أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أركيولوجياعلم الآثار

سر القبور الجماعية للحيوانات ترجع إلى نحو سبعين مليون سنة


سر القبور الجماعية للحيوانات ترجع إلى نحو سبعين مليون سنة(*)

بعض الأدلة الحاسمة تشير اليوم إلى هوية قاتل المدفونين في

 قبر جماعي قبل نحو سبعين مليون سنة.

<R.R.روجرز> ـ<W.D.كراوس>

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/64.gif
http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/63.gif
انقرض الدينوصور الضخم آكل اللحوم المسمى «ماجنكاتولوس أتوپوس» (في الأعلى)، قبل نحو 70 مليون سنة في المنطقة الشمالية الشرقية من جزيرة مدغشقر الحالية (انظر الشكل الأيسر في الصفحة المقابلة). وقد قام أعضاء من فريق مؤلفي هذه المقالة باستخراج بقايا هذه الحيوانات بعناية، وتضمنت فكا يحمل أسنانا مشرشرة تفيد في تقطيع اللحم (الصورة في اليسار)، وتغليفها بالجص تمهيدا لنقلها إلى الولايات المتحدة، حيث قام الباحثون بدراسة هذه الاحافير بالتفصيل بحثا عن أدلة تشير إلى سبب نفوق هذه الحيوانات.

 

كانت إحدى الجثث ترقد على جانبها الأيسر، في حين كان كل من الرأس والعنق منزاحين إلى الخلف باتجاه الحوض، وهذا هو الوضع التقليدي للأجسام الميتة. أما الذراعان والساقان فكانا في وضعيتهما التشريحية الصحيحة، ولكن الفحص الدقيق بيّن أن عظام اليدين والقدمين كانت منزاحة عن مواضعها، مع أنّ معظم الأجزاء موجودة. والجمجمة بدورها كانت أيضا إلى حد ما منزاحة، كما كانت أجزاؤها متوضعة بجانب بعضها. ومما يلفت النظر أن نهاية الذيل كانت مفقودة بكاملها. وفي الجوار كانت ثمة جثث أخرى بحالات مختلفة من الحفظ والفوضى. كان بعضها سليما إلى حد كبير وبعضها الآخر ممثّلا بجمجمة فقط أو بلوح الكتف أو بعظم طرف وحيد. فهل ماتت هذه المخلوقات المشؤومة في هذا المكان أم أنها جلبت إليه بعد نفوقها؟ وهل نفقت جميعها في آن واحد أم أنّ نفوقها حدث في أوقات مختلفة؟ وما الذي أدّى إلى نفوقها؟

 

بدأ فريقنا، المؤلف من پاليونتولوجيين وجيولوجيين من أمريكا ومدغشقر، بطرح هذه التساؤلات بعد اكتشافنا هذا القبر الجماعي في صيف عام 2005 في رواسب قديمة بشمال غرب جزيرة مدغشقر، الجزيرة التي دعيت بالجزيرة الحمراء الكبيرة بسبب تربتها المؤلفة من الهيماتيت الترابي الأحمر. ولدى بحثنا عن أجوبة لهذه التساؤلات اكتشفنا بعض المعلومات المثيرة للاهتمام، إلا أن كيفية قيامنا بهذه المهمة ربّما تعادل في أهميتها ما حصلنا عليه من معلومات.

 

وقبل البدء بالعمل حددنا مكان الموقع وأطلقنا عليه اسم MAD05-42، الذي يشير إلى سنة اكتشافه ورقمه في تسلسل اكتشاف المواقع الأحفورية الموجودة في تلك المنطقة. وكانت المهمة التالية هي تعيين أنواع الكائنات الحية التي تنتمي إليها هذه الأحافير، لقد أدركنا بسرعة اعتمادا على مكتشفاتنا في أمكنة أخرى من المنطقة أن معظم البقايا كانت لدينوصورات من أنواع مختلفة.

 

إنّ تربة دفن الدينوصورات هذه ليست فريدة في شمال غرب مدغشقر. فهي تتطابق مع النمط الذي رأيناه كثيرا خلال عقد من التحريات الجيولوجية التي قمنا بها في الأراضي الرعوية شبه الجافة الواقعة بالقرب من قرية «بيريکوترا»Berivotra المنعزلة. فقد اكتشفنا هناك طبقات متراكبة من المقابر الجماعية تحتوي على بقايا حيوانات كبيرة وصغيرة متفاوتة الأعمار مدفونة مع بعضها مشكلة طبقات عظمية(1) مثيرة للدهشة. وهكذا وبينما كنا نعمل على اكتشاف السبب الذي أدى إلى نفوق الحيوانات في الموقع MAD 05-42، كنا نتساءل بشيء من الدهشة لماذا نجد العديد من الطبقات العظمية في هذا المكان ولماذا حفظت حفظا جيدا إلى أبعد الحدود.

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/61.gif http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/62.gif

 

 

النظر في قضية قتل مجمدة منذ عهد بعيد(**)

 

تعود القضية إلى ملايين السنين، بحيث لم يعد بالإمكان الاستفادة من الوسائل الحديثة التي يستعملها المحقّقون في الوقت الحاضر. ولكي نستخلص الأدلة المحفوظة في العظام والصخور كان علينا اللجوء إلى تقنيات تحديد الأعمار الجيولوجية وإلى حقل التحقيق الذي يستخدم طرائق علم التافونيه(2) Taphonomy الذي يتحرى مصير البقايا العضوية من الحياة إلى  الموت.

 

بعد أن حددنا اسم الموقع عمدنا إلى استخراج العظام من الصخور التي كانت مطمورة فيها. وقد بدأنا العمل باستعمال الرفوش والمطارق الخاصة بالصخور لإزالة الرواسب التي تغطيها، ثم انتقلنا إلى استعمال الخلال السنية(3) والفُرَش الناعمة كي نكشف عن العظام ذاتها. وقد حرصنا جدا على عدم تخريب سطوح العظام الهشة. وبعد أن كشفنا تماما عن البقايا العظمية قمنا بتصويرها وتحديد مواقعها بدقة على خريطة تمثّل المكان الذي وجدت فيه، وذلك لتسجيل أية علاقات مكانية مهمة. بعد ذلك نقعنا العظام الهشة في مواد غروية مدعِّمة، ثم غلفناها بأغلفة من الخيش والجص (الجبصين). وبعد تصلّب الجص قمنا بإعداد قوائم بالعظام ثم وضعناها في حقائب تمهيدا لنقلها في رحلة طويلة إلى مختبراتنا في الولايات المتحدة، حيث بذلنا كل جهد لإزالة جميع ما علق بالعظام من رواسب، وبدأنا بدراستها بالتفصيل باحثين بشكل خاص عن أية علامات على سطحها قد تفيد في معرفة هوية القاتل.

 

 

شاهد جيولوجي(***)

 يزودنا تاريخ أراضي مدغشقر بأدلة تشير إلى السبب الذي أدى قبل نحو 70 مليون سنة إلى نفوق هذا العدد الكبير من الحيوانات هناك. في بداية حقب الحياة المتوسطة (الميزوزوي) (أي قبل نحو 250 مليون سنة) بقيت مدغشقر في قلب قارة گوندوانا Gondwana. وقد أعاد النشاط التكتوني ترتيب صفائح الغلاف الصخري على الكرة الأرضية، ولكن في بداية الدور الكريتاسي (قبل نحو 130 مليون سنة) احتلّت مدغشقر مكانا يقع على بعد 400 كيلومتر من البرّ الإفريقي؛  حيث انضمت ثانية إلى الصفيحة الإفريقية وبدأت معها بالتحرك باتجاه الشمال. وعندما حدث نفوق الحيوانات الذي نحقق في أسبابه (الخريطة في الأسفل) كان القسم الشمالي من مدغشقر يقع قرب خط العرض 30 درجة جنوب خط الاستواء، حيث كانت الأحوال  المناخية تتناوب بين فترات طويلة من الجفاف تتلوها فترات ممطرة شديدة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/006.gif

 

وفي مكان الموقع حدّدنا أنّ حفظ أجسام الحيوانات كان يتم في كتلة متميّزة من الصخور الرسوبية، تعرف بتشكيلة ميفارانو، تقع على بعد بضع عشرات من الأمتار تحت صخور توضّعت عند الحدود الفاصلة بين الدور الكريتاسي/ الحقب الثالث، أي قبل 65 مليون سنة عندما تعرضت جميع الدينوصورات والكثير من المخلوقات للانقراض (باستثناء الطيور) في جميع أنحاء العالم(4). تقع طبقة الأحافير تحت مستوى الانقراض الجماعي بنحو 44.5  متر وتحت قمة تشكيلة ميفارانو المحلية بنحو 14.5 متر. إن قياس الاضمحلال الإشعاعي(5)لمعادن الصخور البركانية الموجودة في الطبقات الكائنة تحت التشكيلة حدّد عمرها بنحو 88 مليون سنة. وحُدّد عمر الرواسب البحرية، المتوضّعة فوق التشكيلة، أو المتداخلة معها بفعل مدّ مياه البحر وانحسارها على طول الشواطئ الغربية للجزيرة والمحتوية على أصداف بحرية وعلى هياكل بالغة الصغر لأحياء ميكروية أحادية الخلية في مواقع أخرى، بأنه يعود ـ وليس تمامًا ـ إلى نهاية الدور الكريتاسي. وهكذا تشير جميع أدلّة تحديد العمر إلى أن نفوق الدينوصورات حدث قبل 70 مليون سنة تقريبا. ومهما يكن سبب نفوقها في الموقع MAD 05-42، فإنّ نفوقها لا علاقة له بالانقراض الجماعي الكبير الذي حدث بعد عدة ملايين من السنين.

 

 

نفوق جماعي إضافي(****)

 

 أظهر أحد أوائل المواقع المكتشفة MAD92-18 تكرر النفوق الجماعي في  مدغشقر القديمة بشكل مثير للدهشة أكثر من أي موقع آخر. ويشتمل هذا الموقع على ثلاث طبقات دفن متميّزة مكدّسة الواحدة فوق الأخرى. وقد استخرج من هذا الموقع هياكل عظمية كاملة تقريبا لزاحفيّ الأرجل الضخم راپيتوسوروسRapetosaurus (الشكلان في الأسفل)، إضافة إلى  بقايا عظمية لحيوانات أخرى جديدة على العلم، بما فيها نوع من الطيور البدائية راهوناکيس أوسترومي Rahonavisostromi (الشكل في  اليسار) الذي كانت له عظام صغيرة هشة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/112.gif

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/52.gif http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/53.gif

 

إضافة إلى ذلك أدّى علم التافونيه إلى تقدّم التحقيق الذي نقوم به. ويقوم هذا العلم بدراسة تبدلات العظام (هل تعرضت إلى الحرق أو التكسّر أو إلى العض؟) والإصابات التي تعرّضت لها الجثة (بتر أطراف الجثة أو إزالة بعض أجزائها التي تلتهمها الحيوانات المفترسة أو الحيوانات آكلات الجيف) وسجل الدفن (كيف دفنت الجثث وماذا حدث لها بعد الدفن). ويدخل في نطاق هذا العلم دراسة العمليات الأحفورية (الاستحاثية) وبشكل خاص الكيفية التي تتحول فيها العظام إلى حجارة.

 

عندما درسنا الجثث الموجودة في المقلع(6)MAD 05-42 من منظور علم التافونيه، أمكننا القول إن هذه الحيوانات قد نفقت على امتداد فترة طويلة قد تبلغ عدة أسابيع أو عدة أشهر، وذلك بسبب اختلاف التبدلات الحاصلة بعد النفوق التي تبديها هذه الجثث. مثال ذلك أن بعض الجثث كانت سليمة إلى حد بعيد، في حين كانت جثث أخرى مقطعة الأوصال ومبعثرة جدا، الأمر الذي لا يمكن حدوثه في الوقت نفسه. إضافة إلى ذلك كانت بعض العظام بحالة جيدة، في حين أبدت عظام أخرى تحللا متقدّما وتآكلا في سطوحها. وعندما يتبين لنا أن الحيوانات في إحدى الطبقات العظمية القديمة قد نفقت في أوقات متفاوتة، نَصِفُ هذا الموقع أنّه ذو فترة نفوق زمنية متوسطة time-averaged. ونستعمل أدلة تافونية لتخمين المدة الفاصلة بين أول نفوق وآخر نفوق حدثا في هذا الموقع. وعلى الرغم من أنه ليس بإمكاننا أن نحدد بدقة المدة التي انقضت على تشكل هذه الطبقة العظمية، فإن بإمكاننا التأكيد أن نفوق الحيوانات المدفونة فيها لم يحدث في وقت واحد.

 

مسرح الجريمة(*****)

 

إن التاريخ الجيولوجي لهذه الجزيرة الواسعة يزودنا بأدلة مهمة عن الذي قضى على هذه الدينوصورات. ففي بداية حقب الحياة المتوسطة (أي قبل 250مليون سنة) بقيت مدغشقر في قلب قارة گوندوانا Gondwana (وهي النصف الجنوبي من قارة پنگيا Pangaea العملاقة) بين إفريقيا والهند، وكانت القارة القطبية الجنوبية antarctica قريبة من نهايتها الجنوبية. وعندما أعاد النشاط التكتوني tectonic activity ترتيب صفائح القشرة الأرضية على مستوى الكرة الأرضية، انشقت مدغشقر في الدور الجوراسي Jurassic المتأخّر (أي قبل 160مليون سنة) مبتعدة عن إفريقيا واتجهت جنوبا متبوعةً بالهند. وفي الدور الكريتاسي المتأخر (أي قبل 88 مليون سنة) عادت مدغشقر واتصلت ثانية بالصفيحة الإفريقية (ولو أنها بقيت على بعد 400كم من البر الإفريقي الرئيسي؛) في حين أنه انشقت عنها شبه القارة الهندية وقارة القطب الجنوبي مبتعدة تاركة رابع أكبر جزيرة في العالم منعزلة في المحيط الهندي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/58.gif http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/113.gif
تقدّم الصخور والترب القديمة أدلة مقنعة على حدوث مناخ شبه جاف خلال الدور الكريتاسي المتأخر. وتشير قوالب الجذور الشاقولية (الشكل السفلي في اليسار) إلى أنّ تلك النباتات تكيفت مع حالة الجفاف وذلك بالتفتيش عن مصادر الرطوبة العميقة. ويكشف العديد من بقايا الجذور القديمة عن وجود كتل من كربونات الكلسيوم التي تتشكل عادة في المناطق الجافة. كما تشير الرواسب الأخرى المتوضعة في الأنهار الرملية (الصور في الأعلى) إلى أنّ غزارة المياه فيها كانت متفاوتة إلى حد كبير. وعندما كانت المياه تتدفّق في الأنهار كانت تجرف معها الكثبان الرملية نحو المجرى السفلي مفضية إلى مجموعات متراكمة من الطبقات المائلة (الشكل العلوي في اليسار). وكانت الدينوصورات وكثير من الحيوانات الأخرى تتردد على هذه الأنهار الضحلة بحثا عن الغذاء ـ في الواقع كانت عظام الموقع MAD05-42 تتوضع في أحد مجاري الأنهار القديمة. http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/57.gif

 

وبعد أن عادت مدغشقر للاتحاد مع الصفيحة الإفريقية انتقلت شمالا نحو موقعها الحالي في منطقة نصف الكرة الجنوبي المدارية. ولكن عندما حدثت حالات النفوق التي ندرسها قبل نحو 70  مليون سنة كان شمال مدغشقر واقعا قرب خط العرض 30، أي بعيدا عن مدار الجدي وتحت تأثير أحوال جوية شبه استوائية(7)  على الأرجح. وفي الوقت الحاضر تقع المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية semidesert الرئيسية بين خطي العرض 15 و35  شمال وجنوب خط الاستواء. وهذه الأحزمة الواسعة من المناطق الجافة تنشأ عن نماذج من حركات الهواء الواسعة (تسمى خلية هادلي Hadley Cell)، تقود كتلا ضخمة من الهواء الحار والجاف باتجاه الأرض بعد أن تكون قد تخلت عما تحمله من رطوبة قرب خط الاستواء. تؤدي الخلايا الهوائية الهابطة إلى حدوث مناطق ذات ضغط مرتفع على سطح الأرض تنعدم فيها الأمطار معظم الأوقات، إلا أنه عند هطولها تكون غزيرة.

 

تحمل صخور تشكيلة ميفارانو أدلة مقنعة على وجود مناخ متعدد الفصول وشبه جاف(8) خلال الدور الكريتاسي المتأخر. وأهم هذه الأدلة هو وجود تربة حمراء قديمة(9) مؤكسدة تحتوي على قوالب جذور محفوظة حفظا جيدا ومتوضّعة بشكل شاقولي. والجذور الشاقولية شائعة حاليًا في الأمكنة التي تكيفت فيها النباتات مع جفاف التربة، فاتجهت جذورها عميقا بحثا عن الرطوبة والغذاء. إضافة إلى ذلك يبدو أنّ الكثير من الجذور المتبقية من تشكيلة ميفارانو مغشاة بقشرة من كربونات الكلسيوم أو مرصعة بكتل غير منتظمة من هذا المعدن تسمى العقيدات الكربوناتية(10). وحاليا، تشاهد التربة المؤكسدة الغنية بكربونات الكلسيوم في المناطق الجافة وشبه الجافة، حيث يحدّ التبخر والتعرّق من تأثيرات هطول الأمطار.

 

وهناك رواسب أخرى تعود لهذه الأراضي القديمة تتوضع في الأنهار الرملية الضحلة. تزودنا هذه الرواسب بأدلة مقنعة على ماض شبه استوائي مع إشارات واضحة إلى أن جريان الماء كان متقلبا على الأرجح حسب الفصول. فعندما تكون الأنهار متدفقة فإن التيارات المائية تدفع التموجات والكثبان الرملية باتجاه المجرى السفلي للنهر وتُفضي إلى تشكيل مجموعات متكدسة من التطبُّق المائل يطلق عليها الجيولوجيون اسم التطبُّق المتصالب(11).

 

 

آكلات الجيف(******)

 

 إن انتشار الموت على نطاق واسع في مدغشقر في الدور الكريتاسي المتأخر هيأ ولائم دسمة للحيوانات التي تتغذى بالجيف. إنّ أكل الجيف necrophagy  أو عملية التغذّي  بالجثث والجيف يؤدي دورا مهما يجب القيام به كي تكتمل الدورة البيولوجية بشكل فعال، ويقوم بهذه المهمة في الوقت الحاضر العديد من الأحياء بدءا من البكتيرات(12)وصولا إلى الحيوانات الفقرية الكبيرة الحجم. وبالتعاون مع زميلنا <E.M.روبرتس> [الذي رافقنا في رحلتنا إلى مدغشقر قبل عقد من الزمن عندما كان طالبا في الجامعة، وهو الآن مدرس في جامعة ويتووترستراند بجوهانسبورگ] وجدنا في عظام الدينوصورات في مدغشقر آثارا تدل على فاعلية الحشرات الآكلة للجيف: وهي عبارة عن فجوات بيضوية الشكل بطول سنتيمتر واحد واقعة ضمن النسيج الإسفنجي للعظام. وتدل هذه الفجوات على أن الخنافس الكهلة اجتاحت تلك الجثث وتغذت بجيفها، ثم وضعت بيوضها بالقرب منها. وبعد أن فقست البيوض خرجت اليرقات وتغذت بها أيضا واستعملت فكوكها القوية لحفر الفجوات التي استخدمت كحجيرات لاكتمال الاستخدار pupation. ولم تكن الحشرات الكائنات الوحيدة التي تتغذى بالجثث. فقد أظهرت دراسة آثار العضات أدلة دامغة على أنّ الدينوصورات كانت تأكل الجثث أيضا. وقد أكدنا، بالتعاون مع<K.C.روجرز> [من متحف العلوم في مينسوتا] وجود آثار لأسنان الثيروپود(13) Teropod «ماجنكاتولوس أتوپوس» الذي يبلغ طوله سبعة أمتار، على مجموعة من العظام مصدرها على الأقل ثلاث طبقات عظمية مختلفة. ولدى مقارنة شكل هذه الآثار السنية وحجمها بفكوك وأسنان أنواع مختلفة من آكلات اللحوم تمكنا من استبعاد الحيوانات الأخرى ذات الأسنان الحادة.

 تعود بعض العظام المعضوضة في عيناتنا إلى راپيتوصوروس Rapetosaurus، الذي هو دينوصور زاحفيّ الأرجل طويل العنق غير معروف من قبل، ومع ذلك فإن معظم العظام التي تحمل آثارا سنية، وأكثرها من الأضلاع والفقرات، تعود إلى الدينوصور «ماجنكاتولوس أتوپوس» نفسه. إن أكل لحم المثيل(14)  أمر معروف بين الحيوانات الحالية ويجب أن تتوقع حدوثه عند الدينوصورات. إلا أن تقديم الأدلة التي تؤكد ذلك أمر مختلف. وقد عثرنا في الطبقات العظمية في مدغشقر على حالة وحيدة مؤكدة من آكل لحوم المثيل cannibalism عند الدينوصورات. مع الأسف إن آثار العض المشاهدة على العظام لا تكشف بشكل مؤكد عما إذا كان الدينوصور «ماجنكاتولوس أتوپوس» قد مارس افتراس حيوان من جنسه ـ أم أنه ببساطة أكل جيفة حيوان من جنسه مات قبله.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/56.gif

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/116.gif http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/114.gif
ا ثار الأسنان المشاهدة على العظام والاثلام الدقيقة الموجودة ضمنها (الأسهم) تتلاءم بدقة مع حجم الأسنان والفسحات الفاصلة بينها ومع أخاديد تقطيع اللحم على أطراف الجبهة والظهر عند الدينوصور «ماجنكاتولوس أتوپوس». الفجوات البيضوية الشكل في عظام الدينوصور (الصورة) هي إشارات تدل على أن الخنافس آكلات الجيف تطفّلت على الجثث وتغذت بلحومها ثم وضعت بيوضها (الصورة في الأعلي).

 

لاشك في أن الدينوصورات وغيرها من الحيوانات كانت تتردد على هذه الأنهار بحثا عن الماء والغذاء والملجأ. وفي الواقع كانت العظام في الموقع MAD05-42  متناثرة في مجرى أحد الأنهار القديمة. وكانت هذه الأنهار جافة في بعض الأوقات، في حين يجري فيها في أوقات أخرى طين رقيق القوام يشبه مخفوق اللبن يحتوي على الوحل والرمل. وسوف نعود إلى الكلام عن هذا الطين السائل إذ يؤدي دورا مهما في قضيتنا.

 

تحديد هوية القاتل(*******)

 

يمكن أن يُلاقي حيوان منعزل حتفه بأساليب كثيرة ـ وربّما كثيرة جدا، إذا كان الهدف هو تحديد هوية قاتله في السجل الأحفوري. إلا أن الخيارات تقل كثيرا في حالات القتل الجماعية كالحالات في تشكيلة ميفارانو. ولكي نقلل هذه الخيارات ونحصرها في خيار واحد لجأنا أيضا إلى علم التافونيه. ففي مدغشقر تحفظ الطبقات العظمية عادة بقايا أكثر من صنف واحد من الحيوانات، أي أنواع متعدّدة من الدينوصورات، كما في الموقع MAD05-42  أو أكثر من مجموعة متنوعة كما في الموقع MAD 93-1  (انظر المؤطّر في الصفحة21)، حيث أعطى بقايا هياكل عظمية للأسماك والسلاحف والأفاعي والتماسيح والطيور والثدييات وثلاثة أنماط مختلفة من الدينوصورات اللاطيرية. والقاتل في هذه الحالات لم يميز بين الضحايا من حيث الحجم أو العمر أو الصنف أو الموطن، الأمر الذي يستبعد كونه من الحيوانات الضارية كالتماسيح أو الدينوصورات آكلات اللحوم، وذلك لأن الحيوانات الضارية الحالية تبدي عادة درجة من الانتقائية في اختيار فريستها.

 

كما أنه لا توجد أدلة تدعم الافتراض بأن الأمراض كانت سبب النفوق (يصعب في الواقع التحري عن الأمراض في العظام المتحجرة). ولأن هذه الحيوانات نفقت في أوقات متباينة فقد استبعدنا الأحداث المثيرة المفاجئة كالزلازل والفيضانات والحرائق. ومهما يكن السبب في نفوق هذه الحيوانات فإن فعله امتد على مدى فترة من الزمن وقضى على ضحاياه بشكل إفرادي بعد وصولها إلى النهر بإرادتها. وكانت لدينا أيضا أدلة مقنعة على أن القاتل قام بهجمات متتالية وفي مواقع متفرقة متبعا الطريقة نفسها في العمل. كما أن هذه الحيوانات لم تمت في يوم واحد من الأيام السيئة في الدور الكريتاسي المتأخّر، فقد كان هناك العديد من مثل هذه الأيام السيئة.

 

وعندما ندقق في مجمل الأدلة المتوافرة نستطيع أن نحدّد بدقة سببا واحدا لنفوق الحيوانات ألا وهو الجفاف. من المؤكد أنّ هذه الفرصة كانت موجودة؛ فقد ساد في ذلك المكان نظام بيئي(15) شبه مداري مع أدلة واضحة على الجفاف وتعدد الفصول. إضافة إلى ذلك بإمكاننا أن نتصور كيف كانت الحيوانات تتجمع في أسرة الأنهار التي هي قيد الجفاف، على الأرجح حول ما تبقى فيها من برك المياه، حيث كانت تهلك مرة بعد مرة عند نفاد مياه الشرب الجيدة والأغذية. وفي الوقت الحاضر يدفع الجفاف المميت، ولاسيما في بعض أجزاء إفريقيا وفي المناطق الداخلية من أستراليا، الحيوانات إلى التجمع حول ما تبقى من موارد المياه والطعام. وعندما يستمر الجفاف مدة طويلة فقد تنفق آلاف الحيوانات في المكان الذي أَمِلت أن تحصل فيه على الماء، وقد تتراكم أجسادها في «مناطق النفوق» على مدى عدة سنوات.

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/010.gif
توحي أبواغ الطحالب التي شوهدت في الصخور التي تغلّف العظام بأن برك المياه المتضائلة قد أصبحت سامة.

 

 

وتدل الدراسات الحديثة المتعلقة بمعدلات الوفيات الناجمة عن الجفاف على أن الحيوانات التعيسة التي اكتشفت عظامها في تشكيلة ميفارانو تكون قد نفقت في نهاية الأمر بعدد من الأسباب: كالتجفاف وشدة الحرارة وسوء التغذية وربما من التسمم، إذ إن موارد الماء المتضائلة فسدت وأصبحت سامة. وفي الواقع لدينا أدلة مثيرة على أن سبب ذلك أبواغ الطحالب الموجودة في برك المياه الراكدة التي كانت تؤدي إلى تجمع الحيوانات. فقد تمكن<M.زافادا> [من جامعة تنيسي، وهو الخبير بحبوب طلع الدور الكريتاسي] من عزل أبواغ طحلبية بالغة الصغر من الصخور المرافقة للعظام (انظر الشكل في أسفل الصفحة المقابلة)؛ فهل تمثّل هذه الأبواغ أدلة مهمة تدل على سمية الأبواغ الطحلبية، ومع ذلك يحتاج الأمر إلى إثبات.

 

ولكن كيف أمكن الحفاظ على كثير من أجساد الحيوانات بشكل جيد إلى هذا الحد؟ تتآكل البقايا البيولوجية وتفنى على سطح الأرض بتأثير الحيوانات آكلات الجيف، إضافة إلى تأثير أشعة الشمس التي تؤدّي ببطء إلى تفتيت العظام وحتى الكبيرة منها لتتحوّل في نهاية الأمر إلى غبار. وعندما يكون موضوع الحفظ الطويل الأمد في السجل الأحفوري قيد المناقشة، فإنّ دفن الأجساد يجب أن يحدث بسرعة بقدر الإمكان بعد نفوقها. وفي الواقع إنّ ما يمكن قوله من منظور أحفوري هو أنّ الدفن السريع هو الحل الوحيد الأكثر حسما في حفظ الأحافير.

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/5-6/51.gif
كان الجفاف هو القاتل. تجمعت الحيوانات في أسرّة الأنهار الجافة، حيث قضت بعد أن نفد الماء والغذاء. كان الدينوصور «ماجنكاتولوس أتوپوس» يقتات بالدينوصور «رابيتوصوروس» (مقدم الصورة)، وبالدينوصور من نوعه (أقصى اليمين). كما أن الطيور Rahonavis كانت تقتات ببقايا الجيف. وقد يكون السبب المباشر للوفاة هو التجفاف أو الإجهاد الحراري أو سوء التغذية أو حتى التسمّم، إذ إن المياه الراكدة قد تصبح سامة. وهناك حيوانات أخرى آكلة للحوم وحشرات كانت تتغذى بالجثث نفقت أيضا عندما جرفت الأمطار الغزيرة الأوحال التي غمرت هذه الحيوانات الميتة أو هي على وشك النفوق وأدت إلى حفظ بقاياها 70 مليون سنة.

 

ولحسن حظ أولئك الذين يدرسون هذه الأحافير في مجموعتنا، وجود حانوتي (جنّاز الموتى) مقتدر جدًا كان يعمل بالتعاون مع أحوال جوية قاتلة. فما إن انتهت حالات الجفاف التي كانت تجلب الكوارث دوريا إلى أسرّة الأنهار العطشى، وعادت الأمطار تهطل بعنف مسببة فيضانات من الحطام الصخري، انسكبت الوحول اللزجة المؤلفة من الطين الأخضر والرمل التي تجمّعت بالتحات الذي أحدثته الأمطار فوق العظام وغلفتها. وتعكس الصفة المميزة الرسوبية لطبقات الدفن صنفا خاصا من الطمي المائع الخاص تتحرك فيه المياه والرواسب معا كما تتحرّك اللدائن. إن هذا النمط من الطمي الكتلي، الذي يعرف عادة باسم الطمي الموحل ليس نادرا في الوقت الحاضر. والمثال على ذلك الانزلاقات الوحلية(16) المميتة التي حدثت في گواتيمالا عام 2005، والتي أطلقتها سيول إعصار ستان Stan.

 

ومرة بعد أخرى، وبعد أن حصدت فترات الجفاف ضحاياها، تدفقت طبقات ثخينة من الطين والرمل على الجثث والعظام المتناثرة التي تعود إلى حيوانات ماتت قبل دقائق أو أشهر ورزمتها معا بصورة فعالة في قبر رسوبي واقٍ ودائم. وقد تطلب الأمر سبعين مليون سنة أخرى حتى تتصدع هذه القبور وتنفتح لتكشف عن أحداثها المذهلة.

 

المؤلفان

 David W. Krause – Raymond R. Rogers

 

 اكتشفا وحققا في طبقات مدغشقر العظمية منذ عام 1996. يعمل <روجرز> أستاذا مساعدا ورئيس قسم الجيولوجيا في كلية ماكالستر وباحثًا مشاركًا في فيلد ميوزيوم بشيكاگو وسيانس ميوزيم في مينيسوتا. حصل على الدكتوراه في الجيولوجيا من جامعة شيكاگو في عام 1995. أما <كراوس> فهو أستاذ متميز في قسم العلوم التشريحية بجامعة ستوني بروك وباحث مشارك في فيلد ميوزيوم. وقد حصل على الدكتوراه في الجيولوجيا من جامعة ميتشيگان في آن آربور في عام 1982.

 

  مراجع للاستزادة 


Monsters of Madagascar. John Flynn and David Krause in National Geographic, Vol. 198, No. 2,
pages 44-57;August 2000.


Cannibalism in the Madagascan Dinosaur Majungatholus atopus. Raymond R. Rogers, David W,
Krause and Kristina Curry Rogers in Nature, Vol. 422, pages 515—518;Apri1 3, 2003.


The Natural History of Madagascar. Edited and translated bg Steven M. Goodman and Jonathan
P. Benstead. Universitg of Chicago Press, 2004.

(*) العنوان الأصلي: TRACING AN ANCIENT KILLER تعقب قاتل قديم.

(**) Operating a Very Cold Case

(***) Geologic Evidence

(****)MORE MASS DEATH

 (*****)SCENE OF THE CRIME

(******)  DINING ON THE DEAD

(*******) Identifying a Killer

 

(1)bonebeds

(2) التافونيه (استعراب): علم يدرس ظروف الدفن التي تؤدي إلى حفظ بقايا الكائنات الحية على شكل أحافير.

(3)  dental picks

(4) انظر : Repeated Blows by Lwaan Becker

Scientific American, March 2002.

(5)(Radioactive decay (Radio aetive decay

(6) quarry

(7) subtropical

(8) semiarid

(9)paleosol

(10)carbonate nodules

(11)جمع بكتيرة.

(12)صوربود = زاحفي الأرجل، Theropod = تيروبود.

(13)cannibalism

(14)cross-stratification

(15)ecosystem

(16)mud slide

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى