أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء نظرية

فيزياء نانوية

فيزياء نانوية

ثمة مجال واسع حقًا(*)

ثمة مجال واسع للابتكارات العملية عند الأبعاد النانوية(1)، إلا أنه لا بد للعلماء

أن يدركوا بدايةً الحقائق الفيزيائية الفريدة التي تحكم المادة عند تلك الأبعاد.

<M. روكس>

 

في الشهر12/1959 ألقى <R. فاينمان> الذي حاز لاحقا جائزة نوبل، محاضرة ثاقبة الخيال، يتكرر الاستشهاد بها، بعنوان: «ثمة مجال واسع في القاع (الأسفل)(2). وقد ألقيت هذه المحاضرة في اجتماع الجمعية الأمريكية للفيزيائيين بمعهد كاليفورنيا للتقانة CIT، وهو المعهد الذي كان موطن فاينمان الفكري حينذاك والذي هو موطني الفكري حاليا. ومثلت كلمات فاينمان الـ 7000 لحظة حاسمة في عهد التقانة النانوية nanotechnology، قبل أن يظهر أي شيء «نانوي» في الأفق بزمن طويل، على الرغم من أنه لم يقصد ذلك منها.

 

لقد قال حينذاك ما يلي: «إن ما أريد أن أتحدث عنه هو مسألة منابلة الأشياء عند الأبعاد الصغيرة والتحكم فيها. والأمر الذي أوضحته هو أن هناك متسعا لتصغير الأشياء بطريقة عملية. وأودّ أن أبرهن الآن على أن ثمة مجالا واسعا لتحقيق ذلك. إنني لن أخوض الآن في كيفية القيام بذلك، وإنما فقط في ما هو ممكن من حيث المبدأ… فنحن ببساطة لا نفعل ذلك لأننا لم نجد بعد الوسائل اللازمة لذلك.»

 

إن اتساع رؤية فاينمان مذهل حقا. ففي تلك المحاضرة منذ 43 عاما توقّع فاينمان طيفا واسعا من الحقول العلمية والتقنية هي الآن في متناول أيدينا، من بينها توليد حزم الإلكترونات وحزم الأيونات، والتقيُّل بالحزم الجزيئيةmolecular-beam epitaxy، وليثوغرافيا الرسم النانوي nanoimprint lithography، ومجهريات الإسقاط الإلكتروني projection electron microscopy، ومنابلة الذرات واحدةً واحدة، وإلكترونيات المفعول الكمومي electronics quantum-effect، وإلكترونيات السپيناتspin electronics التي تسمى اختصارا سپنترونيكسspintronics، إضافة إلى النظم الكهرميكانيكية الميكروية (الصغرية)microelectromechanical systems  MEMS . كذلك أبرزت محاضرة فاينمان ماسُمّي «السّحر» الذي يسبغه على كل ما اتجه إليه فكره الفذ. وفي الحقيقة فقد ألهمت محاضرته تلك أبحاثي في مجال الفيزياء عند الأبعاد النانوية على مدى عقدين من الزمن.

 

وثمة حاليا اندفاع محموم نحو التقانة النانوية، وفي الحقيقة فإن جميع المؤسسات الكبرى تقريبا، التي تمول البحوث في مجالي العلوم والهندسة، أعلنت اقتحامها مجال التقانة النانوية. ويندفع عدد لا حصر له من الباحثين والمؤسسات لتحقيق تقدم في هذا المضمار. بيد أن من الإنصاف أن أقول إن كثيرا مما يتضمن كلمة «نانو» المبجلة لا يرقى تماما إلى غاية فاينمان.

 

لقد شرعنا توّا باتخاذ الخطوات الأولى نحو تصوراته العميقة التي تتناول تجميع آلات ودارات معقدة ذرة تلو ذرة. وما يمكن تحقيقه حتى الآن في هذا المضمار بدائي جدا. وبالتأكيد فإننا مازلنا بعيدين عن إنتاج نظم نانوية على نطاق تجاري واسع، بأعداد كبيرة، أي إنتاج نبائط نانوية nanodevices متعددة المكونات ومتكاملة بحيث تمتلك تعقيد الشيپات الميكروية microchips الحديثة وتغطي مجالات وظائفها. ومازالت لدينا قضية علمية أساسية في هذا الشأن، إذ يتضح لنا بصورة متزايدة أننا مازلنا على عتبة اكتساب المعرفة التفصيلية التي ستكون في قلب التقانة النانوية المستقبلية. ويتعلق هذا العلم الجديد بخصائص تجمعات الذرات والجزيئات وسلوكها عند أبعاد ليست من الكبر، بحيث يمكن النظر إليها على أنها ماكروسكوبية (عيانية، جهرية) macroscopic، لكنها أكبر كثيرا مما يمكن اعتباره ميكرويا microscopic. إنه علم الأبعاد الوسطيةmesoscale، وقبل أن نفهم هذا العلم سيكون من الصعب صنع نبائط عملية.

 

يقوم العلماء والمهندسون حاليا بتصنيع بنى نانوية بأبعاد تبلغ مئة أو بضع مئات من النانومترات – وهي أبعاد صغيرة حقا، ولكنها أكبر بكثير من أبعاد الجزيئات البسيطة. إن تحري سلوك المادة عند هذه الأبعاد هو أمر في غاية الصعوبة، فالمادة عندها تحتوي على عدد كبير من الذرات بحيث لا يمكن فهم سلوكها بواسطة التطبيق المباشر للميكانيك الكمومي (وذلك على الرغم من صلاحية القوانين الأساسية). ومع ذلك فإن هذه النظم ليست من الكبر بحيث تتحرر تماما من الآثار الكمومية، فهي إذًا لا تخضع ببساطة للفيزياء التقليدية التي تحكم العالَم الماكروي macroworld، بل تشغل مجالا يقع بين المجالين هو العالم الأوسط mesoworld حيث تظهر خصائص غير متوقعة للنظم الجماعية.

 

يتناول الباحثون هذه الحدود الانتقالية باستخدام طرائق تصنيع متممة نزولية (من الأعلى إلى الأدنى)، وصعودية (من الأدنى إلى الأعلى). إن التقدم في تقنيات التصنيع النانوي nanofabrication techniques النزولية، كما في  ليثوغرافيا الحزم الإلكترونية (التي تعتمدها مجموعتي في أبحاثها اعتمادا مكثفا) يؤدي إلى دقة تكاد تبلغ دقة الأبعاد الذرية إلاّ أن ضمان النجاح لدى الانتقال إلى أبعاد تصل إلى رقم نانومتري واحد، ناهيك عن تكرارية الإنتاج، هو أمر في غاية الصعوبة. وعوضاً عن ذلك يستخدم العلماء التقنيات الصعودية لتجميع الذرات تجميعا ذاتيا self-assembly. بيد أن التوصل إلى التجميع الذاتي المبرمج مسبقا لنظم كبيرة بالقدر الذي نريد، وبتعقيد يمكن مقارنته بما يجري كل يوم في مجال الإلكترونيات الميكروية وفي النظم MEMSوبما تصنعه أمنا الطبيعة (طبعا) ما زال أمرا بعيد المنال. ويبدو أن المقاربة النزولية ستبقى على الأرجح الطريقة المفضّلة لبناء نبائط معقدة جدا وذلك حتى أمد طويل [للمزيد انظر: «فن التصغير في صنع الأشياء»، في الصفحة 20].

 

إن الصعوبة التي تواجهنا عند التعامل من الأعلى أو من الأسفل مع الأبعاد الوسطية تنم عن تحد أساسي في الفيزياء. ويبدو أن فحوى كلام فاينمان عن أن «ثمة متسعا» أصبح يؤخذ مؤخراً على أنه رخصة للتقانة النانوية لتمضي حيث تشاء. إلاّ أن فاينمان لم يؤكد قط أن «القوانين تتوقف عن العمل وأن الأمور تجري بلا ضوابط» عند الأبعاد النانوية. فقد حذر مثلا من أن مجرد القيام بمحاولة «ترتيب الذرات واحدة تلو الأخرى على النحو الذي نريد» يخضع لمبادئ أساسية: «إذ لا يمكنك أن تضعها، مثلاً، بحيث تكون غير مستقرة كيميائيا»، ومن ثم، فإن بإمكان مجاهر مسابير المسح scanning probe microscopes الحالية تحريك الذرات من موضع لآخر على سطح مهيَّأ، بيد أن هذه الإمكانية لا تمنحها فورا المقدرة على بناء تجمعات جزيئية معقدة حسب الرغبة. إن ما أمكن تحقيقه حتى الآن، مع أنه مثير للإعجاب، ما زال محدودا تماما. ولسوف نطوِّر في نهاية المطاف إجراءات عملياتية تساعدنا على التوصل إلى تشكيل روابط ذرية منفردة في ظل ظروف أكثر عمومية. إلاّ أننا لدى محاولتنا تجميع شبكات معقدة من هذه الروابط، فمن المؤكد أن بعضها سيؤثر في بعضها الآخر بطرائق ما زلنا لا ندركها، ومن ثم نعجز عن التحكم فيها.

 

لقد كانت رؤية فاينمان الأصلية رؤية قصد منها الإيحاء. ولو كان يشهد ما يحدث الآن لأزعجه أن الناس ينظرون إلى تنبؤاته على أنها ضرب من الحقائق التي لا ريب فيها. فقد قدم تأملاته بطريقته المعهودة التي تجمع بين الدعابة والتبصّر العميق. وما يؤسفنا أن يكون المجال الذي أصبح معروفا باسم التقانة النانوية لم يكن إلاّ واحدا من المجالات العديدة التي أثارت اهتمامه. فهو لم يتابع ـ في واقع الأمر ـ العمل في هذا المجال باستثناء أنه أعاد إلقاء محاضرته في مختبر الدفع النفاث في عام 1983.

 

قوانين جديدة تسود(**)

في عام 1959، بل وحتى في عام 1983، كانت الصورة الفيزيائية الكاملة للأبعاد النانوية أبعد ما تكون عن الوضوح. وما يرضي الباحثين أنها – على وجه العموم ـ مازالت كذلك حتى يومنا هذا، ومازال جزء لا بأس به من ساحتها الغريبة ينتظر الاكتشاف. وكلما خضنا غمارها اكتشفنا ظواهر متنوعة كثيرة لا بد لنا من فهمها قبل أن تغدو التقانة النانوية العملية تقانة ممكنة. ولقد تكشّفت لنا خلال العقدين المنصرمين مبادئ فيزيائية أساسية تحكم السلوك عند الأبعاد الوسطية. لننظر في ثلاثة أمثلة مهمة:

 

في خريف عام 1987 كان طالب الدراسات العليا <J .B. ڤان ويس> [من جامعة دلفت للتقانة] و <H. ڤان هوتن> [من مختبرات أبحاث الشركة فيليپس (وكلاهما في هولندا)] وزملاؤهما يدرسون تدفق التيار الكهربائي عبر ما يعرف الآن باسم التماسات النقطية الكمومية quantum-point contacts. وهي عبارة عن ممرات ضيقة لنقل التيار داخل مادة شبه موصلة حيث تجبر الإلكترونات على التدفق عبرها [انظر الشكل التوضيحي في الصفحة 34]. وفي مساء أحد الأيام كان مساعد کان ويس الطالب الجامعي <L. كُووِنهوڤن> يقيس الموصلية(3) عبر التضيُّق لدى تغيير عرضه تغييرا مطردا، ولم يكن فريق البحث يتوقع أن يرى سوى تأثيرات دقيقة في الموصلية على خلفية سلسلة ما كانت تثير الاهتمام. إلاّ أنه بدلا من ذلك ظهر شكل ملحوظ جدا يشبه الدرج أصبح الآن مميزا. وقد بيَّن التحليل اللاحق في تلك الليلة أن الدرجات plateaus كانت تحدث عند فواصل  منتظمة ودقيقة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002538.jpg

عن طريق النبائط النانوية الحديثة، كهذه المرنانات الكهرميكانيكية النانوية، يتمكن العلماء من اكتشاف قوانين الفيزياء التي تحكم الخصائص الفريدة للمادة عند الأبعاد الوسطية.

 

يتضح لنا يوما بعد يوم أننا مازلنا في بداية الطريق لاكتساب

المعرفة المعمقة التي ستكون في قلب التقانة النانوية المستقبلية.

ورصد كل من <D. وارام> و <M. پِپَر> [من جامعة كامبردج] نتائج مماثلة. وقد مثل هذان الاكتشافان أول الدلائل القوية على تكميم quantization  الموصلية الكهربائية، وهذه صفة أساسية للموصلات الصغيرة، تظهر حين تبقى الخواص الموجية للإلكترونات مترابطة من «المنبع» source وحتى «المصرف» drain  ـ أي بين المدخل والمخرج ـ في نبيطة نانوإلكترونيةnanoelectronic device.

 

لقد توقع فاينمان ـ ولو جزئيا ـ سلوكا غريبا كهذا عندما قال «لقد فكرت في بعض المسائل المتعلقة ببناء دارات كهربائية في أبعاد صغيرة، وإن مشكلة المقاومة مشكلة مهمة…». بيد أن الاكتشافات التجريبية أشارت إلى أمر هو في الحقيقة جديد وأساسي: فالميكانيك الكمومي يستطيع أن يحكم سلوك النبائط الكهربائية الصغيرة بصورة كاملة.

 

لقد توقع <R. لانداور> [وهو نظري يعمل في الشركة IBM، قدم أفكارا رائدة في مجال الإلكترونيات النانوية وفي فيزياء الحوسبة]، تجليات مباشرة للميكانيك الكمومي في نبائط كهذه منذ عام 1957. إلاّ أن التحكم في المواد والتصنيع النانوي لم يبدأ بتوفير إمكانية النفاذ إلى هذا النظام مختبريا إلاّ في أواسط الثمانينات من القرن العشرين. ويذكر أن اكتشافات عام 1987 آذنت ببلوغ الأوج في مضمار «الرؤية الوسطية» mesoscopia.

 

ثمة مثال مهم آخر يرتبط بقوانين الأبعاد الوسطية المكتشفة حديثا، وهو اكتشاف قاد إلى ولادة التقانة النانوية يعود الفضل فيه إلى <D. ليخاريڤ> في عام 1985. وليخاريڤ أستاذ فيزياء يعمل في جامعة موسكو الحكومية، ومعه الزميل ما بعد الدكتوراه <A. زورين> والطالب الجامعي <D. آڤرين>. فقد توقع هؤلاء أن يتمكن العلماء من التحكم في حركة إلكترون مفرد من حيث الوصل on أو الفصل off عبر ما يسمى بجزيرة كولونيةcoulombisland  ـ وهي موصل يرتبط ارتباطا ضعيفا بسائر الدارة النانوية. ويمكن لهذا الاكتشاف أن يكون أساسا لنبيطة من نوع جديد تماما تدعى ترانزستور الإلكترون المفرد. إن الآثار الفيزيائية الناشئة عن وضع إلكترون مفرد في جزيرة كولونية تصبح أكثر متانة عندما نسعى إلى تصغير أبعاد الجزيرة؛ ففي النبائط الصغيرة جداً يمكن لتأثيرات الشحن بإلكترون مفرد أن تسيطر على تدفق التيار سيطرة تامة.

 

تكتسب اعتبارات كهذه أهمية متزايدة من الناحية التقانية. وتشير تنبؤات الشركةInternational Technology Roadmap for Semiconductors  التي أعدها مفكرون ذوو باع طويل في الصناعة، إلى أنه بحلول عام 2014 سيتضاءل حجم الترانزستورات في الشيپات الحاسوبية إلى 20 نانومترا. وعند هذا المقياس ستتضمن كل حادثة وصل أو فصل ما يقارب ثمانية إلكترونات فقط. وستصبح التصاميم التي تعتمد على الشحن بإلكترون مفرد حاسمة.

 

إن التقدم الذي أحرزته الصناعة النانوية بحلول عام 1987 لكل من <A .T. فلتون> و <J .G. دولان> [من مختبرات بِل] أتاح بناء أول ترانزستور من صنف الإلكترون المفرد [انظر الشكل في الصفحة 36]. ومنذ ذلك الحين، شوهدت حادثة الشحن بإلكترون مفرد التي رصداها والتي يطلق عليها الآن اسم الحصار الكولوني coulomb blockade، في تشكيلة واسعة من البنى. وفي الوقت الذي تغدو فيه النبائط التجريبية أصغر فأصغر فإن ظاهرة الحصار الكولوني تصبح هي القاعدة بدلا من أن تكون الاستثناء في النبائط النانوية ذات الترابط الضعيف. ويصح هذا بنوع خاص في التجارب التي تمرر فيها التيارات الكهربائية في الجزيئات المنفردة، إذ يمكن لهذه الجزيئات أن تسلك سلوك جزر كولونية بفضل ارتباطها الضعيف بالإلكترودات (المساري) electrodes  التي تصلها بالعالم الماكروي. إن تسخير هذا الأثر للحصول على ارتباط متين قابل للتكرار مع جزيئات صغيرة (وبطرائق يمكن تحقيقها هندسيا) هو من بين التحديات المهمة فعلا في ميدان الإلكترونيات الجزيئية الجديد.

 

في هذا السياق، كنت في عام 1990 أعمل في مختبر بحوث بِل للاتصالات، وكنت منهمكا بدراسة انتقال الإلكترون في أشباه الموصلات الوسطية، وكنت أشارك في مشروع جانبي برفقة زميليَّ <L. شياڤون> و<A. شِرر> يهدف إلى تطوير تقنيات كنا نأمل أنها ستسلط ضوءا على الطبيعة الكمومية للتدفق الحراري. ولقد تطلَّب العمل استعمال بنى نانوية أكثر تعقيدا من النبائط المستوية المستخدمة لتحري الإلكترونيات الوسطية. وقد تطلَّب الأمر منّا تأمين نبائط معلَّقة تعليقا حرّا، وهي بنى تتميز ببروز كامل ثلاثي الأبعاد. وقد صَحَّت عليّ حينذاك مقولة: «الجهل نعمة»، إذ لم أكن أدرك قط أن التجارب ستكون على تلك الدرجة من التعقيد بحيث تستغرق نحو عقد من الزمن لتحقيقها.

 

نظرة إجمالية إلى الفيزياء النانوية(***)

•  توجد نبائط التقانة النانوية، التي هي أصغر من الأجسام الماكروية وأكبر من الجزيئات، في عالَم فريد هو عالم الأبعاد الوسطية، حيث يحكم خصائصَ المادة مزيجٌ معقد وغني من قوانين الفيزياء التقليدية والميكانيك الكمومي.

•  لن يتمكن المهندسون من صنع نبائط نانوية مثلى، أو يمكن الاعتماد عليها، ما لم يدركوا المبادئ الفيزيائية التي تسود الأبعاد الوسطية.

•  يكتشف العلماء قوانين الأبعاد الوسطية عن طريق صوغ نظم غير عادية معقدة من الذرات، وقياس سلوكها المثير.

•  إذا فهمنا الأساس العلمي للتقانة النانوية أمكننا تحقيق رؤية ريتشارد فاينمان العميقة، ألا وهي أن الطبيعة تركت لنا مجالا واسعا في العالم النانوي لابتكار نبائط عملية يمكن تسخيرها لخدمة البشرية.

 

أما أولى الخطوات الواسعة فقد تحققت بعد أن انتقلتُ إلى المعهد كالْتِكCaltech عام 1992 وذلك بالتعاون مع <J. وورلوك> [من جامعة يوتاه] وزميلين باحثين لما بعد الدكتوراه في مجموعتي. فقد طوَّر <T. تيگ> الطرائق والنبائط التي مكنت من إجراء أول قياسات مباشرة لتدفق الحرارة في البنى النانوية. وقام <K. شواب> بعد ذلك بمراجعة تصميم البنى النانوية المعلَّقة، ووضَع تجهيزات بالغة الحساسية فائقة الموصلية لسبر التغيرات الطارئة فيها عند درجات الحرارة المنخفضة جدا، حيث يمكن ملاحظة الآثار بوضوح تام.

 

وفي أواخر صيف عام 1999 بدأ <شواب> برصد تدفق الحرارة عبر جسور نانوية من نتريد السيليكون [انظر الشكل في هذه الصفحة]. وقد برز الحدّ الأساسي للتدفق الحراري في البنى الوسطية حتى في البيانات الأولية هذه. ويُعرف هذا الحدّ اليوم باسم «كموم (كم) الموصلية الحرارية» thermalconductance quantum. وهو يحدّد المعدل الأعظمي الذي يمكن أن تحمله اهتزازة ميكانيكية موجيّة منفردة تنتشر من مدخل نبيطة نانوية إلى مخرجها. وهو شبيه بـ «كموم» الموصلية الكهربائية إلاّ أنه يحكم نقل الحرارة.

 

يعد هذا الكموم معاملا مهما في الإلكترونيات النانوية، فهو يمثل الحدَّ النهائي لمسألة تبديد الطاقة power-dissipation problem. وباختصار يمكننا القول إن جميع النبائط «الفعالة» تتطلب بعض الطاقة حتى تعمل. ولكي تعمل بصورة مستقرة دون ارتفاع مفرط في درجة حرارتها، لا بد من ابتكار تصميم يسمح بانتزاع الحرارة التي تبددها. وفيما يحاول المهندسون زيادة كثافة الترانزستورات ومعدلات تواتر ساعات المعالجات الميكروية، تتزايد بصورة هائلة مشكلة الحفاظ على الشيپات الميكروية باردة لتجنّب انهيار عمل المنظومة بأكملها، ولسوف تتفاقم هذه المشكلة بالانتقال إلى التقانة النانوية.

 

عندما نظر فاينمان في أمر هذا التعقيد قال: «لنترك المحامل bearings تنضب؛ إنها لن تسخن لأن الحرارة تتسرب بيسر وسرعة من نبيطة صغيرة كهذه». بيد أن تجاربنا تشير إلى أن الطبيعة هي أكثر تقييدا من ذلك. فكموم (كم) الموصلية الحرارية يمكن أن يضع حدودا لمدى فعالية تبديد الحرارة من نبيطة صغيرة جدا. ولا يصح تصوُّر فاينمان إلاّ إذا صمّم المهندس النانوي بنية آخذا هذه الحدود بعين الاعتبار.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002539.jpg

مكّنت نبيطةُ الجسر النانوني الفيزيائيين في المعهد كالتك من رصد تكميم الموصلية الحرارية ـ الأمر الذي يضع حدا أساسيا لتدفق الحرارة عبر الأجسام الصغيرة. إن الثقوب الأربعة [السوداء] المحفورة في غشاء من نتريد السيليكون تحدد نطاق مستودع حراري معزول [المربع المركزي الأخضر] وهو معلق بأربعة جسور ضيقة. ويستخدم محوال من الذهب [اللون الأصفر] لتسخين المستودع كهربائيا، في حين يستخدم محوال آخر لقياس درجة حرارته. وتَربط أغشية رقيقة من مواد فائقة الموصلية [اللون الأزرق] تعلو الجسور المحوالات كهربائيا بتجهيزات بعيدة عن الشيپة لكنها لا تحمل أية حرارة. وهكذا فالطريق الوحيد لتبريد المستودع الحراري هو عبر جسور نتريد السيليكون، وهي من الضيق بحيث لا تمرر سوى الموجات الحرارية الأخفض طاقة.

 

من هذه الأمثلة الثلاثة المذكورة آنفا يمكن الوصول إلى نتيجة واحدة فقط هي أننا بدأنا توّا بكشف النقاب عن الطرائق المعقّدة المختلفة اختلافا رائعا والتي تعمل بموجبها المنظومات النانوية. فاكتشاف كموم الموصلية الكهربائية وكموم الموصلية الحرارية، وكذلك رصد الحصار الكولوني هي بمثابةانقطاعاتdiscontinuities حقيقية – تغيرات مفاجئة في فهمنا لسلوك المادة. وليس من عادتنا اليوم أن نسمّي اكتشافاتنا «قوانين». ومع هذا فلا يساورني أدنى شك في أن تكميم الموصلية الحرارية والموصلية الكهربائية وظواهر الشحن بإلكترون مفرد هي بالفعل من القواعد العامة للتصميم النانوي؛ وهي بمثابة قوانين جديدة للعالم النانوي؛ ولا تتعارض مع تصورات فاينمان الأصلية بل تعزّزها وتسلط الضوء عليها. ويبدو أنه تنبأ حقا بظهورها حين قال: «لدينا في المستوي الذري أصناف جديدة من القوى وأصناف جديدة من الإمكانات وأصناف جديدة من الآثار. وستكون مسائل تصنيع المواد وإعادة إنتاجها مختلفة اختلافا كاملا».

 

وسنواجه مزيدا من مثل هذه الانقطاعات في الطريق إلى التقانة النانوية الحقيقية. وستحدث هذه المفاجآت السارة بتزامن مباشر مع تقدم إمكاناتنا لرصد البنى النانوية وسبرها والتحكم فيها. لذا فإن من الحكمة أن نكون متواضعين وحذرين فيما يتعلق بالتنبؤ في مجال التقانة النانوية.

 

الجوانب المضيئة والجوانب  المظلمة للنانوية(****)

كثيرا ما يصوِّر الروائيون ودعاة المستقبلية(4) والصحفيون العالَم النانوي على أنه مجال لانهائي الإمكانات. إلاّ أنه تبين لك من إطلاعك على ما أوردناه أن هذا المجال ليس صورة مصغرة جدا عن «الغرب الضاري» Wild West. فالأمور لا تجري فيه بلا ضوابط، بل ثمة قوانين تحكمها. ويأتي الدليل القاطع على ذلك من مثالين من النظم الكهرميكانيكية النانوية MEMS، وهو المجال الذي أمارس العمل فيه حاليا.

 

إنني أكرس بعض أبحاثي في مجال تسخير النبائط الميكانيكية الصغيرة لأغراض التحسس (الاستشعار)، إذ يبدو أن البنى في المنظومة النانوية تقدم إمكانات هائلة. فكلما صغرت أبعاد النبيطة كانت أكثر عرضة لتغيُّر خواصها الفيزيائية، وكمثال على ذلك نذكر المكاشيف المرنانة (التجاوبية) resonantdetectors  التي كثيرا ما تستخدم لتحسس الكتلة. فاهتزازات عنصر ميكانيكي دقيق مثل كابول(5) صغير small cantilever  يرتبط بكتلة العنصر ارتباطاً وثيقا، بحيث إن إضافة قدر ضئيل من مادة غريبة («العينة» التي يراد وزنها) ستؤدي إلى انزياح في التواتر المرناني. وتبين الأبحاث الحديثة التي أجراها في مختبري <K. إيكنسي> أن النبائط النانوية يمكن أن تُجعل حساسة لدرجة تؤهلها «لوزن» ذرات وجزيئات منفردة.

 

خطوة واحدة كل مرة(*****)

تكميم الموصلية الكهربائية

بنى <J .B. ڤان ويس> وفريقه من جامعة دلفت للتقانة ومختبرات بحوث الشركة فيليبس [وكلاهما في هولندا] عام 1987 بنية جديدة [ميكروگراف] كشفت النقاب عن قانون أساسي يحكم دارات التقانة النانوية. وُضعت إلكترودات (مَسارٍ) electrodes  بوابيّة من الذهب [المناطق الساطعة] فوق ركيزة substrate من مادة شبه موصلة [الخلفية القاتمة]. ووضعت ضمن الركيزة صفيحة مستوية من حوامل الشحنات، تدعى غازا إلكترونيا ثنائي البعد، تحت السطح بنحو 100 نانومتر. لقد عملت البوابتان والغاز عمل لوحيْ مكثفة.

ولدى تطبيق انحياز ڤلطية سالبة على البوابتين، فإن الإلكترونات في الغاز تحت البوابتين وفي محيطهما المجاور القريب تندفع بعيدا عنها [يبين الشكل هذه الحالة]. وبزيادة الڤلطية السالبة تغدو «حافة النضوب» هذه أشد وضوحاً. وعند بلوغ عتبة محددة تنفصل حاملات الشحنة على طرفي التضيّق [بين النقطتين A  و B]، وتغدو الموصلية عبر النبيطة معدومة. واعتبارا من مستوى العتبة هذه لا تستأنف الموصلية زيادتها بسلاسة وإنما تزداد على هيئة درجات. وتحدث هذه القفزات عند قيم محددة تساوي ضعف مربع شحنة الإلكترون مقسوما على ثابت پلانك. وتسمى هذه النسبة الآن كموم الموصلية الكهربائية، وهي تشير إلى أن التيارات الكهربائية تتدفق في الدارات النانوية بمعدلات تخضع لمتطلبات الميكانيك الكمومي.

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002540.jpg

 

بيد أن ثمة جانبا مظلما للقضية؛ فالذرات والجزيئات الغازية ما تنفك تُمتَزُّadsorb على سطح النبيطة وتُلفظ عنه. وإذا كانت النبيطة ماكروية فإن التغير الجزئي الناتج من ذلك في كتلتها سيكون مهملا، في حين أن هذا التغير يكون ذا شأن في البنى النانوية. ويمكن للغازات التي ترتطم بمكشاف مرناني أن تغير التواتر المرناني عشوائيا. ويبدو أنه كلما صغرت النبيطة كانت أقل استقرارا، وقد يخلق عدم استقرار النبيطة عقبة حقيقية لأنواع عديدة من التطبيقات المستقبلية التي تتطلب معالجة إشارة كهرميكانيكية. قد يستطيع العلماء الالتفاف على هذه المشكلة، مثلا، باستخدام صفيفات من النبائط النانوميكانيكية، وذلك بهدف تقليل التأرجحات. أما فيما يتصل بالعناصر المنفردة فيبدو أن المشكلة مستعصية على الحل.

 

ومثال آخر على أنّ «الأمور لا تجري بلا ضوابط» في العالم النانوي، يرتبط بالاقتصاديات، وينشأ عن مستويات القدرة الضعيفة جدا ultralow power  التي  تعمل عندها النبائط النانوميكانيكية. فالفيزياء تحدّد عتبة أساسية لقدرة التشغيل الدنيا: إذ تفرض الاهتزازات الحرارية العشوائية الموجودة في كل مكان لنبيطة ميكانيكية «أرضية ضجيج» noise floor يتعذر دونها تمييز إشارات حقيقية. فلدى استخدام النبائط النانوميكانيكية عمليا نلجأ إلى إثارتها بمستويات إشارة تزيد ألف ضعف أو مليون ضعف على هذه العتبة. ومع هذا فلا تزال هذه المستويات لا تساوي إلاّ جزءا من مليون أو جزءا من بليون جزء من القدرة المستعملة في الترانزستورات المألوفة.

 

إن ميزة بعض المنظومات أو الحواسيب المستقبلية التي تتولى معالجة الإشارة الميكانيكية النانوية هي أن مليونا من العناصر الميكانيكية النانوية لا يبدد إلاّ جزءا من مليون من الواط في المتوسط. وقد تتيح نظم قدرة منخفضة جدا كهذه انتشار وتوزيع محسات «ذكية» smart ورخيصة ومنمنمة جدا، بحيث يكون بإمكانها توفير مراقبة مستمرة لجميع الوظائف المهمة في المستشفيات وفي المنشآت الصناعية وفي الطائرات وغيرها. وهكذا فإن فكرة النبائط المنمنمة جدا، التي تستنفد بطارياتها ببطء شديد، ولا سيما تلك المزوّدة بقدرة حاسوبية تمكّنها من العمل باستقلالية، هي فكرة جذابة جدا.

 

تمثل صعوبات الاتصال بين العالم النانوي والعالم الماكروي

مشكلة مركزية في تطوير التقانة النانوية.

على أن ثمة جانبا مظلما هنا أيضا، فنظام القدرة المنخفضة جدا دخيل على الإلكترونيات السائدة هذه الأيام، وعليه فإن النبائط النانوية تتطلب نظاماً جديدا تماما من حيث التركيب والتوزيع يتلاءم مع عتبات القدرة البالغة الانخفاض. وهذا ما لا يتوقع أن ترحب به صناعة الحواسيب نظرا لاستثماراتها الهائلة في النبائط الحالية وطرائقها. فتكلفة منشأة جديدة من منشآت معالجة أشباه الموصلات تتجاوز اليوم بليون دولار، وربما تطلب الأمر إعادة تزويدها بالأدوات لكي تكون مفيدة. ومع هذا فإنني على ثقة من أن الآفاق الثورية للنبائط النانوية ستفرض إدخال تلك التغييرات في نهاية المطاف.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002541.jpg

تنبأ فاينمان ببزوغ شمس التقانة النانوية في محاضرة بالغة الأهمية ألقاها عام 1959 في المعهد كالتك؛ فقد قال: «إن المبادئ الفيزيائية لا تتناقض مع إمكانية تداول الأشياء ذرة ذرة.» لكنه توقع أيضا أن تسود عندئذ قوانين فريدة، وهي قوانين تُكتشَف حاليا بالفعل.

 

تحديات هائلة(******)

من المؤكد أنه لا بد من معالجة فيض كبير من القضايا البادية للعيان قبل أن نستفيد من إمكانات النبائط النانوية، ومع أن لكل حقل من حقول البحث مشكلاته الخاصة به، فإن هناك أمورا عامة لا بد من مواجهتها. فعلى سبيل المثال، ثمة تحديان أساسيان بالنسبة إلى عملي الحالي في مجال النظم الميكانيكية النانوية، لهما علاقة بالتقانة النانوية عموما.

 

التحدي الأول: الاتصال بين العالم الماكروي والعالم النانوي: إن النظم الكهرميكانيكية النانوية MEMS  صغيرة الحجم لدرجة لا تكاد تصدق، ومع ذلك فإن حركتها يمكن أن تكون أصغر بكثير. فمثلا إذا ربطت كمرة beam نانوية من طرفيها اهتزّت بحد أدنى من التشوُّه التوافقي إذا بقيت سعة اهتزازها أدنى من جزء صغير من سُمْكها. فإذا كان سمك الكمرة 10 نانومترات فإن هذه السعة لا تتجاوز بضعة نانومترات. وبالطبع فإن بناء المحوال transducer  الفعال اللازم لنقل المعلومات من نبيطة كهذه إلى العالم الماكروي يتطلب بالضرورة قراءة المعلومات بدقة أكبر.

 

ومما يزيد المشكلة تعقيدًا ازدياد التواتر الطبيعي للاهتزاز بانخفاض أبعاد الكمرة. وعليه فلكي نقتفي أثر اهتزازات النبيطة يتعين أن يكون المحوال في النظم الكهرميكانيكية النانوية MEMS  قادرا على تمييز الانزياحات الصغيرة جدا، أي ضمن حدود الپيكومتر (12-10 متر) أو الفمتومتر (15-10 متر) على امتداد حزم عريضة جدا (تمتد حتى مجال الموجات الميكروية). ويشكل هذان الأمران التوأمان تحديا هائلا في واقع الأمر يفوق التحديات التي سبق أن واجهناها في النظم MEMS حتى الآن. أضف إلى هذا التعقيد أن معظم الطرائق والمنهجيات المطبقة في النظم MEMS لا تصلح للتطبيق هنا، إذ لا يمكن أن تُختزَل كثيرا إلى أبعاد نانومترية.

 

تمثل صعوبات الاتصال هذه بين العالَم النانوي والعالَم الماكروي موضوعا شاملا في تطوير التقانة النانوية. ففي نهاية المطاف ستعتمد التقانة على مسالك متينة متقنة هندسيا لنقل المعلومات من جزيئات ماكروية منفردة. ومع أن رؤية المستقبليين الكبرى يمكن أن تتضمن الإنسالات النانوية( nanobots(6 المبرمجة ذاتيا والتي لا تتطلب توجيها من العالم الماكروي إلاّ في بادئ الأمر قبل شروعها بالحركة، فإنه يبدو أن الأمر الأكثر احتمالا هو أن معظم تطبيقات التقانة النانوية، مما يمكن إنجازه خلال حياتنا، سوف يستلزم شكلا ما من وسائل نقل المعلومات صعودا إلى العالم الماكروي، ثم التغذية الراجعة، ثم التحكم هبوطا نحو النظم النانوية. وعليه فستبقى مشكلة الاتصال مشكلة مركزية.

 

إن تنسيق اتصالات كهذه ينطوي على احتمال واقعي جدا لحصول أضرار ملازمة. فالنظرية الكمومية تقول إن عملية قياس نظام كمومي تكاد تولِّد دائما اضطرابا فيه. ويبقى الأمر صحيحا حتى عندما ننتقل من الأبعاد الذرية والجزيئية إلى النظم النانوية التي تضم ملايين الذرات أو البلايين منها. فربط نظام نانوي بمسابير تعيد المعلومات إلى العالم الماكروي يغير دائما من خواص النظام النانوي إلى درجة معينة، الأمر الذي يجعله غير مثالي. كما أن إدخال المحوالات اللازمة لتأمين الاتصال لن يزيد من حجم المنظومة النانوية وتعقيدها فحسب، بل إن هذه المحوالات ستستجر بعض الطاقة لإجراء القياسات المطلوبة منها، مما قد يسيء إلى أداء المنظومة النانوية. فالقياس دائما له ثمنه.

 

في كل نظام جديد للمعرفة تبرز ظاهرة علمية باهرة

إلا أنه تظهر بعد ذلك مشكلات شائكة وغير متوقعة لا حصر لها

التحدي الثاني: السطوح، يؤدي تقليص النظم MEMS إلى النظم NEMS إلى  تزايد هيمنة السطوح على فيزياء النبيطة. إن معظم أساس فيزياء الجسم الصلب يستند إلى افتراض أن نسبة سطوح الأجسام إلى حجومها صغيرة جدا، بمعنى أن خصائص المادة تهيمن عليها دائما فيزياء الحجم. أمّا النظم النانوية فهي صغيرة لدرجة تنهار معها هذه الفرضية تماما.

 

أخذ الشحنة(*******)

إلكترونيات مفردة

لقد أتاح التقدم في التصنيع النانوي لكل من <A .T. فلتون> و <J .G. دولان> صنع ترانزستور بإلكترون مفرد في مختبرات بل عام 1987 [ميكروگراف]. وقد تحقَّق في هذه البنية النانوية التحكم لأول مرة  في حركة الإلكترونات المفردة عبر نبيطة نانوية. توجد في قلب الترانزستور جزيرة كولونية، وهي عبارة عن إلكترود معدني معزول عن الإلكترودات المقابلة بحواجز رقيقة من الأكسيد العازل (انظر الشكل). تنقل الإلكترودات المقابلة القياسات إلى أجهزة المختبر ذات الأبعاد الماكروية المستخدمة لإجراء التجارب. وقد استخدم إلكترود بوابي إضافي [يُرى في الشكل وليس على الميكروگراف] تفصله عن الجزيرة الكولونية فجوة صغيرة، الأمر الذي يسمح بالتحكم المباشر في الشحنة التي يتم إدخالها إلى الجزيرة. سرى التيار الكهربائي عبر النبيطة من إلكترود مقابل لآخر، تماما كما يحدث في الدارة التقليدية، غير أن التيار هنا كان يتم على شكل درجات ترتبط بقفز الإلكترونات من الجزيرة الكولونية وإليها.

تبين تجارب فلتون ودولان الفيزياء الأساسية للشحن بإلكترون مفرد، كما تبين إمكانية استخدام هذه النبائط كمقاييس للكهربائيةelectrometers  فائقة الحساسية، وهي تجهيزات تسمح بالكشف عن شحنات الإلكترونات المفردة. يمكن للدارات التي توضع في حالة وصل أو فصل بإلكترون مفرد أن تصبح يوماً ما أساس طائفة جديدة من الإلكترونيات النانوية. إن ابتكار إلكترونيات كهذه ينذر بحدوث مشكلات لا بد من مواجهتها حين تتقلص الدارات الإلكترونية التقليدية من أبعادها الحالية إلى الأبعاد النانوية.

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002542.jpg

 

فعلى سبيل المثال، إن النبائط الميكانيكية المشكَّلة من مواد فائقة النقاوة وأحادية البلورة يمكن أن تحتوي على عدد ضئيل جدا (أو حتى صفر) من العيوب البلورية والشوائب. ونتيجة لذلك كنت آمل في بادئ الأمر أن يكون تخامد الاهتزازات الميكانيكية في النظم MEMS ذات البلورات الأحادية ضعيفا جدا. إلاّ أنه بتقليصنا النبائط الميكانيكية كنا نجد دائما أن الضياع في الطاقة الصوتية يزداد متناسبا مع زيادة نسبة السطح إلى الحجم. وواضح أن هذه النتيجة تعني تورط السطوح في آليات ضياع الطاقة الاهتزازية في النبائط. ففي كمرة سيليكونية فائقة التطور طولها 100 نانومتر وعرضها 10 نانومترات يكون ما يزيد على 10 في المئة من ذراتها عند السطح أو في جواره المباشر. وجليّ أن هذه الذرات ستؤدي دورا مركزيا، ولكن فهم كيفية أداء هذا الدور يتطلب جهدا كبيرا متواصلا.

 

وبهذا الصدد يبدو ما يسمى بنى الأنابيب النانوية nanotube structures التي  كثر الحديث عنها مؤخرا، مثاليا. وليس الأنبوب النانوي إلاّ مادة بلورية عَصَوية، تصلح كثيرا لتأليف البنى المهتزة المصغرة التي تهمنا. ونظراً لانعدام المجموعات الكيميائية التي تبرز من هذه البنى على امتدادها، فإن المرء يمكن أن يتوقع أن يكون تفاعلها مع المواد «الغريبة» عند سطحها بحده الأدنى. إلاّ أن الأمر يبدو خلاف ذلك، فمع أن الأنابيب النانوية تبدي صفات مثالية حين تحاط بأوساط خلاء نقية فائقة التفريغ، إلا أن العينات في الظروف الاعتيادية، حين تكون معرضة للهواء أو لبخار الماء، تبدي خصائص إلكترونية مختلفة إلى حدٍّ بعيد. ويرجَّح أن تكون للخصائص الميكانيكية حساسية مشابهة. وهكذا فإن للسطوح أهميتها الأكيدة، وعليه يبدو أنه ليس ثمة دواء عام يشفي من جميع الأمراض.

 

ربَّ ضارة نافعة(********)

إن التفكير المستقبلي حاسم في إحداث القفزات الكبيرة. إنه يضع أمامنا أهدافا جامحة ومجنونة جديرة بأن نسعى حثيثا إلى بلوغها. ويدفعنا إلى ذلك الأمل في بلوغ المجد. حتى إن كيميائي القرن التاسع عشر الشهير كيكولهKekulé قال مرة: «لنتعلم أيها السادة أن نحلم فربما نصل بذلك إلى الحقيقة… ولكن لنكن حذرين من نشر أحلامنا قبل أن يبرهن عليها الفهم اليقظ.»

 

يصح هذا تماما في العلوم النانوية، ففي الوقت الذي نحتفظ فيه بأحلامنا المستقبلية حيّة، علينا أيضا الإبقاء على توقعاتنا واقعية. ويبدو أنه في كل مرة نلج نظاما يختلف بمعامل 10 ـ يفترض أنه أفضل ـ يحدث أمران: أولهما بروز ظاهرة علمية باهرة وغير متوقعة، يليها فيض من مشكلات جديدة شائكة غير متوقعة كذلك. ولقد بقي هذا النمط يواجهنا كلما اتجهنا نحو تصغير الأبعاد أو زيادة الحساسية أو مضاعفة الميْز المكاني أو الاتجاه نحو زيادة شدة الحقل المغنطيسي أو الكهربائي أو نحو تخفيض الضغط أو درجة الحرارة وغير ذلك. وهذا هو لبّ المسألة الذي يجعل القفز نحو مراتب كِبَر كثيرة أمرا محفوفا بالخطر عادة. وهو ما يجب أن يجعلنا نحس بالتواضع عند هذه البداية من رحلتنا. لقد أعدت الطبيعة قوانينها لنا، وما علينا إلاّ أن نفهم أسرارها ونسخّرها لخدمتنا.

 

وما إن ننطلق بحثا عن المجهول حتى تفاجئنا الطبيعة غالبا بما يبدو أول وهلة أنه أمور لا معنى لها، عشوائية مخيبة للآمال صعبة الإدراك. لكن كثيرا ما يتبين أن المعرفة التي نكتسبها من إخفاقاتنا أكثر أهمية حتى من الهدف الذي يدفعنا إلى البحث. وحتى لو ثبتت حماقاتنا بهذه الطريقة، فقد يكون ذلك مبعث ابتهاجنا بالعمل العلمي. إذ لو كنا نمتلك المقدرة على استقراء كل شيء على نحو صحيح منذ البدء لكان تعقب مسيرة العلوم جافا وآليا. والحقيقة المبهجة هي أننا في النظم المعقدة لا نعلم كل ما هو مهم، بل ربما لا نتمكن من ذلك في نهاية المطاف.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002543.jpg

يتغلب المضخم الميكانيكي النانوي nanomechanical amplifier على المشكلة المحيرة وهي الاتصال بالعالم الماكروي، وذلك عن طريق تأمين تضخيم للقوى الصغيرة ألف مرة. يدعم جسران معلقان [في اليسار واليمين] مصنوعان من كربيد السيليكون الأحادي البلورة الجسر المستعرض المركزي، حيث تطبق إشارة القوة. إن وجود إلكترودات من أغشية رقيقة [اللون الفضي] فوق هذه البنى يوفِّر قراءات دقيقة جدا للحركة النانوية.

 

إن للنظم المعقدة حساسية فائقة لفيض من القيم parameters التي تقع خارج نطاق إمكاننا الإحساس بها أو تسجيلها، ناهيك عن التحكم فيها بدقة وبانتظام كاف. لقد درس العلماء المادة، وفهموها إلى درجة كبيرة نزولا حتى الجسيمات الأساسية التي تتركب منها النيوترونات والپروتونات والإلكترونات التي هي على جانب كبير من الأهمية للكيميائيين والفيزيائيين والمهندسين. إلاّ أننا لا نستطيع حتى الآن أن نتنبأ، على وجه اليقين، بكيفية تصرف تجمعات ـ معقدة تعقيدا اعتباطيا ـ من هذه المكونات الثلاثة عند اجتماعها جملة واحدة. لذا فإنني أعتقد اعتقادا جازما أننا ـ على أساس التعاون الوثيق بين العلم التجريبي الجاري حاليا وبين الدراسات النظرية ـ سوف نشق الطريق إلى تقانة نانوية حقيقية. فلنُبق عيوننا مفتوحة لما قد يفاجئنا على الطريق.

 

 المؤلف

Michael Roukes

أستاذ الفيزياء في معهد كاليفورنيا للتقانة (كالتك)، وهو يرأس فريقا يدرس النظم النانوية. ومن بين الأهداف التي يسعى إليها الفريق تحري إمكان تحسين القياسات الحرارية الحالية بليون ضعف، مما سيسمح برصد الكمومات (الكمات) الحرارية المفردة التي يتم تبادلها عندما تتبرد النبائط النانوية، وكذلك زيادة درجة حساسية التصوير بالرنين المغنطيسي كوادريليون ضعف، الأمر الذي سيسمح برؤية الجزيئات البيولوجية المعقدة بميْز ذري ثلاثي الأبعاد.

 

مراجع للاستزادة 

Nanoelectromechanical Systems Face the Future. Michael Roukes in Physics World, Vol. 14, No. 2; February 2001. Available at physicsweb.org/article/world/14/2/8

The author’s groupwww.its.caltech.edu/-nano

Richard Feynman’s original lecture “There’s Plenty of Room at the Bottom” can be read atwww.its.caltech.edu/~feynman

(*) PLENTY OF ROOM, INDEED

(**) New Laws Prevail

(***) Overview / Nanophysics

(****) One Step at a Time

(*****) The Boon and Bane of Nano

(******) Monumental challenges

(*******) Taking Charge

(********) payoff in the Glitches

(1) نسبة إلى النانومتر nm الذي يساوي 10-9 متر .

(2)” there’s plenty of room at the botton”

(3) conductance، مقلوب المقاومة. (التحرير)

(4)futurists: أنصار مذهب أدبي أو فني يُعنى بالمستقبل أكثر مما يُعنى بالماضي أو الحاضر.

(5) cantilever كابول، هو بروز أفقي من جدار. (التحرير)

(6)nanobot كلمة منحوتة من nano و robot.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى