أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجياعلوم الكمبيوتر

التسلية الرقمية تقفز فوق الحدود

التسلية الرقمية تقفز فوق الحدود(*)

تقانات بثّ جديدة تتحدى القيود المفروضة في البلدان الأخرى

على مشاهدة البرامج والأفلام التلفزيونية الأمريكية.

<B.H.فايگنباوم>

 

باتت الثقافة الشعبية تشكل اليوم أحد أكبر الصادرات الأمريكية. فالولايات المتحدة الأمريكية تبيع سنويا إلى المستهلكين في الخارج ما تزيد قيمته على 60 بليون دولار من الإنتاج الموسيقي والكتب والأفلام والبرامج التلفزيونية وبرمجيات الحاسوب. وهذا المبلغ لا يشمل حتى العوائد الناجمة عن عمليات النسخ اللاشرعية وجميع أشكال القرصنة. وفي أوروبا وكندا، لا يحتاج المرء إلى أكثر من النقر بإصبعه على جهاز التلفزيون أو شراء قرص مدمج أو تصفح باب التسالي في إحدى الصحف لكي يدرك الحضور الكلي للثقافة الأمريكية.

 

وخلال العقود القليلة الماضية، رأى عدد كبير من حكومات العالم في هذه النزعة نذيراً بالخطر. فعمدت كل من فرنسا وكوريا الجنوبية وأستراليا وكندا وبعض البلدان الأخرى، بعد أن أصبحت تخشى على لهجاتها وعباراتها الاصطلاحية وسلوكياتها الوطنية من الضياع، إلى تبنّي سياسات تهدف إلى حماية منتجيها في ميادين الموسيقا والكتب والمجلات والأفلام والبرامج التلفزيونية . وكان من بين أفضل الوسائل الناجعة للحفاظ على التنوع الثقافي اعتماد نظام الحصص من أجل الحد من عدد الأفلام والبرامج المنتجة في الولايات المتحدة والتي يمكن مشاهدتها على التلفزيون. وفي عام 1989 أصدر الاتحاد الأوروبي توجيها تحت عنوان تلفزة بلا حدود Television Without Frontiers طلب إلى من الدول الأعضاء، حيثما أمكن، تخصيص القسم الأكبر من أوقات البث التلفزيوني للبرامج الأوروبية. بل إن عددا من دول الاتحاد ذهبت إلى أبعد من ذلك. ففي فرنسا مثلا، يجب أن تخصص 60 في المئة من فترة البث على الأقل للبرامج الأوروبية و40 في المئة للبرامج الفرنسية. وفي أستراليا، خصص 55 في المئة على الأقل من البرامج التي تعرض بين السادسة صباحا ومنتصف الليل للبرامج والأفلام الأسترالية، أما في كوريا الجنوبية فقد خصصت للبرامج الأجنبية فترة لا تزيد على 20 في المئة من مجمل فترة البث المنقول عبر الهواء (أي البث الذي تنقل فيه إشارات التلفزيون بوساطة الهوائيات antennas  وليس عبر الكابل). كذلك خصصت الحكومة الكندية 60 في المئة من فترة البث عبر الهواء للبرامج الكندية وحدها.

 

إلا أن التقانات الجديدة الخاصة بتوزيع الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية باتت حاليا تهدد باكتساح هذه الحواجز الوطنية. فقد استطاعت بالفعل شركات البث عبر السواتل (الأقمار الصنعية) في أوروبا وآسيا أن توفر لمشتركيها خليطا من البرامج لا يخضع لأي نوع من القيود وتطغى عليه البرامج الأمريكية. كما أن الإدخال الواسع المتوقع لتقانة الڤيديو بحسب الطلب video-on-demand، وهو عبارة عن مكتبات من البرامج تمكن المشاهدين من اختيار الأفلام والبرامج التلفزيونية التي يفضلونها ـ سيحدث شرخا كبيرا آخر في نظام الحصص. ويوما ما، قد يجد الناس في جميع أنحاء العالم أنفسهم قادرين على تجنب أنظمة الحصص بمجملها، وذلك عن طريق مشاهدة أفلام وبرامج تلفزيونية منقولة عبر الإنترنت.

 

هل ستؤدي هذه التقانات الجديدة إذًا إلى توسيع مجال تأثير الثقافة الشعبية الأمريكية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست بهذا القدر من البساطة. فقد تسبب مجيء الڤيديو الرقمي في تخفيض تكاليف صناعة الأفلام والبرامج التلفزيونية تخفيضا كبيرا، وفسح المجال أمام شركات الإنتاج الأوروبية والآسيوية ذات الرساميل المتدنية لكي تنافس مثيلاتها الموجودة في هوليوود على نحو أكثر فعالية. وحتى إذا عرضت الأفلام والبرامج الأمريكية على عدد أكبر من الشاشات، فليس من الواضح أن ذلك سيعرِّض الثقافات غير الأمريكية للخطر، إذ ربما كان التأثير الثقافي للأفلام والتلفزيون أمرا مبالغا فيه.

 

التهديد التقاني(**)

 كانت أولى التقانات التي تحدت نظام حصص البث تقانة البث المباشر عبر السواتل direct broadcasting by satellite (DBS). فقد أصبحت هذه التقانة متوافرة على صعيد واسع في أوروبا وبعض دول آسيا، وهي تمكن المشتركين من استقبال برامجهم بوساطة طبق لاقط للساتل لا يتعدى حجمه حجم صحن الطعام. وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه البرامج هي من إنتاج أمريكي نظرا إلى أن رسوم الترخيص التي تدفع لقاء مشاهدة البرامج التلفزيونية الأمريكية لا تتعدى عادة ثُلث إلى عُشر الرسوم التي تدفع لقاء مشاهدة البرامج المنتجة في الأمكنة الأخرى (تستفيد البرامج التلفزيونية الأمريكية من حجم أسواقها الداخلية: إذ إن المسلسل الأمريكي الشعبي يباع أولا إلى إحدى الشبكات التلفزيونية، ثم إلى قنوات التلفزة المحلية على سبيل إعادة العرض، وبعد ذلك إلى الشبكات التلفزيونية في الدول الأخرى.  ولما كانت هذه البرامج تباع مرات عدة أصبح بإمكان شركات الإنتاج أن تتقاضى عنها رسوما أقل.) وعلى سبيل المثال فإن بعض الشركات الأوروبية، مثل «الشبكة التلفزيونية تيرنر» Turner Network Television  و«شبكة الكارتون» Cartoon Network، تعرض برامجها مزودة بمسالك صوتية Soundtracks متعددة، مما يمكِّنها من بث هذه البرامج بلغات عدة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N8-9_H05_00624.jpg

نساء أفغانيات في كابول يقفن أمام محل لبيع أطباق لالتقاط البث عبر السواتل.

 

لقد سمح الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء بأن تضع موضع التنفيذ نظام الحصص الذي كان قد شرّعه توجيه «تلفزة بلا حدود»، ووسّعت المحاكم الأوروبية قوانينها المتعلقة بنظام الحصص الوطني لتطال البث عبر السواتل. إلا أنه ليس بوسع أي بلد في الواقع أن يفعل الشيء الكثير لمنع انتقال البث المباشر عبر السواتل الذي لا يتقيد بنظام الحصص، وخصوصا إذا كان مقر شركة البث المباشر عبر السواتل يقع خارج دول الاتحاد الأوروبي. ويبقى الخيار الوحيد هو التشويش على إشارات الساتل، الأمر الذي قد يتسبب في إطلاق حملة من الاستنكارات الدبلوماسية. وعلى أي حال، فإن محكمة العدل الأوروبية لم تأذن لدول الاتحاد الأوروبي باتخاذ «تدابير مشددة» من أجل منع الاستقبال التلفزيوني العابر للحدود.

 

ثمة تهديد جديد آخر لنظام الحصص يتمثل بالڤيديو بحسب الطلب، والذي أصبح ممكنا بفضل استخدام تقانة الڤيديو الرقمي. ففي التلفزيون التماثلي (غير الرقمي)  analog المعتاد، يجب على شركة البث أن ترسل 30 إطارا frame  في الثانية الواحدة لكل قناة تلفزيونية واحدة. أما الڤيديو الرقمي فإنه يحوِّل الصور إلى بيانات، وقد توصل المهندسون إلى إيجاد طرق بارعة لضغط حجم هذا السيل من البيانات. وبما أن پكسلات (عنصورات) pixels  الصورة لا تتحرك بمجموعها، وإنما جزء منها فقط هو الذي يتحرك، فمعنى ذلك أن الپكسلات المتغيرة هي وحدها التي ينبغي إرسالها. لذا فإن تخفيض حجم الإرسال الڤيديوي يؤدي إلى زيادة سعة النقل في عرض (حزمة) النطاق bandwidth  المخصص لشركة البث ـ أي عدد البرامج التلفزيونية التي يمكن إيصالها إلى المشتركين عبر الكابل. ولهذا السبب، فإن الضغط الرقمي يمكّن شركات الكابل من توفير مكتبة واسعة من الأفلام والبرامج التلفزيونية التي قد يطلبها المشاهدون في أي وقت من الأوقات.

 

عملت الشركات الأمريكية على تطوير أنظمة الڤيديو بحسب الطلب منذ سنوات عديدة. وبدأت هذه التقانة تنتشر في أوروبا وآسيا، حيث شُرِعَ في تقديم هذه الخدمات في البرتغال والسويد وهونغ كونغ. وقد أحدثت هذه التقانة خرقا في نظام الحصص، كونها ترتكز على خيار المشاهد بشكل حصري. إذ إن من المستبعد أن يولي مشاهدو التلفزيون أي اعتبار لنظام الحصص الوطني عندما يقررون أي الأفلام أو  البرامج التلفزيونية يودون مشاهدتها. وتتوقع <S.پيرّا> [المستشارة السابقة في وزارة الثقافة الفرنسية] أن يؤدي نمو الڤيديو بحسب الطلب في السنوات العشر المقبلة إلى إضعاف فعالية نظام الحصص بشكل كبير.

 

لكن الضربة الأخيرة التي قد تقضي على نظام حصص البث ستكون نقل الڤيديو عبر الإنترنت، إلا أن هذه التقانة ليست مهيأة بعد لأوقات الذروة. وحاليا تقوم استديوهات هوليوود بإجراء بعض التجارب حول توزيع الأفلام بوساطة الإنترنت. إن مثل هذا النظام قد يمكن المشاهدين في نهاية الأمر من انتقاء فيلم كامل من الأفلام التي تتضمنها مكتبة شبكة الوب وتنزيله في الحاسوب. ولما كان حجم البيانات التي تتطلبها إعادة تكوين فيلم مدته ساعتان يعد حجما هائلا، فقد تستغرق عملية تنزيل الفيلم على الحاسوب بضع ساعات، وهكذا فبإمكانك أن تطلب الفيلم في الصباح فتحصل عليه في المساء. وسوف يحتاج المشاهد إلى حجم كاف من الذاكرة في حاسوبه الشخصي أو جهاز تلفزيونه الرقمي أو علبة التحويل الرقمية الملحقة بجهاز تلفزيونه العادي، لكي يتمكن من الاحتفاظ بالفيلم إلى الوقت الذي يرغب فيه بمشاهدته. وستكون الاستديوهات مضطرة أيضا إلى تطوير طرق للتعمية (التشفير) ونظم للحماية الرقمية لمنع حصول أي عملية نسخ غير شرعية لأفلامها.

 

بسبب قلقها من تأثير البرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية الأمريكية، يفرض عدد كبير من البلدان على شركات البث أن تخصص معظم أوقات بثها للبرامج المنتجة محليا. وفيما يلي عينات من حصص البث التي تتبعها حكومات مختلفة:

 كوريا الجنوبية

80 في المئة من فترة البث عبر الهواء مخصصة للبرامج الكورية

 أستراليا

55 في المئة من فترات البث التلفزيونية بين السادسة صباحا ومنتصف الليل مخصصة

للبرامج الأسترالية

 الاتحاد الأوروبي(•)

جرى تخصيص معظم فترة البث للبرامج الأوروبية. ففي فرنسا، خصصت 60 في المئة من فترة البث للبرامج الأوروبية، و40 في المئة للبرامج الفرنسية.

 نيجيريا

60 في المئة من فترة البث مخصصة للبرامج المنتجة في أي مكان من القارة الإفريقية

 جنوب إفريقيا

55 في المئة من برامج التلفزيون العام و35 في المئة من برامج التلفزيون التجاري و8 في المئة من برامج التلفزيون المعتمد على المشتركين، مخصصة للبرامج الجنوب إفريقية

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N8-9_H05_00625.jpg

 (•) النمسا وبلجيكا والدنمارك وفنلندا وفرنسا وألمانيا واليونان وإيرلندا وإيطاليا واللوكسمبورغ وهولندا والبرتغال وإسبانيا والسويد والمملكة المتحدة.

 

ربما شكلت تقانة التدفق الڤيديوي video streaming أحد الحلول البسيطة المطروحة، وهي تقانة تُمكِّن المستخدمين من مشاهدة فيلم سينمائي أو برنامج تلفزيوني على الإنترنت دون حاجة إلى تنزيله. وقد استعملت أساليب التدفق الڤيديوي حتى الآن في بعض رُزم البرمجيات المألوفة مثل ريل پلييَر RealPlayer، إلا أن تطبيقاته الحالية تشكو من شاشاتها الصغيرة جدا وصورها المغبَّشة (غير الواضحة) وحركاتها المتشنجة. ومع مرور الوقت، وبعد أن تزداد أعداد المشتركين الذين تتوافر لهم وصلات عريضة الحزمة (النطاق) للاتصال بالإنترنت، ستتحسن على الأرجح نوعية صور الڤيديو المنقولة على الوب. غير أن البث المعتمد على الإنترنت يشكو أيضا من مشكلة اقتصادية أساسية. فالتكاليف في البث التقليدي ثابتة، ولذلك تزداد الربحية كلما ازدادت أعداد المشاهدين. أما في تقانة التدفق الڤيديوي، فإن كل مشاهد إضافي يرفع من تكلفة إيصال البرنامج، وبالتالي يخفض من قيمة الأرباح. وما زال القيّمون على صناعة الأفلام في هوليوود يعلقون آمالا كبيرة على تقانة التدفق الڤيديوي، إلا أن هذه التقانة لم تتطور بعد بما يكفي لتشكل تهديدا مباشرا لنظام حصص البث.

 

حروب العصابات الرقمية(***)

 على الرغم من أن مستقبل نظام حصص البث لا يبدو مشرقا، فإن الثورة الرقمية قد يكون لها آثار أخرى تمكنها من كبح جماح صناعة التسلية الأمريكية. ولعل ما هو أهم من ذلك أن كاميرات الڤيديو الرقمية وأساليب تحرير editing الصور المعتمد على الحاسوب استطاعت أن تخفض تكاليف صناعة الأفلام الطويلة والأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية بشكل بالغ. والمعروف أن انخفاض التكاليف يسمح للمنتجين في البلدان الأخرى بأن يتقاضوا رسوم ترخيص أقل، مما يمكّنهم من منافسة البرامج التلفزيونية الأمريكية في أسواق البث عبر الكابل والبث عبر السواتل. إن المشاهدين الأجانب يفضلون، إذا ما أتيح لهم الخيار، البرامج التلفزيونية المنتجة في بلدانهم. والواقع أنه عندما زادت الاستديوهات الأمريكية مؤخرا رسوم الترخيص المفروضة على بعض البرامج التي يجري عرضها في فترة الذروة عمدت شركات البث الأوروبية إلى الاستعاضة عنها ببرامج منتجة محليا.

 

التقانة مقابل التنوع/ نظرة إجمالية(****)

  خشية ضياع تمايزها الثقافي، عمد العديد من البلدان إلى تبني نظام حصص البث الذي يحد من كمية البرامج الأمريكية التي يمكن عرضها على التلفزيون. غير أن التقانات الجديدة، مثل البث عبر السواتل والڤيديو بحسب الطلب والڤيديو عبر الإنترنت، باتت تهدد بإبطال مفعول نظام حصص البث هذا.

   في الوقت نفسه، قد يؤدي استخدام كاميرات الڤيديو الرقمية وتحرير الصور المعتمد على الحاسوب واستخدام أجهزة العرض الرقمية إلى تخفيض تكاليف صنع الأفلام والبرامج التلفزيونية، مما يعطي المنتجين في البلدان الأخرى فرصة أفضل لمنافسة استديوهات هوليوود.

    إن الحكومات التي أقلقها تأثير برامج التسلية الأمريكية قد يتعين عليها أن تنظر في إمكانية الاستعاضة عن نظام حصص البث بإعانات مالية موجهة بعناية شديدة.

 

ليس بمقدور الڤيديو التماثلي (غير الرقمي) التقليدي أن يضاهي الميزresoluion والجودة اللذين نجدهما في الأفلام من قياس 355 مليمترا، إلا أن كاميرات الڤيديو الرقمية الحديثة توفر تقريبا الميز  نفسه الذي تعطيه كاميرا 355 مليمترا، إضافة إلى عمق مجال depth of field  أعظم. لقد وضع هذا التطور صناعة الأفلام في متناول أيدي عدد أكبر من المنتجين المستقلين والذين لم يعودوا مضطرين إلى الإنفاق على معالجة الأفلام وتخزينها (وهما عمليتان تستهلكان غالبا القسط الأكبر من تكاليف صناعة الأفلام المنخفضة الميزانية.) فضلا على ذلك، فإن تخفيض التكلفة يمكن أن يؤدي إلى تحسين في النوعية. ذلك أن نسبة التصويرshooting ratio النموذجية لفيلم منخفض التكلفة تعادل 3 إلى 11 ـ أي متر واحد من الشريط النهائي للفيلم مقابل 33 أمتار من شريط الفيلم المصور. غير أن مُخرج الفيلم المزود بكاميرا رقمية لن يكون عليه أن يقلق تجاه تبديد الأفلام وبالتالي يمكن أن ترتفع نسبة التصوير لتبلغ 50 إلى 1. كذلك يستطيع هذا المخرج أن يستخدم أكثر من كاميرا واحدة في تصوير المشهد الواحد، ثم يختار لاحقا الصور التي يشعر بأنها التقطت من أفضل  الزوايا. أما في التصوير التقليدي فإن استخدام أكثر من كاميرا واحدة يعدّ بذخا ليس باستطاعة حتى الاستديوهات الكبرى تحمل نفقاته.

 

كذلك، فقد أدّت الابتكارات الحاصلة في عمليات ما بعد الإنتاج إلى تخفيض التكاليف. فالصور في الڤيديو الرقمي يمكن تحريرها بوساطة الحاسوب، وهي عملية أقل كلفة ومشقة بكثير من عملية تقطيع وتوصيل شريط الفيلم السالب [انظر: «مستقبل وسائل التسلية الرقمية»، مجلة العلوم، العددان 5/6 (2002)، ص 51]. كما أن باستطاعة الحاسوب المكتبي أن ينشئ مؤثرات خاصة مذهلة قد تبلغ تكاليفها ملايين الدولارات فيما لو قامت بإنشائها إحدى شركات الإنتاج في هوليوود. ومع أن الأفلام السينمائية لا ترقى جميعها إلى مستوى فيلم «أمير الخواتم» Lord of the Rings، إلا أن المؤثرات الخاصة المُحَوسبة أصبحت الآن في متناول صانعي الأفلام في كل مكان.

 

قد تكون رقمنة digitizing الڤيديو  أيضا عاملا مساعدا في إزالة العقبة الرئيسية أمام صانعي الأفلام الأوروبيين والآسيويين: أي صعوبة إيصال أفلامهم السينمائية إلى صالات العرض. ففي المملكة المتحدة مثلا، تسيطر الشركات الأمريكية على أكبر شركات توزيع الأفلام، ولذلك فإن مصلحتها تقضي بتوزيع الأفلام المنتجة في هوليوود بدلا من توزيع الأفلام البريطانية. ونتيجة لذلك يتعذر تقريبا مشاهدة فيلم بريطاني في المملكة المتحدة ما لم يكن فيلما هزليا. وفي فرنسا أيضا، ليست شركات التوزيع المحلية كبيرة لدرجة تمكِّنها من منافسة الشركات الأمريكية بشكل فعال. ومع أن الصناعة السينمائية الفرنسية صناعة مزدهرة، إلا أن نحو 60 في المئة من عوائد صالات السينما في فرنسا مرده إلى الأفلام الأمريكية.

 

يشكل السبب الاقتصادي واحدا من الأسباب التي تقف وراء السيطرة الأمريكية على قطاع توزيع الأفلام. فقد تبلغ تكاليف طبع أحد الأفلام الواسعة الرواج وإنزال نسخ منه إلى صالات العرض نحو 3 ملايين دولار أمريكي، في حين أن الڤيديو الرقمي يمكن نقله بوساطة السواتل مباشرة إلى صالات العرض وتنزيله فيها ثم عرضه. وعلى الرغم من أن كلفة آلات العرض الرقمية تصل إلى نحو خمسة أضعاف كلفة آلات العرض التقليدية إلا أن تكاليف هذه التقانة لا بد أن تنخفض مع مرور الوقت. ومع انخفاض تكاليف التوزيع، يصبح بإمكان المجمعات السينمائية في جميع أنحاء العالم أن تعرض عددا أكبر من الأفلام المنخفضة التكلفة التي جرى إنتاجها خارج استديوهات هوليوود.

 

إعانات مالية بدلا

من تخصيص حصص(*****)

 بالطبع، ستجني استديوهات هوليوود أيضا عددا كبيرا من فوائد الڤيديو الرقمي. ويمكننا أن نتصور أن الإنتاج والتوزيع الرقميين سيسهلان إيصال الأفلام والبرامج التلفزيونية الأمريكية إلى جميع أنحاء العالم بصورة أكثر من ذي قبل. ولكن هل يشكل تصدير برامج التسلية الأمريكية إلى جميع أنحاء العالم فعلا تهديدا للثقافات غير الأمريكية؟ فعلى الرغم من كثرة ما كُتِب في موضوع «الإمپريالية الثقافية»، لم يتوصل علماء الاجتماع إلى الجزم بحدوث هذه الظاهرة في الوقت الراهن [انظر الإطار في الصفحة 39]. ومع ذلك، لا يمكننا أن ننكر أن برامج التسلية الأمريكية لها بعض التأثير في المجتمعات الأخرى، حتى ولو كانت هذه البرامج تمد تلك المجتمعات بمجموعة جديدة من المراجع الثقافية. وإذا كانت مهمة الدولة تقضي بالحفاظ على الثقافة والهوية الوطنيتين، فإن تناقص مردودية نظام حصص البث يعدّ إحدى القضايا التي يجب أن تحظى باهتمام الحكومات.

 

إن إحدى الخطوات التي يمكن أن تتخذها الدول هي الاستعاضة عن نظام حصص البث بإعانات مالية تعطى لمنتجي الأفلام والبرامج التلفزيونية. ومع ذلك تبقى المسألة المطروحة متعلقة بنوع الإعانات التي يجب منحها ومَنْ هم المنتجون الذين سيستفيدون منها. فقد كان المنتجون الأوروبيون يعتمدون في السابق على المساعدات المالية التي تأتيهم من برنامجين من برامج الاتحاد الأوروبي هما «ميديا» Media و «ميديا II». وفي الآونة الأخيرة أدخل الاتحاد الأوروبي برنامج «ميديا پلاس» Media Plus  الذي ركّز على الإعانات المالية لأهداف التوزيع والتسويق. يضاف إلى ذلك أن الدول بحد ذاتها تملك أنظمتها الخاصة بالإعانات المالية. فقد فرضت فرنسا على شبكات البث أن تخصص 3 في المئة من عوائدها لمساعدة الإنتاج السينمائي، في حين فرضت على شركة «قنال پلاس» Canal Plus  ـ وهي أكبر شركات التلفزة الفرنسية التي تتقاضى بدلا ماليا عن برامجها ـ أن تقدم 9 في المئة من عوائدها. إلا أن عيب هذه الإعانات يكمن في أن صانعي الأفلام الأوروبيين ينتجون عددا كبيرا من الأفلام التي لا تحظى بجمهور يشاهدها. ولا يمكنك حماية التنوع الثقافي عن طريق تقديم إعانات مالية لأفلام لا يرغب أحد في مشاهدتها.

 

تقانات التسلية والتنوع الثقافي(******)

بعض تقانات التسلية الجديدة ستتسبب على الأغلب بإضعاف تأثير نظام حصص البث، مما سيسمح بمشاهد أوسع للبرامج التلفزيونية والأفلام الأمريكية في البلدان الأخرى. غير أن هناك تقانات أخرى قد تعزز التنوع الثقافي عن طريق تحفيز الإنتاج التلفزيوني والسينمائي حول العالم. 

التقانات التي تضعف نظام حصص البث

 البث عبر السواتل

إن البرامج المرسلة عبر السواتل مباشرة إلى المشاهدين غالبا ما تسودها البرامج الأمريكية. وقد يصعب على الحكومات وضع قواعد لتنظيم هذا النوع من البث.

 الڤيديو بحسب الطلب

إن الضغط الرقمي للبيانات يمكِّن شركات البث من تقديم مجموعة واسعة من الأفلام والبرامج التلفزيونية. وستتاح للمشاهدين حرية اختيار البرامج الأمريكية عوضا عن متابعة البرامج المنتجة محليا.

 الڤيديو بوساطة الإنترنت

باستطاعة أي شخص مزود بوصلة للإنترنت أن يكون قادرا في نهاية الأمر على تنزيل الأفلام والبرامج التلفزيونية الأمريكية على حاسوبه، أو مشاهدتها في الوقت الفعلي بوساطة تقانة التدفق الڤيديوي.

 تقانات تُحفز الإنتاج التلفزيوني والسينمائي

 كاميرات الڤيديو الرقمية

تسهل كاميرات الڤيديو الرقمية الجديدة صنع الأفلام والبرامج التلفزيونية وتخفض من تكلفتها، مما يعطي المنتجين المستقلين فرصة أفضل لمنافسة استديوهات هوليوود.

 تحرير الصور المعتمد على الحاسوب

يعدُّ تحرير الڤيديو الرقمي أرخص بكثير من عملية تقطيع وتوصيل الفيلم. وباستطاعة العاملين في تحرير الأفلام أيضا أن يستخدموا الحواسيب لإحداث مؤثرات خاصة عالية الجودة.

 أدوات العرض الرقمي

يستطيع المنتجون المستقلون أن يخفضوا تكاليف التوزيع بنسبة كبيرة بوساطة إرسال أفلامهم رقميا إلى صالات العرض بدلا من إرسالها على شكل بكرات.

مشهد من مسلسل “دالاس”

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N8-9_H05_00626.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N8-9_H05_00627.jpg

 

اعتمدت بعض البلدان سياسات تحد من حجم هذه المشكلة. ففي أستراليا مثلا، يجب على مشروعات الأفلام أن تثبت أنها تحظى بنوع من «الارتباط بالسوق» لكي تحصل على إعانات مالية من «مؤسسة التمويل السينمائي» Film FinanceCorporation  (الأسترالية). ومعنى ذلك أساسا أن يكون الفيلم قد وجد سلفا موزعا متحمسا له. وهناك خيار آخر يتمثل في تقديم الإعانات للبنية التحتية للصناعة السينمائية والتلفزيونية المحلية ـ أي لمرافق الإنتاج والتدريب مثلا ـ عوضا عن تقديمها للمشروعات الإفرادية. وقد اعتمدت أستراليا هذا النهج حديثا بإنشائها استديو جديدا للأفلام في ملبورن. إن من شأن هذه الاستراتيجية أن تخلق أيضا موجودات (أصولا) assets كفيلة باجتذاب «الإنتاج المنفلت» runaway production، وهو ما يحصل عندما تقوم الاستديوهات الأمريكية بإنتاج أفلامها في الخارج طمعا بالاستفادة من انخفاض أجور العمل. وهكذا توفر الأفلام الأمريكية عملا للممثلين وأعضاء فرق العمل الأستراليين فضلا على إتاحتها الفرص أمامهم لمواصلة مشروعاتهم المحلية. إلا أن مساوئ هذا النظام تكمن في إقصاء صانعي الأفلام المحليين عن المرافق الباهظة التكاليف التي تتوجّه إلى السوق الأمريكية، فضلا على خسارتهم في المزايدة عليهم عند التنافس على المواهب المحلية.

 

لعل الوقت قد حان للنظر في سياسات مبتكرة للإعانات المالية للسينما والتلفزيون. ولما كانت صناعة التسلية هي بطبيعتها صناعة محفوفة بالمخاطر، فقد يكون من المفيد اعتماد وسائل مالية جديدة تهدف إلى موازنة هذه المخاطر. وعلى سبيل المثال، يستطيع أي بلد أوروبي أو آسيوي أن ينشئ سوقا ثانوية للاستثمارات السينمائية والتلفزيونية، ووكالة تلعب دورا مماثلا للدور الذي تلعبه مؤسسة «فاني ماي» Fannie May  الأمريكية في سوق القروض العقارية الثانوية. وبالطبع فإن مشروعات السينما والتلفزيون تنطوي على مجازفة أكبر من المشروعات العقارية، ولذلك تصبح هذه المقارنة خادعة. وربما كانت السوق الثانوية لصناعة التسلية أقرب إلى سوق شركة «لويد» في لندن لإعادة التأمين، أو إلى سوق ثانوية للسندات ذات التصنيف المتدني(1) junk bonds  المالية. فقد تستطيع مثل هذه الآلية أن تشد أزر شركات التسلية التي لا تملك الرساميل الكبيرة التي تتوافر لاستديوهات هوليوود.

 

القلق الناجم عن التأثير(*******) 

على الرغم من أن عددا كبيرا من الحكومات الأجنبية يعبر عن قلقه من جراء سيطرة برامج التسليه الأمريكية، فإنه يصعب كثيرا أن نحدد مدى التأثير الذي يمكن للأفلام من قبيل «تيتانيك» أو للبرامج التلفزيونية مثل مسلسل «باي واتش» أن تفعله في الثقافات الأخرى. ومن بين الدراسات المثيرة جدا حول هذا الموضوع دراسة قام بها في أواخر الثمانينات كل من <E.كاتز> و<T.ليبس> [من الجامعة العبرية في القدس]. فقد قام هذان الباحثان بتشكيل مجموعات عمل مكونة من أفراد من جنسيات مختلفة تشمل أمريكيين وعربا وروسا ويابانيين، وجعلوهم جميعا يشاهدون الحلقة نفسها من مسلسل «دالاس»، وهو أحد المسلسلات التلفزيونية الأمريكية الشديدة الرواج. بعد ذلك راح المشاركون يتحدثون بشأن هذه الحلقة بلغاتهم الأم.

 استنتج الباحثان <كاتز> و<ليبس> أن مجموعات العمل كافة كانت تناقش المفاهيم العامة ذاتها ـ النجاح والشرف والعلاقات العائلية وأدوار الجنس وما شابه ـ وهذا مكّن الباحثَيْن من الاستنتاج بأن هذا البرنامج التلفزيوني «قد يصلح فعلا لوضع جداول عمل للتفكير وللحوار». إلا أن هذه المجموعات المختلفة فهمت البرنامج بطرق مختلفة جذريا، وغالبا ما أوّلت الحلقة انطلاقا من تصوراتها الثقافية الخاصة بها. فقد رأى العرب في الحلقة «ترديا أخلاقيا» في حين وجد الروس فيها «رأسمالية متعفنة». وحدهم الأمريكيون بحثوا في علاقات العمل التي تربط شخصيات المسلسل، حتى إن بعض أفراد المجموعة العربية أساؤوا فهم قصة البرنامج ليجعلوه أكثر توافقا مع عاداتهم الأخلاقية: فقد افترضوا أن إحدى الشخصيات النسائية المتزوجة في المسلسل غادرت إلى منزل والدها، فيما هي انتقلت فعلا إلى منزل عشيقها السابق ووالده.

 توحي الدراسة أن التلفزيون الأمريكي قد لا يمتلك ذلك القدر من التأثير الذي يعتقده الكثيرون، لأن الرسائل التي يرسلها تمر عبر مرشح ثقافة المتلقي. غير أن علماء اجتماع آخرين ردوا هذا الاستنتاج ملاحظين أن سنوات من مشاهدة التلفزيون قد يكون لها تأثيرات لا يمكن إدراكها بواسطة الطرق التي اعتمدها الباحثان <كاتز> و<ليبس.>

<B.H.فايگنباوم>

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N8-9_H05_00628.jpg

مشهد من مسلسل “دالاس”

 

إضافة إلى ذلك، تستطيع حكومات البلدان الصغيرة أن تركز إعاناتها المالية على التقانات الجديدة التي تعزز إنتاج أفلام وبرامج تلفزيونية منخفضة التكلفة ـ كعمليات الإنتاج والتوزيع الرقمية. وقد يكون لهذه الاستراتيجية تأثير جانبي مفيد: لأن الأشخاص المتمرسين في تقنيات الڤيديو الرقمي قادرون على تطبيق تلك المهارات لابتكار ألعاب حاسوبية وغيرها من برمجيات الوسائط المتعددة.

 

غير أن المساعدة التي تقدمها الحكومة للسينما والتلفزيون ليست بحاجة للتبرير من منطلقات اقتصادية فحسب. وعلى الرغم من صحة الفكرة القائلة إن صناعة التسلية تخلق وظائف مرتفعة الأجر وتسبب أذى طفيفا نسبيا للبيئة، إلا أنها تبقى صناعة ذات قيمة كبيرة حتى لو كانت غير مربحة كثيرا أو غير ملوثة إلى هذا الحد. فالثقافة، في نهاية المطاف، مكافأة بحد ذاتها.      

 المؤلف

Harvey B. Feigenbaum

أستاذ العلوم السياسية والعميد المشارك «لكلية إليوت للشؤون الدولية» في جامعة جورج واشنطن. وتتركز أبحاثه على التآثرات بين التقانة والسياسة والاقتصاد في الدول الصناعية المتقدمة، وخصوصا في أوروبا الغربية. في عام 1981 حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. وآخر كتاب صدر له كان بعنوان «تقليص الدولة: المرتكزات السياسية للخصخصة» Shrinking the state: The Political Underpinnings of Privatization [بالتعاون مع <J.هينيگ> و <C.هامنت>، منشورات جامعة كامبردج، 1998].

مراجع للاستزادة 

Cultural Imperialism: A Critical Introduction. John Tomlinson. Johns Hopkins University Press, 1991.

The Production of Culture in the Poetimperialiet Era: The World versus Hollywood? Harvey B. Feigenbaum in Postimperialism and World Politics. Edited by David G. Becker and Richard L. Sklar. Praeger Publishers, 1999.

Globalization and Cultural Diplomacy. Harvey B. Feigenbaum. CenterforArts and Culture, 2001.

Available at www.culturalpolicy.org/pdf/globalization.pdf

The Future for Local Content? Options for Emerging Technologies. Ben Goldsmith, Julian Thomas, Tom O’Regan and Stuart Cunningham.Australian Broadcasting Authority, 2001.Available at www.aba.gov.au/tv/research/projects/local cont.htm

Scientific American, March 2003

(*)DIGITAL ENTERTAINMENT JUMPS THE  BORDER

 (**)The Technological Threat

  (***)Digital Guerrillas

 (****)Overview / Technology vs. Diversity

 (*****)Subsides, Not Quotas

(******)Entertainment Technologies and Cultural Diversity

 (*******)the Anxiety of Influence

 (1) سندات ذات عائد مرتفع تصدرها عادة شركات صغيرة أو ناشئة أو شركات ليس لها سجل سابق في البورصة.                                      (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى