أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الدماغالعقل / الذاكرةعلم النفس

عقل الخبراء

عقل الخبراء(*)

كشفت دراسات العمليات العقلية لأساتذة الشطرنج الكبار عن دالاّت(1)

على الكيفية التي يصبح الناس فيها خبراء في مجالات أخرى أيضا.

<E.Ph.روس>

 

 

يجول رجل داخل دائرة من رُقع الشطرنج(2) ملقيا نظرة على كل منها لمدة ثانيتين أو ثلاث ثوان قبل أن يقوم بنقلته عليها. وعلى الحافة الخارجية للدائرة يجلس عشرات الهواة يفكِّرون مليّا في نقلاتهم المقابلة إلى حين استكماله الجولة. كان ذلك في عام 1909، وكان الرجل هو <R.J.كاپابلانكا>  من كوبا، وكانت النتيجة انتصارا جديدا: ثمانية وعشرون انتصارا في ثماني وعشرين لعبة. وكان العرض جزءا من جولة ربح فيها <كاپابلانكا> 168 لعبة واحدة تلو الأخرى.

 

كيف لعب <كاپابلانكا> بهذه الجودة وبهذه السرعة؟ وكم من الخطوات يمكنه أن يحسبها مسبقا تحت مثل هذه الضغوط؟ يقال إن <كاپابلانكا>  أجاب عن ذلك بقوله: «إنني أرى نقْلة واحدة فقط، ولكنها تكون دائما النقلة الصحيحة.»

 

وبهذا القول وضع <كاپابلانكا>  في البؤرة ما توصلت إليه الأبحاث النفسانية لاحقا، ومفاده: إن التفوق السريع لأساتذة الشطرنج على الآخرين في هذه اللعبة يتمّ في الثواني القليلة الأولى من تفكيرهم. ويمكن رؤية هذا الإدراك السريع المستلهم من المعرفة (والذي يدعى أحيانا الإدراك المتبصِّر apperception) لدى الخبراء في مجالات أخرى كذلك. فمثلما يستطيع أستاذ الشطرنج أن يتذكر جميع النقلات في لعبة ما كان قد لعبها، غالبا ما يستطيع الموسيقي الحاذق أن يعيد تدوين القطعة الموسيقية للحن سمعه مرة واحدة. ومثلما يعثر أستاذ الشطرنج في الغالب على النقلة الأمثل بنظرة خاطفة، فإن الطبيب الخبير يستطيع أحيانا أن يتوصل إلى التشخيص المطلوب في لحظات من النظر إلى المريض.

 

ولكن كيف يكتسب الخبراء في هذه المواضيع المختلفة مهاراتهم الاستثنائية؟ كم هي الحصّة التي تنسب للموهبة الفطرية، وكم هي حصّة التدريب المكثف في ذلك؟ لقد بحث المختصون في علم النفس عن أجوبة لهذه الأسئلة في دراسات أجريت على أساتذة الشطرنج، وأفضت النتائج، التي تجمعت لديهم على مدى قرن من الزمن حول مثل هذه الأبحاث، إلى نظريات جديدة توضِّح كيف ينظِّم العقل المعلومات ويسترجعها. وما هو أكثر من ذلك، أن هذه الأبحاث قد تكون ذات دلالات مهمَّة للمربِّين. وربما أمكن تطبيق التقنيات نفسها التي يستعملها لاعبو الشطرنج في شَحْذِ مهاراتهم في تعليم القراءة والكتابة والرياضيات في المدارس.

 

«دروزفيلا» العلوم المعرفية(**)

 

يبدأ تاريخ المهارة البشرية بممارسة الإنسان الصيد، وهي مهارة كانت حاسمة لبقاء أسلافنا الأوائل على قيد الحياة. فالصياد المتمرِّس لا يعرف أين كان الأسد فحسب، بل ويستنتج أين سيذهب. إن مهارة التتبُّع(3) حسبما تبيّن  الدراسات المتكرِّرة، تنمو بشكل متصاعد منذ الطفولة «وفق علاقة خطية وذلك حتى أواسط الثلاثينات من العمر حين تبلغ الأوج.» هذا ما يقوله<J.بوك>  [عالم الأنثربولوجيا في جامعة ولاية كاليفورنيا] علما بأن تدريب جراح دماغ يستغرق زمنا أقل.

 

 

نظرة إجمالية/ دروس من الشطرنج(***)

 

 لمّا كان من السهل نسبيا قياس المهارة في لعبة الشطرنج وكذلك إخضاعها للتجريب المختبري، فإنها غدت أرضية اختبار مهم للنظريات في العلوم المعرفية.

 وجد الباحثون أدلّة على أن أساتذة الشطرنج الكبار يعتمدون على مخزن واسع من معرفة تشكيلات هذهِِ اللعبة. وافترض بعض العلماء أن الأساتذة الكبار يرتِّبون المعلومات في شَنكات (كتِلات) chunks يمكن استرجاعها  بسرعة من الذاكرة الطويلة الأمد وتداولها في الذاكرة العاملة.

 ولتكوين هذا الكمّ من المعرفة البنيوية المرتَّبة فإن الأساتذة الكبار ينخرطون نمطيا في سنوات من دراسة بالغة الجهد يواصلون فيها مواجهة تحدِّيات تتجاوز إمكاناتهم. ويبدو أن المتفوقين في الموسيقى والرياضيات والرياضة يكتسبون خبرتهم بالطريقة نفسها تحفزهم المنافسة ومتعة الانتصار.

 

وبدون التفوق الكبير المشهود في المهارة قياسا بما لدى عامة الناس، لن يكون هناك خبراء حقيقيون، بل أناس غير مختصّين من ذوي الوجاهة فقط. وهؤلاء، للأسف، هم الشائعون. وقد أظهرت الدراسات الحديثة في العقدين الماضيين أن الذين يمتهنون التنبؤ بأسهم الشركات الرابحة ليسوا أكثر نجاحا في استثماراتهم من الهواة، وأن الذواقين المحترفين قلّما يتفوقون على الريفيين في تمييز نوعية الخمور، كما أن المعالجين النفسانيين حملة الدرجات العلمية العليا لا يفيدون المرضى بأكثر مما يستطيع زملاؤهم حملة الدرجات العلمية الأدنى نسبيا. وحتى حينما يكون للخبرة دور غير مشكوك فيه، ولنقل في التدريس وإدارة الأعمال، فإنه غالبا ما يصعب قياسها. فضلا عن شرحها.

 

ولكن المهارة في الشطرنج يمكن قياسها، وتجزئتها إلى مكوِّنات، وإخضاعها لتجارب مختبرية ومشاهدتها بسهولة في وسطها الطبيعي الذي هو قاعة المباريات، ولهذهِ الأسباب، أفاد الشطرنج كأعظم ميدان اختبار وحيد لنظريات التفكير، أو كما سُمِّي «دروزوفيلا العلوم المعرفية.»

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/38.gif
تشكِّل الدراسة الجاهدة (البالغة الجهد) مفتاح تحقيق النجاح في الشطرنج والموسيقى الكلاسيكية وكرة القدم ومجالات أخرى كثيرة. وقد أشارت أبحاث جديدة إلى أن الحافز (الدافع) هو عامل أهم من المقدرة الفطرية.

 

لقد جرى اعتماد قياس المهارة في لعبة الشطرنج بقدر يفوق الاعتماد على محاولات مشابهة باستخدام أي لعبة أخرى، سواءً أكانت نشاطا رياضيّا أم تنافسيّا. فالصيغ الإحصائية تقيِّم النتائج الحالية للاَّعب مقارنة بالنتائج الأقدم منها وتَفْصِلُ في النجاحات تبعا لقوة نجاحات خصومه. وتمثِّل النتائج تصنيفات ratings تتنبأ بمآلات لُعبات ذات مصداقية مرموقة. فإذا تفوق اللاعبA على اللاعب B بمئتي نقطة، فإن اللاعب A سيغلب اللاعب B بنسبة 75 %من اللعبات المشتركة بينهما. ويصحُّ هذا التنبؤ سواء أكان اللاَّعبان من الترتيب الممتاز أم مجرّد لاعَبْين عاديين. ونذكر في هذا الصدد أن أستاذ الشطرنج العالمي <G.كاسباروف> [الذي حصل على تصنيف قدره 2812 نقطة] سوف يربح 75 في المئة من جولاته ضد أستاذ الشطرنج ذي الترتيب 100 وهو <J.تيمان>  [من هولندا] الذي حصل على تصنيف قدره 2616 نقطة. وبالمثل، فإن لاعبا في مباراة أمريكية حصل على 1200 نقطة (الأوسط تقريبا) سوف يربح 75 في المئة من المباريات ضد لاعب حصل على 1000 نقطة (نحو المئيني(4) الأربعين). وتسمح هذه التصنيفات لعلماء النفس أن يُقَوِّموا الخبرة عبر الأداء وليس حسب الشُّهرة، وأن يتتبّعوا تغيُّرات مهارة لاعب ما طوال مشواره المهني.

 

أما السبب الآخر لاختيار علماء المعرفية(5) الشطرنج كأنموذج model، وليس لعبة البلياردو أو البردج bridge على سبيل المثال، فهو شهرة هذهِ  اللعبة التي وصفها الشاعر الألماني <W.J.کون گوتيه>  بأنها محكّ الفكر the touchstone of theintellect، ولطالما عُزيت مناقب أساتذة الشطرنج إلى ما يقرب من قوى عقلية سحرية. وتسطع هذهِ السحرية بألمع ما يكون في اللعبات التي لا يسمح فيها للاعبين برؤية رقعة الشطرنج. ونذكر في هذا الصدد أن عالم النفس الفرنسي <A.بينيه> في عام 1894، وهو المبتكر المشارك لأول اختبار للذكاء، قد طلب إلى أساتذة الشطرنج حينذاك أن يصفوا له كيف لعبوا مثل هذهِ اللعبات. فتوصل بداية إلى فرضية تقول بأن هؤلاء يحققون صورة فوتوغرافية لرقعة الشطرنج. ولكنه سرعان ما استنتج أن التخيل كان تجريديّا. فبدلا من رؤية عُرْف حصان الشطرنج أو عروق الخشب الذي صنع منه ذلك الحجر، فإن أستاذ الشطرنج لا يستحضر إلاَّ معرفة عامة عن مكان وقوف هذهِ القطعة بالنسبة إلى عناصر أخرى للموقع. إن ذلك هو نفس نوع المعرفة الضمنية التي يمتلكها المبدِّلcommuter عن المواقف على خط مترو الأنفاق.

 

إن الكثير مما يُميز الأستاذ في الشطرنج من المبتدئ ينبثق عن التفكير في اللعبة في الثواني القليلة الأولى.

 

ويستكمل أستاذ الشطرنج المعمَّى blind folded master مثل هذهِ المعرفة بتوافر تفاصيل اللعبة لديه وكذلك باستذكاره النواحي البارزة لمبارياته السابقة. فلو أنه نسيَ بطريقة ما الموقع المضبوط لأحد البيادق في الشطرنج، فإنه يجده حيث يكون بأخذه في الاعتبار الاستراتيجية المجسَّمة stereotyped  للبداية ـ أي طور مدروس جيدا من اللعبة بعدد من الخيارات محدود نسبيّا. أو يستطيع أن يتذكّر المنطق الكامن وراء واحدة من نقلاته المبكِّرة، ولِنَقُلْ عبر استنتاج مفاده: «إنني لم أستطع أسر هذا الفيل قبل نقلتين من الآن؛ لذا فإن ذلك البيدق لابد أنه كان يقف في الطريق.» فليس عليه أن يتذكر كل تفصيل في جميع الأوقات، لأنه يستطيع أن يعيد تكوين أي تفصيل خاص حينما يرغب في ذلك عن طريق استغلال منظومة اتصالات جيدة التنظيم.

 

وبالطبع، إذا كان امتلاك مثل هذهِ المعرفة المحبوكة بشكل معقد لا يُفسِّر فقط النجاح في لعبة تُكمم فيها العينين، بل ويُفسِّر كذلك قدرات أساتذة الشطرنج الأخرى (مثلا، في الحساب والتخطيط)، فإن المهارة في هذهِ اللعبة لا تعتمد كثيرا على القابليات الفطرية قدر اعتمادها على التدريب التخصُّصي. ولقد أكد عالم النفس الهولندي<A.دو گروت> (الذي هو نفسه أحد أساتذة الشطرنج) هذهِ الفكرة في عام 1938 حين استفاد من عرض مباراة شطرنج دولية كبيرة في هولندا لغرض مقارنة لاعبين متوسطين ولاعبين أقوياء مع أساتذة شطرنج عالميين. وقد انتهج لذلك في إحدى الطرائق، الطلب إلى المتبارين أن يصفوا أفكارهم حين يفحصون واقعة مستوحاة من إحدى مبارياتهم. لقد وجد أن خبراء الصف الذي يأتي مباشرة تحت صف الأساتذة، يحلِّلون بالفعل قدرا كبيرا من الإمكانيات يفوق ما يحلِّله اللاعبون الضعفاء جدا، وأنه لا تحدث إلاّ زيادة طفيفة في التحليل حين ترتفع قوة اللعب إلى مصاف أساتذة الشطرنج وأساتذته الكبار. فاللاعبون الأفضل سويّة لا يفحصون إمكانيات أكثر عددا بل يفحصون احتمالات أفضل استهدافا ـ وهذا بالضبط ما صرّح به <كاپابلانكا>

 

لقد أظهر بحث حديث أن نتائج <دو گروت> تعكس جزئيّا طبيعة أوضاعpositions اختباره المنتقاة. فالوضع الذي يكون فيه الحساب الدقيق الموسع حاسما سوف يتيح لأساتذة الشطرنج إظهار بضاعتهم بشكلها الخام ومن ثم يتعمقون في الشجرة المتفرعة للنقلات الممكنة بشكل يفوق ما يأمل الهواة فعله. وهكذا أيضا يمكن عند الحاجة أن يفحص الفيزيائيون المتمرسون إمكانات أكثر مما يفعله طلبة الفيزياء. ولكن في كلتا الحالتين، لا يعتمد الخبير كثيرا على قدرةٍ ذاتية أقوى للتحليل بقدر اعتماده على مخزون من المعرفة المُنسّقة. فحينما يواجه لاعب ضعيف وضعا صعبا، فإنه قد ينشغل في الحساب لمدة نصف ساعة، غالبا في تفحص عدة نقلات إلى الأمام، ومع ذلك يخطئ المواصلة الصحيحة، في حين يدرك أستاذ الشطرنج النقلة المناسبة مباشرة من دون أن يحلِّل بشكل واعٍ أي شيء على الإطلاق.

 

وكذلك جعل <دو گروت> أشخاصه يتفحّصون وضعا ما لفترة محدَّدة ثم يحاولون إعادة بناء هذا الوضع من الذاكرة. وهنا أثبت هذا الإنجاز تفوق أداء أساتذة الشطرنج على اللاعبين العاديين بشكل تام. فاللاعبون المبتدئون لا يستطيعون تذكُّر إلاَّ القليل من تفاصيل الوضع بعد تَفَحُّصِهم إياه ثلاثين ثانية، في حين يستطيع الأساتذة أن يتذكروا ذلك بشكل تام حتى لو لم يتقصُّوه إلاَّ ثواني قليلة. ويعود ذلك الفرق إلى شكل من الذاكرة خاص بنوع أوضاع الشطرنج التي تحدث عادة أثناء اللعب. ولا بد أن تكون هذهِ الذاكرة النوعية نتيجة للتدريب، فأداء أساتذة الشطرنج ليس أفضل من أداء الآخرين في الاختبارات العامة للذاكرة.

 

لقد ظهرت نتائج مماثلة لدى لاعبي البرِدج (الذين يستطيعون تذكر البطاقات الملعوبة في عدة لُعبات games)، ولدى مبرمجي الحاسوب (الذين يستطيعون إعادة تركيب جموع من الكودات الحاسوبية)، ولدى الموسيقيين ( الذين يتذكرون قطعا موسيقية طويلة). وفي الحقيقة، إن مثل هذهِ الذاكرة لمادة موضوع في مجال معين هي اختبار معياري لوجود خبرة.

 

 

ذاكرة أستاذ كبير في الشطرنج (****)

 

 تشير التجارب إلى أن ذاكرة أساتذة الشطرنج مُوالفة للأوضاع النمطية للُّعبة. ففي ثلاث عشرة دراسة أُجريت بين عامي 1973 و 1996 جرى عرض تشكيلات أحجار الشطرنج للعبات حقيقية (a) وأخرى عشوائية (b) على لاعبين ذوي مستويات مختلفة من المهارة [وقد نشرت النتائج عام 1996]. وبعد مشاهدة اللاعبين لهذهِ التشكيلات (الأوضاع) لمدة عشر ثوان، طُلْب إليهم أن يستحضروها من الذاكرة. فأظهرت النتائج (المخطط في الأسفل) أن أساتذة الشطرنج (من الدرجة 2200 فأكثر) والأساتذة الكبار (من الدرجة2500 فأكثر) كانوا أفضل من اللاعبين الأضعف في  تذكُّر أوضاع اللعبة، ولكنهم كانوا أفضل بقليل فقط في تذكُّر الأوضاع العشوائية. ويبدو أن هذهِ الموالفة الدقيقة للذاكرة الطويلة الأمد هي أمر حاسم للخبرة في الشطرنج. 

                                      a                                      b   

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/34.gif

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/32.gif http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/001.gif
 

 وإن المعرفة البنيّوية المرتَّبة للأوضاع الشطرنجية تمكِّن الأستاذ الكبير في الشطرنج من أن يحقِّق النقلة الصحيحة بسرعة. فالوضع الموجود في اليمين يأتي من لعبة شهيرة في عام1889 بين<E.لاسكر> (الأبيض) و<J.بوير>  (الأسود). فمع أن اللاعب المبتدئ سيفتِّش بجهد جهيد لرؤية النقلة الرابحة للأبيض، فإن أي أستاذ كبير سيراها مباشرة. ونشير هنا إلى أن النقلة الصحيحة تظهر في الصفحة الأخيرة من هذه المقالة.

 

إن الاستنتاج بأن الخبراء يعتمدون على المعرفة المنسقة أكثر من اعتمادهم على التحليل، تدعمه دراسة حالة نادرة للاعب شطرنج ضعيف في البداية (يُعرَّف اسمه بالحرفين D. H.) ارتقى على مدى تسع سنوات ليصبح واحدا من أساتذة الشطرنج البارزين في كندا بحلول عام 1987. وقد بيّن<N.شارنيسّ>  [وهو أستاذ علم النفس بجامعة ولاية فلوريدا] أنه على الرغم من ارتقاء هذا اللاعب في أدائه، فإن تحليله لمواضع أحجار الشطرنج لم يزدد عما كان عليه في السابق، بل اعتمد اللاعب على معرفة محسَّنة بالمواضع وبالاستراتجيات المرتبطة بها.

 

نظرية الشَّنْكات(*****)

 

في الستينات من القرن الماضي حاول<H.سيمون> و<W.شاس> [وكلاهما في جامعة كرنيگي مِلون] التوصل إلى فهمٍ أفضل لذاكرة الخبراء عبر دراسة تقييداتها؛ إذ تابعا ما قام به <دو گروت> وسألا لاعبين من مستويات مختلفة أن يعيدوا ترتيب أوضاع لأحجار الشطرنج كان قد جرى تصميمها كيفيا (وذلك باستخدام أحجار شطرنج موضوعة بشكل عشوائي على رقعته) بدلا من أن تكون مرتبة نتيجة لعبة احترافية (انظر المؤطر في الصفحة 7). وقد كان الترابطcorrelation بين قوة اللعب وبين دقة تذكُّر اللاعبين أضعف كثيرا فيما يتعلق  بالأوضاع الكيفية منه بالأوضاع المعتمدة.

 

وهكذا تبيَّن أن الذاكرة الشطرنجية هي نوعية أكثر مما كان يبدو، من حيث إنها ليست مجرد توالف مع اللعبة نفسها، بل توالف مع الأوضاع النمطية لأحجار الشطرنج. فهذهِ التجارب أيّدت الدراسات السابقة التي بيَّنت بشكل مقنع أن القدرة في مجال ما لا تنحو إلى الانتقال إلى مجال آخر. وكان عالم النفس الأمريكي <E.ثورندايك>  أول من ذكر ـ قبل نحو مئة عام ـ افتقار الانتقال هذا، حين أظهر أن دراسة اللغة اللاتينية، على سبيل المثال، لم تحسِّن إجادة اللغة الإنكليزية، وأن براهين الهندسة في الرياضيات لم تعلِّم استخدام المنطق في الحياة اليومية.

 

لقد شرح <سيمون>  ضعف أساتذة الشطرنج النسبي في إعادة تشكيل الأوضاع الشطرنجية الكيفية باستخدامه نموذجا مبنيّا على مجموعات من أحجار الشطرنج يتكرر ظهورها في أوضاع محددة تدعى شنكات(6) chunks. وأثار هذا المفهوم ليفسر كيف يعالج أساتذة الشطرنج كميات واسعة من المعلومات المُخْتَزَنة لديهم، وهي مَهَمَّة يبدو أنها ترهق الذاكرة العاملة workingmemory. أما عالم النفس <J.ميلّر>  [من جامعة پرنستون] فقد اشتهر بتقييم حدود الذاكرة العاملة (التي هي دفتر خربشة(7) الدماغ) وذلك في بحث نُشر عام1956 بعنوان «عدد سبعة السحري، زائد أو ناقص اثنان(8).» لقد بيَّن <ميلّر>  أن الناس يستطيعون تَفكُّر ما بين خمس وسبع مفردات فقط في وقت واحد. ويجادل <سيمون> ، بأنه عبر ضمّ تراتبيات المعلومات hierarchies of information في شنكات، يستطيع أساتذة الشطرنج الالتفاف على هذا التقييد، لأنهم باستخدام هذه الطريقة يستطيعون بلوغ ما بين خمس إلى تسع شنكات بدلا من العدد نفسه من تفاصيل أصغر.

 

لنأخذ جملة من قصيدة «ماري كان عندها حَمَلٌ صغير» باللغة الإنكليزية. إن عدد شنكات المعلومات في هذهِ الجملة يعتمد على إلمام المرء بالقصيدة واللغة الإنكليزية. فبالنسبة إلى معظم الذين لغتهم الأم هي الإنكليزية، تكون هذه الجملة جزءا من شنكة أكبر، هي القصيدة المألوفة. أما بالنسبة إلى شخص يلِمُّ بالإنكليزية ولكنه لا يعرف القصيدة، فتكون هذه الجملة شنكة واحدة مستقلة. وأما بالنسبة إلى شخص يتذكر الكلمات ولكنه لا يتذكر معانيها، فإن هذهِ الجملة تكون خمس شنكات في حين تكون 18  شنكة بالنسبة إلى من يعرف  الحروف دون الكلمات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/35.gif

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/002.gif

يختلف النشاط الدماغي لدى أساتذة الشطرنج عن النموذج الملاحظ لدى المبتدئين في هذه اللعبة. ففي تقرير عام 2001 استخدم بعض الباحثين التخطيط الدماغي المغنطيسي (وهو قياس مغنطيسية تولِّدها تيارات كهربائية في الدماغ) على أشخاص يلعبون الشطرنج ضد حاسوب. ففي اللاعبين الضعفاء حدث نشاط أكبر في الفص الصدغي الأوسط من الدماغ (الجانب الأيسر من الشرائح المُلَّونة) منه في القشرتين المخيّتين الجدارية والجبهية (الجانب الأيمن)، ويوحي ذلك بأن الهواة كانوا يحلِّلون نقلات جديدة غير عادية. أما بالنسبة إلى الأساتذة الكبار في الشطرنج، فإن القشرتين المخيّتين الجدارية والجبهية كانتا أكثر نشاطا، مما يشير إلى أنهم يسترجعون المعلومات من الذاكرة الطويلة الأمد، (نقاط البيانات موجودة في يمين المخطط).

 

وفي سياق الشطرنج يمكن ملاحظة الفروق نفسها ما بين المبتدئين وأساتذة الشطرنج. فإذا كان على رقعة الشطرنج عشرون بيدقا chessmen، فقد يمثل ذلك بالنسبة إلى المبتدئ أكثر من عشرين «شنكة معلومات»؛ لأن هذه القطع يمكن أن توضع في العديد من الأوضاع. أما أستاذ الشطرنج فإنه يجمع بين قطع تشكيلة بعينها على رقعة الشطرنج كي لا يحتفظ بذاكرته ـ على سبيل المثال ـ سوى «الملك تحصره رِخاخه(9)  مشكلة ممرا»؛ وهكذا يحشد جميع قطع الشطرنج في خمس أو ست شَنكات. وبقياس الزمن المطلوب لإيداع شنكة جديدة في الذاكرة وعدد الساعات التي يجب على لاعب ما أن يدرس الشطرنج خلالها قبل أن يبلغ مستوى أستاذ من أساتذة الشطرنج، خمَّن <سيمون> أن الأستاذ النمطي يمتلك ما بين000 50 و000 100 شنكة من المعلومات الشطرنجية. ويستطيع أستاذ الشطرنج أن يسترجع أيّا من هذه الشنكات من الذاكرة بمجرد النظر إلى وضعٍ شطرنجيٍّ ما، وبالطريقة ذاتها التي يستطيع وفقها معظم الذين لغتهم الأم هي الإنكليزية أن ينشدوا قصيدة «ماري كان عندها حَمَلٌ صغير» بعد سماعهم الكلمات الأولى القليلة فقط من هذهِ القصيدة.

 

ومع ذلك، ثمة صعوبات في نظرية الشنكات، إذ إنها لم تستطع تماما تفسير بعض الجوانب المتعلقة بالذاكرة، مثل مقدرة الخبراء على أداء أعمال فذّة حتى حين يُشتت انتباههم. (وهذا وسيلة (تكتيك) مفضلة في دراسة الذاكرة). وقد جادل<K.أندرز أريكسون> [من جامعة ولاية فلوريدا] وكذلك<شارنيس> بأنه لابدّ من وجود آلية ما أخرى تمكِّن الخبراء من توظيف الذاكرة الطويلة الأمد long-term memory، وكأن هذهِ أيضا هي دفتر خربشة. ويقول <أريكسون>: «إن مجرد بيان أن لاعبي الشطرنج المهرة جدّا يستطيعون، وهم معصوبو العينين، اللعب بالجودة المعتادة نفسها تقريبا، يجعل من المستحيل اعتماد نظرية الشنكات، لأنه كي تستكشف الشنكات المختزنة في ذاكرتك عليك أولا أن تشاهدها على رقعة الشطرنج.» إن هذهِ المداولة تتضمّن تغيير الشنكات المُختَزَنة، على الأقل بأسلوب ما، وهو أمر يمكن تشبيههُ بإنشاد قصيدة «ماري كان لديها حَمَلٌ صغير» معكوسة. إنه من الممكن فعل ذلك، ولكن ليس بالأمر السهل، وبالتأكيد ليس من دون عدة أخطاء. بيد أن لُعبات أساتذة الشطرنج الكبار وهم معصوبو العينين، تُجرى بسرعة وبكيفية مذهلة عالية المستوى.

 

هذا ويستشهد <أريكسون> بدراسات أطباء يضعون معلومات في الذاكرة الطويلة الأمد ويستخرجونها مجدّدا بطرق تمكِّنهم من إجراء التشخيصاتdiagnoses. ولعل المثال الأبسط الذي يورده <أريكسون>  يأتي من مجال القراءةreading. ففي دراسة له في عام 1995، وجد مع <W.كينتش> [من جامعة كولورادو] أن مقاطعة الحاذق في القراءة عند قيامه بذلك، قلما تبطئ عودته إلى النصّ، بحيث إنه في النهاية لا يخسر إلاّ ثواني قليلة. ويفسِّر الباحثون هذهِ النتائج بالرجوع إلى بنية دعوها الذاكرة العاملة الطويلة الأمد long-termworking memory، وهو اصطلاح يجمع المختَلِف فهو يخصِّص الذاكرة الطويلة الأمد بشيء كان على الدوام لا يأتلف معها، وهو التفكير thinking. بيد أن دراساتٍ على التصوير الدماغي أجريت في عام 2001 بجامعة كونستانز في ألمانيا قدمت دعما لهذه النظرية عبر إظهارها أن اللاعبين الخبراء في الشطرنج ينشِّطون الذاكرة الطويلة الأمد بقدر يفوق تنشيط المبتدئين لهذه الذاكرة (انظر الشكل في الصفحة المقابلة).

 

تنص قاعدة السنوات العشر على أنه يلزم ما يقرب من عقد من العمل الرزين لإجادة أي مجال من المجالات.

 

أما<F.گوبيت>  [من جامعة برونيل في لندن] فإنه يناصر نظرية منافسة وضعها مع <سيمون>  في أواخر تسعينات القرن الماضي. إنها توسِّع فكرة الشنكات إلى نماذج كبيرة أو قوالب templates قد تتكون من دزينة من قطع الشطرنج؛ وللقالب عدد من مربعات الشطرنج slots، يُدخل فيها الأستاذ قطعا مختلفة، مثل بيدق أو فيل. ويمكن للأستاذ أن يغيِّر أحد تلك المربعات وذلك بإعادة تصنيفه. وإذا عدنا ثانية إلى التشبيه الشعري، فسيكون الأمر أشبه إلى حد ما باستظهار عبارة في قصيدة «ماري كان لديها حَمَلٌ صغير» عبر استبدال مضاهيات سجعيّة rhyming equivalents في مواضع معيَّنة مثل «لاري Lary» بدلا من «ماري Mary» وpool بدلا من school  وهلم جرا. فكل شخص يعرف «المربع» الأصلي لابد أن يكون قادرا على إدخال «المربع» الرديف في الذاكرة بطرفة عين.

 

انتشار الإبداعات(******)

 

إن الشيء الواحد الذي يتفق عليه النظريّون في موضوع الخبرة هو أن تَشَكُّل هذهِ البنى structures في العقل يستغرق جهدا هائلا. وقد وضع  <سيمون> قانونا نفسيّا يخصُّه، وينصُّ على قاعدة السنوات العشر وتفيد هذهِ القاعدة بأن إجادة أي مجال من الخبرة إنما تستغرق نحو عقد من الزمن من العمل الشاق. وحتى إبداعات الأطفال مثل <گاوس>  في الرياضيات و<موزارت>  في الموسيقى و <B.فيشر>  في الشطرنج لا بد أنها قد تطلبت ما يساوي ذلك من جهد، ربما بالبدء بزمن أبكر وبالكدح أكثر من الآخرين.

 

وتبعا لهذهِ النظرة، فإن انتشار إبداعات الشطرنج في السنوات الأخيرة إنما يعكس ابتكار طرائق التدريب المبنيّة على الحاسوب، مما جعل الأطفال يدرسون مزيدا من ألعاب (مباريات) الشطرنج القوية ويلعبون ضد برامج قوية تفوق ما كان يتوافر نمطيّا لسابقيهم. وقد كان حدثا بالغ الإثارة تحقيق <فيشر> لقب «الأستاذ الكبير» grandmaster في الشطرنج وهو في الخامسة عشرة من عمره، وذلك في عام 1958؛ وحامل اللقب حاليا <S.كارجاكين>  [من أوكرانيا] حصل عليه وعمره 12 سنة وسبعة أشهر.

 

يجادل <أريكسون> بأن ما يهم في الموضوع ليس الخبرة بحد ذاتها، بل «الدراسة البالغة الجهد» effortful study التي تقتضي باستمرار مواجهة تحدِّيات تتجاوز تماما إمكانات المرء. وهذا هو السبب في أن بعض المتحمسين قد يقضون عشرات آلاف الساعات في لعب الشطرنج أو الگولف أو العزف على آلة موسيقية من دون أن يتخطوا مستوى الهواة، كما أنه السبب في استطاعة تلميذ مدرَّب بشكل مناسب التفوّق عليهم في وقت قصير. وإنه لمن المهم أن نلاحظ أن الزمن الذي يُقضى في لعب الشطرنج، وحتى في المباريات، يكون على ما يبدو أقل شأنا من إسهام مثل هذهِ الدراسة بالنسبة إلى تقدم اللاعب؛ فقيمة التدريب الرئيسية لمثل هذهِ الألعاب تتمثل في تحديد نقاط الضعف من أجل دراسة مستقبلية.

 

وحتى المبتديء فإنه يبذل جهدا كبيرا باديء ذي بدء، الأمر الذي يفسِّر سبب كون المبتدئين غالبا ما يتحسّنون بسرعة في الگولف أو قيادة السيارة على سبيل المثال؛ ولكن ما إن يبلغوا الأداء المقبول الذي يجعلهم يجارون أقرانهم في الگولف أو ينجحون في امتحان قيادة السيارة على سبيل المثال، حتى يسترخي معظمهم. وعندئذ يصبح أداؤهم آليا، ومن ثمّ حائلا دون مزيد من التحسُّن فيه. وعلى النقيض من ذلك، فإن الخبراء الذين يستمرون في تدرُّبهم تبقى عقولهم مفتوحة طوال الوقت بحيث يستطيعون تفحص وانتقاد وزيادة ما فيها، ومن ثم الاقتراب من مستويات القادة في مجالاتهم.

 

 

التدريب يتغلب على الموهبة(*******)

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/110.gif

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/109.gif

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/111.gif

 تبعا لدراسة أجريت عام 1999 على لاعبين محترفين لكرة القدم، يدين  هؤلاء الرياضيون بنجاحاتهم لتدريبهم أكثر من موهبتهم الطبيعية لهذه اللعبة. وفي ألمانيا والبرازيل واليابان وأستراليا، غالبا ما كان هؤلاء اللاعبون هم الأكبر سنا من بين أعضاء فريقهم (انظر الرسوم البيانية أعلاه ). ولما كانوا أكبر سنا من الآخرين من أعضاء فريقهم، فقد استفادوا على ما يبدو من كبر حجمهم وقوتهم؛ وقد أتاح لهم ذلك تناول الكرة أكثر من غيرهم، ومن ثمّ تسجيل نقاط أكثر. وقد حفزتهم نجاحاتهم خلال سنوات التدريب الأولى تلك على مواصلة تقدمهم، وهذا ما يفسر تمثيلهم غير المتناسب في الاتحادات الرياضية المهنية.

 كما أن التحفيز القوي والتدريب المكثف، يمكن أن يفسرا أيضا النجاحات الهائلة لأطفال أفذاذ، مثل لاعب الگولف الأمريكي الشهير<T.وودْز> (a) والموسيقي الكبير <A.W.موزارت> (b).

 

وفي الوقت نفسه، تزداد أكثر فأكثر تحدِّيات معايير الخبرة. فالعدّاؤون في المدارس الثانوية يحققون أربع دقائق لكل ميل، ويعزف تلامذة مدرسة الفنون قِطَعا موسيقية لم يحاولها ذات يوم إلاّ البارعون في الموسيقى. بيد أن الشطرنج هو أيضا الذي يقدِّم المقارنة الأكثر إقناعا على مر الزمن. ونشير في هذا الصدد إلى أن الرياضيّاتي البريطاني <J.نانّ>  [وهو أيضا أستاذ كبير في الشطرنج] قد استخدم مؤخّرا الحاسوب لمساعدته على مقارنة الأخطاء المرتكبة في جميع ألعاب الشطرنج في مباراتين دوليتين، الأولى في عام 1911 والثانية في عام 1993، ووجد أن اللاعبين الحديثين لعبوا بشكل أكثر دقة. وبعدئذ فحص <نانّ> جميع ألعاب لاعب واحد جاء في عام 1911 في منزلة وسطى بين المجموعة، فاستنتج أن تصنيفه اليوم ما كان ليصل إلى الدرجة 2100، وهي درجة تقل بمئات النقاط فقط عن مستوى أستاذ كبير في الشطرنج. ويقول <نان> «إن أمهر الأساتذة القدماء كانوا أقوى بدرجة كبيرة، ولكنهم يبقون دون مستوى كبار الأساتذة الحاليين.»

 

ودة أخرى إلى <كاپابلانكا> ومعاصريه، إذ لم يكن لديهم حواسيب ولا قواعد بيانات للعبة الشطرنج، فكان عليهم أن يستنبطوا أشياء بأنفسهم، مثلما فعل <باخ> و<موزارت> و<بيتهوکن> فإذا جاءوا دون أساتذة اليوم في هذهِ التقنية، فقد فاقوهم كثيرا في القوة الإبداعية. ويمكن عقد المقارنة ذاتها بين <نيوتن> وحاصل نموذجي جديد على الدكتوراه في الفيزياء.

 

عند هذهِ النقطة سيفقد المشكّكون صبرهم أخيرا. وبالتأكيد سيقولون بأن التأهل للعزف أو التمثيل في صالة كارنيگي(10)  يتطلب أكثر من التدرُّب، التدرُّب، التدرُّب. ومع ذلك فإن هذا الاعتقاد بأهمية الموهبة الفطرية، وهي ربما تكون الأقوى بين الخبراء أنفسهم ومدربيهم، من المستغرب أنها تكاد تكون معدومة الأدلة القوية الداعمة لها. ففي عام 2002 ترأّس <گوبيت>  دراسة على لاعبين  بريطانيين للشطرنج ما بين مجرد هواة وأساتذة، فلم يجد أية علاقة على الإطلاق بين قوة لعبهم وبين قدراتهم الحيِّزية الإبصارية visual-spatial abilitiesالتي قاسها باستخدام اختبارات الشكل-الذاكرة shape-memory. ووجد باحثون آخرون أن قدرات المتنبئين (المُعوِّقين) المهنيين(11) professional handicappers بنتائج سباقات الخيول لا تتناسب أبدا مع قدراتهم في الرياضيات.

 

ومع أنه لا أحد حتى الآن استطاع أن يتنبأ بمن سيصبح خبيرا عظيما في أي مجال، فقد أظهرت تجربة مشهودة إمكانية تكوين خبير من هذا القبيل؛ ذلك أن<L.پولكار> [وهو مُربّ مجري] علّم بناته الثلاث لعبة الشطرنج بحيث كن يتدربن في منزلهنّ ست ساعات يوميّا، فارتقت إحداهن إلى رتبة أستاذ دولي والأخريان إلى مرتبة أستاذ كبير في الشطرنج ـ وكانتا أقوى شقيقتين تلعبان الشطرنج في تاريخ هذهِ اللعبة.<جوديت>، أصغر بنات <پولكار> ، هي الآن المصنفة الرابعة عشرة في العالم.

 

لقد أثبتت تجربة <پولكار> أمريْن: أولهما أن الأساتذة الكبار في الشطرنج يمكن تنشئتهم، وثانيهما أن النساء يمكن أن يكنَّ أساتذة كبار؟ وليس مصادفة أن يتعدّد ظهور مبدعين في الشطرنج بعد قيام <پولكار> بنشر كتابه حول تعليم الشطرنج، مثلما ازداد المبدعون في الموسيقى على نحو مشابه بعد ما قام به والد <موزارت>  قبل <پولكار> بقرنين من الزمن.

 

يشير رجحان الأدلة النفسانية (السيكولوجية) إلى أن الخبراء يُصْنَعون ولا يولَدون.

 

وهكذا، يظهر أن التحفيز motivation يشكِّل عاملا أكثر أهمية من المقدرة الفطرية innate ability في تشكُّل الخبرة ونمائها. وليس عَرَضا أن المهنيةprofessionalism في الموسيقى والشطرنج وأصناف الرياضة، وجميعها مجالات تتحدد الخبرة فيها بالأداء التنافسي (وليس بالشهادة الأكاديمية)، كانت ولا تزال تبزغ في الأعمار المبكرة تحت إشراف آباء (وحتى عائلات موسعة) نذروا أنفسهم دون كلل لهذا الغرض.

 

إضافة إلى ذلك، فإن النجاح يُبْنى على نجاح، لأن كل نجاح يمكن أن يقوي تحفيز الطفل. ففي عام 1999  أظهرت دراسة على لاعبي كرة قدم محترفين من عدة أقطار، أنهم كانوا على الأغلب من الناس الذين ولدوا في فترة من السنة انتسب فيها إلى اتحادات كرة القدم للشباب مَنْ كانت أعمارهم أكبر من المتوسط [انظر المؤطر في الصفحة المقابلة]. ففي سنواتهم المبكرة، تمتع هؤلاء الأطفال بمزية مهمة من الحجم والقوة أثناء لعب كرة القدم مع أقرانهم. ولأن الأطفال الأكبر حجما والأكثر رشاقة يحظون بفرص أكثر في التعامل بالكرة فإن ذلك يمكنهم من تسجيل أهداف أكثر، ونجاحهم في اللعبة قد يحفزهم على الارتقاء بمستوى أدائهم فيها.

 

يميل معلّمو الرياضة والموسيقى ومجالات أخرى إلى الاعتقاد بأن الموهبة عنصر مهم، وأنهم يعرفونها حينما يرونها. إنهم في الواقع يخلطون على ما يبدو بين المقدرة ability وبكورة النضج precocity. فعادة، ليس ثمة وسيلة للقول انطلاقا من العزف وحده، ما إذا كان الأداء غير العادي لعازف كمان صغير السن ينبثق عن مقدرة فطريّة أم عن سنوات تدريب بأسلوب سوزوكي(12) Suzuki-style. هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أن <كاپابلانكا> الذي يُعتبر حتى الآن أعظم لاعب شطرنج «طبيعي»(13) natural يتباهى بأنه لم يدرس قط هذه اللعبة في حياته.  وفي الواقع، فُصل <كاپابلانكا> من جامعة كولومبيا بسبب رسوبه في الامتحانات لأنه كان يقضي الكثير من وقته في لعب الشطرنج. واستيعابه السريع الشهير كان نتيجة تدريبه كلّه، وليس عوضا عنه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/29.gif
نقلة حجر شطرنج أبيض رابحة لفيل باتجاه بيدق في المربع .h7 وعندها يأسر الملك الأسود ذلك الفيل وتأسر الملكة البيضاء الحصان الأسود في المربع h5، مما يضطر الملك الأسود إلى العودة إلى المربع g8، ومن ثم يأسر الفيل الأبيض الثاني البيدق الموجود في المربع g7 الذي ينتزعه الملك الأسود. إن التضحية بالفيلين تمهِّد الطريق لهجوم ملكة وقلعة مما يجبر الأسود على استسلام ملكته للذود عن قرينها. لقد واصل <E.لاسكر>  (رابح اللعبة) مشواره ليصبح بطل العالم في الشطرنج عام 1894، وقد احتفظ بلقبه هذا 27 عاما قبل أن يخسره أمام <R.كاپابلانكا> .

 

يشير رجحان الأدلة النفسانية (السيكولوجية) إلى أن الخبراء يُصْنَعون ولا يُولََدون. والأكثر من ذلك، فإن المقدرة المُثبتة على تحويل طفل بسرعة إلى خبير (في الشطرنج أو الموسيقى وحشد من المواضيع الأخرى) تطرح تحدِّيا واضحا أمام المدارس. فهل يستطيع المربّون إيجاد وسائل لتشجيع التلامذة على الانخراط في صنف من الدراسة الجاهدة (البالغة الجهد) تحسِّن مهاراتهم في القراءة والحساب؟ لقد جرَّب<R.فراير، جونير> [وهو أستاذ اقتصاد في جامعة هارکرد] تقديم جوائز مادية لتحفيز التلامذة في مدارس المتخلِّفين في مدينتي نيويورك ودالاس. ففي برنامج قيد التنفيذ في مدينة نيويورك، على سبيل المثال، يختبر المعلمون التلامذةَ كل ثلاثة أسابيع ويقدّمون لهم مبالغ صغيرة كمكافآت (بحدود 10 إلى 20 دولارا لكل من يحرز «علامة جيد» well). وقد بينت النتائج أنّ التجربة واعدة. فبدلا من التفكير دائما بالسؤال: لماذا لا يستطيع <جوني> القراءة؟ ربما على المربين أن يتساءلوا: لماذا ينبغي أن يوجد في العالَم أي شيء لا يستطيع تعلّم عمله؟

 

المؤلف

 Philip E. Ross

  يُسهم في تحرير سيانتفيك أمريكان، وهو بالذات لاعب شطرنج، ووالد <لورا روسّ> Luara Ross [الأستاذة في الشطرنج] وقد تفوقت عليه ب199 نقطة.

 

  مراجع للاستزادة 

 

The Rating of Chessplayer, Past and Present Arpad E. Elo Arco publishing, 1978

 

Thought and Choice in Chess. Adriaan de Groot. Mouton de Gruyter, 1978

 

Expert Performance in Sports: Advances in Research on Sport

Expertise. Edited by Janet L. Starkes and K. Ericsson. Human Kinetics, 2003

 

Moves in Mind: the Psychology of Board Games, Fernand Gobet, Alex de voogt and retchitzki. Psychology Press, 2004

 

The Cambridge Handbook of Expertise Performance. Edited by K. Anders Ericsson, Paul J. Feltovich, Robert R. Hoffman and Neil Charness. Cambridge University Press, 2006. 

 

(*)THE EXPERT MIND

(**) The Drosophild of Cognitive

(***) Overview/ Lessons from Chess

(****) A GRANDMASTER’S MEMORY

 (*****) Chunking Theory

(******)  A Proliferation of Prodigies

(*******) TRAI8NINIG TRUMPS TALENT

 

(1) clues

(2) chessboard

(3) tracking skill

(4) 40th percentile أي الترتيب الأربعين في المئة.

(5)  cognitive scientist

(6)تعريب لِ chunks وتُعني مجموعات من أحجار الشطرنج يتكرر وجودها في أوضاع محددة. وقد شاع حديثا استخدام هذه الكلمة في اللغة الفرنسية.

(7)  scratch pad

(8) The Magical Number Seven, Plus or Minus Two

(9)  رُخ (ج: رِخاخ) قطعة من قطع الشطرنج

(10) Carnegie Hall صالة فخمة في مانهاتن بنيويورك للحفلات الموسيقية رفيعة المستوى.

(11) professional handicapper شخص مهنته تعيين مميزات المتبارين في الرياضة أو الألعاب، والتنبؤ باحتمالات فوزهم.

(12) لقد كان سوزوكي يعتقد أنه يمكن للأطفال تعلم الموسيقى بالطريقة التي يتعلمون بها لغتهم الأم .

(13)ليس حاسوبيا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى