أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحةبيولوجياعلم الجينات والوراثة

ابتكارات

ابتكارات

طموح بلا حدود(*)

<E.تشان> يتخلى عن دراسة الطب في هارڤارد ليقود العالَم إلى عصر الجينوميات الشخصية.

 

في صبا <تشان>، كان العلم في ذروته، وكان والده [وهو مهاجر من هونگ كونگ] يجلب إلى المنزل نماذج تتألف من كرات وعيدان (تمثل جزيئات عضوية معينة) كتذكار لعمله في شركة هوفمان ـ لاروش للصيدلانيات، حيث حصل بوصفه كيميائيا على أربعين براءة اختراع أمريكية. كانت تسود نزعة رجعية مفرطة، وكان ما يقدمه الوسط المدرسي من ثقافة علمية، وفي محيط <تشان> في الجانب الشمالي الغربي من نيوجرسي، على درجة من الضعف، بحيث لم يسمع الفتى قط عن برنامج «ويستنگهاوس للتقصي عن المواهب العلمية»Westinghouse Science Talent Search (الذي أصبح يعرف الآن بـ<إنلت> للتقصي عن المواهب العلمية.» ومع ذلك، اجتهد الصبي ليصبح بطل مسابقة الفيزياء في ولايته خلال عامين منفصلين وذلك بمثابرته على قراءة كتب الفيزياء والحساب، التي كان يستعيرها من المكتبة. ويعلق <تشان> بتبجح مميز: «لقد تيقنت أن لدي الكثير من القدرة، وإنني لا أحتاج إلى تدريب منهجي لأنافس أول الأوائل.»

 

وفي هارڤارد أفادته مهارته في التعلم الذاتي فائدة كبيرة. فقد فاز بمرتبة الشرف العليا، وتخرج في عام 1996 بامتياز فائق. ومع هذا، كان يجد من الوقت ما يتيح له التفكير في تقانة قد تُستنبط من البيانات العلمية «لمشروع الجينوم البشري»(1)، الذي كان في منتصف الطريق إلى الانتهاء. ويتذكر <تشان> متسائلا: «يمكننا الحصول من كل شخص في العالم على معلومات كاملة عن تسلسل جينومه؟».

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI2004b20N12_H05_003171.jpg

جينوم بساعة واحدة هو هدف الشركة U.S. Genomics (جينوميات الولايات المتحدة)، التي أسسها <E.تشان> (اليسار)، وشقيقه <آيان>، اللذان يظهران هنا مع ماكينة للسلسلة السريعة.

 

ولاحقا، وفي إثر انقضاء فصل دراسي واحد في كلية طب هارڤارد، انتابه الضجر وعاد إلى التفكير في استنباط أداة تقرأ، في خلال ساعة واحدة أو نحو ذلك، الاختلافات الفردية في الدنا DNA، التي تحدد الفروق الوراثية الأساسية بين فرد وآخر. ومن المعروف أن كل خلية من الخلايا تقرأ (في أثناء الانقسام) ملايين أحرف الدنا أو أزواج القواعد(2) في خلال دقيقة واحدة. وقد استنتج <تشان> منطقيا أن اختبارا واحدا للدم يمكن أن يُطور ليتعرف الفروق الطيّعة أكثر للكشف سريعا عن الاختلافات التي تخصص جينوم فرد من الأفراد، في حين أن القطع الطويلة اللامتغيرة من الدنا (التي هي نفسها في أفراد بني البشر كافة) تمر في الأداة من دون أن تُقرأ. وسيبحث المسبار(3) عن تجمعات  أزواج القواعد (عدة ملايين في كل جينوم) التي تمثل درجة التأهب لمرض من الأمراض أو المقدرة على تحمل دواء من الأدوية.

 

وغطت أكداس من الكتب ومقالات المجلات عن البيولوجيا الجزيئية، وعلم تطوير الآلات الطبية والبصريات والفيزياء، معظم أرجاء غرفة <تشان> في مهجعه. وباقتباسه من صناعة أشباه الموصلات(4) ومن حقل التقانة النانوية الوليد، تصور <تشان> وضع أقنية منمنمة على شيپة(5) كوارتزية. وسيتدفق الدنا، مدفوعا بجريان سائلي، هابطا القناة، وكأنه فيلم يمر عبر جهاز إسقاط سينمائي. ومع مرور حلزون الدنا في القناة، ستضيء حزمة ليزرية تتوضع في وسط القناة تقريبا، أزواجا من القواعد وُسِمَتْ بصباغ متألق. وكمثل قارئ باركود bar-code، فإن أداة إلكترونية ضوئية ستحدد أيا من مجموعات القواعد ستُضيء، فتميز عندئذ الاختلافات الوراثية. ولجعل الاختبار متاحا على نطاق واسع، فإن <تشان> يرى أن ثمن الأداة يجب ألا يتجاوز مئات قليلة من الدولارات.

 

لقد أضحت الفكرة هاجسا بالنسبة إلى <تشان> لدرجة أنه بعد أن أكمل ثمانية عشر شهرا في كلية طب هارڤارد، غادرها ليؤسس ما أسماه U.S.Genomics  (جينوميات الولايات المتحدة). وقرر شقيقه <آيان> [الذي كان يعمل في مؤسسة مصرفية استثمارية مربحة ذات صلة بـ<مورگان-ستانلي>] الانضمام إليه. وبطريقه ما، أقنع <تشان> شركة حقوقية بارزة للملكية في بوسطن بأن تتقدم بطلب تسجيل براءة خاص به بأجر آجل (يدفعه <تشان> للشركة عندما يحصل على التمويل). وبغية بناء المصداقية اللازمة، شرع <تشان> في تشكيل هيئة استشارية مرموقة من العلماء، تنامت لتضم أحد حملة جائزة نوبل. وستساعده الهيئة العلمية الاستشارية على الدخول إلى عالم المشروعات الرأسمالية.

 

لقد أثار اقتراح طريقة جديدة كليا للسلسلة من قبل شاب عمره 23 عاما فضول العلماء والمهندسين في محور هارڤارد ـ معهد ماساتشوستس للتقانة. ويعلق على ذلك <S.R.لانگر> [أستاذ الهندسة الكيميائية في معهد ماساتشوستس للتقانة وعضو الهيئة الاستشارية للشركة] قائلا: «لقد أعجبني أن شابا في عمره يحاول أن يتصدى لمعضلة بهذه الضخامة. وإذا كنت تستطيع إجراء السلسلة بهذه السرعة، فإن ذلك سيغير عالم هذه التقانة.»

 

وأتى أول تسريب رأسمالي تجاري (مبلغ زهيد قدره ثلاثمائة ألف دولار) من شركة، مقرها في منطقة بوسطن. وكفل هذا المبلغ استئجار مقر في حاضنة التقانة بجامعة بوسطن، كما استعمل كنقطة لاستجرار أموال جديدة. وبغية الحصول على إسناد قوي، فإن على «جينوميات الولايات المتحدة» أن تبرهن على تقدمٍ ما في تنفيذ خطتها المتمثلة بإنشاء مُسَلْسِلٍ جينومي شخصي. ويقول <تشان>: «كان سؤال الناس لنا هو التالي: هل بوسعك أن تأخذ تلك القطعة من الدنا، التي تبدو ككرة من السباگيتي وتسحبها خطيا لتمر في أداتك التي تقرأ أحرفها. لقد برهنا في خلال ستة أشهر كيف يمكننا فعل ذلك.»

 

وبمساعدة خمسة باحثين انضموا إلى الشركة الحديثة الإنشاء، صنع <تشان> سلسلة منتصبة من الأعمدة، يبعد كل واحد منها عن الآخر عشرات قليلة من النانومتر، وتتوضع هذه الأعمدة في بداية قناة، يمر عبرها حلزون الدنا. تنتزع الأعمدة عندئذ كرة الدنا، ويتسبب انضغاط الجزيء تجاه الأعمدة في انفراده وجريانه نزولا في القناة، باتجاه المكشاف الإلكتروني الضوئي.

 

وعمل جهاز ڤيديو (يظهر الدنا يتحرك عبر القناة) كبرهان على صحة المبدأ، وسمح للشركة في عام 1998 بجمع مليوني دولار. واستتبع ذلك مباشرة مجابهة العقبة التالية: وضع واسمات متألقة على الدنا، وكشف تجمعات أزواج القواعد وهي تمر عبر المكشاف بمعدل يبلغ 30 مليون زوج في الثانية. وأمضى فريق «جينوميات الولايات المتحدة» المتنامي معظم عام 2000 وهو يطور تقنية بوسعها توجيه حزمة ليزرية إلى نقطة أبعادها 2 نانومتر تقع على حلزون الدنا الممدود، لتكشف بدقة الواسمات عند إضاءتها.

 

يدَّعي <تشان> أن بوسع «المحرك الجيني» The Gene Engin (اسم الجهاز الذي أنتجه) أن يتعرف اختلافات في قطع الدنا، يبلغ طول كل منها  200000 زوج من القواعد، وهو طول يكفي لجعل التقنية مغرية تجاريا. ويطمح <تشان> في خلال عام واحد، أن يضاعف القدرة على القراءة خمس مرات. وتُقيَّم المُسَلْسِلات المعهودة نحو 1000 زوج من القواعد في المرة الواحدة.

 

لقد أثار اقتراح طريقة جديدة كليا لسلسلة الدنا DNA من قبل شاب

عمره 23 عاما فضول العلماء في محور هارڤارد ـ معهد ماساتشوستس للتقانة.

وحتى الآن، كان على <تشان> أن يثبت كفاءته بإقناعه المستثمرين بأنه من مصلحتهم أن يمنحوا قرضا بمبلغ 20 مليون دولار لطالب في العشرينات من عمره وقد تخلى عن دراسة الطب، وعليه في الوقت نفسه إقناع الحكومة ومصادر تمويل أخرى لتزوده بعشرين مليون دولار إضافية. وعلى «جينوميات الولايات المتحدة» (وقد حصلت على البراءات الضرورية، وضمنت لنفسها مركزا مرموقا في عالم التقانة) أن تجتاز بنجاح اختبار كسب ثقة زبائن المستقبل والمجتمع العلمي على السواء. كما أنها تواجه كثيرا من المنافسين الذين يسعون إلى سَلْسلة جينومية سريعة. كما يتوجب على الشركة (التي تتألف من مجموعة مكاتب، تشكل جزءا غير ملحوظ من باحة صناعية في «وبرن» بماساتشوستس) أن تنشر بحثا في مجلة علمية، يفصِّل أداء المحرك الجيني. بيد أن <تشان> وشقيقه بادرا إلى جعل شركتهما عالمية الحضور: ففي الشهر 1/2002، أعلنت «جينوميات الولايات المتحدة» أنها ستقيم تعاونا مع مركز قيادي للسَّلْسلة، هو معهد سانگر Sanger  في كمبردج بإنكلترا، وستنضم في مسعى مستقل إلى كلية طب جامعة واشنطن لاختبار التقانة، وللبدء بعملية النشر.

 

ومايزال الطريق أمام <تشان> طويلا. فسلسلة الاختلافات في 200000 زوج من القواعد مهمة أسهل بكثير من قراءة كامل الجينوم (أي أكثر من ثلاثة بلايين زوج من القواعد). وفي الحقيقة، يرى <لانگر> [من معهد ماساتشوستس للتقانة] أن المعلوماتية الحيوية(6) (التي عليها أن تتلمس طريقها بتؤدة عبر أكداس من البيانات، ولدتها قراءة أزواج القواعد) لاتزال تشكل تحديا حقيقيا. بيد أن <تشان> غير مكترث بذلك. فهو يرى «أن تسعين في المئة من الأسئلة الرئيسية توجد لها سلفا حلول مرضية.» ويتنبأ بأن الشركة ستحقق الهدف المتمثل بقراءة الاختلافات في كامل الجينوم بحلول عام 2006. ولكن حتى لو تحقق ذلك، فإن <تشان>، الذي سيبلغ في حينه الثانية والثلاثين من عمره، لن يكون جاهزا للاستراحة وأكاليل الغار تتوج هامته، ذلك أن معالجة المعلومات التي سيتمخض عنها الجينوم، تمثل تحديا (كما يؤكد <تشان>)، يمتد عمرا مهنيا بكامله.

 

<G.ستيكس>

 

(*) THINKING BIG

(1) The Human Genome Project

(2) base pairs: أو أزواج الأسس.

(3) probe

(4) semiconductor أو نصف ناقل أو شبموصل.

(5) chip

(6) bioinformatics

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى