أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحة

منشأ نظام التغذية الحديث

منشأ نظام التغذية الحديث(*)

سؤال أثار الدهشة دائما: لماذا تُقدَّم أطباق الحلوى بعد وجبة العشاء؟

يمكن إرجاع أصول الطبخ الغربي الحديث إلى أفكار نشأت خلال

القرن السابع عشر حول التغذية وأنظمتها.

<R.لودان>

 

لو أُتيح لنا حضور مأدبة في بلاط ملكي في القرن السادس عشر في فرنسا أو إنكلترا لبدا الطعام غريبا حقا لأي فرد اعتاد طريقة الطهي الغربية التقليدية. فقد تحوي الأطباق نوعا من المهلبية blancmange المؤلفة من هريس كثيف من الأرز والدجاج المبلل بالحليب المستخلص من اللوز المسحوق، وقد رُشَّ عليه السكر وسُقِّي بدهن الخنزير المقلي. وربما ترافق طبق رضيع الخنزير المشوي بصلصة القرفة cameline sauce، التي تؤلف طبقا جانبيا قوامه عصير الحصرم(1)، وجرى تكثيفه بإضافة قطع الخبز والزبيب المفروم واللوز المهروس المبهَّر بالقرفة والقرنفل(2). ومن الممكن أن تقدَّم مأكولات أخرى أساسها الفول المطبوخ بمرق اللحم وقد نُثر عليه النعناع المقطع أو رُبُّ السفرجل المصنوع من السفرجل مع السكر أو العسل. ولتسهيل ازدراد هذه المأكولات كلها فقد يُشرب معها النبيذ الحلو المعطر hypocras، وهو نبيذ أحمر مسخَّن ومتبَّل بالزنجبيل المسحوق والقرفة والقرنفل والسكّر.

 

وتمضي سريعا مئة عام، ومع ذلك يظل هذا الطعام مألوفا. فقد نرى على المائدة حساء لحم البقر والمحار وسمك البَلَم (الآنشوفة) anchovies والديك الرومي المشوي ومعه صلصة مرق اللحم. وقد تُقدَّم هذه الأطباق وبجانبها الفطر المطبوخ بالقشدة cream والمقدونس (البقدونس)، وسلطة الخُضر الغضة بالزيت والخل. وكذلك تقدم الكمثرى الطازجة ومثلوج الليمون والنبيذ الأبيض الفوار.

 

وقبل عام 1650، كانت طبقات النخبة في أرجاء العالمين الإسلامي والمسيحي، من دلهي إلى لندن، تتشارك إلى حد كبير في أنواع الأغذية نفسها وهي: الهريس الكثيف، البهارات الكثيرة، الصلصات الحلوة والحامضة، الخُضر الغضة، الخمور المسخنة. أما السكر فقد كان دائما موجودا كتابلٍ في الأطباق الفاتحة للشهية. ولكن الطعام الأوروبي الشمالي بدأ يتغير في أواسط القرن السابع عشر؛ فاعتمد نظام التغذية الجديد على بهارات أقل، كما ارتكزت صلصاته على المواد الدسمة، كالزُّبْد وزيت الزيتون، ودخلت فيها الخضر والفواكه الغضة. أما السكر فلم يكن ليظهر إلا في آخر الوجبة فحسب.

 

ماذا حدث؟ لا يمكن للاعتبارات الاقتصادية أن تعلل الاختلاف، فبالنسبة إلى الطبقة العليا(3) لم يكن المال موضوعا ذا شأن، أما بالنسبة إلى الفقراء فقد كان الحصول على أي من نوعي الوجبتين أمرا بعيد المنال. ومع إطلالة القرن التاسع عشر برز الاعتماد على أنواع حساء الخضر والعصائد gruels مع الخبز، أو الحبوب المطبوخة مع الماء أو اللبن. ولا يمكن لأصناف الطعام الجديدة القادمة من العالم الجديد أن تفسر النقلة التي حدثت في أنواع الأغذية؛ ذلك أنه باستثناء الديك الرومي، لم تعتمد الأطباق في موائد ما بعد منتصف القرن السابع عشر على مكونات جديدة، بل اعتمدت على استخدامات جديدة لمكونات مألوفة منذ زمن بعيد. ومن الواجب البحث عن مفتاح لغزِ تحوُّل عادات الأكل بين القرنين السادس عشر والسابع عشر في الأفكار الناشئة حول أساليب التغذية والغذاء ـ أي في ما يسمى تاريخ الكيمياء والطب.

 

الطب في القرن السادس عشر(4)

كان تناول أطعمة صحية أمرا مهما جدا في العصور السابقة، وربما بدرجة أكبر مما هو اليوم. واحتل العمل في المطبخ أهمية فائقة؛ إذ لم يكن لدى الأطباء حينذاك إلا خيارات أخرى قليلة جدا. ولتحاشي اللجوء إلى علاجات مزعجة، كإعطاء الأدوية المسهلة أو فصد الدم، راقبوا بعناية العادات اليومية لمرضاهم من الأغنياء، كمتابعة حالاتهم الانفعالية مثلا، أو مقدار ما حصلوا عليه من النوم والرياضة والهواء النقي. وكذلك حرص الأطباء حرصا شديدا على نصح مرضاهم بالطعام والشراب الذي يجب عليهم استهلاكه. وكان كل قصر يضم فريقا من الأطباء الذين درسوا فيزيولوجية الهضم والخصائص التغذوية لأنواع الأطعمة وطبيعة الوجبة الصحية. وأصبح تقديم النصيحة التغذوية لأسيادهم الموسرين جزءا أساسيا من عملهم.

 

إن المهمة الفعلية للتحول الحاصل تلخص النظرية الغذائية في ما يلي: إيجاد أطباق تلائم مائدة القصر المرهقة لكبار الطهاة (أو القَهَارِمَة) majordomos، كما كانوا يدعون غالبا. وفي نص طبي شائع وُضع عام 1547 تحت عنوان الوجيز في الصحة Breviary of Health قال الكاتب < A.بورد>: “الطباخ الجيد هو نصف طبيب.” لقد اشترك طهاة القرن السادس عشر وأطباؤه وزبائنهم بفكرة عامة عن نظام الطعام والتغذية يمكن إرجاعها إلى ثقافة العصور الكلاسيكية القديمة. وقد نُظِّمَتْ الأفكار ـ التي صيغت للمرة الأولى نحو عام 400 قبل الميلاد ـ بوصفها جزءا من “المجموعة الأبقراطية” على يد الطبيب اليوناني الكبير كالينوس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد. وعقب انهيار الحضارة الكلاسيكية تلقّف المفكرون المسلمون تلك الملاحظات بشغف (إلى جانب العديد من النظريات العلمية الأخرى التي سادت في العالم القديم).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001875.jpg

ربما احتوت مائدة القرن السادس عشر الفخمة على المهلبية (المؤلفة من هريس كثيف من الأرز والدجاج)، وعلى طبق جانبي من صلصة القرفة (المكوَّنة من اللوز almonds المسحوق، وقطع الخبز والبهارات المبللة بعصير الحصرم grape)، وعلى النبيذ الأحمر المسخن الذي أضيفت إليه التوابل. ومع حلول القرن السابع عشر أصبحت الأطعمة أكثر ملاءمة للذوق العصري ومن ضمنها: الديك الرومي المشوي، وسلطة الخُضر الغضة مع الزيت والخل، والنبيذ الأبيض الفوار.

 

ومع حلول القرن الثاني عشر كان المتعلمون الأوروبيون قد ترجموا أهم النصوص العربية إلى اللغة اللاتينية. واعتمد أساتذة مدارس الطب الكبرى ـ كمدرسة مونبلييه الواقعة في جنوب فرنسا ـ اعتمادا كبيرا على هذه النصوص. وفي أواخر القرن الخامس عشر بدأ الخبراء بترجمة المخطوطات اليونانية المكتشفة حديثا، إضافة إلى إعادة ترجمة النصوص المعروفة. وشكلت هذه الوثائق أساس مجموعة من الكتيبات الشائعة والأهازيج التي يسهل حفظها وتذكرها. وأحب الناس بصفة خاصة الألحان الشعبية المكررة لقصيدة لاتينية بعنوان نظام ساليرنو الصحي Regimen Sanitatis Salernitanum أُلِّفت على ما يبدو نحو نهاية القرن الحادي عشر، ولكنها سادت على نحو واسع في القرنين السادس عشر والسابع عشر وفيها:

الدراق والتفاح والكمثرى واللبن

والجبن واللحم المملح

والغزال والأرنب والماعز والعجل

كلها تولد الخِلْطَ الأسود(5)

وهي أعداء المريض

اعتُمدت الحكمة في النظام الغذائي التي سيطرت في القرن السادس عشر ـ وكما أظهرتها الكتب الإرشادية الطبية ـ على افتراضين، أولهما أن عملية هضم الأطعمة هي في الواقع شكل من الطبخ. وفي الحقيقة، مثَّل الطبخ ـ مجازيا ـ أنظمة استدامة الحياة كلها. فالبذور تُطبخ كي تصبح نبتات، وحينما تظهر النبتات فوق سطح الأرض تطبخها حرارة الشمس وتجعلها حبوبا وفواكه ناضجة. فإذا جمع الناس هذه المواد الغذائية أمكنهم فيما بعد طبخها وإيجاد أطباق صالحة للأكل. وأخيرا، تقوم حرارة الجسم الداخلية بتحويل الطعام إلى دم؛ وبعدئذ يطرد الجسم المواد غير القابلة للهضم على هيئة براز. وتنضم الفضلات إلى بقايا الحيوانات والنباتات الميتة المتفسخة  (المتحللة) لتبدأ دورة الحياة مرة أخرى.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001876.jpg

 

أما الافتراض الثاني عن الغذاء والصحة في هذا المخطط فيقتضي الحفاظ على توازن سليم لسوائل الجسم عن طريق تناول غذاء جيد التوازن. واعتقد أطباء ذلك الزمن وطهاته أن أربعة سوائل (أو أخلاط(7)) تجول في البدن هي: الدم والبلغم(8) والصفراء(9) والسوداء. وتوافقت هذه الأخلاط مع العناصر  الأرسطوطالية الأربعة وهي: الهواء والماء والنار والتراب. وبما أن الدم حار ورطب فقد توافق مع الهواء، ولأن البلغم بارد ورطب فهو بذلك يشبه الماء. ولمّا كانت الصفراء حارة وجافة فقد تشابهت مع النار، وأما السوداء فلكونها باردة وجافة فقد ارتبطت بالأرض.

 

وكان يُعتقد أن الجسم البشري من الوجهة المثالية دافئ قليلا ورطب قليلا، مع أن الواقع أظهر أن التوازن الدقيق يتفاوت من فرد إلى آخر، استنادا إلى متغيرات عديدة كالعمر والجنس والموقع الجغرافي. وكان يُظن أن كبار السن أبرد وأجف ممن هم أصغر سنا، وأن النساء الحائضات أبرد وأرطب من الرجال، وأن دماء الأوروبيين الجنوبيين أشد حرارة من دماء جيرانهم الشماليين. وكان يُعتقد أن الوجبة المثالية ـ كالمزاج البشري المثالي ـ يجب أن تكون دافئة ورطبة قليلا. ولكن التوليفات البعيدة عن هذه الفكرة المركزية يمكن استغلالها للقيام ببعض العمليات التغذوية التصحيحية الهادفة إلى تدفئة المسنين وترطيبهم، وتجفيف الجنس sex الشديد الرطوبة، وتهدِئة الجنوبيين، وتنشيط الشماليين.

 

لقد واجه القهرمان (كبير الطهاة) في ذلك الزمن التحدي المتمثل في اختيار الوجبات الملائمة لمزاج الآكل وتهيئتها. وكانت معرفة خصائص أي مادة طعامية أمرا شائعا: فالفلفل مثلا حار وجاف من الدرجة الثالثة، والخل بارد ورطب من الدرجة الثانية؛ أما الخضر التي تؤكل جذورها كاللفت فأرضية بطبيعتها ـ أي جافة وباردة، ولذا يفضَّل تركها للفلاحين. ولكن، إذا قرر الطهاة تهيئتها فعليهم التأكد من طهيها بالغلي البطيء، وبذا يضيفون إليها الدفء والرطوبة. وعلى نقيض ذلك، فإن الشوندر (البنجر) والكوسا (وهو نوع مائي من الخضر يشبه القرع) والبصل، بصفة خاصة، ندية جدا ومن الواجب أن تُقلى.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001877.jpg

 

وهناك أطعمة أخرى رُفضت كليا. فالطبيب <G.پاتان> [من جامعة باريس ومؤلف رسالة في الحفاظ على الصحة Treatise on the Conservation of Healthنشرت عام 1632] حذر من تناول أنواع الفطر ونصح بوجوب تجنبها على نحو مطلق لكونها باردة ورطبة. ولم يكن البطيخ وغيره من الفواكه الطازجة أفضل حالا، لأنها شديدة الرطوبة ويحتمل أن تسبب الإسهال. ولم تتوقف عملية الطبخ عموما عند المساعدة على التوصل إلى توازن طهوي culinary  صحيح ـ فالأطعمة الجافة تغلى والأطعمة الرطبة تقلى أو تشوى، بل قامت بهضم جزئي مسبق للأطعمة؛ الأمر الذي يسهل على الجسم تمثلها.

 

وطبقا لهذه النظريات الطبية، قاربتْ المهلبية على مائدة القرن السادس عشر درجة الكمال. ففيها دمج الطاهي الحكيم بين الدجاج والأرز وحليب اللوز، وجميعها دافئة ورطبة قليلا، ورش السكر على سطحها وهو دافئ ورطب أيضا، كي يتوِّجها به. أما رضيع الخنزير الرطب بشكله الطبيعي فقد جرى شَيُّه. ووازنت صلصة القرفة بين الخل البارد الرطب وبين الزبيب الدافئ والبهارات الحارة الجافة. وحرص الطاهي على ألا يقدم السفرجل والعنب غضين؛ إذ هما باردان ورطبان إلى حد خطير، بل قدمهما مجففين أو مطبوخين مع إضافة السكر (كما في رُبِّ السفرجل).

 

ورأى خبراء الصحة في النبيذ مع وجبة الطعام مادة غذائية مثالية، شرط الابتعاد عن السَّرَف. فإن كتاب الخمر The Book of Wine، الذي أُلِّف نحو عام 1310 وطبع عام 1478 ورجحت نسبته إلى آرنالد من ڤيلانوڤا (وهو كاتب طبي رائد وطبيب جيمس الثاني حاكم أراگون)، مدح الخمور بشدة. فإضافة إلى أنها مفيدة في معالجة تطبُّل البطن بالغازات وفي حالات العقم، فهي “تقوي الدماغ والقدرة الطبيعية… وتسهل هضم الأطعمة وتولد دما جيدا”. ومع ذلك، فغالبا ما قدم الطهاة النبيذ الأحمر ـ لأنه ميال إلى البرودة والجفاف ـ دافئا، وأضافوا إليه السكر والتوابل، جاعلين منه نبيذا حلوا معطرا. وبسبب توافر هذه الخيارات، جلس أهل قصور القرن السادس عشر إلى موائدهم مطمئنين إلى أنهم يتناولون وجبات صحية.

 

طرق طهي الأطعمة المعهودة قبل القرن السابع عشر(10)

 
http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001878.jpg

صلصة القرفة cameline sauce

“لصنع صلصة القرفة الممتازة، خذ لوزا مقشرا واسحقه واعصره، وخذ الزبيب والقرفة والقرنفل cloves وقليلا من قطع الخبز واسحقها  مع بعضها، ورطّبها في عصير الحصرم وبذا تتم تهيئة هذه الصلصة.”

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001879.jpg

المهلبية blancmange

“خذ صدور الدجاج المطبوخة وضعها على منضدة وقطعها قطعا ليفية صغيرة جدا؛ ثم اغسل الأرز وجففه، ثم اطحنه وغربله بالمنخل، ثم بلل دقيق الأرز في لبن الماعز أو الضأن أو في حليب اللوز. اغلِ الخليط في قدر نظيفة مغسولة جيدا، وحينما يبدأ الخليط بالغليان ضع صدور الدجاج المقطعة مع إضافة السكر الأبيض ودهن الخنزير الأبيض المقلي، واجعله بعيدا عن الدخان، ثم اتركه يغلي بلطف على نار هادئة إلى أن يصبح سميكا كما يجب أن يكون الأرز. وعندما تقدمه زيِّن سطحه بالسكر المسحوق أو المطحون وبدهن الخنزير المقلي.”

النبيذ الأحمر الساخن المعطر hypocras

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001880.jpg

“لكي تصنع كمية من النبيذ الأحمر الساخن المعطر، خذ أونصة (28,35 غرام) من أعواد القرفة، وقطعة من الزنجبيل ginger، وكمية مماثلة من الخولنجان(11)، واسحقها جيدا مع بعضها. خذ بعد ذلك مقدار ليبرة (327.45 غرام) من السكر الجيد، واهرسها كلها مع بعضها، وبللها بمقدار غالون (3.78 لتر) من أجود أصناف خمور بون Beaune يمكنك الحصول عليه؛ واتركه منقوعا ساعة أو ساعتين. وبعد ذلك صفِّه (رشِّحه) عبر كيس قماشي عدة مرات حتى يصبح رائقا جدا.”

 

الطهي في القرن السابع عشر(12)

ومع حلول منتصف القرن السابع عشر شرع أطباء ذوو قناعات مغايرة بحضور موائد قصور شمالي أوروبا. واستمد هؤلاء المتعلمون أفكارهم من پاراسيلسُس Paracelsus، الطبيب الألماني المتجول الذي بدأ في عشرينيات القرن السادس عشر بالسخرية من بنية الطب الكلاسيكي، وأسبغت عليه شخصيته الخشنة ومعتقداته الدينية المتطرفة سمعة مخيفة، ولذا لم يرضخ لتعاليمه إلا قلة من الأطباء. ولكن بصماته كانت واضحة سواء اعتُرف بذلك أو لم يُعتَرف. فلقد ناقش أطباء تلك القصور ـ كما ناقش باراسيلسس ـ فكرة دورة الحياة الكونية cosmic life cycle القائمة على الطهي وعلى العناصر الأرسطوطالية(13)، ورأوا أنها فكرة خطأ، وينبغي تنقيحها.

 

ومازال مؤرخو العلوم يتناقشون في أسباب هذا التحول، ولكن يبدو أن تقانة التقطير distillation قد أسهمت في إحداثه. ومع ازدياد أهمية ممارستها، بدءا من أواخر العصور الوسطى وما تلاها، جرب الكيميائيون مع التسخين أنواعا كثيرة من المواد الطبيعية، كان العديد منها صالحا للأكل كالشُّمار fennel وجوز الطيب(14) والقرنفل. ولاحظوا في كافة الحالات انفصال المادة الأصلية إلى ثلاثة أقسام هي: سائل طيَّار (أو “روحي” spirituous) ومادة زيتية وثُمالة residue صلبة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001881.jpg

 

وانطلاقا من تلك الملاحظات، اقترح أولئك الكيميائيون الاستعاضة عن عناصر أرسطو الأربعة بثلاثة عناصر جديدة هي: الزئبق (جوهر السوائل البخارية، وليس له صلة بالمادة الكيميائية السامة التي تحمل الاسم نفسه)، والكبريت (جوهر المواد الزيتية، ولا علاقة له أيضا بالمادة الكيميائية التي تسمى بالاسم ذاته)، والملح (جوهر المواد الصلبة، وليس مثل ملح المائدة الحديث). وفي هذا المخطط، فرض الملح مذاق الطعام وقوامه، ومثَّل الزئبق مصدر الرائحة والنكهة. أما الكبريت (أو الزيت) فقد حمل خصائص الرطوبة والحلاوة، وكذلك ربط بين العنصرين الآخرين المتضادين بشكلهما الطبيعي.

 

واعتقد أطباء ذلك العصر أيضا أن الهضم يقتضي التخمر أكثر من الطبخ، وشرعوا يستقصون بدقة هذه العملية المألوفة التي كانت حينذاك غامضة. وبما أن التخمر يشتمل على حرارة لطيفة وانبعاث أبخرة، فقد ظهر أنه يشبه (أو ربما يماثل) التفسخ والتقطير وتآثر interaction  الحموض والأملاح. وقد أثارت كيميائيي ذلك الزمن الأبخرة والأرواح spirits أو الأهوية airs  (التي سرعان ما دعيت “الغازات” من قبل < B .J.ڤان هلمونت> العالم الهولندي الصوفي(15))؛ إذ بدا أنها جوهر المادة الحقيقي الذي نشأت منه.

 

ودافع العديد من أطباء القرن السابع عشر البارزين عن هذا الفهم الجديد للهضم، ومن بينهم < V. هلمونت> و < F.سيلڤيوس> [الطبيب في جامعة ليدن] و <T  .ويليس> الذي كان حينذاك أشهر أطباء إنكلترا وأحد الأعضاء المؤسسين للجمعية الملكية في لندن. ووفقا لوجهة النظر تلك، يقتضي الهضم تخمير الأطعمة أكثر من طبخها. وتؤثر العُصارات المَعِدية ـ التي تعد حامضية حادة ـ في الأطعمة فتحولها إلى سائل حليبي أبيض يختلط بعد ذلك بالصفراء القلوية في السبيل الهضمي digestive tract. ويتخمر المزيج مشكلا فقاعات ومُنْتِجا مادة مالحة، يحوِّلها البدن إلى دم وسوائل أخرى.

 

لقد قدم هؤلاء الأطباء المتأخرون ـ كما قدم أسلافهم في القرن السادس عشر ـ دورة كونية للحياة عكست وجهة نظرهم عن الهضم. فالبذور صارت نباتات نتيجة “لتخمرات الأرض”، كما ورد في كلمات < J. إيڤلين> العالم الحاذق في الزراعة عندما تحدث أمام الجمعية الملكية عام 1675. فالاختمار حوَّل الحبوب والفواكه إلى خبز وبيرة وخمر، استطاع الجهاز الهضمي أن يخمّرها فيما بعد. وتفسّخ الفضلات المطروحة يُعيد الدورة بكاملها مرة أخرى. وقد قال < J. آربثنت> [عضو الجمعية الملكية وطبيب الملكة آن] في كتيب شائع عن المواد الغذائية نشر عام 1732: “إن تفسخ الخضر شبيه جدا بالهضم الحيواني.” لقد كان الكون مَطْبخا، بيد أنه أضحى الآن مجهزا بأوعية ضخمة للتخمر، والجسم البشري يحمل نسخا مصغرة جدا عن تلك المعدات.

 

إن هذه التغيرات في فهم عملية الهضم وضعت طهاة القرن السابع عشر في حالة من التأهب والنشاط. واستغل الطهاة اليقظون تلك الفرصة السانحة ليرسخوا سمعتهم المرموقة عن طريق التفكير في إيجاد أطباق صحية مفيدة بحسب المعايير الجديدة ـ وأن يتوفر فيها، بالطبع، طيب المذاق أيضا. ومن أمثلة ذلك ترحيبهم بالمحار، وسمك البَلَم (الآنشوفة)، والخضر الغضة، والفطر بأنواعه، والفواكه لأنها سهلة التخمر، وبذا فهي بحاجة إلى تهيئة معقدة في المطبخ كي يتم هضمها المسبق. وحينما بدأ الطهاة بإدخال المنتجات الغضة في العديد من أطباقهم، غدت البستنة وحدائق النباتات بدعة أقبل عليها الناس بحماسة. وبدأ العلماء والمثقفون يتبادلون بذور النباتات، ويترجمون كتب العناية بالحدائق، وأوجدوا البيوت الدافئة للخضر الحساسة التي تعجز عن مقاومة البرد. وكذلك شرعوا في زرع أنواع الفطر في مساكب الروث المتفسخ. وفي إنكلترا وصل الأمر بالأثرياء إلى حد وضعوا معه على موائدهم الأطباق التي عدوا طعمها في السابق كريهًا كالباذنجان مثلا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N8-9_H03_001882.jpg

 

المطاعم الأولى(16)

أصبحت المواد الغنية بالزيت، كالزبد ودهن الخنزير وزيت الزيتون، أساس أنواع متعددة من الصلصات، إضافة إلى ما في مشاركة تلك المواد كلها بعناصر الملح والزئبق من ميزة مفيدة. فلقد دمجت بمكونات تحوي عنصر الملح: كالدقيق وملح الطعام، وبمكونات أخرى غنية بالزئبق: كالخل والخمر والمشروبات الروحية وخلاصات اللحم أو السمك. وللمرة الأولى ظهرت طريقة طهي الرو roux(وهو خليط من الدهن والدقيق المرطب بالنبيذ أو المرق ليعطي طعما لذيذا فريدا) في كتاب طبخ عنوانه الطاهي الفرنسي The French Chef وضعه <P .F. دولاڤارين> عام 1651. وأضحت السَّلَطات ـ التي تضمنت سائلا أساسه الزيت وخُضَرًا غضة سهلة الهضم ـ أطعمة عصرية. (وقد نصح إيفلين بالسَّلطات التي تحوي الخل وذلك في كتابه حديث عن سلطات الخل Acetaria: A Discourse ofSallets الذي نشر عام 16999).

 

وفيما احتلت الفواكه والأعشاب والخضر المكانة الأبرز في الوجبة الأساسية، بدأ السكر ـ الذي لقي التمجيد في السابق كدواء لكل الأمراض ـ يلقى معاملة خشنة من قبل الأطباء الكيميائيين؛ فأراد بعضهم الحكم عليه بالنفي المطلق، ومنهم < J. دوشين> [طبيب هنري الرابع ملك فرنسا عام 1606]، الذي ازدراه قائلا: “يُخفي السكّر تحت بياضه سوادا شديدا” ـ لقد عرف الأطباء أنه يسوِّد الأسنان ـ “وتختبئ تحت حلاوته لذعة حادة جدا تعادل لذعة حمض النتريك.”

 

وقد وافق على هذا الرأي الطبيب البريطاني ويليس ملاحظا البول السكري لدى المرضى ـ الذين عانوا ما اصطلح الأطباء على تسميته فيما بعد الداء السكري ـ فقال: “يعطي السكر المقطر في حد ذاته مشروبا liquor لا يكاد يقل عن حمض النتريك… لذا من المحتمل جدا أن مزج السكر بمعظم أطعمتنا وتناوله بكميات تزيد على حاجة الاستهلاك اليومي أمر يجعل الدم والأخلاط مالحة ولاذعة (حريفة)، ومن ثم فهو مسبب للحَفَر(18) scurvy.”

 

كان المغزى واضحا: إن السكر خطر، وربما وصل في خطورته إلى درجة السم. وما من ريب في أن هذه التحذيرات الرهيبة جعلت الطهاة يفكرون برش السكر على أطباق الوجبة الأساسية، الأمر الذي لا يترك خيارا آخر أمام المرء سوى تناوله. وبهذا، فقد انتقل السكر إلى درجة ثانوية في الوجبة، وأصبح لا يقدم إلا مع الحلويات التي يتم تحضيرها في مطبخ منفصل، وأضحى السكر موضوعا تتناوله كتب نوعية متميزة، وتركز على ميزاته التزيينية لا على خصائصه الطبية.

 

رأى الأطباء في المشروبات الروحية الكحولية والخلاصات المقطرة الأخرى أدوية مفيدة. واعتبر هؤلاء الأطباء ومرضاهم أيضا أن الشراب المُسْكر أو ماء الحياة جيد إذا احتُسي في المناسبات؛ إلا أنه قوي جدا لا يصلح للاستهلاك اليومي. ومما يمكن أن يعد أسهل هضما تلك المستخلصات extractions الأقل منه قوة، والمهيأة من أطعمة مغذية، كاللحوم التي يجري تركيزها بوساطة الغلي أو التخمير. وفي بعض الأحيان تظهر الفائدة المركَّزة لطعامٍ ما على شكل فقاعات غازية مرغوبة تغذي الدماغ. وقد حازت المياه المعدنية الفوارة شعبية هائلة مع افتتاح المنتجعات في أرجاء أوروبا.أما على المائدة، فقد أخلى النبيذ الحلو، المعطر، الحار، المشتمل على التوابل، مكانه للخمور الباردة، فأزاح حتى الشمپانيا الفوَّارة التي يرجح أنها أُنتجت للمرة الأولى في أواخر القرن السابع عشر.

 

وقد صنع الطهاة خلاصات اللحم أو السمك من “لحم العضلات ـ الذي يعد الأكثر تغذية من بين أجزاء الحيوان كلها، ويعطي أفضل عُصارة”، وقدموا هذا الطعام الصحي على شكل مرق أو حساء أو هلام مصنوع من هذه السوائل. وتحتوي الحيوانات البرية على عصارات مغذية أكثر مما تحتوي عليه الأسماك أو الطيور. ومن بين سائر الحيوانات البرية فإن لحم البقر يُعَد الأكثر إنتاجا للمواد المرمِّمة. وفي عام 1733 وصف < V .لاشاپيل > [وهو طاه فرنسي عمل لدى < I. تشسترفيلد> في إنكلترا] أنواعا متعددة من طرق طهي حساء لحم البقر المزين على نحو جميل في كتابه الطاهي العصري The Modern Cook الذي سرعان ما تُرجم إلى اللغة الفرنسية. ولم يمض وقت طويل حتى رأى المتعهدون العاملون في المجال التجاري في طرائق الطبخ الجديدة فرصة للترويج “للمطاعم” restaurants ـ وهي كلمة فرنسية تقابل كلمة restoratives، أي مرممات ـ ولبيع المأكولات لمن ليس بمقدورهم أن يكون لهم طهاتهم الخاصون.

 

وأخيرا، أقدمت الطبقات الوسطى في أوروبا على محاكاة الأرستقراطيين، مطورة مذاقا لا يناسب مأكولات المطاعم فقط، بل يشمل المطبخ الجديد بأكمله. وبدا أن تلك المأكولات أدخلت تحسينات معينة، لا تقتصر على المذاق الجيد فحسب، بل شملت الناحية الكيميائية أيضا، لأن الوجبات المقدمة مثَّلت أفضل شكل مُحسَّن من الأطعمة. وكما قال مؤلفو رسالة فن الطبخ هِبَات كومس TheGifts of Comus، التي نُشرت في باريس عام 1739: “إن الطبخ الحديث هو نوع من الكيمياء. ويتألف علم الطبخ اليوم من تحليل الأطعمة وهضمها واستخلاص جوهرها، وسحب العُصارات الخفيفة المغذية، ومزج وخلط بعضها مع بعض.”

 

وانتشر هذا النظام الغذائي الجديد تدريجيا عبر أوروبا، واتخذ طريقه في الوقت ذاته ليعم مختلف الطبقات الاجتماعية. ومع قدوم أواسط القرن التاسع عشر وحتى أواخره صار ذلك النظام النمط السائد في الأصقاع التي تتحدث الإنكليزية والفرنسية في أوروبا وفي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. ولكن بقيت الأقاليم الأخرى ـ كالعالم الإسلامي والبقاع التي تتحدث الأسبانية في الأمريكتين ـ معزولة عن الكيمياء المستمدة من باراسيلسس، ولم تتبنَّ نظرية الطعام تلك ولا طرائق الطبخ الناتجة منها. (إن الطعام الحديث المبهَّر بالبهارات الهندية أو المكسيكية مثلا، شبيه بأنواع الطعام التي كانت سائدة في شمال أوروبا قبل باراسيلسس).

 

واستمر المطبخ الغربي الذي نشأ في القرن السابع عشر موجودا زمنا طويلا بعد ظهور النظرية الغذائية التي أوحت به. ومع نهاية القرن الثامن عشر، باشر الكيميائيون والأطباء إجراء بحوثهم التي أوصلت إلى النظريات الحديثة عن دور الكالوريات (الحُرَيْرَات) والكربوهدرات والپروتينات والفيتامينات والمعادن في عمليات الهضم الكيميائية الحيوية. ومما يجدر ذكره أن ما حدث خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ أي حين إجراء معظم الدراسات، هو أن علماء التغذية ركزوا جهودهم على التوصل إلى إيجاد أطعمة رخيصة ـ ولكن ملائمة ـ لعمال المصانع والجنود والأفراد الآخرين غير الموسرين. ومع ذلك، فإن تحول المجتمع الطبي إلى التركيز على الفقراء، بعدما كان يركز على الأغنياء؛ كان يعني أن الطهاة الذين قدموا الطعام للأغنياء استمروا في تطوير المطبخ الغربي ضمن الخطوط التي ترسخت في القرن السابع عشر.

 

والآن، بعد أن بات معظم الناس في الغرب قادرين على الحصول على الطعام الذي كان في السابق مقتصرا على الأغنياء، أصبحنا ندرك أن أسسه الغذائية نعمة مختلطة. فمع أن الفواكه الطازجة والخضر الغضة تحتل درجة رفيعة، فإن مركزية الدسم في أطعمتنا (نتيجة للأهمية التي نوليها للحوم وللصلصات القائمة على أسس دسمة) هي المسؤولة عن معدلات السمنة المرتفعة في معظم الأقطار المتطورة. واستجابة لذلك، فقد أسهم الجميع (من الأطباء وحتى الطهاة) في لفت الانتباه إلى المشكلة القديمة جدا ـ حول تطوير مطبخ جديد، يجمع في الوقت نفسه بين لذة المذاق والانسجام ـ مع آخر النتائج التي تم التوصل إليها في الفيزيولوجيا والتغذية.

 

المؤلفة

Rachel Laudan

حصلت على الدكتوراه في تاريخ العلوم من جامعة لندن. وقامت بتدريس تاريخ العلوم والتقانة في جامعة كارنيگي ميلون وجامعة بيتسبورگ، ومعهد البوليتكنيك في ولاية ڤيرجينيا وفي جامعتها، وفي جامعة هاواي. وهي مؤلفة كتاب “من علم المعادن إلى الجيولوجيا: أسس العلم من 1830-1650” (مطبعة جامعة شيكاگو 1987)، وحازت جائزة < J. كريگسون> لمنحة دراسة الأطعمة التي تقدمها “مكافآت <J.تشايلد> لكتب الطبخ”. وهي تعيش الآن في المكسيك، حيث تعمل على تأليف كتاب عن تاريخ النُّظم الغذائية، ستنشره مطبعة جامعة شيكاگو.

 

مراجع للاستزادة 

 

MEDIEVAL AND EARLY RENAISSANCE MEDICINE: AN DUCTION TO KNOWLEDGE AND PRACTICE. Nancy G. University of Chicago Press, 1990.

THE FRENCH PARACELSIANS: THE CHEMICAL CHALLENGE TO MEDICAL AND SCIENTIFIC TRADITION IN EARLY MI FRANCE. Allen G. Debus. Cambridge University Press, 1991.

ACQUIRED TASTE: THE FRENCH ORIGINS OF MODERN COOKING. T. Sarah Peterson. Cornell University Press, 1994.

THE ART OF COOKERY IN THE MIDDLE AGES. Terrence Scull. Boydell Press, 1995.

Scientific American, August 2000

 

(*) Birth of the Modern Diet

(1) العنب قبل نضوجه.

(2) cloves 

(3)upper class

(4) Medicine in the 16th Century

(5) أو السوداء black bile

(6)cosmic culinary cycle

(7)humors

(8)phlegm

(9)yellow bile

(10)17th-Century cooking

(11)Aristotelian elements

(12)typical pre-17th-century Recipes 

(13)هو جذر من الفصيلة الزنجبيلية.

(14)nutmeg

(15)mystic

(16)The First Restaurants

(17)ويسمى أيضا الاسقربوط والبَثَع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى