أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الحيوان

ما مدى ذكاء الغربان ؟

ما مدى ذكاء الغربان ؟(*)

تُظهر التجارب الحديثة أن هذه الطيور تستخدم المنطق

 لحل مشكلاتها وأن بعض قدراتها يقارب،

 بل قد يفوق، قدرات القردة العليا.

<B.هاينرش> ـ <T.بگنيار>

 

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/10-9/0012.gif

 

 

قناص في الغابات الشمالية يشاهد غرابا شائعا(1) (كورکاس كوراكسCorvus corax)، وهو يتقلب على ظهره ورجلاه مرفوعتان في الهواء بجانب جثة قندس فوق الثلوج. ودارس للأحياء يتسلق، بعناء، أحد المنحدرات ليقوم بتركيب حَلَق(2)  في أرجل أفراخ غرابين ويقوم أبواهما بإمطاره من أعلى بالصخور. وغراب وحيد ينعق بصوت مرتفع بالقرب من كوخ منعزل محذرا رجلا بالقرب منه لكي ينظر إلى أعلى ويلحظ سبُعا مختبئا على وشك أن يقفز عليه.

 

وكل من هؤلاء الأشخاص الثلاثة يفترض أنه كان يعرف ماذا أرادت الغربان. فالقناص ظن أن الغراب يتماوت متظاهرا بأنه قد تسمم لكي يبعد الغربان الأخرى حتى يستحوذ على جثة القندس لنفسه. ودارس الأحياء ظن أن زوج الغربان كانا يتعمدان محاولة إصابته بالصخور لكي يذهب بعيدا. أما الرجل عند الكوخ المنعزل فقد ظن أن الغراب يحذره لينقذ حياته.

 

ولا يمكن استبعاد هذه الفرضيات المختلفة ورفضها، ولكن معظمنا ممن لهم صلة وثيقة بالغربان قد يقدمون تفسيرات أخرى أكثر احتمالا. فلعل الغربان أكثر الطيور حبا للعب، ويبدو أن من عادتها أن تتقلب على ظهورها لمجرد اللهو والتمتع بذلك. وهي غالبا ما تدق الأرضية في غضب أينما جثمت، عندما يكون هناك حيوان مفترس قرب عشها. وهي معروفة بأنها ترشد اللواحم (الحيوانات الآكلة للحوم) إلى فريسة محتملة لا يمكنها هي أن تتغلب عليها، ولذا فإن الغراب قد يكون مستهدِفا إرشاد السبع إلى ذلك الرجل.

 

 

نظرة إجمالية/ ذكاء الغربان(**)

 

مع أن السلوك الذكي للغربان يقنع معظم الناس أن الطيور ذكية، فإن ذلك لا يبرهن على أنها تستطيع بوعي كامل تأمل بدائل اختيار الأفضل من بينها.

  وللبت في ذلك قام المؤلفان بتصميم سلسلة من التجارب التي اشتملت على جذب لحم مربوط بخيط إلى أعلى، وإخفاء الطعام عن المتنافسين.

  لقد وجدا أن الغربان تستطيع استخدام المنطق لحل بعض المشكلات، وأنها تستطيع تمييز الأفراد (من البشر والغربان الأخرى) ونسبةَ معلومات معينة إلى هؤلاء الأفراد.

 

إن الحكايات حول الغربان عديدة، ويوحي كثير منها بأن هذه الطيور ذكية، ولكن القصص لا تعطي برهانا على وجود مَلَكة شريرة لديها، أو حتى صور السلوك المعقد للغربان ذات المعالم الأكثر وضوحا ـ مثل عادتها في نحت كتلة من الشحم إلى قطع صغيرة يصبح حملها ممكنا، أو قيامها برص رقائق البسكويت الجاف بعضها فوق بعض على نحو يساعدها على الطيران بالرصة كلها، أو معالجتها لكعكتين بطريقة تمكنها من حملهما معا في الوقت نفسه، أو قيامها بعمل مخابئ كاذبة للطعام لخداع المغيرين. جميع تلك الأعمال لا تبرهن على أن هذه الطيور قادرة على أن تتفحص بوعي الأفعال البديلة وأن تختار الأنسب من بينها.

 

 وعلى أية حال، فمجرد المشاهدات لا يمكن أن تلغي احتمالات أخرى، مثل الغريزة أو تعلم تأدية أفعال محفوظة محددة من دون إدراك حقيقي. وفي الواقع، حتى تسعينات القرن الماضي، ربما لم يكن هناك سوى اختبار علمي دقيق واحد انطوى على وجود تفكير منطقي لدى الغربان من الطراز الذي نسلم بوجوده لدى البشر. لقد كان هذا الاختبار مجموعة من التجارب التي نشرها عام 1943 <O.كوهلر> [من معهد كونسبرگ لعلم الحيوان]. لقد أوضح أن غرابه البالغ من العمر عشر سنوات، والمسمى جاكوب، يستطيع العد حتى رقم سبعة، وذلك بتدريبه على استعادة الطعام من تحت واحد من بين عدة أوعية على أغطيتها بقع بأعداد مختلفة. ولكن الدراسات التي أجريت في السنوات القليلة الماضية ـ ومعظمها أجريناه نحن معا ـ قدمت في النهاية براهين ثابتة على أن الغربان ذكية حقا، بمعنى أنها قادرة على استخدام المنطق في حل المشكلات التي تواجهها. والأكثر من ذلك أننا وجدنا ـ لدهشتنا ـ أنها تستطيع حتى تمييز فرد من آخر. وفي هذا أيضا هي تشبه البشر كثيرا، فنحن لا نستطيع بناء مجتمعات (فيما عدا تلك التي تشبه مجتمعات الحشرات) دون هذه المقدرة.

 

برهان على القدرة على حل المشكلات(***)

 

 ليست الغربان هي الطيور الوحيدة التي تشتهر عادة بالذكاء، فعلى مدى العقدين الأخيرين أوضحت كمية هائلة من الأبحاث أن أقارب معينين للغربان السُّحم (منها: الغربان الصغيرة الأحجام، وكذلك أبو زريق Jays والعقعق Magpiesوكاسر الجوز Nutcrackers) لها قدرات ذهنية محنكة مثيرة للدهشة. وتبدو هذه القدرات في بعض الأنواع مساوية لتلك التي تحوزها القردة العليا أو تفوقها. فعلى سبيل المثال، كاسرات الجوز لها ذاكرات خارقة تستوعب آلافا من مواقع مخابئ الغذاء، وهي قدرة تتحدى معظم الأفراد من البشر. وقد وجد أن غراب كاليدونيا الجديدة Corvus moneduloides يقوم بتشكيل أدوات من أوراق نبات الكاذي أو الصنوبر الحلزوني pandanus ويستخدمها لالتقاط اليرقات من بين  شقوق الخشب. على أن الذي لم يُعرف بعد هو إلى أي حد تتضمن مثل هذه الأعمال الفذة برمجة ذاتية عمياء مقابل تعلم بالحفظ عن ظهر قلب(3)  وذاكرة (من خلال تجارب سابقة من المحاولة والخطأ) مقابل تفكير reasoning (الاختيار من بين بدائل تستحضر في الذهن ويجري تقييمها).

 

وقد قمنا (كاتبا المقالة) بابتكار تجارب لإيضاح دور هذه الاحتمالات وأهميتها النسبية. في أول هذه الاختبارات جابهنا الغربان فُرادَى بطعام معلق بخيط. وللحصول على الطعام المقدم، عليها أن تصل إلى الخيط المتدلي تحتها من المجثم، وتمسك الخيط بمنقارها، وتجذب الخيط إلى أعلى، وتضع أنشوطة الخيط الذي جذبته على المجثم، وتقف فوق الخيط، وتقوم بالضغط عليه بالقدر المناسب الذي يمنع الخيط من الانزلاق، ثم تترك بقية الخيط، ثم تنحني لتمسك بالخيط المتدلي ثانية، وتكرر هذا التتابع ست مرات متتالية أو أكثر.

 

 لقد وجدنا أن بعض الطيور اليافعة، على الأقل، تقوم بفحص الموقف حتى نهايته لدقائق، ثم تقوم بتنفيذ هذا الإجراء المتعدد الخطوات في أول محاولة لها في زمن ضئيل يبلغ 30 ثانية دون أية جهود أولية للمحاولة والخطأ. وفي «التشكيل» التقليدي للسلوك في حيوانات المختبر تُجزَى الخطوات المتتابعة للسلوك المطلوب ـ بشكل نموذجي ـ بالطعام، في حين يُعاقب على الخطوات غير الصحيحة بصدمة كهربائية. ويفترض أن يجري ترابط تتابع دون حاجة الحيوان إلى تفهم كيف تسهم أية خطوة معينة منها في النتيجة النهائية. على أن حيواناتنا لا تواجه هذا الموقف في الحياة البرية، وعلى ذلك فإنها لم تتعلم من قبل كيف تقوم به عن طريق التجربة والخطأ. وعلى ذلك فإن أبسط اقتراح هو أنها تتخيل الإمكانات، ثم تتصور أي الخطوات عليها أن تجريها.

 

ومن المؤكد أن اجتياز الاختبار يحتاج إلى النضج، فالطيور الصغيرة (بعد شهر أو شهرين من ظهور الريش) غير قادرة على أن تقوم بهذا السلوك المعقد. وتحتاج الطيور، البالغ عمرها عاما واحدًا، إلى ست دقائق في المتوسط لتَحُلَّ الإشكالية وتختبر خلالها بوضوح الإمكانات المختلفة (مثل الطيران نحو الطعام ومحاولة تمزيق الخيط والإمساك به أو نزعه أو ليِّه).

 

ولم تعط جائزة الطعام نظير أية خطوة واحدة في منظومة الخطوات المتتابعة لجذبه، فعلى الغراب أن يُتم كل التتابع الطويل حتى يأكل. إلا أن أحدا قد يجادل بالقول بأن كل خطوة تحصل على جائزة ذهنية ومن ثم تعزز، وذلك ببساطة لأن الطعام قد يصبح أقرب، وأن الحيوان لا يعرف بالضرورة أن كل خطوة في التتابع تجعله أقرب إلى هدفه. ولكن هذا التفسير لا يصمد أمام النقد، ذلك أنه إذا ما كانت كل خطوة تُكتسب بالتعلم بالمحاولة والخطأ لكان الأمر محتاجا إلى محاولات عديدة، ولأخذ تتابع الجذب الكامل ربما شهورا من التدريب؛ ولكن ليس ذلك هو ما حدث، فالطيور كانت تعمل كما لو كانت تعرف ما تفعله.

 

ولكن لم يكن بوسعنا أن نعرف أنها تعرف إلا إذا ما تصرفت حسب توقعات معينة. فعلى سبيل المثال، إن الغربان إذا كانت تعرف ما تقوم به فإنها عندئذ يجب أيضا أن تعرف ما الذي فعلته. فمثلا كان عليها أن تعرف أن الخيط ظل بعد أن جذبت الطعام المربوط به متصلا بالمجثم. ولبيان إذا ما كانت قد فهمت، قمنا بإبعادها عن المجثم بعد أن قامت بجذب اللحم؛ فإذا ما أسقطت قطعة اللحم؛ فهمنا أنها كانت تعرف أنها معلقة بالمجثم، أما إذا طارت بها (ثم وجدت أنها تنتزع من مناقيرها) فإنها تكون لا تعرف. إن معظمها كان يلقي باللحم ولكنها كانت دائما تطير باللحم المربوط بخيط موضوع (وليس مربوطا) على المجثم.

 

لا تحتاج المعرفة إلى محاولات أو هي تحتاج إلى قليل منها، بينما التعلم بالمحاولة والخطأ لا يحتاج إلى منطق. ولذا بحثنا عن اختبار آخر لمعرفة ما إذا كانت الطيور قد حلت تحدي جذب اللحم بحركات عشوائية حدث أن كانت مُجزية، ولكنها لم تكن مدعومة بالمنطق. ففي هذه المرة جابهنا الطيور غير الخبيرة بالخيارات البدنية ذاتها ولكن بما آملنا أن يكون بالنسبة إليها موقفا غير منطقي، وهو خيط ذو أنشوطة يجب جذبه إلى أسفل لكي يرتفع بالطعام إلى أعلى.

 

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/10-9/0014.gif

 

للحصول على طعام معلق بحبل مربوط على مجثم، على الغراب أن يتبع تتابعا معينا من الخطوات: يدلي برأسه إلى أسفل ثم يمسك بالخيط ويرفعه، ثم يضع الخيط المرفوع على المجثم، ويقف ضاغطا عليه حتى يمسك به في مكانه، ثم يترك المنقار الحبل… وتكرر العملية. بعض الغربان اليافعة قامت بدراسة الموقف لعدة دقائق ثم نفذت الخطوات جميعها من محاولتها الأولى. وهذا دليل على أنها استخدمت المنطق في ذلك.

 

وفي هذا الموقف ظلت الغربان راغبة في الطعام. لقد درست الموقف ثم أخذت تلتقط الحبل بمناقيرها وتجذبه، وبذا تجعله يصبح أحيانا أقرب قليلا، إلا أنها سرعان ما كَفَّت عن ذلك ولم يتعلم أحد منها كيفية الوصول إلى الطعام، مع أن تتابع الجذب والتثبيت والإرخاء الذي كانت تحضر به الطعام بسرعة من قبل كان من المستطاع أن يأتي به ثانية. ولذلك نحن نعتقد أن الجذب المباشر إلى أعلى قد أُتْقن سريعا، بل أحيانا على الفور تقريبا، ولم يكن ذلك إلا بسبب أنه كان مدعوما بالمنطق. ومن الواضح أن الغربان لديها القدرة على اختبار الأفعال في أذهانها وأن تتبين عوائد هذه الأفعال. وهذه الكفاءة ربما تكون غير موجودة، أو موجودة إلى حد محدود فقط، في معظم الحيوانات، ولعلةٍ تكيفية جيدة.

 

فوائد الذكاء(****)

 

 ثمة سلوكيات دقيقة رائعة يمكن برمجتها وراثيا في حيوانات لها أدمغة ليست أكبر من رأس الدبوس، وذلك عن طريق عملية تظل حتى الآن واحدا من أسرار البيولوجيا الكبيرة التي لم نهتد إلى حلها. خذ مثلا الزنبار الذي يصنع الورق بخبرة منذ أول أيام وجوده والذي يقوم بتصميم عش ذي بناء دقيق من هذا الورق، في حين يستخدم زنبار آخر الطين ليصنع عشا على صورة هاون، بشكل مختلف تماما ولكنه أيضا ذو خصوصية بالغة. وبالمثل فإن طيور كل نوع مبرمجة لبناء أعشاش محددة الأشكال سلفا بدقة، فجميع خطاطيف الأجرانbarn swallows الآكلة للحبوب تبني عشا على هيئة رف من الطين يتصلب عند جفافه، في حين تنشئ خطاطيف الأجراف cliff swallows أعشاشا من الطين تشبه الأفران أيضا، ولكن بفتحة مدخل صغيرة مستديرة.

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/10-9/0015.gif

 

عند مجابهة الغربان بأن عليها أن تسحب الخيط إلى أسفل ليأتي الطعام إلي أعلى بدا أن الغربان غير المجربة(تلك التي لم تجرب سحب الطعام المربوط بالخيط إلى الأعلى)، تعتقد أن الجذب إلى أسفل لجعل شيء يتحرك إلى أعلى هو عمل غير منطقي، و سرعان ما تتوقف (الشبكة السلكية منعت الطيور من سحب الخيط إلى أعلى).

 

وليس بين هذه السلوكيات الأكثر تعقيدا ما يُتعلَّم، كما أنه ليس بينها ما يعتمد على التفكير (مع أن التعلم والتفكير يمكن أن يعدِّلا بعض السلوك المبرمج وراثيا). إن التفكير والمنطق لهما سمعة سيئة بأنه قد لا يمكن الاعتماد عليهما، ويمكن أن يؤديا إلى كثير من الضرر كما نعلم جميعا حق العلم. والسؤال الكبير عندئذ هو: إذا كان السلوك مبرمجا سلفا بدقة هكذا، فلماذا بعض الحيوانات (نحن أنفسنا على سبيل المثال) تكون مهيأة للتخبط والخطأ؟ لماذا هي غير مفطورة، مثل معظم الحيوانات، على أن تفعل الأشياء على وجهها الصحيح، ما عدا ربما بعد تجربة الأشياء العديدة التي يمكن أن تؤدي إلى أخطاء مهلكة؟

 

إن الإجابة المعتادة هي أن هذه الحيوانات نشأت في بيئة معقدة لا يمكن التنبؤ بما سوف يقع فيها، وحيث تكون فيها الاستجابات الجاهزة غير مناسبة. فإذا كان بإمكان الحيوان تحديد أفراد، ويعيش بين آخرين يستطيعون بدورهم تعرّفه كذات مستقلة، عندئذ فإن البيئة ستصبح لكل منها معقدة حقا. وكثيرا ما يشار إلى الحياة الاجتماعية بين معظم الحيوانات التي يمكنها تمييز الأفراد بأنها القوة الدافعة لتطور الذكاء. وفي هذا السياق فإن القدرة على توقع استجابات الآخرين ـ الذين يكونون الملمح الرئيسي المهم للبيئة ـ تصبح قيمة للغاية؛ الأمر الذي قادنا إلى أن نأخذ في الاعتبار البيئة الاجتماعية للغربان لمحاولة فهم لماذا هي ـ أكثر من العديد من الحيوانات الأخرى ـ استفادت من كونها ذكية.

 

البيئة الطبيعية للغراب(*****)

 

إن معظم التاريخ الطبيعي للغربان يدل على أنه كان عليها أن تتطور على نحو يجعلها قادرة على التواؤم مع ظروف قصيرة الأمد دائبة التغير. فهذه الطيور انتهازية بشكل أساسي، بمعنى أنها تقوم ببعض الصيد ولكنها متخصصة في أن تعيش على ما تقتله حيوانات أخرى. إلا أن الحيوانات المفترسة التي تمدها بالغذاء لا يمكن توقُّع أفعالها، ويمكن أيضا أن تقتلها. وقد يبدو تكوين الأفعال الشرطية من خلال المحاولة والخطأ في وقت طويل أمرا باهظ التكلفة، لأن أول خطأ يحدث يمكن أن يكلف الطيور حياتها، كما أن استجابة مبرمجة كليا لآكل لحوم لا يمكن التنبؤ بتصرفاته يمكن أن تكون خطيرة بالقدر نفسه.

 

كذلك تحتاج الطريقة التي تتنافس بها الغربان مع غربان أخرى من أجل الحصول على الطعام إلى التعامل مع ظروف دائمة التغير. وتحاول أزواج من الغربان المتأقلمة المحتلة للمنطقة أن تستأثر بمنجم الطعام، وتتخذ أعدادٌ من التجمع الكبير من صغار الغربان وأفرادها غير المتزاوجة خطة مضادة لحشد قطعان من الأزواج تفوق قوتها قوة المدافعين المتأقلمين. على أنه من الأمور ذات المغزى أن السلوك الذي يجعل هذه الحشود تجد طريقها إلى الطعام ويخفف من خطورة أعدادها، هو نفسه الذي يزيد من حدة التنافس على الموارد.

 

وفي الغالب، تستهلك اللواحم بسرعة جميع ما تفترسه. فمن المهم أن تحظى الغربان الموجودة بقرب هذه اللواحم بالقدرة على الشروع في مشاركة مبكرة في دورة الاغتذاء، بل الأفضل أن يكون ذلك مصاحبا للواحم وهي لاتزال تأكل من الفريسة. وكي تفعل ذلك تحتاج الطيور إلى أن تكون قادرة على التنبؤ بسلوك الحيوان المفترس، مثل ما إذا كان الحيوان سيقوم بالهجوم، ومتى سيكون ذلك، وإلى أي حد يمكن أن يقفز، وكيف يمكن تشتيت انتباهه. إن بعضا من هذه المعلومات ينبغي أن يكون واضحا قبل أن ينشغل الغراب بالغذاء، ذلك أن التجربة المطروحة يمكن أن تكون قاتلة.

 

وبكل تأكيد، ينبغي أن تكتسب الطيور الخبرة في أمان في وقت باكر من حياتها. إن صغار الطيور، عندما لا تكون مشغولة بالغذاء تقوم روتينيا «باختبار» ردود أفعال الحيوانات الكبيرة (مثل الذئاب واللواحم الأخرى) بالتفاعل معها؛ عادة بأن تحط بالقرب منها، ثم تقوم بنقر مؤخراتها. ومن غير المحتمل أن يكون هذا السلوك متعمدا تكتيكيا، فالأكثر احتمالا أنه لون من «اللعب» تعرِّفه المراجع العلمية المعتبرة في هذا الموضوع على أنه سلوك ليس له وظيفة مفهومة في الحال، ولكن تكون له، بصفة عامة، وظيفة غائبة آجلة، فهو سلوك غير مقصود بوعي، ولكن تثبت فائدته على أية حال.

 

  حتى الصغار تدرك أن نقر آكلات اللحوم عمل خطير (فهي تبدو خائفة عندما تقوم به)، ولهذا لا بد أن تكون مفطورة غريزيا عليه، لأن ممارسة الصغار لهذه اللعبة الخطيرة تساعد في النهاية على البقيا survival، وذلك بمنحها الخبرة في تقدير إلى أي حد تحوم حول رفاقها من آكلات اللحوم. وعن طريق هذا الاستفزاز تتعلم الصغار سريعا أي الحيوانات تثق فيها، ومقدار المسافات اللازمة للأمان. وعلى الجانب الآخر، إن وجود الغربان الدائم تقريبا حول آكلات اللحوم يعوِّد الحيوانات الأكبر على الطيور فتتعلم بالتدريج تجاهلها. ولكن تعلم كيفية التعامل مع آكلات اللحوم الخطيرة ليس إلا وسيلة تؤدي في النهاية إلى إيجاد طريق لمصدر غني بالطعام.

 

 وفي معظم الأحوال يكون الوقت الذي يبقى فيه منجم الطعام قصيرا (جثث الأيائل في غابات «مين»، على سبيل المثال، تُسْتَهلك في يوم أو يومين)، وهذا يوجب نقل الطعام بعيدا أولا ثم أكله فيما بعد. ومثل سائر الغرابيات corvids تقوم الغربان الشائعة بنقل الطعام للاستخدام فيما بعد. وعند توافر جثة موضع صراع تقوم الغربان بنقلها بحماس ـ كتلة من اللحم وراء أخرى ـ وتخفيها بدفنها وتمويهها بفتات الحصى حتى تختفي تماما عن النظر. ومثل كثير من الغرابيات الأخرى أيضا، تتذكر الغربان مواقع خبيئاتها المتعددة بالضبط، وعادة ما تستعيدها في خلال ساعات أو أيام، إلا أنها، على عكس معظم الطيور الخابئة للطعام، تراقب بعناية سلوك الإخفاء لمنافسيها وتتذكر المواقع بالضبط، ليس لمخابئها فقط، بل أيضا للمخابئ التي رأت الحيوانات الأخرى تصنعها.

 

اللعب بالطعام وإخفاؤه(******)

 

بعد إدراكنا أن اللعب مع المفترسات يساعد الغربان على كيفية تقدير المواقف ثم التصرف وفقا لذلك، فقد عزمنا على أن نختبر ما إذا كان اللعب يساعد صغار الطيور حقيقة على اكتساب القدرة على ضبط سلوكها بمرونة. إن سلوك تخبئة الطعام قدم حقلا واعدا لهذه الدراسة، كما أن مَرْبى الطيور الكبير، الذي صممناه ليحاكي الظروف الطبيعية من أشجار وكساء أرضي، يمثل إطارا مناسبا للتجارب.

 

لقد وجدنا ـ كما رأينا من قبل ـ أن الغربان يتجنب كل منها الآخر في أثناء إخفاء الطعام، فهي تفضل أن تقوم بعمل المخابئ في خصوصية، أو تستخدم الأشجار أو الصخور لسد طريق الرؤية على الآخرين. كما أن أصحاب الخبيئة يحاولون إبعاد اللصوص المحتملين. وقد اكتشفنا أن مهارات التخبئة هذه تنبع من استجابات ذاتية تحرض هؤلاء الرفاق على القيام برد الفعل، ومن ثم تسمح بتعلم الاستجابات المناسبة. وهذه العملية الاختبارية والتعلمية تبدأ بين الإخوة الصغار بعد فترة وجيزة من تركها العش والبدء باتباع آبائها وتعلُّم كيف تتعرف التنوع الكبير للأشياء الغذائية الصغيرة مثل الحشرات والفواكه.

 

تدأب الغربان الصغيرة، وهي داخل العش ولبضعة أيام خارجه، على الإمساك بجميع طرز الأشياء بمناقيرها، كقرص أذناب الذئاب، ويعد هذا السلوك لعبا حيث إنه لا يجلب فوائد قريبة إلا أنه يتطلب بذل الوقت والطاقة أو التعرض للمخاطر. وفي الحقيقة، هذه الأشياء هي «لُعب». وفي تجارب على فقسة غربان مستأنسة، قام أحدنا بدور الأب وأخذ يرشد الطيور يوميا إلى التجول هنا وهناك. وكانت الصغار تشغل أنفسها بالتقاط الأغصان الصغيرة والأوراق والزهور ومخاريط الصنوبر والحصى وأعقاب السجائر وقطع العملة وأشياء أخرى نثرناها على الأرض. وخلال أيام تجاهلت الغربان الصغيرة الأشياء غير المأكولة إلى حد كبير، وبحثت بلهفة عما يؤكل. وقد أعطاها الإمساك بالأشياء من خلال اللعب الخبرة بتعلم شؤون بيئتها. وحيث إن الغربان عادة لاتزال تُطْعَم عن طريق آبائها في هذه الفترة، فإنها تملك الوقت لممارسة سلوك يبدو عديم الجدوى في الظاهر، ولن تتضح فوائده إلا في وقت لاحق.

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/10-9/0016.gif

 

تتحرك الغربان البالغة ـ والتي تمتد المسافة بين جناحيها إلى1.25 متر وتزن نحو 1.25 كيلوغرام ـ فوق حيوان صادته الذئاب حديثا في «يلوستون ناشونال بارك». ويعتقد المؤلفان أن سلوك اللعب عند صغار الغربان يعلّمها كيف تتعامل مع لواحم أكبر كثيرا منها في الحجم، وهي التي تعتمد عليها في الكثير من طعامها.

 

وفي أثناء تعلم الطيور الصغيرة التمييز بين المأكول وغير المأكول، كانت في الوقت نفسه، تزيد وتشكل مهارات التخبئة لديها. فهي في البداية تدس، دون تمييز، بعض الأشياء التي تلفت نظرها وسط أشياء أخرى. وبعد ذلك تدفعها بعيدا جزئيا عن الأنظار في شقوق. وفي غضون شهر أو شهرين تقوم الصغار، التي مازالت لا تعتمد على أنفسها، بتغطية الأشياء التي التقطتها بالحطام. ولأن هذه الصغار عادة ما تخبئ الأشياء أمام إخوتها وآبائها التي ترحل معها بضعة شهور بعد أن تكتسي بالريش، فإن هذه الإخوة غالبا ما تستولي على هذه الأشياء المخبأة. وقد تساءلنا هل يمكن أن تساعدها لعبة تخبئة الأشياء غير المأكولة على اكتساب القدرة على توقع سلوك الآخرين، بحيث يمكنها النجاح في إخفاء عناصر طعامها القيم والدفاع عنه فيما بعد.

 

وإحدى المشكلات في اختبارات ما إذا كانت الخبرة المبكرة تؤثر في النهاية في سلوك الطيور البالغة هي أنه من الصعب مراقبة الخبرة التي قد يمتلكها طائر معين. إلا أننا لاحظنا أن الطيور أيضا راقبتنا واستخرجت خبايا الطعام التي نحن ـ آباؤها البدلاء ورفاقها ـ أخفيناها عنها. ونحن نستطيع التحكم في سلوكنا! ولعمل تجربة قمنا بتعيين أحد الأفراد لصا كان يقوم دائما بسرقة الأشياء الخبيئة التي كانت الطيور الصغيرة تخفيها فيما يبدو أنه لعب، في حين كان شخص آخر يفحص بشكل مطرد الأشياء التي تخفيها الطيور، ولكنه لم يكن يحصل قط على شيء منها. وفي موقف الاختبار زودنا الغربان التي أصبحت حينئذ أكثر نضجا بطعام وليس بأشياء غير مأكولة. وفي هذه المرة وقف الفردان ـ اللص وغير اللص ـ وراقبا سلوك الطيور دون تدخل.

 

في مواجهة اللص المحتمل، انتظرت الغربان ـ على نحو ذي دلالة ـ بعض الوقت قبل أن تخبئ طعامها (كما لو كانت تنتظر وقتا لا يكون فيه اللص ناظرا إليها). وقد استردت الخبايا التي خبأتها، عندما كان ذلك الرجل يمشي بالقرب منها. وعلى العكس، لم يكن وجود الفرد الأمين الذي لم يسبق له سرقة الأشياء المخبأة يسبب تأخيرا في تخزين الطعام، كما أن الطيور تجاهلته عندما اقترب من أحد مخابئها. وهكذا لم توضح هذه التجربة فقط أن الطيور تحسن مهاراتها في تخبئة الطعام بعد خبرتها مع الآخرين الذين يغيرون على خباياها، ولكنها أيضا تميز بين الأفراد (في هذه الحالة من البشر).

 

تمييز «العارفين»(*******)

 

تغتذي الغربان البرية في الحقول عادة في مجموعات كبيرة كما سبق أن وصفنا، وهي تقضي معظم أوقاتها مشغولة في تخبئة الطعام لاستخدامه فيما بعد. وفي هذا الوقت يكون من المستحيل تقريبا لطائر بمفرده أن يبعد كل طائر آخر يتجول قرب واحد من عشرات مخابئ تلك الغربان. على أن الغربان اليافعة تقلل إلى حد كبير من احتمال وجود منافسين يرونها وهي تصنع مخابئها أو اضطرارها لمطاردة الآخرين الذين يمكن أن يكونوا مغيرين محتملين، وذلك ببعثرة مؤنها القيمة على مساحة عدة كيلومترات مربعة، إلا أنه في حدود قفص حفظ الطيور التجريبي، فغالبا لا يتمكن أحد الأفراد من الإفلات من عيون الغربان المنافسة المراقبة. ويعطينا هذا الموقف الفرصة لأن نحدد تجريبيا ما إذا كانت الطيور قادرة على التمييز بين الغربان المنافسة اعتمادا على ما يُحْتمل أن تعرفه عن هذه الغربان، تماما كما ميزت من قبل بين بشر مختلفين.

 

وفي هذه السلسلة من الاختبارات استفدنا من معرفتنا بأن الغربان تميز بعضها من بعض (وكذلك بين آخرين من نوع آخر ـ نحن بالتحديد) كأفراد. لقد أنتجنا طيورا «عارفة» ـ تلك التي راقبت مواقع خبايا طائر معين في مقابل «غير العارفة» وهي تلك التي لم تلحظ مواقع الخبايا، ثم زاوجنا بين صانع الخبيئة وتلك الأفراد المنافسة المختلفة، فيما يشبه كثيرا ما فعلناه في تجارب إيضاح استجابات الطيور الصغيرة للصوص وغير اللصوص، إلا أن بناء التجربة في هذه الحالة استدعى تحويرا في مربى الطيور.

 

لقد خصصنا جزءا كبيرا من المربى كساحة لعمل الخبايا، وفصلنا جزءا أصغر من هذه المساحة بحائط معتم وصنعنا في الجدار نافذة صغيرة للإطلال من خلالها، ووضعنا مجثما للطائر أمامها ليحط عليه، وينظر من خلال حاجز سلكي لمراقبة الطائر الصانع للخبيئة في الجزء الرئيسي. وبجانب وحدة المشاهدة هذه جهزنا وحدة مماثلة لطائر آخر، ولكننا في هذه الحالة أسدلنا ستارا على نافذة الرؤية. وهكذا كان متاحا لكلا الطائرين الاستماع إلى الطائر الصانع للخبيئة، ولكن أحدهما فقط كان لديه نافذة للرؤية.

 

وسوف يُسمح للطائرين في الوحدتين الصغيرتين (في خلال خمس دقائق) بالانتقال إلى ساحة الخبايا من أجل البحث عن الطعام. وبهذا كان عندهما الدافع لمراقبة الطائر الخابئ. وبكل تأكيد، كان طبيعيا أن يجثم الطائر العارف لمحاولة مراقبة صانع الخبايا، في حين أن الطائر غير العارف في الحجرة ذات الستارة يحاول رفع الستارة للمراقبة (وقد وجدنا أنه يجب علينا أن نثبت الستارة بحيث لا يمكن رفعها). وبعد أن قام طائر الخبايا بصنع ثلاث خبايا أبعدناه عن الساحة الكبرى، وبعد خمس دقائق عدنا به لكي يستخرج مخزوناته المخبأة. وقد سمح له باستخراج أحدها إما منفردا وإما في وجود الطائر العارف أو الطائر غير العارف (كل من هذين اللصين المحتمليْن كان في وضع التابع الخاضع بالنسبة إلى طائر الخبايا حتى لا يُحبطا استجاباته في الدفاع عن المؤن).

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2007/10-9/146.gif

 

تَظهر القدرةُ على التمييز بين الأفراد في تجربة تشمل تخبئة الطعام. لقد أوجد المؤلفان طيورا «عارفة» (مثل ذلك الذي في أسفل المؤطر الأول) تستطيع مراقبة موقع خبيئة يصنعها طائر آخر، وطيورا «غير عارفة» لا تستطيع أن ترى موقع الخبيئة.

 

وعند وضع العارف وغير العارف في منطقة الخبيئة (المؤطر الثاني) فإن صانع الخبيئة تعرَّف الطائر العارف وعزا إليه المعرفة، وتصدى لمحاولات الاقتراب من الخبيئة، في حين أنه تجاهل غير العارف حتى عندما اقترب هذا من الطعام المخبأ. [في التجربة الواقعية وضع كل من الطائرين (العارف وغير العارف) على حدة في منطقة الخبيئة، ولم تستخدم شرائط الأرجل الملونة، فهي أضيفت في الرسم لتساعد القارئ على تمييز الطيور].

 

وتقوم الطيور الخابئة، نموذجيا، باستعادة طعامها عندما تبدو السرقة وشيكة الحدوث. وفي الحقيقة أوضحت التجارب أن الخابئات استعادت من خباياها مقدارا أكبر بقدر ذي دلالة عندما زاوجناها بالطيور العارفة عما لو زاوجناها بطيور غير عارفة أو كانت بمفردها. وإضافة إلى ذلك، إذا ما أصبح طائر عارف على بعد مترين من الغذاء المموه عمد صانع الخبيئة إلى مطاردته وإبعاده، في حين أنه كان يتجاهل الطيور غير العارفة. لقد خمنا أن الطيور الخابئة تذكر أي الطيور قد راقبتها عند عمل خبيئة معينة، ثم قامت فيما بعد بتمييزها والاحتراس منها كما لو كانت تعزو المعرفة إلى الطيور التي راقبتها. ومن الواضح أنها كانت تتوقع سلفا نوايا الطائر الذي راقبها، ومن ثم تأخذ حذرها من سلوكه المغير المتوقع. ولكن الطيور العارفة أيضا كانت تأخذ حذرها من السلوك الدفاعي للطيور الخابئة؛ فهي لم تكن تذهب مباشرة إلى الخبايا في وجودها، ولكنها كانت تنتظر حتى يصبح الطائر الخابئ بعيدا إلى حد معقول. وتؤيد نتائج هذه التجارب مقدرة الغراب على نسبة المعرفة إلى من يعرفها، وتوقُّع رد الفعل.

 

وفي شكل آخر للتجربة نفسها حاولنا اختبار احتمال أن الطيور التي بدا أنها عارفة كانت تعطي دون قصد إلماحات خفية تستطيع الطيور المدافعة قراءتها، إلا أن الطيور المدافعة كانت تعرف حقا أن الطيور العارفة قد رأتها. ولذا فقد استخدمنا شخصا، كان يقف جانبا في هدوء، كي يصنع الخبايا. وكما توقعنا من نتائج التجارب الأولى اندفعت الطيور العارفة إلى سرقة الخبايا التي من صنع الإنسان إذا كانت بصحبة عارف آخر. وعلى العكس من ذلك، إذا ما كانت بصحبة منافس مسيطر غير عارف (ويمكنه أن يهاجم المغير للحصول على الخبيئة) فإنها كانت تؤخر، عشر مرات في المتوسط، مدة الانتظار قبل أن تقترب من الخبيئة، مترقبة حين يكون الغراب المسيطر مشغولا على مبعدة. وهذه النتائج لا تستبعد تماما احتمال أن الطيور العارفة كانت تعطي بعض الإلماحات الخفية غير المعروفة والتي كانت الطيور المغيرة تستخدمها، ولكن إعطاء هذه الإلماحات أمر غير محتمل. وتشير النتائج بقوة إلى أن الطيور كانت تنخرط في سلوك معقد يعتمد لدرجة مدهشة على القدرة على تفسير أو توقع أفعال الآخرين.

 

فيم تفكر الغربان ؟(********)

 

إن دراسة الحالة الذهنية للحيوانات ـ التي لا تستطيع أن تعبر عن أفكارها لنا ـ عمل تكتنفه الصعاب. والواقع نحن لا نعرف، وربما لن نستطيع أبدا أن نعرف، ماذا يجري في ذهن حيوان آخر أو حتى أفراد آخرين من نوعنا نفسه. إلا أن لجوءنا إلى شفْرَة أوكام(4) Occam’s razor وقبول أبسط تفسير ـ كما هو من تقاليد العلم ـ يمكننا أن نستنتج أن تجاربنا تمدنا بتأكيد ثابت بأن الغربان تستخدم نوعا من التمثيل العقلي(5)  لتحكم مسار أفعالها. إن نتائج تجارب جذب الحبل تدل على استخدام المنطق، كما أن خطط السرقة وتلك المضادة لها تدل على أن الغربان تحكم على منافسيها على أساس تذكر ما كانت ملتفتة إليه، وهي عندئذ تعزو إلى منافسيها القدرة على أن تعرف، ثم هي تدمج هذه المعرفة مع مرتبة السيادة في قرارات استراتيجية لصنع الخبايا واستعادتها.

 

إن التعلم يحدث ولكنه لا يفسر وحده كل السلوك الملاحظ، ذلك أن السلوك يحدث بسرعة جدا، في الحال تقريبا، بدون أية محاولات وأخطاء. ونحن نظن أن الطيور تبدأ من سلوك ذي إطار ذاتي مبرمج سلفا في سلوك يشبه اللعب، وهذا يولد الخبرة اللازمة للتعلم. وقد يترجم التعلم فيما بعد إلى إدراك واع، بمعنى القدرة على استخدام المنطق، بحيث يكون نافعا في السياق غير المتوقع إلى حد بعيد في وسط اجتماعي فيه منافسون ومفترسون، وبحيث يمكن أن يُنقل إلى أي سياق آخر جديد، من جذب الطعام المثبت بخيط إلى أعلى.

 

ونحن لا ندري مدى غرابة هذا النوع من المقدرة عند الغربان في الكائنات غير البشرية. ولكننا نظن، رغم احتمال كونه غير نادر، أنه محصور بصفة عامة في أنواع معينة من الأعمال، لأن الغرائز وميول التعلم المتعلقة بالموضوع، والمعدلة وفقا لبيئة الحيوان، تتباين تباينا واسعا. على أن الأمر قد يكون أكثر عمومية لدى الغربان عما هو في معظم الحالات الأخرى. ونحن نفكر على هذا النحو لأنه لا يوجد طائر آخر نعرفه مولع باللعب مثل الغراب، ومن ثم فهو معرّض إلى هذا التنوع من الاحتمالات. وقد تكون هذه الميول هي التي سمحت له بأن يصبح أكثر الطيور انتشارا طبيعيا في العالم، حيث إنه يقطن القارات نفسها التي يعيش فيها البشر، وهو متوائم مع العدد الكبير نفسه من البيئات المتنوعة.

 

المؤلفان

Bernd Heinrich – Thomas Bugnyar

 

 يشتركان في إعجابهما بالقدرات الذهنية للغربان، وقد درسا هذه الطيور معا عندما كان <بگنيار> باحثا مشاركا في جامعة کيرمونت، حيث كان <هاينريش> أستاذا للبيولوجيا منذ عام 1980. وقد حصل <هاينريش> على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، وأمضى عشر سنوات في قسم علم الحشرات بالكلية الجامعية في بيركلي قبل انتقاله إلى کيرمونت. وهو مؤلف لعدد من الكتب المشهورة، منها Ravens in Winter (الغربان في الشتاء)، الناشر Simon and Schuster, 1981، و Mind of the Raven (عقل الغراب)، الناشر: Harper and Collins, 1999، الذي يعاد نشره هذا الصيف (2007). وهذه المقالة هي السابعة في Scientific American. أما <بگنيار> فقد حصل على الدكتوراه من جامعة کيينا عن دراسة أجراها على الغربان في محطة كنراد لورنتز البحثية في النمسا. وهو الآن محاضر في كلية علم النفس في جامعة سانت آندروز باسكتلندا.

 

 

 مراجع للاستزادة 

 

Ravens, Corvus corax , Differntiate between Knowlegeable and Ignorant Competitors. Thomas Bugnyar and Bernd Heinrich in Proceedings if the Royal Society London , Series B, Vol 277, No 1573 Pages 1641 – 1646 August 22-2005 .

 

Testing Problem Solving in Ravens : String Pulling to Reach Food . Bernd Heinrich and Thomas Bugnyar in Ethology Vol . 111 No 10 pages 962-976 October 2005.

 

Pilfering Revens . Corus corax , Adjust Their Bahavour to social and Identity of Competitors . Thomas Bugnyar and Bernd Heinrich in Animal Cognition , Vol 9 , 4 pages 369 – 376 ; October 2006 .

 

(*)JUST HOW SMART ARE RAVENS?               

(**)Overview/ Raven Intelligence

(***)Proof of Problem Solving                                          

(****)The Benefits of Intelligence

(*****)The Natural Environment of the Raven

(******)Playing with and Hiding Food

(*******)Discriminatin”Knowers”

(********)What Are Ravens Thinking ?

 

 

(1)يسمى في بلادنا “الغراب الأسحم” أو “الغراب النوحي”.

(2)يركب علماء الطيور حلقات معدنية مرقمة في أرجل الطيور، لدراسة سلوكها و متابعة تحركتها.    (التحرير)

(3)rote learning 

(4) المبدأ المنسوب إلى الفيلسوف William Occam (المتوفى نحو عام 1349) والذي يقضي بأن الأمور ينبغي ألا تُعقد بغير ضرورة.

(5)mental representation                                                 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى