 500 عام من الازدهار أصبحت نابادا مهجورة في نحو عام 2350 ق.م. لماذا؟ إننا لا نعرف ذلك. والمدن الأخرى المعروفة في شمالي بلاد الرافدين آلت إلى الزوال في الوقت نفسه. فربما قام ملوك «أكّاد» Akkad الذين غزوا عددا من دويلات المدن في بلاد الرافدين بحرق نابادا مثلما فعلوا بإيبلا. ولكننا لم نجد في نابادا أية مؤشرات إلى حريق أو تدمير.

 

ولعل بعض التغييرات المعمارية تزودنا بمفتاح لحل هذا اللغز. فقبل هجرة قصر نابادا بقليل أضاف قاطنوه مبنى دينيا جديدا وقاموا بتجديد عدد من غرف الطقوس الدينية. فهل كان هذا الإجراء ذو الطابع الديني قد تم تنفيذه بسرعة نتيجة لحدث طبيعي ما، كالجفاف والقحط؟ أو أن التشققات والصدوع العميقة في جدران القصر تشير إلى حدوث زلازل شديدة؟ يرى <H. كونه> [من جامعة برلين الحرة] أن ازديادا كبيرا في عدد السكان قد تسبب في ارتفاع استهلاك المصادر الطبيعية في المنطقة، مما أدى إلى الهجرة. وربما كان السبب بكل بساطة أن انخفاض عدد القوافل المسافرة على الطرق التجارية جعل المدن الشمالية غير اقتصادية.

 

عاد الاستيطان إلى تل بيدر فترة قصيرة بعد بضع سنوات. ولكن في نحو عام 2250 ق.م. أصبحت المدينة عرضة للنهب والتداعي والاهتراء. وفي الألف اللاحق وصل الحوريون، الذين يعود أصلهم إلى الجبال الواقعة في شرقي الأناضول، إلى المنطقة، وأسسوا مدنا ملكية جديدة مثل أوركيش (التي تم الكشف عنها، من قبل <G. بوتشيلاتي> و<M. بوتشيلاتي>، في مملكة ميتاني Mitanni في منطقة الخابور. وفي قمة عظمتها في نحو عام 14000 ق.م. امتدت رقعتها من البحر الأبيض المتوسط حتى سلسلة جبال زاگروس Zagros (الهضبة الإيرانية). وقد استوطن الحوريون وسط خرائب نابادا بعد 10000 عام من سقوط هذه الحاضرة التي كانت مزدهرة في أوائل العصر البرونزي.

 

في الطبقات السفلية من المدينة المحيطة بالقصر المهجور في نابادا، وخارج السور الدفاعي باتجاه الغرب أمكن، نتيجة بعض أعمال التنقيب الأولية، تحديد بقايا من الحقبة الميتانيّة. فقد عثرنا مصادفة على زهرية (مزهرية) احتفالية مزينة برؤوس الحمَل rams وعلى مجموعة من الأشكال البارزة تمثل أسودا وثيرانا، والتي يحتمل أنها كانت تستعمل زينة للأثاث. ولكن الحوريين لم يعمِّروا قصرا، وفي كل المقاييس كان تل بيدر أقل أهمية بكثير مما كان عليه عندما كانت مدينة نابادا في أوجها.

 

ضعفت إمبراطوية ميتاني بدورها، وغزا الآشوريون منطقة الخابور في القرن الثامن ق.م. وقد وسع الآشوريون البواسل سلطتهم لتمتد من العاصمة آشور حتى شمال غربي بابل بعد عام 1100 ق.م. ولفترة قصيرة تمكّنوا من الوصول حتى إلى الأراضي المصرية. لقد كان أعداؤهم يهابونهم، ويُحكى أنهم قاموا بطرد شعوب بأكملها وذبحوا معارضيهم دون النظر إلى الجنس أو العمر.

 

اكتشاف مقبرة عمرها 4300 عام في شمالي سورية

منذ عام 1994 يقوم عالم الآثار <G. شوارتز> [من جامعة جونز هوپكنز في بالتيمور] مع فريقه بأعمال التنقيب في أم المرأة، والتي يعتبرها الآثاريون توباTuba  القديمة، إحدى أوائل المدن التي تم تأسيسها في سورية. لقد وجد الأمريكيون هناك قبورا لم يمسها أحد بعد، يعود تاريخها إلى نحو 4300 عام. في هذه الحقبة من الزمن سيطر السومريون على بلاد الرافدين، وبنى المصريون آخر أهراماتهم الكبيرة. وقد كشف الآثاريون أثناء أعمال الحفريات في تلك المنطقة مقبرة تتألف من ثلاث طبقات من القبور، تحتوي على جثث تسعة أموات: خمسة يافعين وأربعة أطفال. وقد وجد في الطبقة العلوية قبران في كل منهما امرأة في العشرينات من عمرها مع طفل، كما عثر في كلا القبرين على حلي من الذهب والفضة واللازَوُرد. لذا يعتقد الآثاريون أن المرأتين كانتا أميرتين؛ ولكن من المدهش حقا أن محتويات القبور هناك لم تسرق، رغم أنها مكشوفة ومرئية بشكل جيد. ويردُّ ذلك على ما يبدو إلى أن الموقع كان يعتبر مقدسا، فلم يجرؤ أحد على المساس بمحتويات هذه القبور. ومما يؤيد هذه الفرضية تلك الأسوار العديدة المحيطة بالمقبرة من جميع الجهات.
في الطبقة الثانية من القبور، هياكل عظمية لرجلين مدفونين أحدهما مقابل الآخر. وفي الطبقة العلوية عُثر بين الهيكلين العظميين للمرأتين على قطعة الحلي الذهبية المعروضة.

Spektrum der Wissenschaft, Dezember 2000

الطبعة الألمانية لمجلة ساينتفيك أمريكان.

 

لقد استوطن الغزاة في أعلى المنطقة التي شغلها الحوريون في المناطق السفلى من تل بيدر. ولكن إقامتهم كانت قصيرة؛ فقد وحّد البابليون والميدريون Medes  قواهم وهاجموهم. وقد كتب النبي ناحوم Nahum في العهد القديم عندما تحولت نينوى Nineveh، آخر وأكبر مدينة في الإمبراطورية الآشورية إلى أكوام من الرماد في عام 612 ق.م: «إن كل من يسمعون أخبارك يصفقون بأيديهم لسقوطك.»

ومع سقوط الإمبراطورية الآشورية اندثر تل بيدر ثانية.

 

 المؤلف

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N1-2_H01_00353.jpg

Joachim Bretschneider

درس علم الآثار والدراسات الشرقية في جامعة منستر بألمانيا، وهو أستاذ مساعد في الجامعة الكاثوليكية بلويڤن. ويترأس المؤلف الفريق الألماني في الحلقة الدراسية للشرق القديم بجامعة منستر، وهذا الفريق يشارك في التنقيبات الأوروبية السورية بتل بيدر.

 

مراجع للاستزادة 

EARLY MESOPOTAMIA: SOCIETY AND ECONOMY AT THE DAWN OF HISTORY. J. N. Postgate. Routledge, 1994.

THE STORY OF WRITING: ALPHABETS, HIEROGLYPHS AND PICTOGRAMS. Andrew Robinson. Thames and Hudson, 1999.

Spektrum der Wissenschaft, April 1999

Scientific American, October 2000

 

(*)Nabada: The Buried City

(1) خلاف البادية وهي المدن والقرى والأرياف (ج: حواضر).

(2) tablets ويقال لوحات.

(3) Kranzhügel culture

(4) wreath city

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى