أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحة

(وسائل جديدة لمكافحة التدرن (السل


وسائل جديدة لمكافحة التدرن (السل)(*)

يتسع نطاق جائحة التدرن في أمكنة عديدة، وتظهر ذرارٍ(1) مقاومة

لجميع الأدوية الموجودة حاليا. وتطوير أدوية لمكافحة هذه الذراري،

يطبق علماء البيولوجيا مجموعة من الاستراتيجيات الحديثة.

<E.C.باريIII >ـ <S.M.تشيونگ>

 

 

مفاهيم أساسية

   يعتبر التدرن المسبب الثاني للوفيات الناجمة عن الأخماج في العالم بعد فيروس نقص (عوز) المناعة البشري المكتسب HIV، ويزداد انتشار جائحته في العديد من الدول.

   التدرن مرض بكتيري. تستجيب معظم حالاته للمعالجة، إلا أنه لوحظ زيادة ظهور الذراري المقاومة لأدوية الصفين الأول والثاني المستخدمة في معالجة هذا المرض.

   أخفقت جميع الأساليب التقليدية التي حاولت إنتاج أدوية جديدة أو لقاحات ضد المرض.

   مكنت الوسائل الحديثة الباحثين من دراسة البكتيرات المسببة للتدرن بتفاصيل معمقة، مما وفر رؤية غير مسبوقة للتآثر بين العامل الممرض والمضيف. وأظهرت النتائج أهدافا جديدة وواعدة لتوجيه المعالجة الدوائية.

محرّرو ساينتفيك أمريكان

 

تميزت المراحل الزمنية للتاريخ بأمراض صاغت الجو الاجتماعي للعصور المتلاحقة، وحددت توجه العلوم والطب، واختطفت حياة العديد من العقول النيرة قبل أوانها. نذكر من هذه الأمراض: الطاعون الدبلي، الجدري، شلل الأطفال، فيروس نقص (عوز) المناعة البشري المكتسب HIV. ولكن يبدو أن مرضا واحدا فقط استطاع أن يتفشى باطراد في المجتمعات البشرية لمدة أطول من غيره، ألا وهو التدرن. بينت دراسة الأحفورات أن التدرن لازم الإنسان منذ أكثر من نصف مليون سنة. ولا يستثني المرض أحدا، فهو يصيب الأغنياء والفقراء، الشبان والكهول، المخاطرين والمتقشفين. ويمكن للشخص المخموج(2) أن ينشر البكتيرات(3)  المسببة للمرض بسهولة عن طريق السعال أو البصاق، وحتى عن  طريق الكلام.

 

حاليا، يصنف التدرن في المرتبة الثانية بعد الفيروس HIV، كخمجٍ مسببٍ للوفاة في العالم؛ إذ إنه يقضي على نحو مليوني شخص سنويا، حتى بوجود الأدوية التي تستطيع شفاء أغلب حالات الداء. وتكمن المشكلة في عدم قدرة العديد من الأشخاص على الحصول على الدواء. وحتى أولئك الذين يتناولون الأدوية، غالبا ما يفشلون في متابعة نظام المعالجة الطويل نسبيا.

 

إضافة إلى ذلك، فإن التدرن يتطور بسرعة أكبر من تطور نظمنا العلاجية، حيث لاحظ المراقبون في السنوات الأخيرة ارتفاعا مقلقا في عدد الحالات المُعَنِّدة على أكثر من دواء من الأدوية المستخدمة كخط العلاج الأول للمرض. وما يزيد من خطورة الأمر ما لاحظناه من بدء ظهور ذرارٍ تستطيع مقاومة أي مضاد (صاد) حيوي جديد مرشح لمكافحة المرض.

 

يُعْتَبَر المرض مدمرا للمجتمعات النامية بشكلٍ خاص، حيث تحدث 90 % من الحالات المرضية و98 % من الوفيات. إضافة إلى ما يحمله هذا المرض من مآسٍ ومعاناةٍ لهذه المجتمعات، فإنه يؤذي الاقتصاد برمته. تظهر 75 %  من الحالات عند الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 45  سنة، وبذلك فإن التدرن سوف يسرق من البلدان الأكثر فقرا في العالم ما مقداره تريليون إلى ثلاثة تريليونات دولار أمريكي خلال السنوات العشر القادمة. إضافةً إلى ذلك، فإن هذا الداء يجبر هذه الأمم المكافحة على تحويل مورادها الثمينة من المشاريع المهمة باتجاه الإنفاق على العناية الصحية. وفي الوقت عينه، يخطئ المجتمع المتقدم إذا اعتبر نفسه في منأى عن أضرار هذا المرض. فعلى الرغم من أن وقوع المرض في هذه المجتمعات يعتبر منخفضا نسبيا، فإن هذا الوضع يمكن أن يتغير في حال ظهور ذرارٍ عالية المقاومة.

 

على الرغم من كآبة الوضع، فما يزال لدينا سبب يجعلنا متفائلين، حيث إن التقنيات الحديثة للبيولوجيا الجزيئية(cutting-edge(4  قد مكنت الباحثين من دراسة التآثرات المعقدة بين البكتيرات المسببة للتدرن وبين البدن وبتفاصيل غير مسبوقة، مما أدى إلى خلق نوع من التبصرات التي تنبئ بتطوير اختبارات تشخيصية وأدوية علاجية جديدة.

 

نجاح قصير الأمد(**)

 

تم اكتشاف المتفطرة السلية(5) Mtb المسببة للتدرن من قبل الطبيب الألماني <روبرت كوخ> عام 1882، ووصفت بأنها بكتيرات عصوية الشكل، توجد في الشكلين الفعال والكامن للمرض. يمنع الجهاز المناعي البكتيرات من التكاثر في مرحلة الخمج الكامن، ومن ثم يمنعها من إحداث أذيات نسيجية. لا يبدي الشخص المصاب بهذا الشكل من المرض أية أعراض ولا يكون معديا للآخرين. وقد تستمر المتفطرات السلية الكامنة لعدة أشهر أو سنوات أو حتى عقود من دون أن تتكاثر أو تسبب أمراضا للمضيف. لا يحدث الشكل الفعال من مرض التدرن عند 90 % من الأشخاص المخموجين بالمتفطرة السلية، وإنما يحدث عند10 % منهم فقط، وخاصة عند أولئك الذين يملكون جهازا مناعيا مُضعفا، مثل الأطفال أو الأشخاص المصابين بالفيروس HIV أو الخاضعين لمعالجات  كيميائية.

 

تتغلب البكتيرات على الجهاز المناعي عند الأشخاص المصابين بالشكل الفعال من التدرن، وتتكاثر بسرعة وتنتشر لتقوم بمهاجمة الأعضاء. ولأن المتفطرة السلية هي بكتيرات هوائية بالمقام الأول، فإنها تفضل البيئات الغنية بالأكسجين، ومن ثم تبدي ولعا خاصا بالرئتين. وفي الحقيقة، يبدي حوالي 75% من مرضى التدرن الفعال التظاهرات الرئوية الخاصة بالمرض. ومع تكاثر البكتيرات تتم عملية تخريب النسيج الرئوي، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض عند المضيف، مثل السعال الشديد والألم الصدري ونفث الدم (خروج الدم مع السعال). لا تُعْتَبَر الأعضاء الأخرى مُحَصَّنةً ضد الإصابة. وفي الحقيقة، يمكن للشكل الفعال من التدرن أن يصيب جميع أعضاء الجسم تقريبا. فعند الأطفال، يمكن للتدرن أن يغزو العمود الدماغي النخاعي مؤديا إلى ظهور حمى شديدة وصدمة جهازية، وتسمى هذه الحالة التهاب السحايا. يموت نصف الأشخاص المصابين بالتدرن الفعال إذا تُرك المرض من دون علاج. وتنجم معظم الوفيات عن التخرب الرئوي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/046.gif
الطاعون الحديث: يقتل التدرن نحو مليوني إنسان ويخمج أكثر من ثمانية ملايين إنسان سنويا. تُبدي الصورة مريضا من مومباي في الهند تمت معالجته ضد شكل من المرض مقاوم جدا للأدوية.

 

في القرن الماضي، لم تكن المجتمعات تمتلك أية طريقة لمكافحة التدرن، سوى حجر الأشخاص المخموجين ضمن مصحات خاصة، بغية الحد من انتشار المرض. في ذلك الحين، كان التدرن «الذي كان مسمى الهزال»، منتشرا في المناطق التي تتعرض حاليا إلى نسبة منخفضة نسبيا من الإصابات، مثل أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. وقد بدأ تغلب العلماء على المرض في عام1921، عندما قام العالمان المناعيان الفرنسيان اللذان يعملان في معهد باستور في باريس، وهما <A.كالميت> و<C.گيران>، بوضع لقاح التدرن لأول مرة قيد التطبيق العام. وفي بادئ الأمر، ساد الاعتقاد أن هذا اللقاح يقي من الإصابة بالشكلين الكهلي والطفلي من المرض، إلا أنه تبين لاحقا بعد إجراء سلسلة كبيرة من الاختبارات أن هذا اللقاح الذي يعرف باسم BCG، يؤمن حدوث وقاية مستمرة فقط من الأشكال الطفلية الشديدة للمرض.

 

وبعد 22 سنة من ذلك، قام الفريق الذي يقوده عالم البيولوجيا الجزيئية الأمريكي <S.واكسمان> بتطوير الستربتومايسين(6)، الذي اعتبر ـ على الرغم من إحداثه بعض الأعراض الجانبية ـ العلاج الفعّال الأول ضد التدرن. وقد فتحت اكتشافات <واكسمان>، في خمسينات القرن الماضي، البابَ أمام ابتكارات متتالية وسريعة لمضاداتٍ حيوية عوضت الجوانب الضعيفة للستربتومايسين.

 

وقد أدى تضافر هذه التطورات العلاجية إلى إنهاء عهد المصحات، كما خفضت بشكل كبير نسبةَ وقوع التدرن في البلدان التي تمتلك الأموال والبنى التحتية القادرة على معالجة المشكلة. وهكذا في سبعينات القرن الماضي، ساد الاعتقاد عند عديدٍ من الخبراء بأن التدرن قد تم استئصاله بشكلٍ كامل. ولكن مع زيادة حالات التنقل بين المناطق المختلفة في العالم، بدأت تظهر الانتشارات الوبائية الكبرى للمرض. وما يجعل الأمر أكثر سوءا، هو أن الأشخاص الذين سيصابون بشدة هم أولئك الأقل تحملا لأعباء المعالجة، ونقصد بذلك القاطنين في المجتمعات الأشد فقرا والذين يواجهون في الوقت نفسه قاتلا آخر مكلفا للغاية ألا وهو الفيروس HIV.

 

وفي الوقت الحالي، وبعد أكثر من نصف قرن على بدء استخدام أول دواء مضاد للتدرن، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن ثلث عدد سكان العالم مصابون بخمج المتفطرة السلية (أكثر من بليوني إنسان)، وأن حوالي 8ملايين حامل للبكتيرات وسطيا سوف يتطور لديهم النمط الفعال من التدرن، وكل شخص من هؤلاء لديه القدرة على إحداث الخمج عند 10 إلى 15 شخصا أو أكثر سنويا، مما يساعد على استمرار الجائحة.

 

وتصبح الصورة مرعبةً أكثر عند التفكير بالارتفاع المتزايد لوقوعات الإصابة بالفيروس HIV، حيث يميل الأشخاص المصابون بالتدرن الكامن مع وجود إيجابية للفيروس HIV إلى تطوير النمط الفعال من التدرن بنسبة تعادل 30 إلى50 ضعفا مقارنةً بالأشخاص سالبيي اختبار ذلك الفيروس. ويعود السبب في ذلك إلى قدرة الفيروس HIV على جعل الجهاز المناعي غير قادر على كبح جماح  التدرن بشكل مستمر. وفي الحقيقة، يعتبر التدرن المرض الرئيسي المسبب للوفاة عند الأشخاص إيجابيي الفيروس HIV، إذ إنه يحصد حياة واحد من كل ثلاثة أشخاص منهم حول العالم، وواحد من كل شخصين في منطقة جنوب الصحراء الإفريقية، حيث يصعب الحصول على العناية الصحية اللازمة. وحتى إن خضع الشخص إيجابي الفيروس HIV  للمعالجة بالأدوية المضادة للتدرن، فإن حالته الصحية تميل للتدهور بسبب التآثرات الخطيرة بين الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية(7) وأدوية الصف الأول المضادة للتدرن، مما يجبر المريض غالبا على إيقاف المعالجة المضادة للفيروس القهري حتى تتم السيطرة على التدرن.

 

 

الإنسان في مواجهة البكتيرات

لازم التدرن الجنس البشري آلاف السنين. وفيما يلي بعض الأحداث المفتاحية خلال هذه المعركة الطويلة الأمد بين الإنسان والعامل الممرض.

قبل 50000  سنة 1882
بدأ التدرن في ذلك الوقت بخمج أسلاف الإنسان. حدد <روبرت كوخ> سبب التدرن وهو المتفطرة السلية.
http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/045.gif
1908 1921
طور <ألبيرت كالميت> و<كاميل گيران> اللقاحBCG  ضد التدرن،  والذي تبين في وقتٍ لاحق أنه يحدث وقاية دائمة ضد الأشكال الطفلية الشديدة فقط من المرض. دخل اللقاح BCGالاستخدام العام.
1943 ستينات القرن العشرين
اكتشف فريق يقوده <سيلمان واكسمان> أول مضاد فعال ضد التدرن وهو الستريبتومايسين.
http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/044.gif
تم تطوير نظام لمعالجة التدرن لا يزال مستخدما حاليا، ويقوم على استعمال أربعة أدوية مختلفة لمدة ستة أو تسعة أشهر.

 

 

 

سبعينات القرن العشرين 1981
ساد الاعتقاد بأنه تم استئصال التدرن بشكلٍ شبه تام. اكتشف العلماء الفيروسHIV، الذي زاد من تعرض البشر للإصابة بالتدرن.
http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/043.gif
1998 2005
تمت معرفة متواليات جينوم المتفطرة السلية. حصل اختبار تشخيصي مطوَّر على موافقة منظمة الدواء والأغذية في الولايات المتحدة الأمريكية.
2006
حدثت فاشية من التدرن المعند على جميع أصناف الأدوية في كوازولو-ناتال، في جنوب إفريقيا.

 

التحدي الأخير(***)

 

لعل المظهر الأكثر إزعاجا في الجائحة الحالية للمرض هو المشكلة المتفاقمة المتمثلة في ظهور ذرارٍ بكتيرية مقاومة للمضادات. ولفهم كيفية نشوء هذه الحالة يجب أن نتعرف كيفية معالجة التدرن. فخطة المعالجة الحالية للتدرن، التي طُوِّرت في ستينات القرن الماضي، تعتمد على اتباع نظامٍ دوائي يتضمن أربعة أدوية من الصف الأول، تم تطويرها في خمسينات وستينات القرن الماضي وهي: الإيزونيازيد(8) والإيثامبوتول(9) والبيرازيناميد(10)والريفامبين(11). يتناول المرضى الذين يتبعون النظام العلاجي بحذافيره ما معدله 130 جرعة من هذه الأدوية. ويُفضَّل إعطاء هذه الجرعات بوجود مراقبة مباشرة من قبل العاملين في حقل العناية الصحية. وتعد هذه المشاركة فعالة جدا ضد التدرن ذي الحساسية الفعالة للأدوية، إذا استطاع المريض إتمام كامل جرعات العلاج الذي يستمر لمدة ستة إلى تسعة أشهر.

 

تنشأ الذراري المقاومة للأدوية عند عدم إكمال المريض للنظام العلاجي بشكلٍ تام، سواء جراء إحساسه بالتحسن أو نتيجة انقطاع إمداده بالدواء لسببٍ ما. ويمنح عدم الاستخدام المتواصل للدواء البكتيرات الوقتَ الكافي لتتطور إلى نمط مقاوم للأدوية. وحالما تتطور ذرية مقاومة للأدوية عند شخصٍ ما، يمكن لهذا الأخير أن يقوم بنشر النسخة المقاومة من البكتيرات إلى الآخرين. (ولهذا السبب، يعتبر بعض الخبراء أن عدم معالجة الداء أفضل من تناول الدواء من دون التَمَكُّن من إتمام كامل الفترة العلاجية).

 

 

ضحايا من المشاهير(****)

حصد التدرن أرواح العديد من الشخصيات اللامعة، ونذكر منهم:

الشقيقات برونتي الثلاث

أنتون تشيخوف

فريديريك شوبان

جون كيتس

لويس الثالث عشر 

موليير

جورج أورويل

الكاردينال ريتشيليو

جان-جاك روسو

إيروين سشرودينگر

هنري ديفيد ثورو

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/042.gif
http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/041.gif
http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/040.gif

 

وحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، فإن حوالي 5 % من حالات التدرن الحديثة البالغ عددها 8  ملايين والتي تحدث سنويا يمكن لها أن تطور ذراري من المتفطرات السلية المقاومة لأكثر دوائيْن من الصف الأول مستخدميْن في معالجة التدرن، وهما الإيزونيازيد والريفامبين.

 

ويمكن معالجة أكثر هذه الإصابات التي تدعى التدرن المقاوم لعدة أدوية (MDR-TB). ولكن المعالجة في هذه الحالة تحتاج إلى فترة زمنية تصل حتى السنتين، وذلك باستخدام الصف الثاني من الأدوية المضادة للتدرن والتي تُحْدِث عادةً آثارا جانبيةً شديدة. فضلا على ذلك، فإن معالجة هذا النوع من التدرن يمكن أن تزيد تكاليفه على تكاليف المعالجة بالصف الأول من الأدويةب1400  ضعف. ولعلمنا مسبقا أن أغلب حالات التدرن المقاوم لعدة أدوية توجد في البلدان الفقيرة، فيجب أن نتوقع أن مثل هذه المعالجة المُكلفة لا يمكن أن تُعْتَبَر خيارا قابلا للتطبيق في هذه البلدان. والفشل في تشخيص التدرن المقاوم لعدة أدوية، إضافة إلى التكلفة العالية للعلاج، يعني أن 2 % فقط من هذه الحالات حول العالم تتم معالجتها بشكلٍ مناسب.

 

وأسوأ ما في الأمر أن المسوح الصحية خلال السنوات القليلة الماضية أظهرت وجود تهديد أكثر شؤما، ألا وهو ظهور التدرن المقاوم لجميع الأدوية (XDR-TB). ويقاوم هذا النمط من التدرن، الذي احتل العناوين الأولى في الأخبار خلال عام 2006 عقب الفاشية التي حدثت في كوازولو-ناتال بجنوب إفريقيا، جميع أدوية الصف الثاني العالية الفعالية المستخدمة في معالجة التدرن. ومع أن هذا النمط أقل شيوعا من سابقه، فإن تطوره وانتشاره يلوح في الأفق في المناطق التي تُستخدم فيها أدوية معالجة التدرن من الصف الثاني. وقد أكدت تقارير منظمة الصحة العالمية وجود هذا النمط حتى الشهر 6/2008في 49 بلدا، على أقل تقدير، وذلك بسبب ندرة الدول التي تمتلك مختبرات مجهزة لتشخيص التدرن XDR-TB.

 

تناقص خطوط إنتاج الأدوية(*****)

 

إن القول بأن العلماء أخطؤوا في افتراضهم أن أدوية الصف الأول المكتشفة في خمسينات القرن الماضي قد تكون كافية للقضاء على التدرن، يجانب الحقيقة إلى حد بعيد. فتمركز الغالبية من مرضى التدرن في أفقر بلدان العالم خفَّض حوافزَ شركات الأدوية العملاقة على الاستثمار الكبير في مجال البحث عن أدوية جديدة. والحكمة السائدة في التجمعات الصيدلانية الكبرى لاتزال تلك القائلة بأن تكلفة تطوير الأدوية تفوق كثيرا قدرة السوق الكلية المتوقعة على استيعابها، إذ يحتاج تطوير الدواء الواحد إلى جهود تمتد من 7 إلى 10سنوات وتكلفة تقدر ب115 مليون إلى 240 مليون دولار.

 

وبفضل البرامج الحكومية وإسهام بعض المنظمات الخيرية الخاصة، مثل مؤسسة بيل وميليندا گيتس، فإن جهودا عديدة تأخذ طريقها من أجل البدء بإنتاج مضادات ضد التدرن قادرة في الوقت نفسه على معالجة الحالات المعنّدة، وإنقاص الزمن اللازم لمعالجة حالات التدرن العادية.

 

ونتيجة لذلك، يوجد حاليا عدد قليل من المركبات الدوائية الواعدة، التي مازالت تخضع للمراحل المبكرة من التجارب السريرية. يدعى أحد هذه المركبات159SQ الذي يثبط إنشاء غلاف الخلية، وقد اجتاز حديثا بنجاح المرحلة الأولى من التجارب السريرية وهي مرحلة السلامة. ويعد المركب PA-824  دواءً مرشحا آخر، وهو عبارة عن مركب يهاجم المتفطرات السلية في مرحلة الانقسام الفعال ومرحلة النمو البطيئة، ويؤمل أن يكون قادرا على أن ينقص كثيرا الزمن اللازم لمعالجة المرض. ويجتاز هذا الدواء حاليا المرحلة الثانية من التجارب السريرية والتي تهدف إلى تحديد مدى فعاليته.

 

ومما يؤسف له أن حظ هذين الدواءين المرشحين في النجاح ضئيل: تاريخيا، إن أقل من عشرة في المئة من المضادات التي خضعت لتجارب سريرية باكرة أمكنها الحصول على التراخيص باستخدامها. وتنجم نسبة النجاح المنخفضة هذه في قسمها الأكبر عن المنطق القديم الذي اتُبع في خطة اكتشاف أدوية جديدة. قبل خمس عشرة سنة، فقد اتبعت عملية تطوير مضاد جديد القاعدة البسيطة التالية: تحديد الإنزيمات الضرورية لحياة البكتيرات التي ليس لها نظير عند الإنسان، ثم تقصي المركبات التي لها تأثير مثبط قوي لهذه الإنزيمات، واصطناع مشتقات لهذه المركبات المثبطة. ويتلو ذلك تحوير هذه المشتقات لتكتسب خصائص الأدوية، مثل القدرة على المرور من المعدة إلى المجرى الدموي. ومع ذلك، فإن شركات الأدوية العملاقة التي تعتبر رائدة في مجال تطوير الأدوية الخاصة بمعالجة مختلف الأمراض لم تحقق نجاحا ملحوظا في إنتاج مضادات جديدة اعتمادا على هذه الطريقة.

 

 

حقائق واقعية

  ثلث عدد سكان العالم مصابون بالخمج الناجم عن بكتيرات التدرن، ومن بين هؤلاء شخص من كل عشرة أشخاص يصاب بالمرض الفعال خلال مسيرة حياته.

  وسطيا، لا يتم كشف ومعالجة أربع حالات من أصل عشر حالات مثبتة من الإصابة بالتدرن.

  يعتبر التدرن مسؤولا عن وفاة شخص كل عشرين ثانية.

  يُقدَّر عدد حالات التدرن الجديدة المقاومة لأدوية الصف الأول من المعالجةب000 490  حالة سنويا، وتلك المقاومة لأدوية الصف الثانيب000 40  حالة سنويا.

 

وفيما يخص معركة مكافحة التدرن، فإن ساحتها تغص بجثامين المركبات المرشحة للمعالجة والتي أخفقت في مبتغاها. ويعتبر العديد من هذه المركبات نوعيا جدا ويمتلك قدرةً تثبيطيةً عالية ضد إنزيمات التدرن المفتاحية. وفي بعض الحالات، مع أنه أمكن لهذه المركبات تثبيط الإنزيمات المعزولة، فقد أخفقت عند اختبارها على خلايا بكتيرية كاملة. وفي حالات أخرى، أبدت المركبات تخريبا كليا للبكتيرات في أنابيب الاختبار، ولكنها فقدت هذه الميزة عند تجربتها على الحيوانات المخموجة. ويقدم التدرن المثال الأكثر وضوحا لعدم التوافق المربك بين تأثير المضادات في الوسط الحي والوسط الزجاجي. ولم يجد المراقبون في أغلب الأحيان أي تفسير أو أية فكرة عن سبب إخفاق فعالية الأدوية في الجسم الحي. ولعل النقطة الأساسية في هذه المشكلة هي أن البكتيرات تمتلك أنماطا حياتية مستقلة، يتم انتقاؤها من خلال تطور قدرتها على التكيف والتجاوب مع التهديدات الخارجية. وبشكل مشابه للطائرات الحديثة، فإن في البكتيرات جميع أشكال النظم الاحتياطية والمساندة التي تؤمن سلامتها في الحالات الإسعافية. وكما قالت شخصية <جيف گولد بلوم> في فيلم حديقة العصر الجوراسي(12)، فإن الحياة تجد طريقها دواما. وحتى يأتي الوقت الذي نستطيع فيه التأكد التام من الآليات المعقدة لتآثر التدرن مع الإنسان، فإن إيجاد أدوية ضد التدرن سوف يبقى أمرا محيرا. أما النبأ الجيد فهو أننا نلاحظ حدوث تقدم في هذا الصدد.

 

 

أساسيات خمجية

هواء رديء(******)

 

يأخذ التدرن الذي تسببه المتفطرة السلية أحد شكلين: الشكل الكامن والشكل الفعال. قد ينخمج الإنسان من استنشاق عدد قليل من المتفطرات السلية التي يطلقها في الهواء الأشخاص المصابون بالتدرن الفعال أثناء السعال أو البصاق أو الكلام. السعال هو العرض الأكثر شيوعا عند المصاب بالتدرن الفعال، لأن الداء يصيب الرئتين بكثرة، إلا أنه قد يصيب الأعضاء الأخرى أيضا (انظر الرسم البياني).

تنزع المتفطرات السلية إلى التجمع في الحويصلات الرئوية، لأنها تفضل البيئة الغنية بالأكسجين. يستطيع الجهاز المناعي عند معظم الأشخاص كبح جماح البكتيرات ومنعها من التكاثر عن طريق إرسال الخلايا الدفاعية التي تدعى البلاعم إلى مكان الخمج، حيث تشكل غلافا يحيط بالبكتيرات. ولكن البكتيرات تستطيع تحطيم هذا الغلاف في نحو 10 % من الحالات وتبدأ عندئذ بالتكاثر.

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/039%20copy.gif

تقوم البكتيرات التي تحررت من سيطرة الجهاز المناعي بتخريب النسيج الرئوي، ويستطيع بعضها التسرب إلى المجرى الدموي وإخماج الأعضاء الأخرى من الجسم كالدماغ والكليتين والعظام. تتأذى الأعضاء المصابة بالخمج إلى حد كبير وتفقد وظيفتها في نهاية الأمر، مما يؤدي إلى وفاة المريض.

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/037.gif
تفريسة تبين خمج الرئتين بالمتفطرة السلية .

 

رؤى مستقبلية من مجموعة

العلوم البيولوجية الحديثة (Omics)(13)(*******)

 

حصلت نقطة التحول المفتاحية في ثقافتنا حول التدرن في عام 1998، عندما تمت سَلْسَلة equencing الكود الدنوي(14)  (الحروف) الخاص بجينوم المتفطرة السلية، وذلك من خلال مشروع شارك فيه أحد كاتبي هذه المقالة (Barry). وقد قاد إجراء هذه السلسلة، إضافة إلى سلسلة دنا DNA  البكتيرات القريبة من المتفطرة، إلى الحصول على كنز واسع من الرؤى حول هذه البكتيرات. وقد يكون الأمر الأكثر أهميةً هو أن هذه النتائج أظهرت أننا لم نأخذ بعين الاعتبار في تجاربنا في المختبر إلا ثلث عدد الإنزيمات والتفاعلات الكيميائية المطلوبة من أجل بقاء المتفطرة السلية حية في جسم الإنسان. وقد علمنا مثلا بأن المتفطرة السلية تخصص كمية كبيرة من جينومها من أجل ترميز الپروتينات المصنِّعة والمقوِّضة للشحوم، مما يدعونا إلى الاعتقاد بأن بعض هذه الپروتينات قد تكون صالحة لتصبح هدفا للأدوية. وقد بين تحليل جينوم المتفطرة السلية أيضا، وبشكل مخالف لمعارفنا التقليدية، أن البكتيرات قادرة على الحياة بشكل مثالي في حال غياب الهواء، وهو ما تم إثباته حاليا. يتناقص استقلاب المتفطرة السلية بوجود بيئة لا هوائية، مما يجعلها أقل حساسية للمضادات المتوافرة في الوقت الحاضر. ويعد استهداف العناصر الاستقلابية التي تبقى فعالة في مثل هذه الظروف، من أهم الاستراتيجيات العلاجية الواعدة والهادفة إلى تقليل مدة العلاج.

 

ولكن ترجمة المعلومات ـ التي حصلنا عليها من دراسة جينوم المتفطرة السلية ـ إلى اكتشافات يمكن لها أن تنقذ أرواح العديد من المصابين بالتدرن، ليست عمليةً سهلةً أو واضحة المعالم. وقد استخدم الباحثون حديثا هذه البيانات من أجل تحقيق تقدم جيد في مجال الاختبارات التشخيصية للمرض. ويمكن أن يتعقد تشخيص التدرن بتأثير اللقاح الذي يُعطى لأكثر من نصف الأطفال المولودين حديثا في شتى أرجاء العالم. يحتوي اللقاح على ذرارٍ من المتفطرة السلية التي فقدت فوعتها، لكنها مازالت قادرة على تحريض الجهاز المناعي للطفل، مما يسمح له بالارتكاس ضد بكتيرات التدرن. ولكن الاختبار الأساسي الذي لايزال مُسْتخدَما حتى الآن، غير قادر على التفريق بين الاستجابات المناعية المكتسبة من المتفطرات السلية ذات الفوعة وبين تلك المكتسبة من النمط اللقاحي. ولذلك نرى أن نتائج الاختبار التي نشاهدها عند شخص مخموج تكون مشابهة تماما لنتائج الاختبار عند شخص تلقى اللقاح.

 

اكتشف العلماء في سياتل، عند سَلْسَلة sequencing جينوم المتفطرة السلية، وجودَ ضياع شدفة كبيرة من دنا البكتيرات المستخدمة في اللقاح. وبعد ذلك بفترة وجيزة، أظهرت بعض مجموعات البحث المستقلة في كل من معهد باستور وكلية طب ألبرت آينشتاين وجامعة واشنطن، أن الجينات الضائعة في الذرية اللقاحية تُعد أساسيةً للحصول على فوعة جيدة. ولذلك فإن النواحي المحذوفة في الذرية اللقاحية قدمت للباحثين استراتيجية جيدة لتحسين نوعية الاختبار. فكر الباحثون بأن وجود اختبار يهتم فقط بكشف الاستجابة المناعية الموجهة مباشرةً تجاه عوامل الفوعة المفقودة في الذرية اللقاحية، يجب أن يكون قادرا على التفريق بين الأشخاص المخموجين وأولئك المُلَقَّحين سابقا. وفي الحقيقة، تم تطوير وتجريب مثل هذا الاختبار وحصل على موافقة منظمة الدواء والغذاء في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2005، إضافةً إلى أن العديد من الدراسات الحديثة برهنت على دقته. ولسوء الحظ مازالت تكلفة هذا الاختبار عاليةً جدا، الأمر الذي حصر استخدامه في دول العالم المتطورة فقط.

 

 

البلدان المصابة

المقاومة عبر العالم(********)

يوجد التدرن عمليا في جميع دول العالم، إلا أنه أكثر انتشارا في الدول النامية. وقد ازدادت وقوعات التدرن الناجم عن ذراري المتفطرة السلية المقاومة لاثنين أو أكثر من أدوية الصف الأول المستخدمة في المعالجة ـ وهو ما يدعى التدرن المقاوم لعدة أدوية MDR, TB ـ ونجم ذلك عن الاستخدام الخاطئ للمضادات. وأسوأ من ذلك أيضا التدرن المقاوم لجميع الأدوية XDR, TB ـ وهو شكل من الداء معند جدا على المعالجة تم تعرفه عام 2006. وفي الشهر 6/2008 تأكد وجود هذا الشكل من التدرن في49  دولة على الأقل.

 

إن جينوم المتفطرة السلية ليس المصدر الوحيد للمعلومات القادرة على تزويدنا بتصورات مستقبلية حول احتمالات تعطيل المتفطرة السلية. فحاليا، يستطيع العلماء دراسة جميع أنماط المكونات الخلوية والعمليات ضمن الخلية ابتداءً من تحديد جميع پروتينات الخلية (وهو ما يعرف باسم علم الپروتيناتproteomics، مرورا بمعرفة كمية الرنا المرسال(15) (القوالب templates التي تصنع منها الپروتينات) الناشئ عن كل جينة (علم النسخ transcriptomics)، وصولا إلى نواتج الاستقلاب الخلوي المتوسطة والنهائية (علم الاستقلاب). ولا تزال هذه الحقول من الدراسات في مرحلة البداية. ومع ذلك فقد بدأت بإعطاء بعض الثمار المبشرة. وقد شارك Barry في الشهر 11/2008 في كتابة ورقة علمية في مجلة Science (العلم) ذكر فيها أن مستنسخات البكتيرات ترتكس، عند معالجة التدرن بالدواء PA-824، بشكل مشابه تماما لارتكاسها عند تسميمها باستخدام سيانيد البوتاسيوم. ويُعتبر هذا الكشف دليلا حيويا على أن المتفطرة السلية تعمل عند استقلاب الدواء على تحرير حمض النيتريك الذي يعد جزيء دفاع طبيعيا يتم اصطناعه من الخلايا المناعية للجسم البشري. وبتسلحنا بهذه المعرفة، نعمل نحن وغيرنا حاليا على اصطناع مركبات تستطيع الحث على تحرير كميات من حمض النيتريك أكبر من تلك التي يحررها الدواء PA-824، ومن ثم يمكن أن تكون هذه المركبات أكثر فعاليةً ضد المتفطرة السلية.

 

وإتماما لهذه المقاربات، يحاول علم الجينات البنيوي الكشفَ عن البنية الثلاثية الأبعاد لكل پروتين من پروتينات المتفطرة السلية، الأمر الذي يساعد على الكشف عن وظيفة الكثير من هذه الپروتينات التي لا تزال غامضة، ويساعد على تصميم واصطناع الأدوية التي تستطيع التوجه نحو مواقع محددة في الپروتينات الحرجة critical proteins. ولشدة ما يعتبر هذا النهج من الأبحاث واعدا، فقد تم تأليف اتحاد عام يضم أعضاء من 17 دولة هدفه تركيز الجهود كاملةً على موضوع علم الجينات البنيوي للمتفطرة السلية. وقد أسهم هذا الاتحاد حتى الآن بتحديد بنية 10 % تقريبا من پروتينات هذه البكتيرات.

 

 

الطريق الي الامام

نظم علاجية واعدة(*********)

تم تطوير الصف الأول من الأدوية المستخدمة حاليا في المعالجة في خمسينات وستينات القرن العشرين. تتضمن الخطة العلاجية تناول تلك الأدوية مدة تتراوح بين 6 و 9 أشهر. لا يلتزم بعض المرضى بتطبيق هذه الخطة بدقة، مما يقود إلى ظهور أشكال معندة من التدرن. إن تطوير أدوية رخيصة الثمن وسهلة الاستعمال وتهاجم المتفطرة السلية بطرق جديدة أمر مهم للغاية.

اليوم

أدي البحث عب أدوية جديدة لعلاج التدرن بالطريقة التقليدية التي تعتمد علي التجربة والخطأ الي تعرف بعض المركبات التي تخضع حاليا للتجارب السريرية للتأكد من صلاحيتها.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2009/9-10/scan0021.gif

المستقبل

بدأ العلماء حديثا بمحاولة فهم المتفطرة السلية Mtb بتفاصيل أكثر عمقا، وذلك بدراسة جينومها وبقية مكوناتها الخلوية. وقاد هذا العمل إلى ظهور تبصرات حديثة حول كيفية تثبيت البكتيرات للخمج عند الإنسان وما هي قابليتها للعطب. ويجب أن يكون بوسع الباحثين التوصل إلى تثبيط اصطناع الجزيء ATP  بصورة أكثر فعالية مما تستطيع أن تؤمنه الأدوية التي هي في طور التطوير حاليا. إضافة إلى ذلك، يحتمل أن يجدوا مركبات تستطيع حث البكتيرات على تحرير حمض النيتريك، الذي يكبح قدرة الخلايا على التنفس، بكمية أكبر مما تفعله الأدوية المستخدمة حاليا. ويعد احصار اصطناع النياسين، الناقل الأساسي للطاقة في الخلية، أسلوبا آخر قد تكون له ميزات مهمة.

المستقبل البعيد

يبغي الباحثون في نهاية المطاف إنشاءَ نموذج للمتفطرة السلية «في السيليكو» in silico، وهو نموذج حاسوبي يتصرف بشكل مماثل تماما لنظيره الحقيقي. ويمكِّن مثل هذا النموذج الباحثين من التنبؤ باستجابات الكائن الحي لعدة مركبات بشكل أكثر دقة بكثير مقارنةً مع ما تؤمنه الأساليب المتوفرة حاليا.

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/9-10/034.gif

 

ولعل علم الجينات الكيميائي (الجينومية الكيميائية)(16) هو أحد العلوم الأخرى التي تستحق التنويه، وهو حقل من العلوم تم تأسيسه حديثا يعاكس بشكلٍ تام الطريقة المعتادة المتبعة في اكتشاف الأدوية. فعوضا عن الانطلاق من پروتين ذي وظيفة معروفة والبحث عن مركب يثبط فعاليته، يباشر الباحثون باستخدام مركبٍ معروفٍ بأنه يمتلك ميزةً مرغوبةً، مثل قابليته لتثبيط تكاثر المتفطرة السلية في المزارع الخلوية، ثم يقومون بالعمل بشكل مقلوب «عكسي» من أجل تحديد الإنزيم البكتيري الذي يتم تخريبه باستخدام هذه المواد. ويمكن أن تكون هذه المركبات من أي صنف، انطلاقا من الجزيئات المصنعة في المختبرات الكيميائية وصولا إلى المنتجات المعزولة من النباتات أو الأحياء المجهرية أو حتى الحيوانات. وتفيد المواد الكيميائية التي يتم البدء بدراستها في هذه الحالة في معرفة الإنزيمات الحساسة أو العمليات البيولوجية، التي يمكن للعلماء عند اكتشافها تحديد ما يصلح منها لأن يكون هدفا لتطوير بعض الأدوية.

 

ومما يجعل هذه المقاربة مغريةً هو أنها تسمح لنا بتسخير قوى الاصطفاء (أو الانتخاب) الطبيعي في سعينا إلى مكافحة المتفطرات السلية. وقبل أن تجد المتفطرة السلية وغيرها من المتفطرات أن الإنسان هو المضيف المرغوب لبقائها، فإنها قامت أولا باحتلال أمكنة بيئية ملائمة، حيث قامت بالتنافس مع أعداد كبيرة جدا من البكتيرات الأخرى للحصول على الغذاء من خلال سباق مستمر من أجل البقاء. ولذلك فإن النظم البيئية ecosystems للبكتيرات خضعت لجولات متعددة من حالات الاصطفاء الطبيعي، وفي أكثر الحالات قامت بكتيرات أخرى بتطوير طرق لكبح جماح المتفطرات. ومما يدل على ذلك التنوع الكبير للأنماط البكتيرية في هذه النظم البيئية. وإذا استطاع الباحثون الاستفادة من هذا المخزن المذهل للأسلحة التي تستخدمها هذه البكتيرات المنافسة ـ وذلك بتطبيق أدوات العلوم البيولوجية الحديثة omics، بغية تحديد الجزيئات الدفاعية وفحصها من أجل معرفة تأثيراتها الكامنة ضد التدرن والتحديد الدقيق للجزيئات التي تستهدفها ضمن المتفطرة السلية ـ فقد يكون باستطاعتنا مستقبلا الكشف عن أصناف دوائية جديدة كليا. ويمكننا عند ذلك انتقاء العوامل التي تستطيع القضاء على النظام الكامل للعامل الممرض، وهو ما يعاكس القضاء على عملية واحدة فقط، إذ إن المتفطرات السلية تستطيع الالتفاف حولها والاستمرار في الحياة.

نموذج بكتيري(**********)

 

حتى نستطيع جني فائدة تامة من ثورة العلوم البيولوجية الحديثة Omics، فإننا نحتاج إلى أدوات تقنية معلوماتية قادرة على جعل كمية البيانات الكبيرة المستقاة من تجارب هذه العلوم ذات مغزى. وفي الحقيقة، فإن تطور مثل هذه الأدوات قد أصبح فرعا من العلوم في حد ذاته، وهو الفرع الذي يسمى حاليا علم المعلوماتية الحيوية bioinformatics. وبفضل مثل هذه الأدوات، يأمل الباحثون إيضاح وحل عقبة أخرى تواجه تطوير الأدوية وتتمثل فيما يُدعى الخصائص الطارئة emergent، أي سلوك الأجهزة الحيوية التي لا يمكن التكهن بها استنادا إلى الخصائص الكيميائية الحيوية الأساسية لمكوناتها.

 

ولنَسْتَعِر مثالا من علم الأعصاب، حيث يُعتقد بأن الوعي هو عبارة عن خاصية طارئة في الكيمياء الحيوية للدماغ. في حالة المتفطرة السلية في المختبر، فإن إحدى الخاصيات الطارئة هي ميل البكتيرات إلى تشكيل ما يسمى الحبال cords، وهي صفوف أفعوانية تمتلك مظهرا شبيها بالحبلropelike. وتنشأ هذه الحبال عن تآثرات معقدة ضمن الجزيئات الموجودة على سطح البكتيرات، ويعد تطورها غير متوقع استنادا إلى خصائص الجزيئات المشاركة في العملية. وبشكل مشابه لهذه العملية، فإن مثل هذه التآثرات بين هذه الجزيئات السطحية وخلايا النظام المناعي في المضيف البشري تؤدي إلى حدوث الأورام الحبيبية granuloma، وهي عبارة عن تكتلات ضخمة تتكون من خلايا المضيف والبكتيرات يصعب جدا على الدواء اختراقها. وتعد الأورام الحبيبية أيضا من الخصائص الطارئة الناتجة من التآثرات بين المتفطرة السلية وبين مضيفها.

 

ونأمل بمساعدة علم المعلوماتية الحيوية التأكد من كيفية تفاعل جينات المتفطرات السلية البالغ عددها 4000 جينة والپروتينات التابعة لها، ونواتج استقلاب البكتيرات عند معالجة المتفطرة السلية بدواء جديد في المختبر. وأكثر من ذلك، فقد بدأنا معا منذ عشر سنوات بتجميع معلومات حول كيفية عمل البكتيرات بشكلٍ دقيق داخل جسم المصابين بالتدرن مقارنة بكيفية عملها في المختبر. وهدفنا النهائي هو تنسخ المتفطرات السلية في السيليكو in silico، ونعني بذلك إنتاج بكتيرات زائفة بواسطة الحاسوب تتصرف كما تفعل البكتيرات الحقيقية داخل الجسم الحي. إن تحقيق مثل هذا الإنجاز أمر بالغ الأهمية، لأنه يُمكّن الباحثين من أن يتنبؤوا وبشكل دقيق أيا من المكونات البكتيرية يشكل أفضل الأهداف الدوائية، وأي دواء من الأدوية المرشحة قادر على ضرب هذه الأهداف بشكلٍ أكثر فعالية.

 

ولتحقيق هذا الهدف، سيحتاج العلماء إلى تقفي بالتفصيل جميع السُبُلpathways  الكيميائية الحيوية للمتعضية (سلسلة من التفاعلات) وتحديد أكبر عدد من الخصائص المنبثقة الناجمة عن تفعيل هذه السلسلة من التفاعلات. إن مهمتنا هذه شاقة، حيث ما زلنا نجهل ما هي الوظيفة الأولى التي يمكن أن يقوم بها حوالي ثلث عدد پروتينات المتفطرات السلية، بغض النظر عن ماهية مساربها المرافقة أو نِتاجِها من الخصائص الطارئة. ولكن اعتمادا على معدل التقدم الحالي، فنحن على ثقة بأننا سوف نرى خلال السنوات العشرين القادمة بكتيرات كاملة في السيليكو تستطيع التصرف بشكل مماثل تماما لنظيرتها التي تنمو في أنبوب الاختبار في المختبرات، وربما حتى مثل تلك التي تنمو في جسم الإنسان الحي.

 

لا شك في أن الوقاية من حدوث الخمج السلي يُعدُّ أهم وأفضل من معالجة الأشخاص عقب إصابتهم بالداء. ولبلوغ هذه الغاية، تنصب الجهود حاليا على إنتاج لقاح يقدم وقاية أفضل من تلك التي يقدمها اللقاح BCG ضد المرض. ويحاول بعض الباحثين تحسين اللقاح الموجود حاليا، في حين يجاهد بعضهم الآخر من أجل صنع لقاح جديد كليا. لكن حتى وقتنا الحالي، مازال العمل خاضعا للتجربة ومعرضا للفشل؛ إذ إننا لم نتمكن حتى الآن من فهم سبب عدم فعالية اللقاح الحالي، كما أننا لا نستطيع التنبؤ بفعالية اللقاحات الجديدة المرشحة من دون تجربتها على البشر.

 

في الأمراض الأخرى التي تتوفر لها اللقاحات، فإن الشفاء بعد التعرض لخمج بدئي يقي من الإصابة بالخمج مرة أخرى في المستقبل. أما في حالة الإصابة بالتدرن، فإن الخمج البدئي لا يؤدي إلى تشكل مناعة مستقبلية. كما أن اللقاح الذي يعتمد ببساطة على ذرية موهنة من العصيات السلية لن يسبب الوقاية أيضا. وبينما يمكن أن يتسارع تطوير الأدوية إلى حد كبير بعد تطوير البكتيرات في السيليكو، فإن نجاح تطوير لقاح معزز يحتاج إلى نموذجيْن في السيليكو لكل من البكتيرات والإنسان. ومثل هذا الترتيب سيسمح لنا أن نتحرى بشكل منهجي التأثيرات التي يسببها تعديل البكتيرات في جسم الإنسان.

 

 

في الميدان(***********)

إن اكتشاف أدوية جديدة أمر بالغ الأهمية لمكافحة التدرن، إلا أن المسؤولين عن الصحة العامة

لا يستطيعون الانتظار حتى صدور الموافقة على استخدامها. وفي الوقت الحاضر، تعمل البرامج، مثل برنامج الصحة العالمية المسمى «المشاركة في إيقاف التدرن»، على كبح جائحة التدرن عن طريق ضبط جودة الاختبارات التشخيصية وتعزيز مراقبة المرضى ودعمهم وتأمين إمدادهم بالأدوية وتثقيف الجمهور بأساليب العناية بالمرضى، وغير ذلك من الوسائل. يهدف البرنامج إلى تخفيض عدد الوفيات من التدرن إلى أقل من النصف في عام 2015.

 

 

يُعرِّف <M.گلادويل> في كتابه المسمى نقطة الانعطاف The Tipping Point، هذه النقطة بأنها: «المستوى الذي تصبح عنده القوة الدافعة للتغيير غير قابلة للإيقاف.» ونحن ما نزال في حاجة إلى اختبارات تشخيصية أجود وإلى علاجات دوائية ولقاحات ضد التدرن أفضل بكثير. ولا يزال هناك الكثير من العمل الذي يحتاج إلى الإنجاز، ولكن بما أنه قد تمت ترجمة كود جينوم كلٍ من الإنسان العاقل homo sapiens والمتفطرات السلية، وبفضل القدرة الدماغية الخلاقة التي تعالج حاليا هذه المشكلة، فإن القوة الدافعة للتغيير تعتبر وبحق غير قابلة للإيقاف.              

             

 

المؤلفان

         M. S. Chaung – C. E. Barry III
<باري الثالث> رئيس قسم أبحاث التدرن في المعهد الوطني للصحة في معهد الأمراض الخمجية والأرجية (NIAID)، وقد التحق به في عام 1991. وتدرس مجموعة البحث التي يقودها أدوية التدرن والجينومية genomics، كما تقوم هذه المجموعة بتجارب سريرية في كوريا الجنوبية على المصابين بالتدرن المقاوم بشدة للأدوية.

 

 <تشيونگ> زميلة في المعهد NIAID. بعد تخرجها في جامعة ميدلبوري، تخطط للالتحاق بمدرسة طبية من أجل دراسة الصحة العامة والأمراض الخمجية.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2009/9-10/036.gif http://oloommagazine.com/Images/Articles/2009/9-10/222.gif

  مراجع للاستزادة

 

The Forgotten Plague: How the Battle against Tuberculosis Was Won- and Lost. Frank Ryan. Little, Brown, 1993.

 

The Magic Mountain. Thomas Mann. Translated by John E. Woods. Alfred A. Knopf, 1995.

 

Building a Better Tuberculosis Vaccine.  Douglas B. Young in Nature Medicine, Vol. 9, No. 5, pages 503-504; 2003.

 

Multidrug Resistant Tuberculosis in Russia. Merrill Goozner in ScientificAmerican.com; August 28, 2008. Available at www.SCiAm.com/report.fm?id=tuberculoaiain-russia

 

PA-824 Kills Nonreplicating Mycobacterium tuberculosis by Intracellular NO Release. Ramandeep Singh et al. in Science, Vol. 322, pages 1392-1395; November 28, 2008.

 

Tuberculosis information for the World Health Organization is available at www.who.int/tb/en

 

(*)NEW TACTICS AGAINST TUBERCULOSIS
(**)A Short-Lived Success
(***)The Latest Challenge

(****)FAMOUS VICTIMS
(*****)A Trickling Drug Pipeline

(******)AN ILL WIND

(*******)Insights from “Omics”

(********)WORLDWIDE RESISTANCE

(*********)PROMISING TREATMENT STRATEGIES

(**********)A Model Bacterium

(***********)IN THE TRENCHES

 

 

(1) ج: ذرية strain
(2) infected
(3) ج: بكتيرة.

(4) Cutting-edge وضع التطور في حقل ما.

(5) Mycobacterium tuberculosis

(6) streptomycin

(7) antiretroviral therapy

(8) isoniazid

(9)ethambutol

(10) pyrazinamide

(11) rifampin

(12) Jurassic Park

(13) Omics لاحقة تعبر عن حقل من حقول البيولوجيا ينتهي بها، مثل: الجينومية (علم المورثات) genomics، وعلم الپروتينات proteomics.

(14) DNA code

(15) messenger RNA

(16)chemical genomics

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى