أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجياعلوم الكمبيوتر

بزوغ الإنسالات(1) العالِمات


بزوغ الإنسالات(1) العالِمات(*)
باتت الآلاتُ قادرة على ابتكار فرضية، وإجراء تجارب

لاختبارها وتقييم نتائجها من دون تدخُّل الإنسان.

.D.R> كينگ<

 

 

 

باختصار

   من المسائل العلمية ما هو غاية في التعقيد لدرجة أن تصميم وتنفيذ التجارب اللازمة لاكتشاف أجوبتها يتطلَّب زمنا طويلا جدًّا في البحث.

   والإنسالات العالمات قد تسد الحاجة. فأحد النماذج المختبرية، ويسمى آدم، يمكنه استحداث فرضيات عن جينات الخميرة ووظائفها، وتصميم تجارب لاختبار الأفكار المطروحة وإدارة العمل.

   باستعمال الذكاء الصنعي والاستدلال والعتاديات الحاسوبية الإنسالية، اكتشفت الإنسالة آدم ثلاثةَ جينات تكوِّد إنزيماتٍ معينة للخميرة، لم يكن في مقدور علماء البشر إحرازها.

   قد يقول المشكِّكون إن آدم ليست من زمرة العلماء، لأنها لا تستغني عن إسهام الإنسان وتدخُّله إذا اقتضت الحاجة. غير أن العلماء البشر والإنسالات العالمات يمكنهم أن يحقِّقوا معاً ما لا يستطيع تحقيقه أيٌّ منهم بمفرده.

 

هل يمكن أتمتة automate الاكتشاف العلمي؟ لا أعني أتمتة التجارب، بل أعني: هل يمكن صنع آلة – إنسالة(1) عالِمة – تستطيع اكتشاف معارفَ علمية جديدة؟ لقد أمضيتُ وزملائي عقدا من الزمن في محاولة لإنشاء واحدة منها.

 

وفي هذا السبيل يَحدونا حافزان؛ أولهما تحقيق إدراك أعمق للعلم، حسبما أشار إليه الفيزيائي الشهير <R.فاينمان> من أن «الأشياء التي لا أتمكن من إيجادها، لا أستطيع إدراك كنهها.» وفي إطار هذه الفلسفة، فإن مسعانا إلى صنع إنسالة عالِمة يضطرنا إلى اتخاذ قرارات هندسية محدَّدة تتناول العلاقة بين المجرَّدات والمحسوسات وبين الظواهر العملية والنظرية، إضافة إلى طرائق إيجاد الفرضيات.

 

وأما الحافز الآخر، فهو حافزٌ تقاني؛ فالإنسالات العالِمات يمكنها جعْل البحث أكثر إنتاجية وجدوى اقتصادية. والواقع أن بعض المشكلات العلمية معقدةٌ لدرجة أنها تتطلَّب قدرا هائلا من البحث، وليس ثمة ما يكفي من العلماء البشر للقيام بهذا كله؛ على حين تمثِّل الأتمتةُ أكبرَ أمل لنا لحلِّ تلك المشكلات.

 

ومازالت التقانة الحاسوبية للعلم تتحسَّن باطِّراد، ومن ذلك الأتمتة المختبرية «العالية الإنتاجية» من قبيل ترتيب سلسلة الدنا(2)  واختبار العقاقير. وكذلك، وبدرجة أقلَّ وضوحا، تلك الحواسيب التي تؤتمِت عمليةَ تحليل البيانات، والتي بدأت بتوليد فرضيات علمية أصيلة. ففي الكيمياء مثلا، تساعد برامج التعلُّم الآلي على تصميم العقاقير. على أن الغرض من الإنسالة العالمة هو ضمُّ هذه التقانات لأتمتة المهمة العلمية برمَّتها: بدءا من تكوين الفرضيات، ومرورا بابتكار التجارب وإجرائها لاختبار هذه الفرضيات، وانتهاء بتفسير النتائج وإعادة هذه الدورة إلى أن تُكتشف معارف جديدة.

 

وبالطبع، فإن السؤال النهائي هو: هل بإمكاننا ابتكار إنسالة عالمة تستطيع بالفعل إنجاز المهمة برمتها؟ إن قدرات الإنسالتَيْن اللتين صُمِّمتا في مختبرنا، إضافة إلى إنسالات أُخَرَ معدودات في أرجاء العالَم، توحي جميعُها بأن في استطاعتنا فِعْل ذلك.

 

«آدم» تعمل في الخميرة(**)

 

لقد بدأ العمل الرائد في تطبيق الذكاء الصُّنعي(3) على الاكتشاف العلمي في جامعة ستانفورد في ستينات وسبعينات القرن الماضي. فقد صُمِّم برنامجٌ حاسوبيٌّ سُمِّي دندرال DENDRAL لتحليل بيانات المطياف الكتلي(4)، وكان البرنامج ميتا-دندرال(5) الملحق به أحدَ أوائل نُظم systems  التعلُّم الآلي. وكان الباحثون يحاولون إيجاد آلات مؤتمَتة تستطيع البحث عن دلائل على وجود حياة على كوكب المريخ في رحلة ڤايكنگ التي أطلقتها وكالة ناسا الفضائية سنة 1975. ولسوء الحظ، كانت تلك المهمة خلف تقانة اليوم. ومنذ ذلك الوقت انبرت برامج، من مثل پروسپكتر Prospector (في الجيولوجيا) وبيكون Bacon(في الاكتشافات العامة) وما تلاهما من برامج أحدث منهما، لأتمتة أعمال من قبيل اقتراح فرضيات وتجارب بقصد اختبارها، ومعظمها تعوزه القدرة الفعلية على إدارة التجارب فيزيائيّا، وهو أمرٌ مهمٌّ يعوَّل عليه إذا أُريد لنُظم الذكاء الصنعي أن تعمل ولو بطريقة شبه مستقلة.

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/3-4/2011_03_04_05_b.jpg

 

وإنسالتنا المسماة «آدم» ليست شبيهة بالبشر؛ بل هي مختبر مؤتمت معقَّد، قد يشغل حجمها ركنا من مكتب [انظر الإطار في الأسفل]. تتضمن هذه التجهيزة(6): مجمِّدة freezer، وثلاث إنسالات لمعالجة السوائل، وثلاث أذرع إنسالية، وثلاث حاضنات incubators، ونابذة centrifuge، وجميعها مؤتمتة. وبالطبع، فإن الإنسالة آدم تتمتع بدماغ ذي قدرة حسابية هائلة – وهو في الواقع حاسوب يقوم بعمليات المحاكمة ويتحكم في الحواسيب الشخصية التي تدير العتاد الحاسوبي.

 

وتُجري الإنسالة آدم تجارب على كيفية نمو الميكروبات وذلك بانتقاء سلالات ميكروبية وأوساط لنموِّها، ثم ملاحظة كيف تنمو السلالات في الأوساط على مدى أيام عدة. وتستطيع الإنسالة أن تستبدئ بنفسها نحو 1000 انضمام سلالة – وسط strain – media combination في اليوم الواحد. وقد صمَّمنا الإنسالة آدم بغية استقصاء جانب مهمّ في نطاق علم الأحياء، يفضي هو نفسُه إلى أتمتة الجينوميات الوظيفية functional genomics، التي تبحث في العلاقات بين الجينات genes ووظائفها.

 

لقد تناولت الدراسةُ الكاملةُ الأولى خميرة السُّكَيراءِ الجِعَوِيَّة Saccharomycescerevisiae وهي المتعضِّي organism المستعمَل في صنع الخبز والكحول. وعلماء البيولوجيا مهتمون جدّا بهذه السلالة باعتبارها متعضِّيا «نموذجيّا» يتعرَّفون بواسطته كيف تعمل الخلايا البشرية. فخلايا الخميرة تمتلك عددا أقل بكثير من الجينات التي تمتلكها الخلايا البشرية. ومن ثم، فإن الخلايا تنمو بسرعة ويسر. ومع أن آخر سَلَف مشترَك بين خلايا البشر والخميرة ربما وُجد قبل بليون سنة، فإن التطور في هذا المضمار معتدلٌ جدّا، حيث إن معظم ما يَصِحُّ على خلية الخميرة يصح أيضا على خلايانا.

 

وقد ركَّزت الإنسالة آدم على إدراك المسألة المستعصية المتعلقة بكيفية استعمال الخميرة للإنزيمات(7)  – من أجل تحويل وسط نموِّها إلى مزيد من الخميرة والفضلات. ولم يدرك العلماء بَعد هذه العملية إدراكا كاملا، مع أنهم درسوها مدة تزيد على 150 سنة. وهم إذ يعرفون كثيرا من الإنزيمات التي تنتجها الخميرة، فإنهم في بعض الحالات يجهلون هويةَ الجينات التي تكوِّدها(8). ومن هنا بدأت رحلة آدم لاكتشاف «الجينات الأم» parental genes التي تكوِّد هذه الإنزيمات «اليتيمة».

 

وحتى تكون الإنسالة آدم قادرة على اكتشاف علم جديد، فإنها تحتاج إلى معرفة قدر كبير من العلم الموجود حاليّا. لذلك زوَّدناها بخلفية معرفية شاملة عن استقلاب الخميرة yeast metabolism وجينومياتها الوظيفية. إلا أن الادِّعاء بأن الإنسالة آدم تمتلك «معرفة» كاملة عن الوسط المحيط، لا مجرد معلومات، هو اليوم مثار سجال فلسفي. غير أننا ندعي بأن «المعرفة» لها ما يسوِّغها، لأن الإنسالةَ تستعملها في التفكير وفي توجيه تآثراتها مع العالَم المادي.

 

وتَستعمل الإنسالة آدم عبارات منطقية لعرض معارفها. ذلك أن المنطق ابتُدع أصلا قبل 2400 سنة لوصف المعارف بدقة أعلى مما قد تسمح به اللغة الطبيعية. أما المنطق الحديث، فهو أكثر الطرائق دقة لعرض المعارف العلمية ولتبادل هذه المعارف بين الإنسالات وبني البشر بوضوح تام. ويمكن كذلك استعمال المنطق كلغة برمجة تمكِّن من تفسير خلفية الإنسالة باعتبارها برنامجا حاسوبيّا.

 

ولِحَمْل الإنسالة آدم على البدء بالبحث، برمَجْناها بالعديد من الحقائق. وهاك مثالا نموذجيّا: فالجين ARO3 المتعلق بالسُّكَيراء الجِعَوِيَّة يكوِّد إنزيما يدعى 3-deoxy-D-arabino-heptulosonate-7-phosphate. وكذلك زوَّدتنا الإنسالة آدم بحقائق ذات صلة، من قبيل: أن الإنزيم المذكور آنفا يُحَفِّز تفاعلا كيميائيّـا، يتمثَّل بأن المركبات phosphoenolpyruvate و D-erythrose 4-phosphate  تتفاعل لإنتاج 2-dehydro-3deoxy-D-arabino-heptonate 7-phosphate، إضافة إلى الفوسفات.

 

وبربط الحقائق المتقدمة بعضها ببعض، يتكون نموذج لاستقلاب الخميرة يدمج المعارفَ المتعلقة بالجينات والإنزيمات والمستقلَبات metabolites (جزيئات كيميائية صغيرة). والفرق بين النموذج ودائرة المعارف، هو أن النموذج يمكن تحويله إلى برمجيات software قابلة للتأثير في البيانات data للوصول إلى تنبؤات. وتستطيع الإنسالةُ العالمة دمجَ النماذج العلمية المجرَّدة مع الإنساليات المخبرية لاختبار النماذج وتحسينها آليّا.

 

الاستدلال المنطقي على الجينات(***)

 

عندما يتَّبع العلماءُ المنهجَ العلمي، فهم ينشِئون فرضيات ثم يختبرون ـ تجريبيّا ـ نتائجها الاستدلاليةَ. وفي هذه الحالة تفترض الإنسالة آدم أولا حقائقَ جديدة تتعلق ببيولوجيا الخميرة، ثم تستنبط النتائج التجريبية لهذه الحقائق باستعمال نموذجها في الاستقلاب، ثم إنها تختبر هذه النتائج تجريبيّا لتستوثق من انسجام الحقائق المفترَضة مع الملاحظات المشاهَدة.

 

تبدأ الدورة بأن تقوم الإنسالة آدم بتكوين فرضيات عن الجينات التي يمكن أن تكون أمَّات parents  للإنزيمات اليتيمة [انظر الإطار في الأسفل]. وكي تستطيع الإنسالةُ التركيزَ على أكثر الفرضيات احتمالا تَستعمل قاعدةَ معارفها. فمثلا: دلَّت معلوماتُها المتعلقة بأحد الإنزيمات اليتيمة على أنه الإنزيم 2-aminoadipate transaminase. وهذا الإنزيم يُحفِّز التفاعل: 2-oxoadipate زائد L-glutamate يُنتج L-2-aminoadipate زائد 2-oxoglutarate (يحصل التفاعل أيضا بالاتجاه المعاكس). وتتبدَّى أهمية هذا التفاعل في أنه هدفٌ محتمَل للعقاقير المُضادة للفُطْرِيَّات(9)، ولكن الجين الأم غير معروف. ولكي تكوِّن الإنسالة فرضية عن جينِ خميرة يمكن أن يكوِّد هذا الإنزيم، عمدت أولا إلى استعلام قاعدة معارفها لترى هل توجد جيناتٌ من متعضِّيات أخرى من المعروف أنها تكوِّد الإنزيم. وجاء جواب الاستعلام يحمل الحقيقة الآتية: إنَّ لدى الجُرَذ النَّرْويجِيّ (الفأر البني) Rattus norvegicus جينا يدعى Aadat  يكوِّد الإنزيم.

 

أخذت الإنسالة آدم من الإنزيم سلسلةَ الپروتين المكوَّدة بجين Aadat، وراحت تبحث: هل توجد أيُّ سلسلة پروتينية مشابهة مكوَّدة في جينوم الخميرة yeastgenome؟ وتعلم الإنسالة آدم أنه إذا كانت سلسلتا الپروتين متشابهتين بقدر كافٍ، فمن المنطقي الاستنتاج بأنهما متماثلان homologous أي تشتركان في سَلَف أعلى مشترك. وتدرك الإنسالة آدم أيضا أنه إذا كانت سلسلتا الپروتين متماثلتين، فإن وظيفة سَلَفِهما الأعلى المشترك ربما كانت محفوظة conserved. ولذلك، تستطيع الإنسالةُ الاستدلال بسلاسل الپروتين المتشابهة على أن الجينات المكوِّدة لهذه السلاسل قد تكون لها الوظيفة نفسها. وقد اكتَشفت الإنسالة آدم ثلاثةَ جينات للخميرة yeast genes ذات سلاسل مشابهة لسلسلة الجين Aadat هي: YER152c و YJL060w و YJL202w، فافترضت أن كلاّ من هذه الجينات يكوِّد الإنزيم 2-aminoadipate transaminase.

 

 

كيف تعمل آدم

بيولوجيا إنسالية(****)

   «آدم» إنسالة عالمة في جامعة ويلز، تبحث في العلاقات بين الجينات ووظائفها. وفي عمل مبكر لها، استطاع حاسوب الذكاء الصنعي لديها صوغ 20 فرضية عن الجينات التي يمكنها أن تكوِّد إنزيمات معينة، لها دور حاسم في نمو الخمائر. ومن ثم أنجزت آلاف التجارب لتجد دليلا يؤيد صحة الفرضيات أو عدم صحتها. وإليك البيان.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/3-4/2011_03_04_07.jpg

 

ولكي تختبر الإنسالة آدم فرضياتها، قامت بإجراء عدد من التجارب الفيزيائية؛ فزَرَعَتْ سلالاتِ خميرة محدَّدة اختارتها من مجموعة كاملة محفوظة في مجمِّدتها، بحيث انتُزع من كلِّ سلالة جينٌ معيَّن. وسَبَرَت الإنسالةُ نموَّ سلالات الخميرة الثلاث التي فقـدت الجينـات YER152c و YJL060w و YJL202wعلى الترتيب، لدى زراعتها بوجود موادَّ كيميائية – مثل L-2-aminoadipate  – ذات  صلة بالتفاعل الذي حفَّزه الإنزيم.

 

والخطوة التالية هي إجراء اختبار على السلالات. ولكن لما كانت الأموالُ المخصصة للعلم محدودة دوما، والعلماءُ غالبا ما يتنافسون لإحراز قصب السَّبَق في حلِّ مشكلة، فقد أخذنا على أنفسنا تصميم الإنسالة آدم لتقوم بابتكار تجارب فعالة في اختبار الفرضيات بتكلفة منخفضة وسرعة عالية. ولتحقيق هذا المطلب، تفترض الإنسالة آدم أن كلَّ فرضية تحتمل الصحة. غير أن هذا الافتراض هو موضع خلاف؛ فبعض الفلاسفة – مثل <K.پوپر> – لا يقرِّون بأن تكون للفرضيات احتمالاتٌ مرافقة. ومع ذلك، فإن معظم العلماء العاملين يسلِّمون ضمنيّا بأن أنواعا معيَّنة من الفرضيات أرجح من غيرها في إثبات البرهان على صحتها. فهم يتَّبعون مثلا الفكرة العامة «نَصْل أوكام»(10)  –  وهي تقول: في الأحوال العادية يكون احتمال الفرضية البسيطة أكبر من احتمال الفرضية المعقدة. وتأخذ الإنسالة آدم بالحسبان أيضا تكلفة أي تجربة محتملة، وهي حاليّا لا تتجاوز تكلفةَ المواد الكيميائية المستعملة فيها، علما بأن المنهج الأفضل هو الذي يأخذ بالحسبان «تكلفة» الوقت أيضا.

 

ولو افترضنا وجود مجموعة من الفرضيات مع احتمالاتها المرافقة، ومجموعة من التجارب المحتملة مع تكاليفها المرافقة فإن الهدف الذي نحدِّده للإنسالة آدم هو أن تختار سلسلة من التجارب التي من شأنها أن تخفِّض إلى الحدِّ الأدنى التكلفةَ المتوقعةَ من استبعاد جميع الفرضيات عدا واحدة منها. ومع أن متابعة هذه المقاربة على النحو الأمثل صعبةٌ جدّا حاسوبيا، فقد أظهرت تحليلاتنا أن استراتيجية الإنسالة آدم التقريبية تنتقي التجارب التي تحلّ المشكلات بتكلفة أقل وسرعة أكبر من غيرها من الاستراتيجيات، فيقع اختيارها مثلا – وبكل بساطة – على أقل التجارب تكلفة. وفي بعض الحالات، تستطيع الإنسالة آدم تصميمَ تجربة واحدة يمكنها تسليط الضوء على كثير من الفرضيات. على أن العلماء البشر يسعون جاهدين إلى فعل مثل هذا؛ فهم يميلون إلى طرح فرضية واحدة في كل مرة.

 

 

تجربة فكرية

كيف تفكر الإنسالات(*****)

   كيف «تفكر» الإنسالة العالمة؟ إنها تستعمل الخيارات نفسها التي يستعملها البشر. أحد هذه الخيارات هو الاستدلال الاستنتاجي deductiveinference، وهو الأساس في الرياضيات وعلم الحاسوب. وهو إلى ذلك مُحْكَم sound؛ أي إذا بدأت بقضية صحيحة فيمكنك استنتاج قضايا جديدة صحيحة فقط. ولكن لسوء الحظ، وبسبب غياب «نظرية كاملة لكلِّ شيء»، فإن هذا الاستدلال غير كافٍ في العلم، لأنه لا يستطيع أن يجد حلاّ إلا لنتائج معلومة سابقًا.

   خيار ثانٍ هو الاستدلال الإبعادي abductivereasoning، وهو غير محكم، كما هو واضح في مثال الإوزة swan  التالي؛ إذ إن كثيرًا من الأشياء تكون بيضاء، ولكنها ليست إوزّا. يقدِّم هذا الاستدلال حاليًّا طريقة في توليد فرضيات يمكن أن تكون صحيحة. إن الاستبصار النافذ في العلم يرى أن طريقة تقرير الحقيقة ليست محصورة بالاستدلال الصِّرف من الافتراضات، بل بإجراء التجارب على العالَم المادي. فإذا افترضت الإنسالة آدم أن ديزي Daisy هي إوزة، فإن طريقتها في تقرير صحة هذا الافتراض هي أن تقوم الإنسالة آدم بمسك ديزي تجريبيّا وفحص كونها إوزة أو بطة duck أو غير ذلك.

   الخيار الثالث هو الاستقراء induction، وهو كالاستدلال الإبعادي، يقدم طريقة لاستنتاج فرضيات جديدة. فإذا كانت كل إوزة نراها بيضاء، فمن الطبيعي أن نستنتج – كما فعل أرسطو – أن جميع الإوز بيضاوات. ولكن الاستقراء غير مُحْكَم، وقد ثبت بطلان استقراء أرسطو باكتشاف الإوز الأسود في أستراليا. ونحن نستعمل الاستقراء دائمًا في حياتنا اليومية. فهو يطمئننا بأن الشمس ستشرق غدًا وأن فطورنا لن يُسمِّمنا. ومع ذلك، فإن دور الاستقراء في العلم مدعاة خلاف، لأن مسوغات الاستقراء هي أنه يعمل عمومًا، وهذا بحدِّ ذاته استقراء.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/3-4/2011_03_04_08.jpg

تستطيع الإنسالات – شأنها شأن البشر- استعمال أساليب متعددة في الاستدلال. يمكن أن تكون هذه الأساليب صحيحة أو غير صحيحة، ولكنها على أية حال تقدِّم طرائق لتكوين الفرضيات، وتقترح تجارب يمكن إنجازها لاختبار هذه الفرضيات.

 

20 فرضية، منها 12 فرضية مبتكَرة(******)

 

ما أن يتوجَّه اهتمامُ نظامِ الذكاء الصنعي لدى الإنسالة آدم إلى التجارب الواعدة حتى تبادر إلى استعمال تقاناتها الإنسالية(11)  لتنفيذ هذه التجارب ومراقبة نتائجها. فهي لا تستطيع مراقبة الجينات والإنزيمات بصورة مباشرة؛ بل تقتصر ملاحظاتُها على ملاحظة كمية الضوء المسلَّطة على مزارع الخميرة. وانطلاقا من هذه البيانات، ومرورا بسلسلة معقدة من الاستدلالات، تقرِّر الإنسالة آدم: ما إذا كان الدليل ينسجم مع الفرضيات المتعلقة بالجينات والإنزيمات أم لا. ومثل هذه السلاسل من الاستدلالات أمرٌ مألوفٌ في العلم؛ فمثلا، يستدل علماء الفلك على ما يحدث في المجرَّات النائية من الأشعة التي يعاينونها بأجهزتهم الفلكية.

 

لقد كان البتُّ في مسألة انسجام الفرضيات من أصعب المهمات على الإنسالة آدم، وذلك لأن العلماء كانوا قد اكتشفوا جميعَ الجينات التي يسبِّب انتزاعُها اختلافات نوعية في نمو الخميرة. وعلى ذلك، فإن انتزاع جينات أخرى لا يَنتج منه عموما سوى اختلافات ثانوية في النمو. وتَستعمل الإنسالة آدم تقنيات معقدة للتعلُّم الآلي لكي تقرِّر مدى أهمية أيّ من الاختلافات الثانوية عند انتزاع جين من الجينات.

 

وقد ولَّدت الإنسالة آدم 20 فرضية عن الجينات التي تكوِّد إنزيمات معيَّنة في الخميرة، وأثبتتها تجريبيّا. وكانت فرضياتُ الإنسالة آدم هذه – كسائر الفرضيات العلمية – بحاجة إلى إثبات. لذلك ذهبنا نتحقق من صحة ما وصلت إليه من نتائج باستعمال مصادر أخرى من المعلومات غير متاحة لها، وبإجراء تجارب جديدة نفَّذناها بأيدينا، خلصنا إلى أنَّ سبعا من نتائج آدم معروفة سابقا، ونتيجة واحدة خطأ، واثنتي عشرة نتيجة علمية مبتكرة.

 

وقد أكَّدت تجاربُنا اليدوية لاختبار النتائج أن الجينات الثلاثة (YER152c وYJL060w و YJL202w) تكوِّد الإنزيم 2-aminoadipate transaminase. أما السبب المحتمل في أن وظيفة الجينات الثلاثة لم تُكتشَف سابقا، فهو أن هذه الجينـات تكوِّد الإنزيم نفسَه؛ وأن الإنزيم يستطيع تحفيز سلسلة من التفاعلات ذات الصلة؛ وليس للتمثيل البسيط المؤلَّف من جين واحد مقابل إنزيم واحد – وهي الحـالة الشـائعة – مكانٌ هنا. فكان الاختبار الدقيق الذي أجرته الإنسالةُ آدم وتحليلها الإحصائي ضروريّا لحلِّ هذه التعقيدات.

 

هل تُعَدُّ الإنسالة عالمة؟(*******)

 

يعترض البعضُ على مصطلح «إنسالة عالمة»، مشيرين – مع شيء من التسويغ – إلى أن الإنسالة آدم أقربُ إلى عالِمة مساعِدة منها إلى عالمة مستقلة. إذن، فهل من الصواب إذن الادعاء بأن الإنسالة آدم اكتشفت معارف علمية جديدة من تلقاء نفسها وبصورة مستقلة؟ لنبدأ بـ «الاستقلالية». لا نستطيع ببساطة أن نطلق الإنسالة آدم للعمل ثم نعود بعد بضعة أسابيع لنتفقد نتائجها. فالإنسالة آدم هي نموذج تجريبِي، وعتادياتها الحاسوبية وبرمجياتها كثيرا ما تتعطَّل، ويتطلب ذلك تَدخُّلَ فنِّيّ مختص. حيث إن دمج وحداتها البرمجية يحتاج أيضا إلى تحسين بحيث تعمل جميعها بسلاسة من دون أي تدخُّل من الإنسان. ومع ذلك، فإن فعالية الإنسالة آدم في وضع الفرضيات وإثبات معارف جديدة تجريبيّا لا يعتمد على فِكر بشريّ أو جهد مادي.

 

أما مصطلح «الاكتشاف»، فيثير جدلا يعود إلى القرن التاسع عشر وإلى شخصية الليدي <A.لوڤليس> التي تنتمي إلى الحركة الرومانسية في الأدب والفن، وهي ابنة الشاعر <لورد بايرون>، وتعاونت مع <Ch.بابيج>، أول مَن وضع تصورا لآلة حاسبة متعددة الاستخدامات. وقد أدلت الليدي <لوڤليس> بحجة تقول: «ليس للآلة التحليلية أن تدَّعي لنفسها ابتداع أي شيء، كلُّ ما تستطيع فعلَه هو أن تؤدِّي ما نأمرها نحن بأدائه.» وبعد مئة عام عرضَ العالِم الكبير في الحواسيب <M.A.تيورنگ> حجة مضادة على سبيل القياس إلى الأطفال. فكما أن الأساتذة لا ينالون كامل الفضل على اكتشافات تلاميذهم، فليس من العدل أن يدَّعي بشرٌ لأنفسهم كاملَ الفضل على أفكار من نِتاج آلاتنا. ولهذه المناقشات أهمية تجارية متنامية؛ فقانون براءة الاختراع في الولايات المتحدة مثلا ينص على أن «الشخص» فقط هو الذي يمكن أن «يخترع» شيئا ما.

 

وأخيرا، ما درجة الأصالة في علم الإنسالة آدم؟ إن بعض التقابلات بين وظائف الجينات والإنزيمات في خميرة السُّكَيراء الجِعَوِيَّة – التي كانت الإنسالة آدم قد وَضَعت لها فرضيات وأثبتتها تجريبيّا – مَعْرفةٌ مبتكَرة بالتأكيد، وهي – على تواضعها – تمثل معرفة لا يستهان بها. ففي حالة الإنزيم 2-aminoadipate transaminase، اكتشفت الإنسالة آدم ثلاثةَ جينات منفصلة يمكن أن تحل لغزًا عمره 50  سنة. ولا غرو في أن بعض استنتاجات الإنسالة ربما تكون خاطئة؛ فجميع المعارف العلمية هي في واقع الأمر غير نهائية. على أن من غير المحتمل كذلك أن يكون جميع ما توصلت إليه الإنسالة من نتائج خاطئا. وقد مضت اليوم سنتان ونتائج الإنسالة آدم بين أيدي الباحثين من القطاع العام، من دون أن يشيرَ أحدٌ إلى وجود أيِّ خطأ فيها. ومبلغ علمي أن أحدا من العلماء – خارج فريق عملنا – لم يحاول حتى الآن استخراج نتائج الإنسالة آدم ثانية.

 

وثمة طريقةٌ أخرى لتقييم مدى كون آدم عالمة، وهي النظر في قابلية أسلوب عملها في توليد فرضيات مبتكَرة من أجل التعميم. لقد بدأنا، منذ أن انطلقت الإنسالة آدم في إجراء التجارب، بتطوير إنسالة ثانية هي «حواء» Eve. تطبِّق الإنسالة حواء دورات البحث المؤتمتة نفسها لاختبار العقاقير وصنعها، وهو مطلبٌ طبيٌّ وتجاريٌّ على جانب كبير من الأهمية. وتوخَّينا أن نوظِّف الدروسَ التي تعلَّمناها من تصميم الإنسالة آدم في جعل حواء منظومة أكثر تناسقا وجاذبية من سابقتها. ويتركز البحث الذي تقوم به الإنسالة حواء على الملاريا، والبلهارسيا، ومرض النوم، وداء شاگاس Chagas disease. ومازلنا نطوِّر برمجيات حواء، غير أن الإنسالة حواء سبق أن اكتشفت مركبات مثيرة يبدو أنها واعدة في مكافحة فعالة للملاريا.

 

شاهد ڤيديو آدم وحواء على الرابط

ScientificAmerican.com/jan2011/king

 

هذا ويطبِّق بعضُ الباحثين مقاربات مشابهة لمقاربات الإنسالة آدم. فالباحث <H.ليبسون> [من جامعة كورنيل] يطبق اختبارات مؤتمتة لتحسين تصميم الإنسالية المتحركة، ولفهم النُّظُم الديناميكية. وهناك باحثون آخرون يحاولون تطوير إنسالات عالمة في الكيمياء والبيولوجيا والهندسة.

 

في حين تبحث مجموعات، ومنها مجموعتنا، في طرائق أتمتة أبحاث الفيزياء الكمومية quantum physics، وبوجه خاص كيفية التحكم في العمليات الكمومية. فمثلا، يدرس <A.H.رابيتز> [من جامعة پرنستون] طرق استخدام ليزرات الفيمتوثانية(12) (10-15) للوقوف على طرائق لتأليف أو حلِّ روابط  كيميائية مستهدفة. ويتمثل التحدي القائم هنا بكيفية صوغ تجارب ذكية بسرعة.

 

شركاء بشر(********)

 

إذا قبلنا بفكرة إمكان أن تكون الإنسالات عالمات، فقد نرغب في معرفة محدودياتها. ولعلَّ من المفيد مقارنة أتمتة العلم بأتمتة الشطرنج. فأتمتة الشطرنج في جوهرها مسألةٌ محلولة، إذ إن الحواسيب تلعب الشطرنج بمهارة توازي أو تفوق أفضل اللاعبين من بني البشر، كما تؤدي نقلات أخَّاذة. وسيطرة الحاسوب في هذا المجال ممكنة، لأن الشطرنج عالَمٌ مجرَّدٌ ومحدود بـ64 مربعا و 32 قطعة. ويدخل العلمُ في شطر كبير من عالَم الشطرنج المجرَّد، ولكن أتمتة العلم ستكون أصعب لأن مكان إجراء التجربة هو العالَم المادي. على أنني، مع ذلك، أتوقع أن تطوير إنسالات عالِمات قادرات على أداء مهمات علمية رفيعة المستوى، ربما يكون أسهل من تطوير نُظُم للذكاء الصنعي قادرة على التآثر اجتماعيّا مع البشر. ففي العلم، بإمكانك أن تفترض – وأنت مطمئن – أن العالَم المادي لن يحاول خداعك، على حين أن هذا ليس صحيحا في المجتمع.

 

إن أبرع لاعبي الشطرنج من بني البشر وأرسخهم قدما يستعملون اليوم الحواسيب للارتقاء بمستوياتهم في الشطرنج – من جهة تحليل وضعيات اللعب والتحضير لهجمات جديدة. وبالمثل، فإن العمل المشترك بين العلماء البشر والإنسالات العالمات، مع تباين نقاط القوة والضعف بينهما، يمكن أن يحقِّق إنجازات أكثر مما قد يستطيع أحدهما تحقيقه. وإن التقدُّم الحاصل في عتاديات الحاسوب ونُظُم الذكاء الصنعي سيقود لا محالة إلى إنسالات عالمات أكثر ذكاء.

 

والسؤال الأساسي المتعلق بمستقبل العلم هو: هل ستكون هذه المبتكرات قادرة دوما على إحداث استبصارات من شأنها أن تغيِّر طرائق التفكير، أم إنها ستبقى مقتصرة على التحرِّيات العلمية الروتينية؟ يرى بعضُ العلماء الأعلام، من أمثال <P.أندرسون> [الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء] أن العلم الذي يغيِّر طريقة التفكير هو من العمق بحيث قد يستعصي على الأتمتة الوصول إليه. لكن <F.ويلكزك> [وهو حائزٌ أيضا على جائزة نوبل في الفيزياء] يرى أنه في غضون مئة عام ستكون الآلة هي أفضل علماء الفيزياء. ولسوف تكشف قادمات الأيام أيهما كان على صواب.

 

ومهما يكن الرأي، فإنني أرى مستقبلا تتضافر فيه جهودُ العلماء البشر والإنسالات العالمات، وستوصَّف المعرفة العلمية باستعمال المنطق، وتنتشر آنيّا باستخدام الوِب Web. وستؤدي الإنسالات تدريجيّا دورا متعاظما باطِّراد في تقدُّم العِلْم.

المؤلف

Ross D. King
أستاذ علم الحاسوب في جامعة ويلز، ويبحث في علم العِلم the science of science، ومن ضمن ذلك طرق تطبيق علم الحاسوب على الكيمياء والبيولوجيا. http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/3-4/2011_03_04_05_a.jpg

  مراجع للاستزادة

 

Computing Machinery and Intelligence. A. M. Turing in Mind, Vol. LIX, No. 236, pages 433-460: October 1950. http://loebner.net/Prizef/TuringArticle.html

 

How DENDRAL Was Conceived and Born. Joshua Lederberg. ACM Symposium on the History of Medical Informatics. National Library of Medicine, November 5,1987. http://profiles.nlm.nih.gov/BB/A/L/Y/P/_/bbalyp.pdf

 

An Introduction to the Philosophy of Science. Rudolf Camap. Edited by Martin Gardner. Dover, 1995.

 

The Chemistry of Life Fourth edition. Steven Rose. Penguin. 1999.

 

The Automation of Science. Ross D. King et al. in Science. Vol. 324, pages 85-89: April 3.2009.

(*) Rise of the Robo Scientists

(**) ADAM TAKES ON YEAST

(***) REASONING ABOUT GENES

(****) Robotic Biology

(*****) How Robots Reason

(******) 20 HYPOTHESES, 12 NOVEL

(*******) IS THE ROBOT A SCIENTIST?

(********) HUMAN PARTNERS

(1) robot = إنسالة وهذه نحت من إنسان-آلي، وجمعها إنسالات؛ ومن إنسالة نشتق إنسالية = robotics

(2) DNA sequencing

(3) artificial intelligence

(4) mass-spectrometer

(5) Meta-DENDRAL

(6) equipment

(7) enzymes = پروتينات معقدة تحفز تفاعلات كيميائية حيوية معينة.

(8) encode

(9) antifungal drugs

(10) Occam’s razor

(11) robotics

(12) femtosecond

http://oloommagazine.com/Images/none.gif

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى