أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحة

تبصّرات في معالجة الصدمة

تبصّرات في معالجة الصدمة(*)

تمثل الصدمة المرحلة الأخيرة التي تسبق الوفاة عند آلاف الأشخاص؛ إلا أنها

بدأت تكشف عن بعض أسرارها وأصبحت أكثر قابلية للعلاج.

<W .D. لاندري> ـ <A .J. أوليڤر>

 

مهما يكن سبب الصدمة ـ نوبة قلبية أو حادث سير أو عدوى (خمج) بكتيرية خطيرة ـ فإن النظرة الجامدة التي تبدو على المصاب بالصدمة كثيرا ما تنذر بقرب الوفاة. وفي الولايات المتحدة وحدها يصاب نحو 500 ألف شخص بالصدمة المفاجئة كل عام، وينتهي نصف عددهم بالوفاة. ويملك الأطباء كثيرا من المعلومات عن أسباب الصدمة التي تتجلى بانخفاض شديد في الضغط الدموي، مما يؤدي إلى نقص خطير في إيصال الدم إلى الأنسجة. ويعلمون أيضا أن الصدمة تقتل المصاب عندما يفضي نقص الأكسجين إلى أذيات غير قابلة للتراجع في الدماغ وغيره من الأعضاء الحياتية. ولكنهم يملكون بعض الوسائل التي تقود إلى تراجع الصدمة والحد من تفاقمها؛ الأمر الذي يحصل عند بعض المرضى على الأقل. غير أن المعالجة تبقى غير فعالة في معظم الحالات، ولا سيما عندما يكون سبب الصدمة إحدى العداوى (الأخماج) المنفلتة.

 

ولما كانت الصدمة بالغة الأذى، فإن كثيرا من الباحثين يحاولون جاهدين تطوير معالجات أفضل. ومع ذلك، فقد تبين في السنوات الأخيرة فشل العديد من الأدوية التي بدت واعدة في بادئ الأمر. وكان من دواعي ارتياحنا أن الاكتشاف الذي وقعنا عليه مصادفة قادنا إلى إيجاد علاج ناجع. وهذا العلاج لا يشفي مسبباتها، ولكنه يساعد على معالجة الآلاف من ضحاياها. إضافة إلى ذلك، فقد حصلنا خلال أبحاثنا المتصلة بهذا الدواء على معلومات جديدة حول الآليات الأساسية للصدمة. وإذا حالفنا الحظ فإن تبصراتنا، وتلك التي يبديها غيرنا من الباحثين، قد تقود إلى مزيد من التقدم في معالجة الصدمة.

 

تحت الضغط(**)

ولكي نفهم الصدمة وطبيعتها المبهمة يحسن أن نلمّ ببعض المعلومات عن جهاز الدوران (الدورة الدموية). لقد استخدمت الكائنات الحية البدائية التي وجدت في البحار مبدأ بسيطا للحصول على الأكسجين والمغذيات وللتخلص من ثنائي أكسيد الكربون والفضلات، ألا وهو الانتشار diffusion. وفي هذه السيرورة، تتحرك الجزيئات على نحو طبيعي من المناطق ذات التركيز العالي إلى المناطق ذات التركيز المنخفض، إلا أن هذا الانتشار الذي يحفظ الحياة كان فعالا في الكائنات الصغيرة التي لا يتجاوز قياسها المليمترات. أما المخلوقات الأكبر حجما فقد كانت بحاجة إلى آليات أكثر تطورا. وكان الحل الذي أوجدته الطبيعة لذلك هو الجهاز الدوراني، وبوساطته ينقل الدم الجزيئات إلى مسافات بعيدة. وبالنسبة إلى معظم الكائنات الحية، يوفر القلب القوة الدافعة للدم الذي يوصل بدوره الغازات الضرورية والمغذيات إلى نواحي الجسم كلها.

 

يتصل الدم الغني بالأكسجين بالأنسجة عبر أقواس arcades من الأوعية المتشعبة التي تنتهي بأوعية دقيقة عالية النفوذ تدعى الشعيرات capillaries. فتحمل الشرايين الدم من القلب إلى أصغر الشرايين قطرا، وتدعى الشُّرَيْناتarterioles، التي تفضي بدورها إلى الشعيرات. ولكي يدور الدم في الأوعية يجب على القلب أن يولّد القوة الكافية للتغلب على المقاومة التي يلقاها عندما تصبح المسالك التي يمر بها أصغر فأصغر. ويقيس الضغط الدموي القوة التي يستخدمها القلب لضخ الدم.

 

نظرة إجمالية/ معالجة الصدمة(***)

في الولايات المتحدة يصاب 500 ألف شخص كل عام بالصدمة لأسباب كثيرة منها العداوى (الأخماج) البكتيرية الخطيرة التي تدعى الإنتانات sepsis. يؤدي الإنتان إلى الوفاة في نحو نصف عدد الحالات.

كان إيجاد معالجات أفضل صعبا للغاية، إذ إن الأبحاث التي أجريت والأدوية المحتملة التي جربت انتهت إلى طريق مسدود.

تبين مصادفة أن أحد الأدوية المعروفة سابقا فعال جدا في معالجة الصدمة وهو هرمون الڤازويريسين. يستعمل هذا الدواء عادة لمعالجة دوالي المريء النازفة، ولكن اتضح بشكل غير متوقع أنه دواء فعال لمعالجة الصدمة.

 

يقوم القلب عند الإنسان بضخ نحو خمسة ليترات من الدم ألف مرة في اليوم في عشرة أميال من الأوعية الدموية. وإذا توقف الجريان الدموي ست ثوان فقط فقد يؤدي إلى فقدان الوعي؛ بل إن هبوطا معتدلا في الضغط يمكنه أن يحرم الدماغ من الأكسجين ويسبب إصابة المريض بالدوار وترنح المشية؛ وقد تتأذى الأعضاء الأخرى خلال بضع دقائق ويدخل المريض عندئذ في حالة الصدمة. وإذا استمرت الصدمة وكانت أذية أعضاء الجسم غير قابلة للتراجع، انتهت الصدمة بالموت.

 

تنجم الصدمة عن أسباب متعددة، وكثيرا ما تصنف بحسب مسبباتها. إن أكثر الأسباب شيوعا هو النقص السريع في حجم الدم، الذي يقود إلى ما يدعى صدمة نقص الحجم hypovolemic shock؛ الأمر الذي يمكن حدوثه عندما يؤدي الرَّضح trauma أو القرحة المعدية إلى نزف غزير، أو عندما يسبب الإسهال  الوخيم فقدا شديدا في سوائل الجسم. ويضخ القلب في هذه الحالة كمية ضئيلة غير كافية من الدم مع كل دَقة، ويحاول التعويض عن هذا النقص بزيادة سرعة الضخ، إلا أن ذلك يبقى دون المستوى المطلوب؛ فيهبط الضغط الدموي ولا تصل الأغذية إلى الأنسجة. وتحدث آلاف الحالات من نقص الحجم كل عام، ويسعى الأطباء فيها إلى إيقاف النزف أو فقد السوائل بسرعة، وإلى إعطاء الدم أو المصول الملحية أو كليهما للتعويض عما فقده المريض منهما. ويدرس الباحثون طرقا جديدة لوقف النزف ـ كوضع معجون على مكان النزف لتعزيز التخثر ـ إضافة إلى استعمال بدائل عن الدم في حالة عدم توافر كمية كافية منه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI2004b20N6-7_H04_00751.jpg

فريق طبي يعتني بمريض أصيب بالصدمة بعد أن فقد كمية كبيرة من دمه.

 

والشكل الآخر من الصدمة هو الصدمة القلبية المنشأ cardiogenic shock التي  تحدث عندما يتوقف القلب عن الضخ بالشكل الملائم. فإذا سدت خثرة أحد الشرايين الإكليلية (التاجية) مثلا، توقف وصول الأكسجين إلى العضلة القلبية التي يغذيها ذلك الشريان وحدثت نوبة (هجمة) قلبية؛ أي إن جزءا من العضلة القلبية يحرم من الأكسجين ويتموت مما يجعل القلب غير قادر على القيام بوظيفته على نحو سوي. وكذلك فاللاّنظمية (اضطراب نظم القلب)؛ أي تسرع القلب الشديد أو بطؤه الشديد أو عدم تزامن دقاته، وفشل الصمامات القلبية في الانغلاق بإحكام قد يكونان السبب في الصدمة القلبية المنشأ. وتحدث في الولايات المتحدة نحو 280 ألف حالة من الصدمة القلبية المنشأ كل عام. ويحاول الأطباء في هذه الحالات القيام بإحدى المداخلات التالية؛ فقد يُعطون المريض الأدوية التي تزيد قدرة العضلة القلبية على التقلص، أو يقومون بتبديل الصمامات (مستخدمين في ذلك صمامات صنعية أو صمامات قلب الخنزير)، أو يغرسون في جسم المريض مزيل الرجفان defibrillator، وهو جهاز يطلق شحنات كهربائية إلى القلب تجعل العضلة القلبية تضخ بالسرعة الملائمة. وإذا أخفقت هذه الطرق كلها عمدوا إلى البحث عن قلب إنسان لغرسه في الجسم مكان القلب المريض.

 

أما النمط الثالث الأكثر شيوعا ـ وهو صدمة التوسع الوعائي vasodilatory ـ فقد يكون سببه الصدمة القلبية المنشأ أو صدمة نقص الحجم إذا استمرتا عدة أيام. ففي هذه الحالات تبقى حالة الصدمة على الرغم من نقل الدم أو إصلاح القلب. ولكن صدمة التوسع الوعائي تنجم في أكثر الحالات عن الإنتان الدمويsepsis، وهو عدوى وخيمة تجول فيها البكتيرات أو الفطور في الدم بحرية مما يثير استجابة التهابية. وتقوم الكريات البيض وغيرها من عوامل الجهاز المناعي بتعطيل عمل الأنسجة في مختلف أنحاء الجسم في محاولة غير منسقة لمكافحة العدوى. ويصيب إنتان الدم 500000 شخص كل عام في الولايات المتحدة، ويصاب نحو نصف عددهم بصدمة إنتانية يموت بسببها 125000 مريض. وفي هذه الحالة لا يقع اللوم في حدوث الصدمة على القلب الذي يضخ كمية كبيرة من الدم، ويبدو جلد المريض حارا عند لمسه؛ إذ إن المشكلة تقع بعيدا عن القلب في الشُّرَينْات.

 

قد يؤدي الانخفاض المعتدل في ضغط الدم إلى حرمان الدماغ من الأكسجين.

 

ومنذ عهد بعيد ظن الباحثون أن معرفة الخلل الذي يحدث في الشُّرَيْنات يمكن أن يقود إلى تحسين علاج صدمة التوسع الوعائي. وفي الواقع إن الجهود التي بُذلت لمعرفة السبب في قصور الشرينات قادتنا قبل ست سنوات إلى اكتشاف غير متوقع.

 

إن الخلل في قيام الشرينات بوظيفتها يبدأ قبل ظهور الصدمة بزمن طويل. ويظهر رد فعل الجسم بادئ الأمر في بذل جهد تعويضي يسعى فيه إلى الحيلولة دون وقوعها. ويتركز هذا الارتكاس في الشرينات التي هي أنابيب محاطة بخلايا عضلية تتقلص وترتخي على نحو يغير قطر الأنبوب. إن التنسيق السوي لعمل الشرينات معقد جدا ويقتضي تدخل عدد كبير من المركبات ـ منها النورإپينفرين norepinephrine والڤازوپريسين vasopessinوالأنجيوتنسين II والدوپامين وأكسيد النتريك. وعندما ينخفض ضغط الدم تبدأ بعض هذه العوامل بالتدخل؛ إذ يتم إفراز النورإپينفرين والأنجيوتنسين IIداخل المجرى الدموي؛ وكلاهما يقلص عضلات الشرينات. ويوقف الجسم إفراز الپپتيد الأذيني المدر للصوديوم atrial natriuretic peptide، وهو پروتين يرخي عضلات الشرينات مؤديا إلى توسعها. فإذا نجحت هذه الخطة تضيقت الشرينات في بعض الأمكنة مثل الجلد وبعض العضلات غير الأساسية؛ مما يزيد مقاومتها للدم الوارد إليها. وهكذا فإن الدم الذي يلقى هذه المقاومة يتجه إلى الأعضاء المهمة مثل الدماغ. ولكي نوضح ذلك لنتصور خرطوما لري الحدائق يتفرع إلى شعبتين. فإذا تقبّضت إحدى الشعبتين ارتفع الضغط في الشعبة الأخرى وازداد جريان الماء فيها. ويحصل الأمر نفسه في الشرينات.

 

مقاومة متناقصة(****)

ولكن إذا حدث خلل ما وأخفقت الشرينات في التقبّض، لم يلق الدم المقاومة اللازمة لتوجيهه نحو الأعضاء الحياتية vital organs. ومن الغريب أن المصابين بصدمة التوسع الوعائي لديهم مستويات عالية من النورإپينفرين والأنجيوتنسين II في الدم. وتشير هذه الحقيقة إلى أن غياب الإشارات المقبضة ليس هو السبب في حدوث الصدمة. وتؤيد الخبرة السريرية (الإكلينيكية) هذه الملاحظة؛ فعندما يعطى المصابون بالصدمة هذين المركبين لا يحدث لديهم تغيير يذكر في حالة الضغط. واستنادا إلى هذه النتائج المحيرة توصل العديد من الخبراء منذ أمد طويل إلى القول إن خللا ما في خلايا عضلات الشرينات يمنعها من العمل؛ ولهذا لا تستجيب هذه الخلايا لمنبهاتها الطبيعية.

 

ومع ذلك اكتشف الباحثون في منتصف الثمانينات أن أساس المشكلة لا يكمن في الخلايا العضلية للشرينات، وأن سبب المشكلة هو تأثير عامل موسع للأوعية. ومن المعروف أن أهم موسع للأوعية هو أكسيد النتريك وهو جزيء بسيط له تأثيرات واسعة الطيف(1). وقد اتضح أن العدوى ذاتها التي تسبب الإنتان الدموي ـ مثل ذات الرئة أو التهاب السحايا ـ تدفع الخلايا إلى زيادة إنتاجها من أكسيد النتريك. وقد قوبلت هذه الأنباء باستحسان مثير، وقام الباحثون بتصميم تجارب سريرية لاختبار تأثير مثبطات أكسيد النتريك، معتمدين على الفكرة القائلة إن إزالة الموسع الوعائي من الساحة سيتيح لمقبضات الأوعية (النورإپينفرين والأنجيوتنسين II) القيام بعملها بنجاح. إلا أن لأكسيد النتريك وظائف متعددة وغير معروفة تماما في جسم الإنسان؛ إذ إن تثبيط إنتاجه يؤدي إلى مشكلات خطيرة غير متوقعة.

 

أنماط الصدمة(*****)

الصدمة بإيجاز هي انخفاض خطير في الضغط الدموي. فعندما يبقى الضغط منخفضا مدة تزيد على بضع دقائق يفقد الدم قدرته على تغذية الأعضاء الرئيسية بالشكل الملائم، مما يجعلها تصاب حينئذ بالقصور. وتصنف الصدمة عادة بحسب أسبابها.
أنماط أمثلة من الأسباب وظيفة القلب وظيفة الشرينات المعالجة
صدمة نقص الحجم: تحدث عندما يصاب الشخص بالنزف الغزير أو يفقد كمية كبيرة من السوائل الرضح (مثل الإصابة بطلق ناري أو حادث سير)، القرحة المعِدِية النازفة، الإسهال الوخيم يعمل القلب بشكل سوي إلا أنه لا يتلقى الكمية الكافية من الدم لضخها ـ فقد يضخ ثلاثة ليترات من الدم وسطيا في الدقيقة عوضا عن خمسة ليترات يحتاج إليها الجسم. تتقلص الشرينات (وهي المنظم الرئيسي لتوزع الدم) في الذراعين والساقين، مما يجعل هذه الأطراف باردة وندية الملمس، لأن الدم يوجه للأعضاء الرئيسية. وقف النزف بإعطاء السوائل كالدم والمصل الملحي؛ إعطاء بدائل الدم. لا تزال عوامل التخثر الحديثة قيد الدرس.
الصدمة القلبية المنشأ: تحدث عندما تكون هناك مشكلة قلبية. النوبة القلبية (التي تؤذي عضلة القلب)؛ أذية الصمامات القلبية (التي تسبب الانسداد أو التسرب)؛ اضطراب نظم القلب (تصبح ضربات القلب بطيئة جدا أو سريعة جدا). لا يستطيع القلب ضخ الدم بشكل سوي، على الرغم من وجود كمية كافية من الدم. وهكذا فقد يضخ القلب ثلاثة ليترات من الدم فقط. تتقبّض الشرينات في الذراعين والساقين، في محاولة لتوجيه الدم إلى الأعضاء الرئيسية. تعطى الأدوية التي تساعد القلب على العمل بشكل أكثر فاعلية؛ يستبدل الصمام المصاب؛ يغرس مزيل الرجفان؛ في حالة تأذي القلب الشديد يلجأ إلى غرس القلب.
صدمة التوسع الوعائي: تحدث عندما تفشل الأوعية الدموية الصغيرة التي تدعى الشرينات في التقبّض على النحو الملائم. صدمة نقص الحجم أو الصدمة القلبية المنشأ التي يطول أمدها (قد تستمر الصدمة على الرغم من إصلاح السبب الأصلي لحدوثها)؛ الإنتان (عدوى بكتيرية أو فطرية عنيفة raging). يعمل القلب بشكل ملائم ويتلقى جهاز الدوران (الدورة الدموية) كمية كافية من الدم، إلا أن الشرينات لا تعمل بشكل سوي. تتوسع الشرينات في الذراعين والساقين (مما يبقيها دافئة عند اللمس)، ويحول هذا دون توجه الدم إلى الأعضاء الرئيسية. إضافة إلى إعطاء العلاجات المذكورة أعلاه بحسب الحاجة تعطى السترويدات لتخفيف الالتهاب، ويعطى الڤازويريسين.

 

واكتشفنا عام 1992 طريقا بديلا لتقبيض الشرينات أثناء صدمة التوسع الوعائي. وخطرت بذهننا هذه الفكرة في سياق البحث عن كيفية عمل الغشاء الخلوي. فقد عُرِف منذ زمن طويل وجود كمون كهربائي electrical potential  عبر  كل غشاء خلوي. وبقول آخر، إن الشحنة الكهربائية خارج الغشاء والشحنة داخله مختلفتان. ويعود القسم الأعظم من هذا الاختلاف إلى أن أيونات (شوارد) الپوتاسيوم ذات الشحنة الموجبة تتوضع داخل الخلايا برفقة أنواع مختلفة من المركبات ذات الشحنة السالبة، ولكنها تميل إلى التسرب خارج الخلية مما يجعل الجزء الخارجي من الغشاء الخلوي ذا شحنة موجبة تفوق قليلا شحنة الجزء الداخلي منه(2).

 

ويستخدم هذا الكمون الكهربائي في الخلايا العضلية للشرينات لتنظيم تدفق أيونات الكالسيوم عبر قنوات الكالسيوم، وتؤدي هذه الأيونات دورا مهما في تقلص الخلايا العضلية. فإذا كان استقطاب الغشاء الخلوي ذا شحنة سلبية أكبر قليلا في جهته الخارجية، فإن قنوات الكالسيوم تنفتح استجابة للنورإپينفرين أو الأنجيوتنسين II، ويندفع الكالسيوم إلى داخل الخلية، وعندها تتقلص الخلية. أما إذا أصبحت الشحنة الكهربائية في الجهة الخارجية من الغشاء الخلوي أكثر إيجابية فإن قنوات الكالسيوم تنغلق على الرغم من إلحاح الهرمونات المقبضة للأوعية، وعندها ينخفض مستوى الكالسيوم داخل الخلية وتتوسع الخلايا العضلية. وهكذا فإن الكمون الكهربائي هو الذي يحدد قابلية قنوات الكالسيوم للاستجابة للهرمونات المقبضة.

 

ويمكن أن نعبر عما تقدم بشكل مبسط بالقول إن قنوات الكالسيوم هي التي تنظم سلوك عضلات الشرينات. لكن عبور أيونات الكالسيوم يعتمد على عمل قنوات الپوتاسيوم التي تضبط استقطاب الغشاء الخلوي بالشكل المناسب. ويشرف على تنظيم هذه القنوات، بدورها، مجموعة من المركبات منها الأدينوزين الثلاثي الفُسْفات (ATP)، وهو شكل من أشكال الطاقة الخلوية يتولد من استقلاب المغذيات اعتمادا على الأكسجين. وعندما ينخفض مستوى المركّبATP، تنفتح بعض قنوات الپوتاسيوم، مما يسمح له بالتدفق (وليس مجرد التسرب) إلى خارج الخلية ويؤدي إلى جعل شحنة الجهة الخارجية من الغشاء الخلوي أكثر إيجابية من المعتاد، ويغلق بالتالي قنوات الكالسيوم ومن ثم ترتخي الخلية.

 

وقد تساءلنا عما إذا كان باستطاعة نقص الأكسجين المرافق للصدمة أن يخفض مستويات المركب ATP، الأمر الذي يفضي إلى ارتخاء الخلايا العضلية وما يتلوه من انخفاض الضغط الدموي. ولذلك قمنا بإعطاء المرضى مركبا يدعى گليبنكلاميد glibenclamide يوقف نشاط قنوات الپوتاسيوم الحساسة تجاه المركب ATP. وقد أدى ذلك الواقع إلى رفع الضغط الدموي. وتعلل هذه الآلية سبب فشل الأطباء في زيادة تقبض الشرينات بالقدر المطلوب بعد إعطاء النورإپينفرين أو الأنجيوتنسين II، لأن هذه المركبات لا تعمل بشكل جيد عندما تكون قنوات الپوتاسيوم مفتوحة.

 

ومع ذلك، وكما هي الحال مع مثبطات أكسيد النتريك التي سبقت الإشارة إليها، إن لهذا الدواء بعض المشكلات، لأن تأثيره قصير الأمد، كما أن إعطاءه بالكميات التي يتطلبها علاج الصدمة أدى إلى انخفاض سكر الدم (يعمل الگليبنكلاميد بمستوياته المنخفضة على زيادة إفراز الأنسولين من الپنكرياس (المعثكلة)، ولذلك يستعمل في معالجة الداء السكري). وقد سبب لنا ذلك الإحباط. لقد كنا نعلم أن قنوات الپوتاسيوم التي يضبطها المركب ATP مهمة، وأن أكسيد النتريك مهم أيضا. ولكن لم يكن بإمكاننا أن نعرف كيف يمكن تنظيم عملهما من دون إحداث الأذى في مكان آخر.

 

الكيفية التي يتبعها الڤازويريسين لمكافحة الصدمة(******)

في الحالة السوية
http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI2004b20N6-7_H04_00752.jpg

يجري الدم المؤكسج في شبكة من الشرايين والأوعية الصغيرة التي تضم الشرينات والشُعَيْرات، ثم يعود إلى الرئتين عبر الأوردة (في اليمين). تتقبّض الشرينات أو تتوسع اعتمادا على مراسيل كيميائية تضبط ارتخاء وتقلص الخلايا العضلية الموجودة في جدارها. وفي الحالة السوية تكون معظم الشرينات الموجودة في الجلد والعضلات بحالة تقبّض وتضيق، مما يشكل عائقا أمام الدم الوارد إليها ويدفعه للتوجه إلى أجزاء أخرى من الجسم. يعتمد تقبّض الشرينات على وجود مستوى عال من أيونات الكالسيوم (++Ca) داخل الخلايا العضلية للشرينات (في الأسفل)، كما يحدث عندما تفتح مقبضات الأوعية مثل النورإپينفرين قنوات الكالسيوم الكائنة في الغشاء الخلوي.

في حالة الصدمة

عند حدوث صدمة التوسع الوعائي ينتج الجسم أكسيد النتريك (NO) بكمية أكبر مما ينتجه في الحالة السوية، مما يؤدي إلى ارتفاع الجزيئات المسماة گوانين أحادي الفسفات الحلقي cyclic GMP  cGMP ويفتح قنوات الپوتاسيوم الكائنة في غشاء الخلايا. وعندما تندفع أيونات الپوتاسيوم إلى خارج الخلية، تصبح الشحنة الكهربائية للقسم الخارجي من الغشاء أكثر إيجابية مما يسبب انغلاق قنوات الكالسيوم. وعندئذ يغدو النورإپينفرين غير قادر على التأثير. ولهذا ترتخي الخلايا العضلية وتتوسع الشرينات. وعندها تقل المقاومة التي يتلقاها الدم الوارد من الشرايين ويتدفق إلى الأطراف بدلا من التوجه إلى الأعضاء الأساسية.

بعد المعالجة

يستطيع الڤازوپريسين، وهو مُقبض وعائي آخر، مقاومة التوسع الشريني المذكور آنفا. وهو يعمل على الأرجح بواحد أو أكثر من الطرق التالية: قد يسمح للنورإپينفرين بفتح قنوات الكالسيوم من جديد، أو ينقص مستوى أكسيد النتريك، أو يخفض تركيز الگوانين الأحادي الفسفات الحلقي. وأخيرا قد يؤثر عن طريق إغلاق قنوات الپوتاسيوم.

 

مقاربة جديدة(*******)

في عام 1997 أدت ملاحظة عابرة إلى تغيير كامل اتجاهنا في العمل. فقد كان لدينا مريض يعاني نزفا من المريء وأصيب بعد ذلك بعدوى وخيمة. وقد أعطي عند دخوله المستشفى هرمونا يقبض أوعية المريء ويوقف نزفها. ويدعى هذا الهرمون الڤازويريسين؛ ويعرف أنه يقوم بدور في تقبض الشرينات ـ ويتناول تأثيره جميع أنحاء الجسم عندما يُفرَز من الغدة النخامية استجابة لانخفاض الضغط الدموي. إلا أن الدراسات السريرية السابقة بينت أنه عندما يعطى هذا الهرمون كعلاج، فإن تأثيره السحري ينحصر في أوعية المريء فقط. لذلك لم نكن نتوقع أي تأثير لهذا الدواء في الضغط الدموي لمريضنا المشار إليه. ودهشنا حينما هبط الضغط الدموي للمريض بعد أن توقفنا عن إعطاء الڤازويريسين. وعندما عدنا إلى إعطائه الدواء مرة ثانية ارتفع ضغطه الدموي من جديد. وقد ظننا بادئ الأمر أن العدوى جعلت المريض أكثر حساسية للهرمون بطريقة ما.

 

كان علينا أن نحدد ما إذا كان ذلك مجرد مصادفة. وكنا بحاجة إلى العثور على مصاب بصدمة إنتانية لإعطائه الدواء المذكور آنفا مع الحذر الشديد فيما يخص المقادير، والالتزام بالقول المأثور عند الأطباء: “أول الواجبات عدم إيذاء المريض.” وهكذا أعطينا مصابا بالصدمة عشر المقدار الذي أعطيناه سابقا للمصاب بالنزف المريئي، ثم رفعناه تدريجيا. وكانت دهشتنا عندما رأينا ضغطه الدموي يرتفع على نحو مفاجئ. وقد بينت الدراسات اللاحقة أن مستوى الڤازويريسين لدى هذا المريض وغيره من المصابين بالصدمة الإنتانية كان منخفضا جدا، مع أن منطق الأمور يقضي بأن يُنتج الجسم مزيدا من الڤازويريسين في محاولة لرفع الضغط الدموي.

 

أدت ملاحظة عابرة إلى تغيير شامل في منحى أبحاثنا.

وقد بدأنا بالتساؤل عن السبب في حدوث عوز الڤازويريسين عند المصابين بصدمة التوسع الوعائي. وبينت أبحاثنا التالية أنه عند بدء حدوث الصدمة ـ مهما يكن منشؤها ـ تكون مستويات الڤازويريسين عالية جدا. ولكن هذه المستويات تهبط بعد عدة ساعات، أو ينطلق مخزون الجسم من الڤازويريسين عندما تبدأ الصدمة، ومن ثم يتقوّض (يتدرك) في المجرى الدموي. غير أن تعويض الكمية المستهلكة يتطلب وقتا طويلا. وقد عثرنا بعد ذلك على تقريرين يفيدان أن الڤازويريسين يُنقص تأثير أكسيد النتريك الموسع للشرينات ويغلق قنوات الپوتاسيوم الحساسة للمركب ATP، مما يسمح لقنوات الكالسيوم بالانفتاح وما يتبع ذلك من تقلص الخلية. (وكان هذان التقريران قد أهملا، إذ استنتج منهما أن الڤازويريسين لا يرفع الضغط الدموي.)

 

وبعد أن عرف هذا الاكتشاف، أُجريت عشرة أبحاث صغيرة في أنحاء مختلفة من العالم لدراسة فائدة الڤازويريسين في رفع الضغط الدموي، وتبين أنه دواء يمكن الاعتماد عليه لهذه الغاية من دون أن تكون له تأثيرات جانبية خطيرة. وتتوالى القصص التي يرويها الأطباء عن مصابين بالصدمة أمكن رفع ضغطهم الدموي وإنقاذ حياتهم باستخدام الڤازويريسين، الذي انتشر استعماله في العديد من المراكز الطبية الكبيرة في مختلف أنحاء العالم. وتُجرى الآن دراسة واسعة في عدد من المراكز الطبية تتناول المصابين بالصدمة الإنتانية كي يحدَّد بشكل نهائي ما إذا كانت إعادة الضغط الدموي إلى مستواه الطبيعي تخفف أعراض الصدمة وتقلل الوفيات. ومن حسن الحظ أن الڤازويريسين غير مسجل ببراءة اختراع، مما يعني إمكان إنتاجه بتكاليف معتدلة.

 

وليست الأبحاث الجارية حاليا حول الڤازويريسين هي الوحيدة التي يقوم بها الباحثون والسريريون لمكافحة الصدمة. فقد حدد العلماء في السنوات الأخيرة بشكل دقيق عناصر شلال الالتهاب الذي يطلقه إنتان الدم ويؤدي في نهاية الأمر إلى حدوث الصدمة. وهم يحاولون إعداد أضداد antibodies مثلINNO202 وغيره من المركبات التي تتعارض مع بعض العوامل الفاعلة في الاستجابة الالتهابية. كما أنهم يبحثون في الدور الذي تؤديه السترويدات في كبح الاستجابة الالتهابية عند بعض المرضى. ويؤمل أن تقود الأبحاث التي تُجرى على هذه الجبهات المختلفة إلى إيجاد معالجات تنقذ حياة المصابين بالإنتان الدموي والصدمة.

 

لقد استطرنا فرحا لدى حصولنا على خيوط مختلفة من المعلومات حول الآليات الخلوية والجزيئية التي تحكم التقبض والتوسع الوعائيين والصدمة وذلك إثر مشاهدةٍ وقعنا عليها مصادفة. وزاد في سرورنا أن الاستفادة من هذه المعلومات قد انتقلت سريعا إلى الممارسة السريرية في أمكنة عديدة من العالم.

 

المؤلفان

Donald W. Landry – Juan A. Oliver

يعملان معا في كلية الطب والجراحة بجامعة كولومبيا. يرأس لاندري، وهو أستاذ مشارك في الأمراض الباطنية، قسم أمراض الكلية وقسم المعالجة التجريبية، حيث يقوم بإنتاج الإنزيمات الصنعية. أما أوليڤر المولود في كاتالونيا بإسبانيا فقد حصل على شهادة الطب من جامعة برشلونة. وبعد انتهائه من منح بحث علمي في جامعة هارڤارد انضم إلى جامعة كولومبيا بصفة أستاذ مشارك في الطب السريري.

 

مراجع للاستزادة 

Vasopressin Deficiency Contributes to the Vasodilation of Septic Shock. Donald W. Landry et al. in Circulation, Vol. 95, No. 5, pages 1122-1125; March 4, 1997.

The Pathogenesis of Vasodilatory Shock. Donald W. Landry and Juan A. Oliver in New England Journal of Medicine, Vol. 345, No. 8, pages 588-595; August 23, 2001.

Scientific American, February 2004

 

 (*) INSIGHTS INTO SHOCK

(**) Overview/ Treating Shock

(***) Under Pressure

(****) Falling Resitance

(*****) Types of Shock

(******) how vasopressin combats shock

(*******) a new approach

 

(1) [انظر: Biological Roles of Nitric Oxide,

by Solomon H. Snyder – David S. Bredt; Scientific American, May 1992].

(2) [انظر:”Patch Clamp Technique,

by Erwin Neher – Bert Sakmann; Scientific American, March 1992].

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى