أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

جليد الحياة

جليد الحياة(*)

الجليد في صيغته الأرضية معادٍ للحياة. ولكن هناك

صيغة غريبة لجليد فضائي قادرة على دعم توليد جزيئات

عضوية، وربما كانت هي أصل الحياة على الأرض.

<F.D.بليك> ـ <P.جينيسكنز>

 

عندما غادرت سفينة الفضاء ڤويجر 1 Voyager النظام الشمسي قبل 11 عاما، أدار مهندسو الوكالة ناسا ذراع آلة التصوير المحمولة على متن السفينة لتلتقط صورة الوداع للأرض. لقد بدت الأرض كنقطة منفردة شاحبة الزرقة نتيجة لاستطارة (تبعثر) ضوء الشمس على محيطاتها الشاسعة. الأرض كوكب مائي، ومهما ابتعد الباحثون في رحلاتهم حول الأرض، وأيا كان الارتفاع أو العمق الذي يرسِلون إليه مسابيرهم probes، فإن عثورهم على ماء سائل في موقع ما، يجعلهم يكتشفون شكلا من أشكال الحياة تسنى له البقاء في ذلك الموقع.

 

ومع ذلك، فثمة حقيقتان متعارضتان جدا حول طبيعة الماء. فالماء السائل هو مهد الحياة، لكن الماء في حالته البلورية الصلبة يدمرها. ويمكن للكائنات الحية (المتعضيات) أن تستقر في ينابيع الماء الحار، وأن تتمرغ في الماء الشديد الملوحة، وأن تبتلع الحموض، لكنها تنفر من الجليد. إن الترتيب الصارم لجزيئات الماء في بلورات الجليد يطرد الشوائب ويمزق النسيج الحيوي شرّ ممزق. وهذه هي طبيعة الجليد الموجود على الأرض. بيد أن الاكتشافات الحديثة لنوع غير مألوف من ماء متجلد غير موجود على الأرض، لكنه موجود في جميع بقاع الفضاء بين النجمي، حثت العلماء على إعادة النظر في فرضياتهم المتعلقة بالجليد. إن جليد الماء، على النحو الذي يوجد فيه بين النجوم (والذي يختلف عن الأنماط المتجمدة من ثنائي أكسيد الكربون أو من المركبات الأخرى)، يسمح بإيواء ذلك النوع من المركبات العضوية البسيطة التي نشأت عنها الحياة ـ بل إنه قد يحفز إلى تكوينها. ومن ثم ربما كان لهذا الجليد بين النجمي دور أساسي في نشوء الحياة.

 

إن كشف النقاب عن مصدر المواد العضوية، التي ربما كانت هي المولدة الطليعية للحياة، كان، ومازال، واحدا من أكثر فروع البحث العلمي إثارة حول أصول الحياة. وطوال أكثر من عقد من الزمان، كان العلماء يعرفون أن المركبات العضوية تترعرع في الغيوم بين النجمية وفي المذنبات. وقد توصلوا أيضا إلى أن ثمة صقيعا غنيا بجليد الماء موجودا في بقاع الفضاء حيث يبرد الغبار والغاز إلى درجة تكفي لتكثيفهما إلى الحالة الصلبة ـ وهذا يحدث، في المقام الأول، في الغيوم الجزيئية الباردة [انظر: «مواد الحياة الأولية المقذوفة من بعيد»،مجلة العلوم، العدد 1(2000) ، ص 4].

 

وقد قطع كثير من علماء الكواكب شوطا أبعد من هذا، إذ حاجّوا في أن المواد العضوية الموجودة في الجليد يمكن أن تكون قد حملتها وسيلة ما إلى الأرض. وتنص نظريتهم على أنه حين انهارت غيمة جزيئية لتكون نظامنا الشمسي قبل 4.5 بليون سنة، فربما يكون بعض جليد الغيمة قد تجمع ليكوِّن مذنبات. وربما تكون هذه الكرات المكونة من جليد وصخور قد حملت معها تلك المركَّبات العضوية خلال سيرها في طريقها للاصطدام بالأرض الفتية. وبعد وصول هذه المركبات إلى الأرض، ربما تكون قد شاركت في التفاعلات الكيميائية التي نشأت عنها أول الكائنات الحية.

 

ومع أن هذا السيناريو قدّم تفسيرا مثيرا للطريقة التي قد تكون المركبات العضوية قد وصلت بها إلى الأرض، إلا أنه، حتى عهد قريب، لم يكن يعرف أحد كيف تكوّنت هذه المركبات للمرة الأولى في الفضاء بين النجمي. إن الدراسة المتعمقة لسلوك الماء في درجات حرارة قريبة من الصفر المطلق (حيث تتوقف جميع الحركات الجزيئية) كشفت أن تغيرات دقيقة في بنية الجليد هي التي نشأ عنها أول اتحاد للكربون والنتروجين وعناصر بيولوجية أساسية أخرى.

 

الخروج من الفضاء(**)

عندما قام فريقنا البحثي في مركز بحوث إيمز Ames التابع للوكالة ناسا، بتقصي الخاصيات الغامضة والمثيرة للدهشة للجليد بين النجمي، كان أحد أول الأشياء التي أكدناها هو أن هذا الجليد ليس له بنية بلورية. وبعبارة أخرى، إنه لابلوري amorphous. ليس لهذا الجليد ترتيب جزيئي أو ذري مفهوم، وليس له سطوح بلورية، ومن ثم فهو شفاف كزجاج النافذة بالنسبة إلى مسافرين بين النجوم.

 

إن معظم المواد الصلبة توجد في الطبيعة على هيئة بلورات، جزيئاتها مصطفة في بنى مرتبة جيدا. بيد أنه عندما يجري تبريد بعض السوائل بسرعة، يتوقف الانتقال إلى الحالة البلورية، ويتصلب السائل متحولا إلى حالة لابلورية. وهذه العملية معروفة جيدا في صناعة الزجاج، الذي هو حالة لابلورية من السيليكا(1) silica. ومع أن التبريد السريع يؤدي إلى الحصول على سيليكا لابلورية، فإنه لايسمح بالحصول على ماء لابلوري من الماء السائل. فقطرات الماء السائل تميل إلى التبلور، حتى لو جرى تبريدها بسرعة. ونتيجة لهذا، لم يكتشف الجليد اللابلوري إلا عام 1935، عندما درس العلماء سلوك بخار الماء الذي يُرسَّب ببطء في خواء (خلاء).

 

حظي هذا الاكتشاف بأهمية خاصة عند الفلكيين، لأنهم كانوا يعرفون أن سلوك الماء في خواء الفضاء يختلف عن سلوكه على الأرض. ويعرف معظم الناس أن جزيء الماء مكوّن من ذرة واحدة من الأكسجين مرتبطة كيميائيا بذرتين من الهدروجين. لكن ما يجعل الماء مادة قابلة للتحول شكلا وطبيعة هو أن لذرة الأكسجين إلكترونين سالبي الشحنة، يمكن أن يكوّنا ارتباطات ضعيفة بذرات الهدروجين الموجبة الشحنة لجزيء ماء قريب منها. وفي درجات الحرارة الأخفض من درجة التجمد، تتحول جزيئات الماء إلى أكثر تشكيلاتها استقرارا، وهذا يؤدي إلى تقوية ما يسمى بالروابط الهدروجينية، كما أن الجليد الناتج يصبح منظما بإحكام على عدة مئات من الجزيئات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N2-3_H03_002160.jpg

إن السحب القاتمة من الغاز والغبار الموجودة في الغيوم السديمية، مثل غيمة NGC 1999

(الواقعة في كوكبة الجوزاء) هي أكبر مستودعات للجليد في الفضاء.

 

إن النمط الخاص لهذا التكدس، الذي ينشأ خلال تجمد الماء، يتوقف على الضغط. ويمثل هذا النمط واحدة من 12 مرحلة معروفة لجليد الماء البلوري، لكن واحدة منها فقط ـ الجليد السداسي ـ تحدث طبيعيا على الأرض. وتشكل ذرات الأكسجين نموذجا سداسيا نراه على هيئة قطع رقيقة من الثلج المتساقط في فصل الشتاء. وفي درجات الحرارة الأخفض كثيرا من درجة التجمد، يمكن لذرات الأكسجين أن تتكدس لتتخذ شكلا مكعبا، كما يمكن منعها من تكوين أي نمط محدد تماما، كما هي الحال في الجليد اللابلوري.

 

إن جزءا كبيرا من شبكة الربط، التي تميز الجليد البلوري، تربط أيضا جزيئات الماء السائل. والفرق الأساسي ـ وهو الحاسم للحياة ـ يكمن في أن الروابط الهدروجينية في الماء السائل يعاد توزيعها بسرعة وعلى نحو مستمر. وهكذا فإن الماء السائل قادر على تعديل بنيته ليتلاءم مع المتطلبات الفيزيائية والكيميائية للكائنات الحية. وكما أنه يمكن لفقاعة هوائية أن ترتفع في الماء، لكن ليس في الجليد الصلب، فإنه يتعين على الجزيئات العضوية أن تكون قادرة على الحركة بين جزيئات الماء إذا كانت ستتحد ثانية في مركبات أكثر تعقيدا.

 

ربما كانت أكثر خاصية مثيرة للاهتمام للجليد اللابلوري بين النجمي هي أنه عند تعرضه لإشعاع، كالإشعاع الموجود في أغوار الفضاء، فإنه يمكن أن يسيل flow ـ مع أن درجة حرارته لا تزيد على درجة الصفر المطلق (أي 2733 ـ درجة سيلزية) إلا بقدر ضئيل. وفعلا، فإن التشابه بين هذا الجليد والماء السائل يسمح له بأن يشارك في توليد مركبات عضوية. وأول مرة بدأ فيها الباحثون يفكرون بهذا التشابه، كانت في مطلع السبعينات من القرن العشرين، وذلك عندما كانوا يدرسون كيمياء الجليد في لب الغيوم الجزيئية الباردة الموجودة في الفضاء بين النجمي. هذا وإن التجارب المبكرة، التي أُجريت في ذلك الوقت من قبل العالميْن الرائدين<M.J.گرينبرگ> [من جامعة لايدن في هولندا] و<J.J .ألامندولا> [من مركز بحوث إيمز] بينت أن نحو 100 في المئة من مقدار الحبيبات الجليدية الموجودة بين النجوم مكون من جزيئات بسيطة، مثل ثنائي أكسيد الكربون وأحادي أكسيد الكربون والميثانول والأمونيا.

 

ومنذ ذلك الحين، فإن المقاريب المخصصة لرصد الإشعاعات تحت الحمراء والإشعاعات التي أطوالها أجزاء من المليمتر ـ التي يمكنها اختراق مقادير أكبر من الغبار والغاز مما يمكن للضوء المرئي اختراقه ـ سمحت للفلكيين باكتشاف أكثر من مئة من المركبات العضوية المختلفة في الغيوم الجزيئية الباردة. وعند مقارنة الأطياف تحت الحمراء للغيوم الموجودة في الفضاء بقياسات مشابهة للجليد بين النجمي أُجريت في المختبر، بدأ العلماء يشتبهون في أن كثيرا من المركبات العضوية تكونت في حبيبات الجليد بين النجمي التي تجمدت على ألباب (قلوب) من السيليكات أو الكربون. وفي الغيوم الجزيئية الكثيفة، لا يتجاوز قطر قلوب الغبار هذه جزءا من عشرة آلاف من المليمتر.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N2-3_H03_002161.jpg

طبقة ميكروسكوبية (مجهرية) من جليد لابلوري مكعب (اللون الأزرق) تكوّنت عندما سخّن الباحثون غشاء جليديا سمكه بضع مئات من الجزيئات إلى 183 درجة كلڤن داخل مجهر قرّي؟

 

وعلى الرغم من هذه الأرصاد التي تطلبت بذل جهود جبارة، فمازال الباحثون يفتقرون إلى تفسير طريقة بقاء الجزيئات العضوية داخل الجليد وتفاعلها هناك. إن أهمية الخاصيات الشاذة لمادة الجليد في التخليق العضوي لم تتضح إلا عام 1993، عندما بدأنا بدراسة أنماطه تحت الضغوط المنخفضة في مختبر مجهريات العلوم الفضائية في إيمز. لقد صنعنا أغشية من الجليد سمكها لا يتجاوز سمك بضع مئات من الجزيئات، وذلك بتجميد بخار الماء داخل مجهر إلكتروني قرّي cryogenic عدِّل خصيصا [انظر الصورة في الصفحة المقابلة]. وبغية مراقبة التغيرات في شكل الجليد وبنيته، قمنا بتسجيل صور مكبرة جدا وأنماط من حيود (انعراج) الإلكترونات electron-diffraction خلال تسخين الجليد أو تبريده.

 

وعندما كانت درجة الحرارة في مجهرنا القرّي منخفضة بدرجة كافية (أقل من 30 درجة كلڤن)، وحين تم ترسيب جزيئات الماء ببطء كاف (أقل من 100 ميكرون في الساعة)، ولَّدنا مادة صلبة لابلورية شبيهة جدا ببنية الجليد بين النجمي الذي كشفناه بواسطة الأطياف تحت الحمراء. وقد بينت تجاربنا أن هذا الجليد كان في صورة خاصة عالية الكثافة، لم تكن معروفة حتى ذلك الحين إلا من تجربة واحدة لم تؤيَّد لحيود الأشعة السينية أُجريت عام 1976. وقد أثبتنا أن بنية بخار الماء الذي ترسب بدرجة حرارة قدرها 14 درجة كلڤن  تقريبا فوق الصفر المطلق، بنية لابلورية تختلف عن ترسب مشابه تكوّن في درجة حرارة أعلى، قدرها 77 درجة كلڤن. وفي الحقيقة، فقد تمكنا من متابعة الانتقال من نموذج درجة الحرارة المنخفضة إلى نموذج درجة الحرارة الأعلى عندما كنا نسخِّن الجليد تدريجيا. وقد كان أفضل تفسير باستطاعتنا لأنماط الحيود للنموذج المنخفض الحرارة هو افتراض أن بعض جزيئات الماء تجمدت داخل حجيرات الجزيئات المجاورة التي تشكلت جزئيا. إن هذا التجمع الكثيف لذرات الأكسجين يولّد جليدا لابلوريا عالي الكثافة، إذ تبلغ كثافته 1.1 غرام في السنتيمتر المكعب، وبذا فإنه أكثف من الجليد العادي بنسبة 15 في المئة.

 

خلاصة/ الروابط المتنقلة(***)

▪ يوجد الماء في صور متنوعة بسبب الروابط الخاصة التي تكوّنها الجزيئات H2O مع  جيرانها.

▪ تظل هذه الروابط الهدروجينية جاسئة في الجليد البلوري الذي يحدث طبيعيا على الأرض، لكنها تميل إلى إعادة تنظيم ذاتها لدى تعرضها إلى الإشعاع فوق البنفسجي الذي يوجد عادة في أغوار الفضاء.

▪ إن هذا التمزق في الروابط الهدروجينية، يجعل الجليد اللابلوري في الفضاء شبيها بالماء السائل أكثر بكثير من شبهه بالماء المتجمد، الموجود في الكسف الثلجية والمكعبات الجليدية.

 

أثبتنا أيضا صحة ما اكتشفه <G.H.هايدي> عام 1984، الذي كان يعمل حينذاك في معهد فريتز هابر التابع لجمعية ماكس پلانك في برلين، والذي قذف جليدا لابلوريا عالي الكثافة بإلكترونات عالية الطاقة. فعندما أجرى هذه التجربة بدرجات حرارة أقل من 30 درجة كلڤن ، استعاد الجليد بنيته بسرعة؛ وما حدث، في الحقيقة، أنه سال. إن اكتشاف أن الجليد اللابلوري يشبه ماء سائلا أكثر من شبهه بجليد بلوري، كان مفاجأة مذهلة. فقد كان معظم العلماء يفترضون قبل ذلك أن جميع صور جليد الماء، عند تبريده دون بضع عشرات من درجات كلڤن، ستبقى على حالتها دون أن يطرأ عليها أي تغيير إلى الأبد تقريبا. أما هايدي فقد اكتشف أن الجليد، بصرف النظر عن بنيته الابتدائية، سيتحول إلى الشكل اللابلوري العالي الكثافة حال تشعيعه. ومنذ ذلك الحين، اكتشف باحثون آخرون أن الفوتونات فوق البنفسجية، التي كثيرا ما تشع سحبا جزيئية باردة، يمكنها أيضا تغيير بنية الجليد بهذه الطريقة.

 

واعتمادا على تجاربنا التي أجريناها في إيمز، فقد استنتجنا أن هذا الإشعاع يحوِّل معظم الجليد بين النجمي إلى الصورة اللابلورية العالية الكثافة. ونحن ندرك الآن أن جزيئات الماء المكدسة بإفراط في هذا الجليد، والعيوب الموجودة داخل نمط التكدس الجزيئي، تسهل الحركية الجزيئية داخل هذه البنية. ونتيجة لذلك، فإنه ضمن الجليد بين النجمي بالذات، اتحدت، للمرة الأولى، العناصر المهمة بيولوجيا ـ الكربون والأكسجين والنتروجين ـ لتكوين مركبات عضوية. وتبين الدراسات أن تعريض الجليد اللابلوري العالي الكثافة لجسيمات عالية الطاقة energetic، أو لفوتونات، يفكك الشوائب، كأحادي أكسيد الكربون والأمونيا، إلى شقوق (جذور) radicals  يمكنها الانتقال داخل الجليد، إلى أن تتحد مع أنواع تفاعلية reactive أخرى.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N2-3_H03_002162.jpg

هليوم سائل يتسرب من مجهر إلكتروني قرّي خاص خلال قيام المؤلِّفيْن <P.جينيسكنز> (في اليسار) و<F.D.بليك> بإعداد عينة من الجليد اللابلوري.

 

وبعد أن توصلنا إلى آلية معقولة تفسر أصل المركبات العضوية داخل الجليد بين النجمي، فكّرنا في العوامل التي مكنت هذه المواد من البقاء طوال الأزمان والمسافات التي يلزم قطعها لوصولها إلى الأرض. إن أفضل الوسائل المرشحة للقيام بهذه المهمة هي المذنبات، وهي بقايا كويكبات planetesimals جليدية اندمجت خلال الانهيار التثاقلي لغيمة جزيئية باردة أثناء تكوّن نظامنا الشمسي. وخلال تلك العملية، كانت درجات الحرارة قرب الشمس البدائية عالية إلى درجة تكفي لتحويل كل شيء إلى غاز، باستثناء العناصر المقاومة جدا للحرارة. أما في المناطق الأبرد من الغيمة السديمية الشمسية الواقعة خارج مدار المشتري، فمن المحتمل أن يكون كل من الجليد اللابلوري، والمركبات العضوية التي تولدت داخله، قد حُفظت خلال التحام الغبار مكونا مذنبات وكويكبات أخرى.

 

نحو الأرض(****)

عندما درس الباحثون ذيول المذنبات خلال مرورها عبر النظام الشمسي الداخلي، استنتجوا أن معظم جليد الماء الموجود في المذنبات لا بد أن يكون قد ظل على حالته اللابلورية. ومع اقتراب المذنبات من الشمس، تبدأ المذنبات بضخ غازات، مثل أحادي أكسيد الكربون والميثان، في ذيولها. لكن تحرير الغازات هذا يحدث بدرجات حرارة أعلى بكثير مما هو متوقع إذا كانت هذه المركّبات قد تصلبت وتجمّعت في مكامن منفصلة عن الجليد. (إذا حدث لهذه المركبات الشديدة التطاير أن تجمدت في المذنبات على هيئة مركبات منفصلة، فلا بد أن تكون المذنبات قد حررتها بدرجات حرارة أخفض بكثير ـ وذلك قبل وصولها إلى النظام الشمسي الداخلي بمدة طويلة.) وبدلا من ذلك، فلا بد أن تكون الغازات قد احتُجزت داخل بنية الجليد؛ ولكن كيف؟

 

خلال تكوّن المذنبات، يسخن الجليد، ومن ثم فمن غير المحتمل احتفاظه ببنيته اللابلورية العالية الكثافة. وبدلا من ذلك، فإن التسخين الطفيف سيحول بنيته إلى الصورة اللابلورية المنخفضة الكثافة. وقد عرفنا من تجاربنا القرّيّة أن هذا الانتقال يحدث تدريجيا بين 35 و 65 درجة كلڤن. هذا وإن الروابط الهدروجينية تنهار ويُعاد تكوينها خلال هذه العملية، وهذا يسمح بتحرك الشظايا الجزيئية داخل الجليد وإعادة اتحادها كيميائيا. ولا يمكن استبعاد الجزيئات الطيارة من البنية المائية وطردها إلى الفضاء قبل أن يسخُن الجليد إلى درجة تكفي لتبلوره.

 

رحلة لابلورية(*****)

إن البنية الجاسئة للجليد الأرضي تطرد الجزيئات العضوية، لكن تجارب جديدة بينت أن معظم الجليد الموجود في الفضاء هو أكثر شبها بالبنية المتغيرة على الدوام للماء السائل. وهذا الجليد، الذي يسمى الجليد اللابلوري، قادر على دعم تكوّن المركبات العضوية والحفاظ عليها حتى لو ارتفعت درجة حرارته. وعندما انهارت غيمة جزيئية في الماضي البعيد لتكوّن شمسنا الحارة، مثلا، تجمع بعض جليد الغيمة المحمل بالمركبات العضوية ليكوّن مذنبات يحتمل أن تكون قد اصطدمت بالأرض الفتية.
http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N2-3_H03_002163.jpg

 

وعندما درسنا كيفية توقف التبلور على الزمن ودرجة الحرارة، وجدنا أن المرحلة الأولى من التبلور الحقيقي تبدأ بدرجة حرارة قريبة من 135 درجة كلڤن، وأن جزيئات الماء عندئذ تُجبر على التكدس في نماذج مكعبة [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. ومع أن الجزيئات العضوية لن تعيش في هذا الجليد المكعب، فقد اكتشفنا أيضا أن مكوِّنا لابلوري مختلفا يظل باقيا حتى عندما يسخن الجليد. هذا ولا يتبلور سوى نحو ثلث الحجم الكلي من الجليد؛ ويتخذ الجزء الباقي بنية غير مرتبة تختلف قليلا جدا عن الصنفين اللابلوريين: العالي الكثافة والمنخفض الكثافة.

 

وقبل إجرائنا تجاربنا، كان الباحثون يعرفون أن الجليد اللابلوري يتحول إلى سائل لزج عند درجة حرارة بين 125 و 136 درجة كلڤن. وفي هذا النطاق يتغير معدل تسخين الجليد فجأة ـ وهذه ظاهرة معروفة جيدا من الدراسات التي أجريت على مواد لابلورية أخرى كزجاج النوافذ. ودون نطاق الحرارة الحرج هذا، الذي يسمى نطاق التحول الزجاجي glass transition، فإن المادة تقاوم محاولات تغيير شكلها وتسلك سلوك المواد الصلبة؛ أما فوق هذا النطاق، فيمكن قولبتها وإعطاؤها أشكالا مختلفة. ومع ذلك فإن لزوجة السائل عند درجة حرارة أعلى من درجة حرارة التحول الزجاجي، تجعل هذا السائل يشبه الدبس (المولاس) البارد أكثر من شبهه الماء العادي. والحركة التي تستغرق ثانية واحدة في ماء سائل تتطلب 000 100عام في هذا السائل اللزج. ومع ذلك، فلا يعد هذا وقتا طويلا في حياة مذنب.

 

ضمن الجليد النجمي بالذات اتحدت، للمرة الأولى، العناصر المهمة

بيولوجيا ـ الكربون والأكسجين والنتروجين ـ لتكوين مركّبات عضوية.

وحتى وقت قريب (حين أعلن اكتشافنا)، كان يُظن أن هذا القوام غير العادي للماء السائل نادر الوجود في الفضاء. وقد افترض معظم الباحثين أن الماء في درجة الحرارة هذه يتبلور بسرعة، متحولا إلى جليد مكعب الشكل، بيد أننا وجدنا أن هذا السائل اللزج يمكن أن يتعايش بلا حدود زمنية مع الجليد المكعب بين 150 و200 درجة كلڤن . ومن ثم فمن المحتمل أن يكون هذا السائل مكوِّنا مهما لسطوح المذنبات والأقمار الجليدية للكواكب المجاورة لنا، والتي تقع درجات حرارتها جميعا في هذا النطاق. وفيما يتعلق بالمذنبات، فإن الخليط المكوّن من السائل اللزج والجليد البلوري ربما يمكّنها من حجز جزيئات غازية تحت سطوحها، وهذا يساعدها على الحفاظ على مركّبات عضوية رئيسية أمدا طويلا ـ ربما يستمر ذلك حتى إلى حين بلوغ هذه المذنبات مدار الأرض حول الشمس.

 

وهذا يعيدنا ثانية إلى الصورة المألوفة أكثر لنا للجليد المائي على أرضنا. إن التسخين الإضافي لمزيج الجليد المكعب والماء السائل إلى نحو 200 درجة كلڤن ، سيؤدي إلى إعادة كاملة لبنية الجليد إلى صورته السداسية الأرضية. وخلال عملية إعادة التبلور هذه، تُطرح جميع الشوائب المتبقية ـ ومن ضمنها المركبات العضوية ـ خارج المادة الصلبة. وانطلاقا من هذه المرحلة، يصبح الجليد على النحو الذي نعرفه: وهو جليد الكُسَف الثلجية، والمجالد glaciers، ومكعبات الجليد. لكن، ولحسن الحظ، فإن للمواد العضوية حاليا مكانا جديدا تجد فيه الملجأ الآمن، ألا وهو الماء السائل الذي يوجد في كل بقعة تقريبا من الأرض.

 

يبدو أن الماء كان موجودا في كل مرحلة من مراحل تكوين ومعالجة الجزيئات الضرورية للحياة. وقد تحمَّل الرحلة الطويلة، منذ نشأته كجليد على حبيبات الغبار بين النجمي إلى مصيره النهائي كماء سائل على الأرض ـ وربما في مناطق مأهولة أخرى في الكون. هذه الصيغ الغريبة للجليد، إضافة إلى خاصياته الفيزيائية وكيميائياته التي بدأنا توّا بإدراكها، قد تُقدم في نهاية المطاف، إيضاحات حول تاريخ الكون أكثر مما توقعه العلماء في يوم ما

 

المؤلفان

David F. Blake – Peter Jenniskens

عملا معا في مركز بحوث إيمز التابع للوكالة ناسا منذ عام 1993. في ذلك العام فاز جينيسكنز بمنحة المجلس القومي للبحوث لدراسة الصور الجليدية غير العادية مع بليك في مختبر مجهريات العلوم الفضائية التابع للمركز، والذي أسسه بليك عام 1990. وبليك هو أيضا رئيس فرع البيولوجيا خارج الأرضية Exobiology Branch التابع لإيمز. وتتضمن اهتماماته البحثية الأخرى البحث عن علامات على وجود حياة في الصخور الموجودة خارج الأرض، وتصميم أجهزة للسفن الفضائية تُمكن من تحليل المعادن الموجودة في الكواكب الأخرى. وقد قاد جينيسكنز أيضا أول بعثة للبيولوجيا الفلكية، أطلقتها ناسا لاستكشاف كيف تأثرت الأرض بصدمات المادة المذنبية، خلال وابلات شهاب ليونيد Leonid التي حدثت منذ مدة قريبة.

 

مراجع للاستزادة 

Solar System Ices. B. Schmitt, C. DeBergh and M. Festou. Kluwer Academic Publishers, 1998.

Organic Molecules in the Interstellar Medium, Comets and Meteorites: A Voyage from Dark Clouds to the Early Earth. P. Ehrenfreund and S. Charnley in Annual Review of Astronomy and Astrophysics, Vol. 38, pages 427-483; 2000.

Ice at the NASA Ames Research Center:

http://exobfology.arc.nasa.gov/ice

Scientific American, August 2001

(*) The Ice of Life

(**) Space Out

(***) Overview / Shifting Bonds

(****) Earthbound

(*****) A morphous Journey

 

(1) مركب من السيليكون (السيليسيوم) والأكسجين. وهو من أكثر المواد انتشارا في الأرض، ومعظم الرمال منه. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى