أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم الاجتماعيةعلم الاجتماع

هل العولمة تساعد فقراء العالم أم قد تُضرُّ بِهم؟

هل العولمة تساعد فقراء العالم أم قد تُضرُّ بِهم؟(*)

الجواب هو الاثنان معا. والسؤال الحقيقي هو كيف يمكن
جعل الفوائد في حدها الأقصى والأضرار في حدها الأدنى.

<P.باردان>

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/49.gif

أصبحت العولمة والقضايا الأخرى المرتبطة بها كالفقر وانعدام المساواة موضوع الساعة، لا تنافسها فيها أية قضايا أخرى باستثناء الإرهاب الدولي وارتفاع درجة حرارة الأرض. فمعظم الأشخاص الذين أعرفهم يحملون أفكارا راسخة عن العولمة، ومعظمهم يعبِّرون عن رغبتهم في تحسين أوضاع الفقراء في العالم. وتؤكد الصحف الاقتصادية العالمية والمسؤولون الدوليون بثقة أن الأسواق العالمية الحرة تعزز من فرص الفقراء في تحسين أوضاعهم، في حين يشدد مناهضو العولمة على الرأي المعاكس. ولكن عادة ما يكون رسوخ معتقدات الناس متناسبا عكسيا مع الدلائل الواقعية التي يدركونها.

وكما هو شائع في المناقشات العامة المثيرة للجدل، تفسر العولمة بمعان مختلفة، فالمؤيدون يفسرونها على أنها تقانة الاتصالات وانتقال رأس المال، أو التعاقد مع الشركات المحلية في الدول الغنية؛ أما مناهضوها فيعتبرونها مرادفة للرأسمالية أو للهيمنة الثقافية والاقتصادية الأمريكية. لذلك من الأفضل أن أوضح في بداية هذه المقالة أنني سأشير بشكل رئيسي إلى العولمة الاقتصادية؛ أي إلى توسع الاستثمارات والتجارة الدولية. ولكن السؤال هنا والذي يعتبر هذا من أهم الأسئلة في العلوم الاجتماعية اليوم هو كيف تؤثر هذه العملية في الأجور والدخول وحصول الفقراء على الموارد؟

 

بعد ربع قرن من انتهاء الحرب العالمية الثانية، قامت معظم الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بحماية اقتصادها وعزله عن الاقتصاد العالمي، ومع ذلك، قامت معظم هذه الدول بفتح أسواقها منذ ذلك الحين. فعلى سبيل المثال، توسعت تجارة الخدمات والبضائع من الناتج الإجمالي الوطني (GPD)بين عامي1980 و 2000: في الصين من 23% إلى 46%، وفي الهند من19% إلى30%. وقد سببت هذه التغيرات العديد من المصاعب للفقراء في الدول النامية، ولكنها في الوقت نفسه طرحت العديد من الفرص التي استفادت منها بعض الدول ولم تستفد منها دول أخرى، وذلك من خلال الاعتماد بشكل كبير على مؤسساتهم الاقتصادية والسياسية الوطنية (ويطبق هذا أيضا على العاملين ذوي الأجور المنخفضة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع أن تأثيرات العولمة في الدول الغنية تتجاوز نطاق هذه المقالة). وتعتبر المحصلة الصافية في معظم الأحوال عملية معقدة وسياقية(1)، تناقض التصريحات السطحية التي تؤيد أو تعارض العولمة. ومن هنا يعتبر إدراك مثل هذه التعقيدات أساسيا لاتخاذ الإجراءات الفعالة في هذا المضمار.


ليست بلاء ولا دواء(**)


ترتكز حالة التجارة الحرة على المبدأ القديم المبني على المزايا التفضيلية، حيث يبنى هذا المفهوم على أن الدول تكون بوضع أفضل عندما تقوم بتصدير السلع التي تتفوق بإنتاجها، وتستورد احتياجاتها الأخرى. وتؤيد جميع المناهج الاقتصادية السائدة هذا المبدأ، ولكن فيها مع ذلك اختلافات كبيرة في الآراء حول التوازن بين المنافع المحتملة والتكاليف الفعلية من التجارة وحول أهمية الحماية الاجتماعية للفقراء. وفي حين يعتقد مؤيدو التجارة الحرة أن تزايد موجة الاستثمار والتخصص العالمي يفيد الجميع، يشير آخرون إلى أن العديد من الفقراء لا يملكون القدرات على التكيف مع ظروف الأسواق المتغيرة. ويناقش هؤلاء الاقتصاديون أن منافع التخصص تتحقق على المدى الطويل، الذي من المفترض خلاله أن يكون الأشخاص والموارد قابلين للتأقلم بشكل كامل.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/99.gif

حقول الرز، مقاطعة جيانگزي، الصين، أوائل التسعينات.

 

يعتبر النقاش الدائر بين الاقتصاديين نموذجا للتحضر مقارنة بما يدور في الشوارع، حيث يدعي مناهضو العولمة أنها تصب في صالح الأغنياء على حساب الفقراء، أما مؤيدوها فيؤكدون أنها تصب في مصلحة الفقراء أيضا، ولكن إذا ما نظرنا إلى الوقائع، بدت القضية أكثر تعقيدا. فالبنك الدولي يقدر، بالاعتماد على بيانات المسح الأسري التي جمعت من قبل منظمات مختلفة، أن نسبة ضئيلة من السكان في الدول النامية تعيش تحت خط الفقر المحدد بدولار واحد في اليوم (وفقا لأسعار عام 1993)؛ ووفقا لنفس المعيار، فإن الفقر المدقع يتضاءل بالمجمل.

 

يمكن إرجاع التناقص الكبير في معدلات الفقر المدقع في الصين إلى قانون الإصلاح الزراعي لعام 1978 وغيره من العوامل الداخلية، وليس نتيجة للخطوات الكبيرة التي تم اتخاذها في مجال التجارة الخارجية أو الاستثمارات.

 

ويظهر هذا الاتجاه على وجه الخصوص واضحا في جنوب شرق آسيا، فقد تضاءلت معدلات الفقر بشكل كبير في الصين والهند وأندونيسيا ـ وهي الدول التي تميزت اقتصاداتها لفترة طويلة بالفقر الريفي المدقع، وتشكل بمجموعها حوالي نصف مجموع سكان الدول النامية ـ فبين عامي 1981و2001، تناقصت نسبة الريفيين الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم من 79% إلى27% في الصين، ومن 63% إلى 42% في الهند، ومن 55% إلى 11% في أندونيسيا.

لكن مع أن الفقراء بمجملهم لا يزدادون فقرا، لم يستطع أحد أن يبرهن بشكل مقنع على أن التحسن في أوضاعهم يعزى إلى العولمة بصورة رئيسية. ففي الصين على سبيل المثال، يمكن إرجاع تناقص معدلات الفقر إلى عوامل داخلية، مثل توسع البنية التحتية وقانون الإصلاح الزراعي لعام 1978 (والذي تم من خلاله تفكيك الكوميونات العائدة لحقبة ماو)، والتغيرات في أسعار شراء الحبوب، إضافة إلى تخفيف القيود المفروضة على الهجرة من الريف إلى المدينة. وفي الواقع، فقد حدث تناقص كبير في معدلات الفقر في أواسط الثمانينات، وذلك قبل الخطوات الكبيرة التي تم اتخاذها في مجال التجارة الخارجية أو الاستثمار. فثلاثة أرباع ما ينوف على ال400 مليون صيني الذين تم انتشالهم فوق خط الفقر العالمي بين عامي 1981 و 2001، جرى انتشالها بحلول عام 1987.

 

 

نظرة إجمالية: العولمة والفقر(***)

 

 يعتبر توسع التجارة الدولية والاستثمارات من أهم الاتجاهات السائدة في الوقت الحاضر، ولكن يميل صانعو السياسات إلى مناقشتها من دون مراجعة دقيقة للدلائل المتوافرة في العلوم الاجتماعية.


نظرا لأن الحقبة الحالية للعولمة تزامنت مع الانخفاض المستمر في نسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع، يمكن الاستنتاج أن العولمة بمجملها لا تجعل الفقراء أكثر فقرا. وعلى السواء، ليس لها نصيب كبير في تخفيض معدلات الفقر، الذي تمّ في حالات عديدة قبل تحرير التجارة.


إن الدول التي تعزز الحقوق الاقتصادية الأساسية ـ تحسين البنية التحتية، ضمان الاستقرار السياسي، تنفيذ الإصلاح الزراعي، توفير شبكات الأمان الاجتماعي، التصدي لعوائق السوق مثل عدم القدرة على الحصول على قروض ـ تكون أكثر نجاحا في تخفيض معدلات الفقر. ومع أنه يمكن للعولمة أن تساعد في هذا المضمار، فإنها لن تكون سوى عاملٍ من بين العديد من العوامل.

 

وبالمثل، يمكن إرجاع انخفاض معدل الفقر الريفي في الهند إلى انتشار الثورة الزراعية، والبرامج الحكومية للتصدي للفقر والحركات الاجتماعية، وليس إلى إجراءات تحرير التجارة في التسعينات من القرن الماضي. ففي أندونيسيا، أدت الثورة الزراعية والسياسات الاقتصادية الكبرى واستقرار أسعار الأرز والاستثمارات الهائلة في البنية الزراعية التحتية، دورا كبيرا في تخفيض معدلات الفقر في الأرياف. وبالطبع، أسهمت العولمة من خلال توسيع فرص العمل في مجال التصنيع المعتمد على الأيدي العاملة الكثيفة، في انتشال العديد من الصينيين والأندونسيين من دوامة الفقر منذ أواسط الثمانينات (وهذا لا ينطبق بعد على الهند لأسباب مؤسساتية وسياسيّة داخلية عديدة). لكن ثمة سبب واحد من بين العديد من الأسباب التي تفسر التقدم الاقتصادي في السنوات الخمس والعشرين الماضية.

http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/31.gif

البُند، شانغهاي، 1999

 

إن المشككين في فوائد العولمة يشيرون إلى أن نسبة الفقر بقيت لفترة طويلة مرتفعة في جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، فبين عامي 1981 و 2001، ازدادت نسبة الأفارقة الذين يعيشون تحت خط الفقر من 42% إلى47%، ولكن يبدو أن هذا التزايد في نسبة الفقراء يمكن إرجاعه إلى عدم استقرار الأنظمة السياسية أو فشلها أكثر من كونه نتيجة للعولمة. كما أن تخوف المستثمرين والتجار من عدم الاستقرار هذا قد أضعف من تأثيرات العولمة. ثم إن السياسات غير المستقرة قد أسهمت في تضخيم العوامل الطويلة الأمد، مثل العزلة الجغرافية وانتشار الأمراض والاعتماد المفرط على مجموعة محدودة من السلع التصديرية والانتشار البطيء للثورة الزراعية [انظر: «هل يمكن القضاء على الفقر المدقع؟»،مجلة العلوم ، العدد 5(2006) ، ص 16].

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/010s%20copy.gif

لقد أصبح الفقر المدقع أقل انتشارا على مر العقدين الماضيين، ومن ضمنها الحقبة التي سادت فيها العولمة. لذلك، من الخطأ الادعاء، كما يفعل الكثيرون، أن العولمة تجعل الفقراء أكثر فقرا. فالدول التي تأثرث بالركود الاقتصادي، وبشكل خاص في أفريقيا، كانت معزولة عن الاقتصاد العالمي. لذا فإن مصائب هذه الدول تُردُّ إلى أسباب أخرى

 

مصانع يكدح فيها العمال بأجور زهيدة(****)

 

إن المنافسة في الأسواق الدولية تُجزي الأشخاص ذوي المبادرات والمهارات والمعلومات. ويعوق الفقراء في كل مكان عدم حصولهم على التمويل اللازم لمشروعاتهم والاستفادة من الفرص المتاحة لتعلمهم مهارات جديدة. كما أن العمال في بعض الدول النامية ـ وعلى سبيل المثال لا الحصر، المكسيك ـ أخذوا يخسرون وظائفهم في الصناعات التي تعتمد على الأيدي العاملة الكثيفة لصالح نظرائهم في آسيا. وفي الوقت نفسه، أسهمت الاستثمارات الأجنبية في طرح فرص عمل جديدة. وعموما، تبدو تأثيرات العولمة هي تحسن صاف. ففي المكسيك، تتضاءل نسبة الفقر في المناطق التي انخرطت أكثر من غيرها في الاقتصاد العالمي، مع أن الفنيين والمهرة يهاجرون إلى تلك المناطق، مما يحسِّن دخولهم بصورة مستقلة عما تحققه العولمة. فلقد أظهرت دراسة أجراها <G.هانسون> [من جامعة كاليفورنيا ـ سان دييگو]، أخذت بعين الاعتبار فقط الأشخاص الذين ولدوا في منطقة معينة (لذا لم يُدخَل المهاجرون في عداد هؤلاء) أن متوسط الدخل خلال التسعينات في الولايات المكسيكية الأكثر تأثرا بالعولمة، ازداد بنسبة 10% أكثر من زيادته في تلك الولايات الأقل تأثرا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/97.gif

لاجئون من بورما في معمل صناعة ألبسة، ماي سوت، تايلاند، التسعينات


وفي اقتصادات آسيا الفقيرة ـ على سبيل المثال، بنغلادش وفيتنام وكمبوديا ـ يعمل عدد كبير من النساء في معامل تصدير الألبسة، حيث تعتبر دخولهن حسب المعايير العالمية قليلة ولكنها أكثر من تلك الدخول التي سيحصلن عليها من العمل في مهن أخرى. لذلك يجب على المدافعين عن حقوق العمال الذين يساورهم القلق على أحوالهم أن يقدروا التحسن النسبي في ظروف وأحوال النساء. فقد استشهد تقرير لأوكسفام (وهو اتحاد دولي لمنظمات غير حكومية يعمل على محاربة الفقر في العالم) بسيدة تبلغ من العمر 23 عاما وتعمل في صناعة الملابس بقولها:

«هذا العمل مرهق ولا تتم معاملتنا بإنصاف. فالمديرون لايحترموننا كنساء، ولكن الحياة أصعب بالنسبة إلى أولئك الذين يعملون خارج المصنع. ففي قريتي، سأحصل على دخل أقل، ويحصل أولئك الذين يبيعون في الشوارع أو الذين يحملون الآجر إلى مواقع البناء على أجر أقل. هنالك خيارات قليلة أخرى. وبالطبع أود أن تتاح لي ظروف أفضل. ولكن هذا العمل يضمن لي إطعام أولادي وتحسُّن ظروف حياتهم.»

وفي عام 2001، قامت كل من <نايلة كبير> [من جامعة ساسِكس في بريطانيا] و<سيمين محمود> [من معهد بنغلادش للدراسات التنموية] بإجراء مسح شمل 1322 امرأة عاملة في داكا، حيث وجدتا أن متوسط الدخل الشهري للعاملات في صناعة الملابس كان أعلى بنسبة 86% من متوسط دخل العاملات الأخريات اللاتي يعشن في أحياء الصفيح نفسها.

ويمكن إعطاء دليل آخر على مثل هذا التحسن النسبي في أوضاع العاملين عندما تتلاشى مثل هذه الفرص. ففي عام 1993، واستباقا للحظر الأمريكي على الواردات التي يتم تصنيعها من قبل عمال أطفال، تم طرد نحو 50ألف طفل يعملون في صناعة الملابس في بنغلادش، وقد قامت كل من اليونيسيف وجماعات المساعدة المحلية بالتحقيق في نتائج هذا الإجراء فوجدوا أن 10 آلاف طفل من هؤلاء عادوا إلى مقاعد الدراسة، ولكن البقية أخذت تعمل في مهن أدنى، من ضمنها مكاسر الحجارة والدعارة. ولكن هذا لا يبرر ظروف العمل المروعة في المصانع، حتى وإن تجاهلنا حالات العمل القسري أو ظروف العمل غير الآمنة، ولكن يجب على مؤيدي العولمة إدراك فرص العمل المتاحة للفقراء، والنتائج المحتملة غير المقصودة لسياسات «التجارة المنصفة»(2)fair trade.

الجذور المحلية للفقر(*****)


لا يجلب الاندماج في الاقتصاد العالمي المكاسب فقط وإنما أيضا العديد من المشكلات. فحتى لو كانت فرص العمل الجديدة التي يجلبها هذا الاندماج أفضل من القديمة، فإن التحول يمكن أن يكون موجعا. فمعظم الدول الفقيرة توفر حماية اجتماعية ضعيفة الفعالية لمساعدة الفقراء الذين فقدوا وظائفهم ولم يستطيعوا إيجاد البديل. أضف إلى ذلك، فإن أعدادا كبيرة من الفقراء تعمل في مزارعها الصغيرة أو مشاريعها العائلية حيث معظم المشكلات التي تواجهها محلية، مثل، عدم قدرتهم على الحصول على قروض، وضعف البنية التحتية وفساد المسؤولين الحكوميين، وعدم أمان حقوق حيازة الأراضي الزراعية. وتسهم الأنظمة السياسية الضعيفة وسوء توزع الثروات وعدم كفاءة أو فساد السياسيين والمسؤولين الحكوميين في إعاقة استفادة الفقراء من الفرص المتاحة. لذلك فإن فتح الأسواق من دون تخفيف تلك القيود الداخلية يجعل وضع الفقراء أكثر سوءا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/96.gif

بيت دعارة في جوار محطة ماهيم للقطارات، مومبي، الهند 2002


وعلى العكس من ذلك، فإن فتح الاقتصاد أمام التجارة وتدفق رؤوس الأموال على المدى الطويل لا يفاقم من الوضع السيئ للفقراء إذا تم سن القوانين والتشريعات ووضع السياسات المناسبة، وخصوصا في إنتاج بضائع أكثر قابلية للتسويق وفي طرح فرص عمل جديدة.

ولقد برهنت الدراسات والأبحاث على صحة ذلك. فمع أن دخل الفرد في كل من اقتصادات موريتشوس وجاميكا كان متقاربا في أوائل الثمانينات، فقد تفاوت أداؤهما الاقتصادي تفاوتا كبيرا منذ ذلك الوقت، حيث تمتعت جاميكا بمؤسسات ديمقراطية وسيادة القانون، في حين غرقت موريتشوس في الجريمة والعنف. ومع أن دخل الفرد في كوريا الجنوبية والفلبين كان متقاربا في أوائل الستينات، لكن الفلبين تراجعت من حيث المؤسسات الاقتصادية والسياسة (وخصوصا بسبب تركز الثروات والسلطات بأيدي حفنة قليلة)، لذلك بقيت الفلبين دولة نامية، في حين أصبحت كوريا الجنوبية في مصاف الدول المتطورة. لقد كانت بوتسوانا وأنغولا من الدول المصدرة للألماس، ولكن تعتبر بوتسوانا حاليا من الدول الديمقراطية السريعة النمو، في حين دمرت الحرب الأهلية أنغولا.

 

 

وفقا للمعايير العالمية، تعتبر أجور وظروف العمل في صناعة الملابس سيئة ولكنها أفضل من العمل في مهن أخرى كالخدمة في المنازل والدعارة.

 


وتبرهن خبرات الدول على أنه ليس ثمة ما يدعو لأن تعمل قوى العولمة على إعاقة برامج محاربة الفقر، حيث لا توجد أية قواعد يجب على الدول من خلالها التخلي عن برامج الحماية الاجتماعية لتدعم اقتصادها؛ ففي الواقع، يمكن أن تكون الأهداف الاقتصادية والاجتماعية داعمة بشكل متبادل. فالإصلاح الزراعي، وتوفير فرص الحصول على القروض والخدمات لصغار المنتجين، وإعادة التأهيل والتدريب، ودعم دخل العمال المهجّرين، وبرامج الأشغال العامة للعاطلين عن العمل، وتوفير التعليم الأساسي والخدمات الصحية يمكن أن تعزز إنتاجية العمال والمزارعين، ومن ثمّ تسهم في تعزيز القدرة التنافسية للدول على مستوى العالم. ويمكن أن تتطلب مثل هذه البرامج إعادة النظر بأولويات ميزانيات تلك الدول وتعزيز أطر المحاسبة الإدارية والسياسية؛ ولكن العوائق هي داخلية إلى حد بعيد. وعلى العكس، لا يؤدي الانغلاق الاقتصادي أمام التجارة العالمية إلى تقليل الفوائد المكتسبة للمالكين والسياسيين والأغنياء الذين يتمتعون بالدعم الحكومي. وعليه، لا تعد العولمة السبب الرئيس لمشكلات الدول النامية، خلافا لما يدعيه العديد من مناهضي العولمة ـ تماما كما لا تعتبر العولمة الحل الوحيد لتلك المشكلات، خلافا لزعم العديد من مؤيديها.

ولكن ماذا عن البيئة؟ يناقش العديد من المدافعين عن البيئة أن الاندماج في الاقتصاد العالمي يشجع على الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية الشحيحة مثل الغابات ومصايد الأسماك وتدمير موارد أرزاق الفقراء. فتهمة شائعة توجه إلى الشركات التي تتجاوز حدود بلدانها(3)، هي أنها تتسابق للاستثمار في الدول الفقيرة متجاهلة معايير حماية البيئة، وتكثر الروايات في هذا المضمار، لكن تمّ حولها إجراء عدد قليل من الدراسات الإحصائية. فقد اعتبرت إحدى هذه الدراسات التي أعدتها عام 2003 <G.إيسكلاند> [من البنك الدولي] و<A.هاريسون> [من جامعة كاليفورنيا في بيركلي] في كل من المكسيك والمغرب وفنزويلا وساحل العاج، أن العامل الأكثر أهمية لاستثمار تلك الشركات في هذه الدول هو حجم أسواقها المحلية وليس التملص من تكاليف حماية البيئة المفروضة في الدول الغنية. ومن الملاحظ أنه في أية صناعة، تكون المصانع الأجنبية أقل تلويثا للبيئة من المصانع المحلية.

 
http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/95.gif

مركز اقتراع، گابورون، بوتسَوانا، 2004.


وعلى شاكلة الفقر المستمر، فإن المعايير غير الفعالة للحفاظ على البيئة هي في نهاية المطاف سياسة وطنية أو فشل مؤسساتي. فغياب القوانين والتشريعات التي تحدد حقوق الملكية أو الموارد المشتركة يؤدي عادة إلى الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية. فقد أدت الاستجابة لضغوط السياسيين المتنفذين إلى إجبار الحكومات على خفض أسعار الموارد الطبيعية الثمينة، مثل مياه الري في الهند والطاقة في روسيا، ومنح امتيازات الخشب في أندونيسيا والفلبين. وليس غريبا أن تكون النتيجة استنزاف الموارد. ومن المتوقع أن يؤدي فتح أسواق دولة من الدول من دون معالجة هذه الاختلالات والتحريفات، إلى تفاقم المشكلات البيئية.

 

(******)عندما يتيح النقاش المجالَ للعمل


لحسن الحظ، فإن كلا من مؤيدي ومناهضي العولمة يطورون ـ ببطء إلى حد ما ـ نوعا من الاتفاق. ففي مجالات عديدة، يرى الطرفان أن ثمة إمكانية للتنسيق فيما بين الشركات التي تتجاوز حدود بلدانها، والمنظمات المتعددة التمويل وحكومات الدول النامية وجماعات العون المحلية وذلك في برامج تقديم المساعدات للفقراء. فتجاوز نقاط الخلاف والبناء على النواحي التي يتم الإجماع عليها والتعاون فيها يمكن أن تجعل الشراكات الدولية قادرة على التخفيف من وطأة الفقر الذي يستمر في ترك بصماته على حياة الملايين من الفقراء في العالم. ونورد هنا بعض الإجراءات التي ما تزال في طور النقاش.

 

 

لا تشرح العولمة الأقدار المختلفة لكل من بوتسوانا وأنغولا، وهما من الدول المصدرة للألماس، الأولى ديمقراطية والثانية دمّرتها الحرب الأهلية.

 


التحكم في رأس المال. يتألف الاستثمار العالمي المتدفق من رأس المال الطويل الأمد (كالمعدات) ورأس المال القصير الأمد (كالأسهم والسندات والعملات) الذي يمكن عند سحبه فجأة أن يسبب أضرارا كبيرة للاقتصادات الهشة. ويمكن الاستشهاد على ذلك بالأزمة المالية التي ضربت آسيا في عام1997، حيث ارتفع معدل الفقر في الريف التايلاندي إلى نحو 50% في أقل من سنة نتيجة ممارسات المضاربين في العملة التايلاندية (البات)، وأدى السحب الجماعي لرأس المال القصير الأمد في أندونيسيا إلى انخفاض حقيقي في الأجور في قطاع الصناعة إلى نحو 44%. وحاليا، يرى العديد من الاقتصاديين (ومن ضمنهم أولئك الذين يؤيدون التجارة الحرة) ضرورة وجود نوع من الضوابط على تدفق رأس المال القصير الأمد، وخصوصا إذا ما كانت المؤسسات المالية الوطنية والمعايير المصرفية ضعيفة. ويعتقد الكثيرون أن كلا من الصين والهند وماليزيا استطاعت تفادي عبء الأزمة المالية التي ضربت آسيا بفضل وجود ضوابط صارمة على هروب رأس المال. ولكن مازال الاقتصاديون يختلفون حول أشكال تلك الضوابط ومدى تأثيرها في تكلفة رأس المال.

تخفيض الحماية على الإنتاج الوطني. تتجلى أهم العوائق التي يواجهها العديد من الدول الفقيرة في عدم اندماجها في الاقتصاد العالمي وليس نتيجة اندماجها فيه. فمن الصعب على الفقراء في العالم الخروج من دوامة الفقر عندما تقيد الدول الغنية (وكذلك الدول الفقيرة نفسها) الواردات وتدعم مزارعيها ومصنعيها. وتقدّر خسائر الدول النامية من الرسوم الزراعية والدعم الحكومي في الدول الغنية بنحو 45 بليون دولار، وخسارتهم السنوية من القيود التجارية على النسيج والملبوسات بنحو 24 بليون دولار. وتتجاوز حصيلة هذه الخسائر مساعدات الدول الغنية للدول الفقيرة؛ علما بأن هذه المساعدات لا يجري توزيعها بشكل عادل بين الدول الفقيرة، حيث يستفيد بعض هذه الدول أكثر من غيره إذا ما تم رفع هذه القيود ووقف الدعم الحكومي.

كسر الاحتكارات. غالبا ما يفتقر صغار المصدرين في الدول الفقيرة إلى شبكات التصدير والعلامات التجارية التي تفتح لهم الطريق إلى أسواق الدول الغنية، ومع أن شركات البيع بالمفرق العالمية يمكن أن تؤدي دورا في مساعدة هؤلاء المصدرين، ولكن عادة ما تكون هوامش الأرباح والرسوم المفروضة مرتفعة جدا. ومن الصعب التحقق من الممارسات التجارية المقيدة من قبل الوسطاء الدوليين، ولكن هناك العديد من الدلائل التفصيلية التي تدلل عليها. فعلى سبيل المثال، تسيطر على سوق القهوة العالمية أربع شركات، وفي أوائل التسعينات كانت أرباح القهوة للدول المصدرة نحو 12 بليون دولار أمريكي، ومبيعات المفرق نحو30 بليون دولار أمريكي. وبحلول عام 2002، تضاعفت مبيعات المفرق، ولكن ما حققته الدول المنتجة للقهوة من أرباح كان أقل من نصف ما تم تحقيقه قبل عقد من الزمن. فالمشكلة ليست في الأسواق العالمية، ولكنها تكمن في عدم القدرة على الوصول إلى تلك الأسواق، أو الأسعار المنخفضة المعروضة على المنتجين نتيجة للقدرة الاحتكارية التي تتمتع بها مجموعة قليلة من شركات بيع المفرق. ففي بعض الصناعات، يمكن أن تتحد بعض الشركات لتثبيت الأسعار. وقد اقترح بعض الاقتصاديين تأسيس وكالة تحقيق دولية مناهضة للتروستات(4). وحتى وإن لم يكن لهذه الوكالة سلطة تنفيذية، من الممكن لها أن تعبئ الرأي العام وتقوي مواقف المنظمات الأخرى المناهضة للتروستات. هذا ويمكن لبرامج الشهادات الدولية الخاصة بجودة المنتجات أن تساعد الدول الفقيرة على الوصول بمنتجاتها إلى الأسواق العالمية.

البرامج الاجتماعية. يناقش العديد من الاقتصاديين أنه إذا أُريد للتجارة أن تُحسِّن وضع دولة من الدول، فقد يكون على حكومة هذه الدولة، إعادة توزيع الثروات والدخول إلى حد ما، بحيث يتقاسم الرابحون من سياسات الانفتاح الاقتصادي المكاسب مع الخاسرين. وبالطبع، فإن عبارة «إلى حد ما» مازالت تترك المجال مفتوحا للخلافات. بيد أن بعض البرامج أقل إثارة للجدل، مثل برامج مساعدة العاملين على التأقلم عند فقدانهم وظائفهم وإعادة تدريبهم وتأهليهم وتوظيفهم، وبرامج المنح الدراسية للطلبة الفقراء والتي برهنت على فعاليتها في تخفيض عمالة الأطفال أكثر من تحريم استيراد البضائع.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2006/8-9/94.gif

جندي حكومي مراهق، بنگيلا، أنغولا، 1993.


الأبحاث. لقد أدت «الثورة الخضراء»(5)دورا كبيرا في تخفيض الفقر في آسيا. فالشراكات الدولية الجديدة بين القطاعين العام والخاص يمكن أن تساعد على تطوير منتجات أخرى مناسبة للفقراء (على سبيل المثال الأدوية واللقاحات والمحاصيل). ولكن لا تملك الشركات الدوائية الدولية في ظل نظام براءات الاختراع الدولية الحالي الكثير من الحوافز للقيام بأبحاث مكلفة عن أمراض مثل الملاريا والسل التي تزهق أرواح الملايين في الدول الفقيرة كل عام. ولكن بدأ يبرز نوع من التعاون في مجال الأبحاث بين المنظمات المانحة، مثل منظمة الصحة العالمية والمجموعات الدولية التطوعية، مثل أطباء بلا حدود، والمؤسسات الخاصة مثل مؤسسة بل وميلندا گيتس.

إصلاح برامج الهجرة في الدول الغنية. يبدو أن السماح بهجرة أعداد كبيرة من العمال غير المؤهلين إلى الدول الغنية «كعمال ضيوف» يمكن أن يسهم في تخفيض الفقر العالمي أكثر من أي شكل من أشكال الاندماج في الاقتصاد العالمي، مثل تحرير التجارة. إلاّ أن المناخ الدولي الحالي لا يستحسن كثيرا تلك الفكرة.

إن الشعارات المناهضة للعولمة أو الخطب حول الفوائد المطلقة للتجارة الحرة لا تخدم قضية الحد من الفقر، حيث إن تحديد مدى تعقيد هذه القضايا وتضافر السياسات الوطنية والدولية سيكونان بالتأكيد أكثر جدوى.

المؤلف

Pranab Bardhan

 

  أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة كاليفورنيا ـ بيركلي. أجرى عددا من الأبحاث النظرية والدراسات الميدانية حول المؤسسات الريفية في الدول الفقيرة، والاقتصاد السياسي لسياسات التنمية، وكذلك حول التجارة العالمية. وربما يكون الأكثر شهرة في البرهان على أن الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية هما هدفان متكاملان وليسا متناقضين. لقد كان <باردهان> بين عامي 1985 و 2003 رئيس تحرير مجلة  الاقتصاد التنموي، وهو حاليا رئيس مشارك في مؤسسة ماكارثر، وهي شبكة أبحاث دولية حول انعدام المساواة والأداء الاقتصادي.

 

  مراجع للاستزادة 

 

Moving Greener Pastures? Multinationals and the pollution Haven Hypothesis. G.S. Eskeland and A.H.Harrison in Journal of Developmen Economic, Vol.70,No. 1, pages 1-24; February 2003.

 

The impact of Globalization on the poor. Pranab Bardhan in Globalization, poverty, and Inequality.

Edited by S.M. Collins and C.Graham. Brookings Institution press, Washington, D.C., 2004.

 

Globalization, Geneder and Poverty: Bangladeshi Women Workers in Export and Local Markets. N.Kabeer and S, Mahmud in Journal ok International Development, Vol.13, No.1, pages 93-109; January 2004.

 

How Have the World’s Poorest Fared Since the Early 1980’s? Shaohua Chen and Martin Ravallion in World Bank Research Observer, Vol.19, No.2, pages 141-170; Fall 2004.

 

Globalization and Labor income in Mexico.G.H.Hanson. National Bureau of Economic research working paper No. 11027. Cambridge, Mass. January 2005.  

 

(*) DOES GLOBALIZATION HELP OR HURT THE WORLDS POOR

(**) Neither Plague nor Panacea

(***) Overview/ Globalization and Poverty

(****) Sweatshops

 (*****)The Local Roots of Poverty

(******)When Talk Giives Way to Action

(1) context-dependent أو تعتمد على السياق.

(2) التجارة التي تقوم على بيع السلع بسعر معين في كل مكان أو بسعر أعلى منه.

(3)trasnational

(4) antitrust ضد الشركات الاحتكارية

(5) Green Revolution

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى