أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أركيولوجياالعلوم الطبيعيةبيولوجيا

دم من الصخر


دم من الصخر(*)

تبيّن براهين متزايدة من عظام الدَّينوصورات أنّ المواد العضوية،

 خلافا لما ساد اعتقاده، يمكن أن تُحفظ في الأحافير لملايين السنين.

<H.M.شفايتزر>

 

 

باختصار

   تعد النظرة التقليدية لعملية التحفّر (التحول إلى أحافير) fossilization أنّ المواد العضوية تختفي على مر الزمن تاركة فقط بقايا متمعدنة mineralized غير حية.

غير أن شواهد متزايدة تشير إلى أن المواد العضوية مثل بقايا الدم والخلايا العظمية والمخالب يمكن أن يستمر وجودها تحت شروط خاصة في الأحافير لملايين السنين.

وهذه المواد القديمة يمكن أن تساعد على الإجابة عن بعض الأسئلة مثل ما هو الأسلوب الذي تكيفت فيه الدينوصورات مع الظروف البيئية المتغيرة وكيف تطورت بسرعة.

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_28.jpg
تيرانوصوروس ريكس Tyrannosaurus rex – المعروف باسم مور 555 MOR 555 أو بيگ مايك BigMike هو نسخة طبق الأصل عن الزاحف المعروض هنا، وهو أحد الدَينوصورات المتعددة التي وُجدت المادة العضوية في عظامه.

 

عند النظر من خلال الميكروسكوب (المجهر) microscope إلى شريحة رقيقة من عظم أحفوري، شككتُُ في كريات حمر صغيرة كان أحد زملائي قد لفت انتباهي إليها. فهذه البنى الصغيرة تقع في قناة وعاء دموي يلتوي عبر نسيج قاس بلون أصفر فاتح. وكل واحدة منها تحوي مركزا قاتما يشبه نواة الخلية. في الواقع، تبدو الكريات مشابهة تماما لخلايا دم الزواحف والطيور والحيوانات الفقرية الأخرى الحية حاليا باستثناء الثدييات التي تكون فيها خلايا الدم مجردة من النواة. وقد تساءلت هل من الممكن ألاّ تكون هذه الخلايا خلايا دموية؟ فقد كانت شريحة العظم من عظم دينوصور اكتشفه حديثا فريق من متحف الروكيز في بوزمان، بولاية مونتانا ويدعى تيرانوصوروس ريكسTyrannosaurus rex الذي انقرض منذ 67 مليون سنة – وكل شخص يعلم أن المادة العضوية كانت هشة جدا لدرجة لا يستمر وجودها لمثل هذه المدة الطويلة من الزمن.

منذ أكثر من 300 سنة، عمل علماء الأحافير (المستحاثات) على افتراض أن المعلومات المحتواة في العظام القديمة تقع في حجم العظام وشكلها فقط. وبحسب المنطق التقليدي، فإنه عندما يموت حيوان في ظروف مناسبة لتحفّره (لتحوّله إلى أحفورة) fossilization، تحلّ، في النهاية، معادن عاطلة من البيئة المحيطة به محل جميع جزيئاته العضوية – مثل الجزيئات التي تتكوّن منها الخلايا والنسج والأصبغة والپروتينات – تاركة وراءها عظاما مؤلفة بكاملها من المعادن. وعندما كنت أجلس في المتحف بعد ظهيرة يوم من أيام عام 1992وأحدّق في البنى القرمزية اللون في عظم دينوصور، كنت أرى ما يشير إلى أنّ ذلك المعتقد الأساسي في علم الأحافير يمكن أن لا يكون بالضرورة صحيحا دائما – ومع ذلك، كنت متحيرة في ذلك الوقت. ولمّا كانت الدينوصورات حيوانات فقرية لا ثديية، فإنه يجب أن تكون لها خلايا دموية مجهزة بنواة، وأنّ النقاط الحُمُر تبدو بالتأكيد جزءا منها، ولكن أيضا يمكن أن تكون هذه البنى قد نشأت عن بعض العمليات الجيولوجية التي لا أزال أجهلها.

 

كيف تحدث عملية التحفّر

القصة كما تُروى في الكتب
التعليمية مع شيء من التحريف(**)

   في الوصف التقليدي لكيفية تحفّر أحد الحيوانات إلى أحفورة تتدهور degrade الأوتار والأحشاء والعضلات إضافة إلى الجلد مخلفة العظام. وتتدهور أيضا الخلايا والپروتينات والأوعية الدموية في العظام وتتسرّب معادن من الرواسب المحيطة بها إلى الفراغات التي تخلفها وراءها. جميع ذلك يؤدي في النهاية إلى تجمّع صلد به معادن العظم الأصلي. غير أنّ الخلايا والپروتينات والأنسجة الرخوة softtissues الموجودة في عظام قديمة متنوعة، تبيّن أنّ عملية التحفّر لا تتبع تماما ودائما الأسلوب نفسه. لم يدرك العلماء تماما ما يسمح أحيانا للمواد العضوية بأن تدوم عشرات الملايين من السنين، ولكنّهم حدّدوا عوامل (مشار إليها بالخط الأحمر) قد تساعد على حفظ هذه المواد واستخلاصها.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_30.jpg

(1) النفوق

   يُنْفُق الحيوان في محيط حيث ينجو بطريقة ما من آكلات الرمم.

(2) الدفن

   تتغطّى الجثة بالرواسب قبل أن تخرّبها آكلات الرمم وعوامل التجوية، مثلما قد يحدث عندما يطغى نهر بحمولته الضخمة من الرواسب على سهل الفيضان ويغطيه.   

   يبدو أنّ رواسب الحجر الرملي تحمي البقايا العضوية من التلف الكامل، ربما بسبب أن الرمال المسامية تسمح للموائع الهدامة (المخربة) التي تتشكّل خلال عملية التحلّل بأن تنصرف باستمرار.

(3) دفن أعمق

   وبتكرار توضّع الرواسب عبر ملايين السنين، تُدفن الجثة في أعماق بعيدة عن سطح الأرض، حيث تترشّح المعادن من المياه الجوفية في العظام.

   وبصورة خاصة، فقد يرقى الدفن العميق بحفظ المواد الليّنة بسبب أنه يحميها من الأكسدة وتغيرات الرقم الهدروجيني pH والحرارة وتعرّضها للأشعة فوق البنفسجية التي يمكن أن تحدث على السطح. وفي النهاية يصل الحيوان إلى توازن كيميائي مع الوسط الجوفي الذي يمكن أن يكون أساس عملية الحفظ.

(4) التكشُّف

   ترفع حركات القشرة الأرضية الطبقات الرسوبية التي تحوي البقايا الأحفورية، وتقوم عوامل الحت بكشفها على السطح حيث تُمكّن الباحثين عن الأحافير من الوصول إليها.

   يمكن أن يساعد تخفيض زمن تعريض الأحفورة للجو إلى حده الأدنى خلال عملية التنقيب على حماية الجزيئات العضوية الهشة من التلوث والتدهور؛ وأن تحليل الأحفورة فورا من غير إبطاء بعد استخراجها يمكن أن يعزّز فرص استرداد هذه المواد.

(5) الاكتشاف المبكر

   مقارنة بالنظرة العادية لعظم تحوّل إلى أحفورة تحت المجهر، فإن شريحة رقيقة من عظم الزاحف تيرانوصوروس ريكس، كما يراها المؤلف، كانت تحتوي على بنى تشبه خلايا الدم.

 

وفي ذلك الوقت، كنت طالبة دراسات عليا جديدة نسبيا في جامعة ولاية مونتانا، أدرس البنى الميكروية لعظام الدينوصورات وبالكاد كنت من ذوي الخبرة. وبعد أن طلبت رأي أعضاء الهيئة التدريسـية في الكلية وطلبة الدراسات العليا الآخرين حول هوية الكريات الحُمُر، وصلت هذه الأحجية إلى مسامع <J.هورنر> [أمين متحف علم الأحافير وأحد مشاهير علماء العالم المتخصصين بالدينوصورات]. فقد اهتم بالأمر ونظر من خلال المجهر بحاجبين مقطبين مدة بدت لي وكأنها ساعات طِوال من دون أن يقول كلمة. وبعد ذلك، نظر إليّ متجهما وسألني: «ماذا تعتقدين أنها تمثّل؟» أجبته لا أعلم، غير أنّ لها تماما الحجم والشكل واللون نفسه لأن تكون خلايا الدم، وأنها موجودة أيضا في المكان الصحيح. لقد تمتم بكلمات غير مفهومة «إذن برهن لي أنّها ليست خلايا دم». لقد كان ذلك تحدّيا قويا لي وهو الذي أسهم في تحضير كيف أطرح أسئلة بحثي، وحتى كيف أطرحها الآن.

ومنذ ذلك الحين، اكتشفت مع زملائي أنماطا مختلفة من البقايا العضوية – تتضمّن أوعية دموية وخلايا عظمية وأجزاء من مواد شبيهة بمادة الأظافر التي تشكّل المخالب، وهي تشير إلى أنّه على الرغم من أنّ حفظ الأنسجة الرخوة في الأحافير ليس شائعا، لكنه لا يكون حدثا عاديا أو منتظما. إنّ هذه النتائج لا تبتعد فقط عن وصف الكتب المدرسية لعملية التحفّر وإنّما تعطي أفكارا جديدة حول بيولوجية المخلوقات البائدة. فمثلا، إنّ عظما من عينة أخرى من الزاحف تيرانوصوروس ريكس T. rex، كشف أنّ الحيوان كان أنثى في حالة تحضير لعملية وضع البيض عند نفوقها – وهي معلومات لا يمكن الكشف عنها من شكل العظام وحجمها فقط. كما ساعد اكتشاف پروتين في بقايا من ألياف بالقرب من دينوصور صغير من آكلات اللحوم، عثر عليه في منگوليا، على البرهنة أنه كان للدينوصور ريش يشبه على المستوى الجزيئي ريش الطيور.

واجهت نتائجنا الكثير من الشكوك – فهي في النهاية مذهلة إلى أبعد الحدود. ولكن الشكوك جزء أصيل في العلم، لقد واصلت العمل لأجده أخّاذا وواعدا. إن دراسة الجزيئات العضوية القديمة من الدينوصورات، تعطي إمكانات تُحسّن فهمنا عن تطوّر وانقـراض هـذه الحيـوانات الـرائعـة بصـورة لم نكن نتصورها منذ عشرين سنة.


الإشارات الأولى(***)

 

كما يقول المثل القديم، تتطلّب الادعاءات الخارقة أدلة خارقة. فالعلماء الحذرون لا يوفرون أي جهد لدحض الفرضيات المحترمة قبل أن يقبلوا أنّ أفكارهم صحيحة. وهكذا، وخلال العشرين سنة الماضية جربت جميع التجارب التي يمكن أن أفكر فيها لدحض فرضية أنّ المواد التي اكتشفتها مع زملائي هي مكوّنات من أنسجة رخوة لدينوصورات وحيوانات أخرى بائدة.

في حالة البنى الميكروية الحمراء اللون التي رأيتها في عظم الزاحف تيرانوصوروس ريكس، بدأت بالتفكير فيما إذا كانت تنتمي إلى خلايا دم أو إلى مكونات خلايا دم (مثل جزيئات من الهيموگلوبين أو الهيم heme التي تجمّعت معا بعد انطلاقها من خلايا دم ميتة)، ويمكن أنها حُفظت، ولو بشكل متغيّر جدا، في شكل ما فقط عندما تكون العظام نفسها قد حفظت حفظا جيدا بصورة استثنائية. إن مثل هذه النسج يمكن أن تختفي في الهياكل المحفوظة حفظا سيئا. لقد كان ذلك بكل وضوح على المستوى الماكروي (المرئي بالعين المجردة) صحيحا. فالهيكل، الذي هو عينة كاملة تقريبا اكتشف في مونتانا الشرقية – وسمي اصطلاحا مور 555 555 MOR ودعي بصورة وصفية «بيگ مايك» Big Mike  – يتضمّن الكثير من العظام التي حفظت حفظا جيدا بصورة نادرة. وبصورة مشابهة، فإنّ الفحص المجهري للشرائح الرقيقة لعظام أطرافه كشف عن حفظ جيد لبنية العظم الأصلية. فقد كانت معظم قنوات الأوعية الدموية في العظم الكثيف فارغة، غير ممتلئة بالتوضّعات المعدنية كما هو المألوف مع الدّينوصورات. وكانت تلك البنى المجهرية حمراء اللون لا تظهر إلاّ في قنوات الأوعية ولا تظهر على الإطلاق على محيط العظم أو في الرواسب المجاورة للعظام، تماما كما يجب أن تكون حقيقة خلايا الدم.

من خلال العمل على الزاحف تيرانوصوروس ريكس، بدأتُ بإدراك ما تقدمه المواد العضوية القديمة لتكشف عن أسرار الحيوانات المنقرضة.

 

وبعد ذلك، وجّهت انتباهي إلى التركيب الكيميائي لما يشبه خلية الدم. فقد بيّنت التحاليل أنّها كانت غنية بالحديد، كمـا هـو الحـال فـي خلايـا الدم، وأن الحديد كـان صفـة ممـيّزة لهـا. والمواد التي تشكّل الأشياء الغريبة الحمراء اللون (التي دعوناها الأشياء المستديرة ذات اللون الأحمر LLRTs) لم تكن مختلفة فقط عن مواد العظم المحيطة مباشرة بأقنية الأوعية الدموية، وإنّما كانت تتميّز تماما من الرواسب التي دُفن فيها الدينوصور. وللمزيد من فحص العلاقة بين البنى الحمراء اللون وخلايا الدم، رغبت في أن أتفحّص عيناتي عن الهيم، الجزيء الصغير المحتوي على الحديد الذي يعطي دم الحيوانات الفقرية اللون القرمزي ويمكّن پروتينات الهيموگلوبين من حمل الأكسجين من الرئتين إلى سائر أنحاء الجسم. يتذبذب الهيم أو يتجاوب في أنماط دلالية عندما يُحرّض بأشعة الليزر المتوافقة (المتناغمة)، وبسبب احتوائه على مركز حديدي (فلزّي)، فإنّه يمتص الضوء بطريقة متميّزة جدا. وعندما كنّا نُعرّض عينات العظام لاختبارات التحليل الطيفي – الذي يقيس الضوء الذي تصدره مادة مفترضة أو تمتصه أو تبعثره – بيّنت نتائجنا أنّه في مكان ما من عظم الدينوصور كانت المركبات تتوافق مع الهيم.

وقد كانت إحدى أعظم التجارب المفيدة التي أجريناها قد استفادت من الاستجابة المناعية. فعندما يكتشف الجسم دخول مواد غريبة فيه، يحتمل أن تكون مؤذية، فإنه يُنتج پروتينات دفاعية تدعى الأضداد antibodies التي يمكن تعرّفها بصورة دقيقة أو ترتبط بتلك المواد. فقد حقنّا مستخلصات من عظم الدينوصور في الفئران لنجعلها تنتج الأضداد ضد المركبات العضوية في المستخلص. وعندما عرّضنا، بعد ذلك، هذه الأضداد لهيموگلوبين من ديوك الرومي والجرذان، ارتبطت به – وهذه إشارة تدل على أن المستخلصات التي أحدثت إنتاج الضد في الفئران تضمنت هيموگلوبينا أو شيئا شديد الشبه به. ولقد دعمت بيانات الضد فكرة أن عظام «بيگ مايك» احتوت على شيء ما يشبه الهيموگلوبين في الحيوانات الحالية.

لم يدحض أيّ من الاختبارات الكيميائية والمناعية الكثيرة التي أجريناها فرضيتنا التي مفادها أنّ البنى الغامضة ذات اللون الأحمر المرئية تحت المجهر كانت خلايا دم من الزاحف تيرانوصوروس ريكس. ومع ذلك، لم نستطع أن نبيّن أنّ المادة الشبيهة بالهيموگلوبين كانت تخصّ البنى الحمراء اللون دون غيرها– ذلك أنّ التقنيات المتاحة لم تكن دقيقة بصورة كافية لتسمح بمثل هذا التمييز أو التفريق. وهكذا، لم نستطع الادعاء بصورة حاسمة أنها كانت خلايا دم. وفي عام 1997 عندما نشرنا مكتشفاتنا، جاءت نتائجنا متحفظة، وقلنا إنّ پروتينات الهيموگلوبين ربما تكون قد حفظت وأن المصدر الأكثر احتمالا لمثل هذه الپروتينات كان خلايا الدينوصور. ولم يُثِر البحث أي ملاحظة.

 

 

مكتشفات

بقايا عضوية قديمة(****)

استرجع الباحثون الآن الأنسجة الرخوة من أحافير متعددة يعود عمرها إلى عشرات ملايين السنين.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_33_a.jpg http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_33_b.jpg
يحمل عظم إصبع حافر toe الطائر المسمى «راهوناڤيس أوسترومي» Rahonavis ostromi  – الذي كان يعيش قبل 80 إلى 70 مليون سنة  في مدگشقر – مادة بيضاء تبدو أنّها بقايا غلاف پروتيني كان يغطي مخالب هذا المخلوق. خيط أجوف (في الوسط) يشبه ليف الريشة ينتمي إلى دينوصور صغير من آكلات اللحم المعروف باسم «شوڤيويا ديزرتي» Shuvuuiadeserti الذي كان يقطن منگوليا قبل 70 مليون  سنة.
http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_33_c.jpg http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_33_d.jpg
وجد العظم اللبّي – وهو نسيج عظمي خاص يتشكل فقط لمدة محدودة عندما يكون جسم الأنثى بحالة وضع البيض – في عظم من الزاحف تيرانوصوروس ريكس الذي اكتشف في «مونتانا» ويعود عمره إلى ما قبل 68 مليون سنة. كانت تظهر للعيان أوعية دموية – أو ما يشبهها – عند انحلال المعادن من قطع من نوع عظم عادي، يدعى العظم القشري، في زاحف مونتانا تيرانوصوروس ريكس.


الدليل يتعزّز(*****)

 

من خلال العمل على الزاحف تيرانوصوروس ريكس، بدأت بإدراك ما تقدّمه المواد العضوية القديمة في الكشف عن أسرار الحيوانات المنقرضة. فإذا استطعنا الحصول على پروتينات، ربّما نستطيع حل شفرة تسلسل sequenceمكوناتها من الأحماض الأمينية، مثلما يقوم متخصصو علم الوراثة بسلسلة «الأحرف» letters التي تكوّن الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين الدناDNA. ومثل تسلسلات الدنا، تحوي تسلسلات الپروتينات معلومات حول العلاقات التطورية بين الحيوانات، وكيف تغيّرت الأنواع على مرِّ الزمن وكيف أنّ اكتساب المعالم الوراثية الجديدة مكنت منح مزايا للحيوانات التي تحوز على تلك المعالم. ولكن كان عليّ أولا أن أبيّن أنّ الپروتينات القديمة كانت موجودة في أحافير أخرى غير الپروتينات التي كانت موجودة في الزاحف الرائع تيرانوصوروس الذي درسناه. وخلال العمل مع <M.مرشال> آنذاك [في جامعة إنديانا] ومع <S.پينكاس> و<J.واط> [في جامعة ولاية مونتانا] وجّهت انتباهي إلى أحفورتين جيدتي الحفظ بدتا واعدتين للحصول على المواد العضوية منهما.

كانت الأحفورة الأولى هي للطائر البدائي الجميل المسمى راهوناڤيسRahonavis الذي اكتشفه علماء الأحافير من جامعة ستوني بروك وكلية ماك آلستر في رواسب بمدگشقر ويعود عمره إلى العصر الكريتاسي الأعلى أي إلى نحو ما قبل 80 إلى 70  مليون سنة. وخلال عملية الكشف عن الطائر لاحظوا مادة ليفية بيضاء اللون على عظام أصابع الحافِر الهيكلية. لم يظهر وجود هذه المادة على أي عظم آخر في المقلع أو على أي راسب من رواسبه، ما يفرض أنها جزء من الحيوان أكثر من أنها ترسبت على العظام فيما بعد. فقد تساءلوا عمّا إذا كانت هذه المادة مماثلة للغلاف المتين المؤلف من پروتين كيراتيني keratinprotein يغطي عظام الأصابع في الطيور الحالية، مشكلا مخالبها، وطلبوا مساعدتي.

 

دراسة حالة
تشريح الزاحف بطّي المنقار(******)

   في عام 2007، اكتشف المنقبون في شرق مونتانا عظم فخذ لدينوصور بطّي المنقار براكيلوفوصوروس كندانسيس. فقد كشف الفحص المجهري أن عظم الفخذ كان يحتوي على بنى تشبه خلايا تدعى الخلايا العظمية osteocytes منطمرة في مادة بيضاء ليفية تشبه پروتينا كولاجينيا (الصورة المجهرية). وقد أكدت الفحوص اللاحقة وجود أنسجة رخوة ودحضت الاقتراح أن المظاهر الشبيهة بالكولاجينcollagenlike والشبيهة بالخلايا العظمية osteocytelike هي من منشأ بكتيري : تفاعلت مستخلصات من عظام الدينوصور مع الأضداد التي تستهدف الكولاجين والپروتينات الأخرى التي لا تصنعها البكتيريا. وكما هو متوقع، إذا كان عظم دينوصور يؤوي الپروتين، فإن المعطيات التي حصلنا عليها من تقنية تسمى قياس الطيف الكتلي التي تُحدد تسلسلات الأحماض الأمينية في الپروتينات، بدت مشابهة إلى حد بعيد لتسلسلات من الطيور الحالية، وهي من أحفاد الدينوصورات، وغير مشابهة لتسلسلات البكتيريا.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_34_b.jpg
براكيلوفوصوروس كندانسيس

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_34_a.jpg
ظهرت الخلايا العظمية (البنى المتفرعة حمراء اللون) وكذلك ظهر الكولاجين (المادة الليفية البيضاء) في بطّي المنقار براكيلوفوصوروس كندانسيس.

 

تعد الپروتينات الكيراتينية مرشحة جيدة للحفظ بسبب غزارتها في الحيوانات الفقرية وأن تركيب هذه الفصيلة من الپروتينات يجعلها مقاومة جدا لعملية التدهور (التدرك أو التقوض) degradation – ومن المفيد وجودها في أعضاء كالجلد الذي يتعرّض لظروف قاسية. وهي موجودة على شكلين: ألفاalpha وبيتا beta. إن جميع الفقاريات تحوي كيراتين ألفا الذي يكوّن في البشر الشعر والأظافر ويساعد الجلد على مقاومة السحج والتجفاف. أمّا كيراتين بيتا، فغير موجود في الثدييات ولا يوجد إلاّ في الطيور والزواحف من بين المخلوقات الحالية.

ولاختبار المواد الكيراتينية في المادة البيضاء على عظام أصابع حافِر الطائر راهوناڤيس، استعملنا الكثير من التقنيات نفسها التي استعملناها لدراسة تيرانوصوروس ريكس. وبصورة خاصة كشفت اختبارات الضد وجود كيراتين ألفا وكيراتين بيتا. لقد استخدمنا أيضا أدوات تشخيصية إضافية. فقد كشفت تحاليل أخرى، على سبيل المثال، أحماضا أمينية كانت تتركز على غطاء أصابع الحافِر، وكشفت أيضا النتروجين (أحد مكونات الأحماض الأمينية) الذي كان مرتبطا بمركبات أخرى كما ترتبط الپروتينات بعضها ببعض في الأنسجة الحية ومن ضمنها الكيراتين. وقد دعمت نتائج جميع اختباراتنا فكرة أنّ المادة الغريبة البيضاء المغطية لعظام أصابع حافِر الطائر القديم كانت تتضمّن أجزاء من كيراتين ألفا وكيراتين بيتا، وكانت فيما مضى بقايا من مخالبه الميتة.

أمّا العينة الثانية التي اختبرناها فكانت أحفورة مثيرة يعود عمرها إلى الكريتاسي المتأخـر اكتشفها باحثون من متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي في مدينة نيويورك بمنگوليا. وعلى الرغم من أن العلماء أعطوا اسما للحيوان شوڤيويا ديزرتي Shuvuuia deserti أو «طائر الصحراء» desert bird، فقد كان في الواقع دينوصورا صغيرا من آكلات اللحم. وخلال تنظيف الأحفورة لاحظت <A.داڤيدسون> [الفنّية في المتحف] أليافا صغيرة بيضاء اللون في منطقة رقبة الحيوان. وقد سألتني عمّا إذا كنت أستطيع إعلامها بما إذا كانت الألياف هي بقايا لريش. فالطيور حيوانات انحدرت من الزواحف، وقد اكتشف صيادو الأحافير عددا من أحافير الدينوصورات حفظت معها انطباعات ريشها، وهكذا فإنّ اقتراح أنّ الحيوان شوڤيويا كان يحوز على كساء زغبي كان معقولا من الناحية النظرية. ومع ذلك، لم أكن أتوقع أنّ بنية هشة كبنية الريشة يمكن أن تتحمّل أذيات الزمن. لقد اشتبهت في أنّ الألياف البيضاء عوضا عن ذلك أتت من نباتات حديثة أو من فطور. ولذلك قرّرت أن أبحث في الأمر.

وما أثار دهشتي، أنّ الاختبارات الأولية استبعدت النباتات والفطور كمصدر للألياف. مع ذلك، أشارت تحاليل لاحقة لبنى الشرائط الغريبة الميكروية البيضاء اللون إلى وجود الكيراتين. يتكوّن الريش النامي في الطيور الحالية بكامله تقريبا من كيراتين بيتا. فإذا كانت الألياف الصغيرة على الحيوان شوڤيويا تنتمي إلى الريش، فيجب إذن أن تتألف من كيراتين بيتا فقط، على نقيض غلاف مخلب الطائر راهوناڤيس الذي يحتوي على كيراتين ألفا وبيتا على السواء. وهذا في الواقع تماما ما وجدناه عندما نفذنا اختبارات الضد – النتائج التي نشرناها عام 1999.

 

قلت لمساعدتي <J.ويتميار> : «ياإلهي ، إنها أنثى وهي حامل»، فنظرتْ إليّ وكأني قد فقدت عقلي.


مكتشفات استثنائية(*******)

 

والآن أصبحت مقتنعة أنّ الكميات القليلة من بقايا الپروتينات الأصلية يمكن أن تبقى في الأحافير المحفوظة حفظا جيدا وكانت لدينا الأدوات الضرورية لتعرّفها. غير أن الكثيرين في المجتمع العلمي لم يكونوا مقتنعين. فقد تحدّت نتائجنا مفاهيم العلماء الذين عرفوا كل شيء عن تحلّل الخلايا والجزيئات. فقد أشارت دراسات أنبوب الاختبار test-tube للجزيئات العضوية إلى أن الپروتينات لا يمكن أن تدوم أكثر من مليون سنة أو نحو ذلك؛ ولحمض الدنا أيضا عمر أقصر. فالباحثون الذين كانوا يعملون من قبل على الدنا القديم، أكدوا أنهم استحصلوا على دنا عمره ملايين السنين، غير أنّ دراسات لاحقة لم تستطع إثبات صحة النتائج. والتأكيدات الوحيدة المقبولة على نطاق واسع حول عمر الجزيئات القديمة لا تزيد على عدة عشرات من آلاف السنين. وفي الواقع، أعلمني ناقد مجهول الهوية لبحث قدمته للنشر في مجلة علمية أنّ هذا النمط من الحفظ لم يكن ممكنا ولم أتمكّن من إقناعه أو إقناعها بخلاف ذلك، بصرف النظر عن بياناتنا.

واستجابة لهذا التحدّي، نصحني أحد زملائي أن أتريث قليلا وأثبت فعالية طرائقنا في تعرّف الپروتينات القديمة في العظام التي كانت قديمة، ولكن ليست بدرجة قِدم عظم الدينوصورات، وذلك لطرح لتوفير برهان على المبدأ. فقد حصلت، مع المحلل الكيميائي <J.أسارا> [من جامعة هارڤرد] على پروتينات من أحافير الماموث قدّرت أعمارها بين  000 300 و 000 600 سنة. فقد حدّدت سَلسَلةsequencing الپروتينات، باستخدام تقانة تدعى مقياس الطيف الكتلوي massspectrometry، بكل وضوح أنها من الكولاجين، وهو مركّب أساسي للعظام والأوتار tendons والجلد ونسج أخرى. في عام 2002  لم يُثر نشر نتائجنا عن الماموث الكثير من الخلاف، وتجاهلها في الواقع معظم المجتمع العلمي. ومع ذلك، كان البرهان على مبدئنا قد جاء تثريبا في الوقت المناسب تماما.

وفي السنة التالية استخرج فريق من متحف الروكيز أخيرا هيكلا آخر من الزاحف تيرانوصوروس ريكس يعود عمره إلى ما قبل 68 مليون سنة، وهو الأقدم حتى اليوم. وهذا الزاحف الذي يماثل تيرانوصوروس ريكس الأحدث – وسماه مكتشفه <B.هارمون> مور 1125 MOR 1125 وأعطاه لقب «بريكس» Brex – كان قد اكتشف من تكوين (تشكيلة) هيل كريك في شرق مونتانا. ونظرا لكون هذا الموقع منعزلا وبعيدا يصعب الوصول إليه بوسائل بالسيارات، لذلك استعملت طوافة لنقل أغلفة الجص (الجبس) المحتوية على العظام المستخرجة من الموقع إلى المعسكر. وقد كان الغلاف المحتوي على عظام الساق ثقيلا لم تستطع الطوّافة رفعه. ولنقله، كسر الفريق الغلاف وفصل العظام ثم أعاد تغليفها ثانية. ونظرا لكون العظام هشّة جدا، انفصل الكثير من قطع العظام عندما تم فتح الغلاف الأصلي. وهذه القطع عُلّبت (صُندقت) وأرسلت إليّ. وبسبب أنّ دراساتي الأساسية عن الزاحف تيرانوصوروس ريكس كانت موضوع جدل، كنت متلهّفة إلى إعادة الدراسة على هيكلٍ ثانٍ من هذا الزاحف. لقد كان هذا الاكتشاف الجديد يمثّل بالنسبة إليّ فرصة ممتازة.

وحالما وقع نظري على القطعة الأولى من العظم الذي نقلته من الصندوق، وهي قطعة من عظم الفخذ، أدركت أن الهيكل كان استثنائيا. كان يُغشّي السطح الداخلي للقطعة طبقة رقيقة متميّزة لنمط عظم لم يعثر عليه على الإطلاق في الدينوصورات. كانت هذه الطبقة ليفية تماما مملوءة بأقنية الأوعية الدموية ومختلفة تماما في اللون والبنية عن العظم القشري cortical bone الذي يؤلّف معظم الهيكل. قلت لمساعدتي <J.ويتميار> «ياإلهي، إنها أنثى وهي حاملpregnant!». نظرت إليّ وكأني قد فقدت عقلي. ولكن، ولأنني درست فيزيولوجية الطيور، كنت متأكّدة تقريبا أن هذا المعْلم المميّز كان العظم اللبّي medullarybone، وهو نسيج خاص يظهر فقط لمدة محدودة (في الغالب لمدة نحو أسبوعين) عندما تكون الطيور بحالة وضع البيض ويكون وجوده لتزويد مصدر سهل من الكلسيوم لتقوية قشور البيض.

إن إحدى الصفات المُميّزة التي تميّز العظم اللبّي من أنماط العظام الأخرى هي التوجيه العشوائي لأليافها المكونة من الكولاجين، وهي صفة تشير إلى تشكيل سريع جدا. (يحدث هذا التعضّي في العظم الأولي الذي يتوضّع في حالة كسر العظم – ولهذا السبب يشعر الإنسان بنتوء في منطقة التئام العظم). يمكن إزالة معادن (أملاح) عظام الطيور الحالية وجميع الحيوانات الأخرى باستخدام أحماض ضعيفة للكشف عن الترتيب الدال على ألياف الكولاجين. لقد قررت مع <ويتميار> أن نجرّب إزالة المعادن. فإذا كان هذا العظم عظما لبّيا وإذا كان الكولاجين موجودا، فإنّ إزالة المعادن يجب أن تترك بعدها أليافا موجهة عشوائيا. وبعد إزالة المعادن، بقيت كتلة نسيجية مكونة من الألياف المرنة. لم أستطع أن أصدّق ماذا رأينا. فقد سَأَلْتُ <ويتميار> أن تعيد التجربة مرات عدة. وفي كل مرة كنا نضع الطبقة المميّزة من العظم في محلول الحمض الضعيف كانت تتبقّى مادة ليفية مرنة تماما، كما يحصل عندما تتم معالجة العظم اللبّي في الطيور بالطريقة نفسها.

وإضافة إلى ذلك، عندما كنا نُذيب قطعا من العظم القشري الأكثف والأكثر شيوعا، كنا نحصل على نسج مرنة إضافية. كانت تبرز، ممّا تخلف بعد عملية الإذابة، أنابيب جوفاء مرنة شفافة متفرعة – وهي تظهر تماما مثل الأوعية الدموية. وكانت تتدلّى داخل الأوعية إمّا بنى صغيرة مستديرة حمراء اللون أو تجمعات غير منتظمة (غير متبلورة) من مادة حمراء اللون. فقد كشفت التجارب الإضافية لإزالة المعادن، عن خلايا عظمية ذات مظهر متميّز تدعى خلايا عظميةosteocytes تفرز الكولاجين والمركبات الأخرى التي تؤلّف الجزء العضوي من عظم الدينوصور. ويبدو أنّ كامل الدينوصور كان يحفظ مادة لم تـُر من قبل في عظم الدينوصورات.

عندما نشرنا في مجلة Science عام 2005 ملاحظاتنا فيما يتعلّق بوجود ما يشبه الكولاجين والأوعية الدموية والخلايا العظمية، أثارت ملاحظاتنا الكثير من الاهتمام، غير أنّ المجتمع العلمي تبنـى وضعيـة «لننتظر ونَرَ». فقد ادعينا فقط أنّ المادة التي وجدناها كانت تشبه هـذه المركبات الحديثة – ولكن ليس هي نفسها. فبعد ملايين السنين، فإنّ الذي كان محفوظا في هذه العظام ومدفونا في الرواسب ومعرضا لشروط جيوكيميائية تغيّره مع الزمن، لا بد وأن يحمل تشابها كيميائيا ضئيلا لما كان موجودا عندما كان الدينوصور على قيد الحياة. ولا يمكن أن تتحدّد القيمة الحقيقية لهذه المواد إلاّ إذا أمكن إدراك تركيبها الكيميائي. ومن هنا بدأ عملنا.

وباستعمال جميع التقنيات المُحسّنة في أثناء دراسة «بيگ مايك» وراهوناڤيس وشوڤيويا والماموث، بدأتُ تحليلا معمقا لعظم هذا الزاحف تيرانوصوروس ريكس بالتعاون مع <أسارا> الذي أدخل تحسينات على طرائق التنظيف والسّلسلة sequencing التي كنا نستخدمها في دراسة الماموث، وكان مستعدا لفحص سَلسَلة پروتينات أقدم في الدينوصورات. وقد كان هذا العمل أكثر صعوبة لأن تركيز المواد العضوية في الدينوصور كان أقل كثيرا من الناحية الكمية من كميته في الماموث الأحدث عمرا ولأنّ الپروتينات كانت متدهورة جدا. ومع ذلك، فقد نجحنا أخيرا في سَلسَلتها. ولحسن الحظ، عندما قارن زميلنا <Ch.أورگان> [من جامعة هارڤرد] تسَلسُلات تيرانوصوروس ريكس بتسَلسلات متعدّدة لمتعضيات organisms أخرى، وجد أنها كانت تُصنف بدقة مع الطيور متبوعة بالتمساحيات – المجموعتان اللتان هما أقرب أقرباء الحيوانات الحية إلى الدينوصورات.


مناظرة وتبعاتها(********)

 

إن نشر أبحاثنا عامي 2007 و 2008 عن تفاصيل عملية السّلسَلة، أثار جدلا واسعا تركز معظمه على تفسيرات بيانات السّلسَلة (بمقياس الطيف الكتلوي). فقد حمل بعض المعترضين على أنّنا لم ننتج تسلسلات كافية لندعم قضيتنا؛ وجادل آخرون في أنّ البنى التي فسرناها كأنسجة رخوة أولية كانت بالفعل فيلما حيويا biofilm – «الذي هو مادة غروية slime» تنتجها الميكروبات التي غزت العظم القديم (الذي تحفّر). وثمة انتقادات أخرى أيضا. كان عندي شعور خفي بشأن انتقاداتهم. فمن ناحية، يُفترض في العلماء التشكك وفحص الادعاءات بدقة. ومن ناحية أخرى، يعمل العلم على مبدأ التقتير(1) – يُفترض في التفسير الأبسط لجميع البيانات أن يكون التفسير الصحيح. وقد دعمنا فرضيتنا بأدلة من مصادر متعدّدة.

ومع ذلك، كنت أعرف أنّ اكتشافا سريعا واحدا ليس له أي معنى بعيد المدى في العلم. ولذلك، كان علينا أن نُسلسل پروتينات من دينوصورات أخرى مكتشفة. وعندما وجد متطوع، كان يرافقنا في بعثة صيفية، عظاما يعود عمرها إلى 80 مليون سنة لدينوصور بطيّ المنقار من آكلات النبات المسمّى «براكيلوفوصوروس كندانسيس» Brachylophosaurus canadensis أو اختصارا (براكي Brachy)، شككنا في أن يكون الدينوصور بطيّ المنقار مصدرا جيدا لپروتينات قديمة حتى قبل أن نستخرج عظامه من الأرض. وعلى أمل أنه قد يحتوي على مواد عضوية، فعلنا ما بوسعنا لتحريره بسرعة من الحجر الرملي المحيط به مع التقليل من تعرضه لعوامل التجوية. إذ يمكن أن تكون الملوثات الهوائية وتقلبات الرطوبة وأمثالها مؤذية جدا للجزيئات الهشة، فكلما تعرض العظم لهذه العوامل مدة أطول زاد احتمال تلوثه وتدهوره.

وربما بسبب هذا الاهتمام الزائد – والتحاليل العاجلة – فإن كيميائية ومورفولوجية هذا الدينوصور الثاني كانت أقل تغيّرا ممّا كانت عليه في الزاحف «بريكس». وكما كنا نأمل، وجدنا في عظم الحيوان خلايا مطمورة في نسيج من ألياف كولاجينية بيضاء اللون. وقد أظهرت الخلايا امتدادات طويلة ورفيعة تشبه الأغصان التي هي صفة مميّزة للخلايا العظمية، والتي أمكننا تتبعها من جسم الخلية إلى الأمكنة التي كانت تتصل بها مع الخلايا الأخرى. وكان عدد قليل منها حاويا أيضا ما كان يبدو بِنى داخلية تتضمن نوى محتملة.

إضافة إلى ذلك، تفاعلت مستخلصات من عظم بطّي المنقار مع الأضداد التي تستهدف الكولاجين والپروتينات الأخرى والتي لم تصنعها البكتيرات، داحضة بذلك الاقتراح بأن هياكل الأنسجة الرخوة كانت مجرد أغشية حيوية biofilms. وكذلك، فإنّ تسلسلات الپروتينات التي حصلنا عليها من العظم كانت تشبه إلى حد بعيد تسلسلات پروتينات الطيور الحديثة، تماما مثلما كانت تشبه تسلسلات پروتينات الزاحف بريكس. وقد أرسلنا عينات من عظم بطّي المنقار إلى مختبرات متعددة ومختلفة لإجراء اختبارات مستقلة، وجميعها أكّدت نتائجنا. وبعد أن نشرنا هذه المكتشفات في مجلة Science عام 2009 لم نعد نسمع أي شكوى.

لم يتوقّف عملنا عند هذا الحد. إذ لا يزال الكثير مما لم نفهمه بعد عن الأنسجة الرخوة القديمة. لماذا حُفظت هذه المواد في حين تشير جميع نماذجنا إلى أنه يجب أن تكون متدهورة؟ كيف تحدث بالفعل عملية التحفّر؟ ما مقدار ما يمكن أن نتعلّمه عن الحيوانات من أجزاء جزيئات محفوظة؟ وتشير عملية السَّلسَلة إلى أنّ تحليل هذه المواد قد يساعد في آخر المطاف على تحديد كيف كانت علاقات القربى بين الأنواع المنقرضة – حالما نبني مع آخرين مكتبات أكبر تحوي تسلسلات من أنواع قديمة وتسلسلات من أنواع حالية، للمقارنة. وبتوسيع قواعد البيانات هذه، قد نكون قادرين على مقارنة التسلسلات لنرى كيف أنّ الأعضاء من سلالة واحدة كانوا يتغيّرون على المستوى الجُزيئي. وبالتـفتيش عن هذه التسلسلات في أزمان مبكرة، قد نكون قادرين على فهم أفضل لسرعة هذا التطور. وسيساعد مثل هذا الفهم العلماء على إعادة بناء الكيفية التي استجابت فيها الدينوصورات والمخلوقات المنقرضة الأخرى للتغيّرات البيئية الكبرى، والكيفية التي بقيت فيها على قيد الحياة بعد الأحداث الكارثية، وأخيرا ما الذي أدّى إلى نفوقها أو قتلها.

المؤلفة

  Mary H. Schweitzer
في الواقع، لقد تدربت <ماري> لتصبح مُدرّسة للعلوم في المدارس الثانوية حيث درّست مقرر علم الأحافير للتسلية وإثارة اهتمامات الأطفال بالدّينوصورات. بعد ذلك حصلت على الدكتوراه في البيولوجيا من جامعة ولاية مونتانا في عام 1995. وتعمل حاليا أستاذة مشاركة في قسم علوم الأرض والبحر والجو بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، وهي أمينة مشاركة في متحف العلوم الطبيعية بكارولينا الشمالية. http://oloommagazine.com/Images/Articles/2010/11-12/2010_11_12_36.jpg

 

  مراجع للاستزادة

 

Preservation of Biomolecules in Cancellous Bone of Tyrannosaorus rex. Mary H. Schweitzer et al. in Journal of Vertebrate Paleontology, Vol. 17. No. Z pages 349-359; June 1997.

 

Beta-Keratin Specific Immunological Reactivity in Feather-like Structures of the Cretaceous Alvarezsaurid, ShuYuuia desert/. Mary H. Schweitzer et al. in Journal of Experimental Zoology. Vol m pages 146-157; August 1999.

 

Protein Sequences from Mastodon and Tyrannosauws rex Revealed by Mass Spectrometry.

John M. Asara et al in Science. Vol. 316. pages 280-285: April 13.2007

 

Dinosaurian Soft Tissues Interpreted as Bacterial Biofilms. Thomas G. Kaye et al. in PLoS ONf. Vol. 3. No. 7; July 2008.

 

Biomolecular Characterization and Protein Sequences of the Campanian Hadrosaur ft canadensis. Mary H. Schweitzer et al. in Science. Voi 324. pages 626-631: May 1.2009.

(*)BLOOD FROM STONE

(**)The Textbook Story, with a Twist

(***)First Signs

(****)Ancient Organic Remains
(*****)The Evidence Builds

(******)Dissecting a Duckbill

(*******)Extraordinary Finds

(********)Controversy And Its Aftermath

(1) the principle of parsimony

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى