أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحة

سبيل سريع لابتكار لقاحات


سبيل سريع لابتكار لقاحات(*)

إنّ تحليل جميع طبقات الجهاز المناعي في آن واحد
يُسرّع من تصميم اللقاحات، وقد يؤدي يوما ما إلى إنجاز
حاسم ضد ڤيروس عوز (نقص) المناعة البشرية المكتسب (HIV)

<A. أديريم>

 

باختصار

   تعتمد الطرائق التقليدية لتصميم اللقاحات اعتمادا كبيرا على مبدأ التجربة والخطأ. إذ يطور الباحثون أحد المُركبات التي يعتقدون أنها سوف تحفز حدوث استجابة مناعية، ومن ثمّ يقومون بتجربة هذا المركب على آلاف البشر.

برز حقل جديد في ميادين الأبحاث يعرف ببيولوجيا النُّظُم systems biology يستطيع جعل عملية تطوير اللقاحات وتجربتها أكثر سرعة وكفاءة.

تقوم فرق الباحثين بقياس التغيرات في الأنشطة الجينية ومستويات البروتينات والسلوك الخلوي للجهاز المناعي استجابة للِّقاح المحتمل. وتقوم حواسيب خاصة بتحليل البيانات الناتجة لتطوير سمات جزيئية لهذه الاستجابات.

وبمقارنة السمات الجزيئية بالسمة المثالية التي يُفترض أن تنشأ نتيجة لاستجابة مناعية وقائية متكاملة، يتمكن الباحثون من العثور على صيغ اللقاحات الواعدة أكثر وتطويرها.

 

في عام 2007، أصيب الباحثون في مجال ڤيروس عوز (نقص) المناعة البشرية المكتسب (HIV)، ومؤيدو العمل على مكافحته، بخيبة أمل كبيرة، إذ فوجئوا بفشل أحد اللقاحات التي علّقوا عليها آمالا كبيرة ضد هذا الڤيروس، فلم ينجح ذلك اللقاح في حماية أيَ فرد من ثلاثة آلاف شخص في تجربة سريرية. ومما زاد الأمر سوءا أن اللقاح التجريبي الذي شارك في تمويله كلّ من شركة ميرك للأدوية والمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، قد فاقم بالفعل من فرص إصابة بعض الأشخاص بالڤيروس (HIV) في وقت لاحق. فقد صُرفت ملايين الدولارات ومر ما يزيد على عقد من الزمن من الأبحاث التي كانت تهدف إلى ابتكار اللقاح. وخلال هذه السنوات العشر توفي 18 مليون شخص بمُتَلازِمَة عَوَزِ (نقص) المَناعة المُكْتَسَب (الإيدز)، وأصيب بالإنتان به ملايين أخرى من البشر.

ويُعزى السبب الأكبر لفشل لقاح الشركة ميرك Merck إلى جهل الباحثين، حتى الآن، بالكيفية التي يمكنهم من خلالها ابتكار اللقاح الأمثل لهذا المرض. صحيح أنّ عددا من اللقاحات الأخرى قد حقق نجاحا مذهلا، مثل لِقاحُ شَلَلِ الأَطْفال والجُدَرِيّ، غير أنّ الحقيقة تكمن في أنّ الحظ قد أدى دورا كبيرا في تحقيق هذه النجاحات. واستنادا إلى المعرفة المحدودة بالجهاز المناعي والسمات البيولوجية للمُمْرِضات(1) pathogens، فقد افترض الباحثون فرضيات مدروسة حول تركيبات اللقاح التي يمكن لها أن تنجح، وربما بعد إجراء قليل من التعديلات عليها، وقد كان لهذه التخمينات حظ طيب فأثبتت صحتها عندما نجحت في حماية الناس. غير أنّه في كثير من الأحيان قد يؤدي عدم التبصر الكافي بالاستجابة المناعية المطلوبة إلى خيبة الأمل، وذلك عندما يُعلن عن عدم فعالية لقاح ما بعد تجريبه على عدد كبير من الناس.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_33.jpg

 

ولكن ماذا لو توفر للباحثين سبيل أسرع وأكثر فاعلية بحيث يستطيعون من خلاله تطوير لقاحات مُحتملة وتقييمها؟ مثاليا ستقوم الطريقة البديلة على فهم واضح للمزيج الدقيق من الاستجابات المناعية التي ينبغي أن تحصل إذا ما أريد من اللقاح أن يُحدِثَ تفاعلا وقائيا قويا. فعلى سبيل المثال، أي من مجموعات الخلايا المناعية يجب عليها أن تتفاعل في ما بينها، وبأي الطرق؟ وما هي مجموعات الجينات التي ينبغي على هذه الخلايا أن تنشطها أو تثبطها؟ وعندها يُمكن للباحثين تجميع هذه المعلومات على شكل صورة للجهاز المناعي بكامله، أو بصمة للمناعة الوقائية. وبدوره، سوف يقوم هذا النهج بإرشادنا بدقة إلى ما ينبغي على اللقاح عمله للوقاية من المرض. يستطيع العلماء أن يقارنوا بين مئات من التركيبات المحتملة، وأن لا يتبعوا منها سوى التركيبات التي تعطي مرتسمات profiles قريبة من التركيبة المُثلى. عندها، يستطيع هؤلاء العلماء متابعة العمل على تحسين تلك التركيبات المحتملة من اللقاحات في تجارب تجرى على مجموعات صغيرة من البشر حتى الوصول في النهاية إلى عدد قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد من اللقاحات المرشحة لتوليد البصمة البيولوجية الأقرب إلى اللقاح الأمثل. ومن خلال محاولة المواءمة بين مختلف البصمات المثلى لهذه التجارب الصغيرة، يستطيع هؤلاء العلماء خلال فترة قصيرة جدا، معرفة ما إذا كان للقاح فرصة جيدة للنجاح. ومع حلول الوقت الذي يختبر فيه اللقاح التجريبي النهائي في تجارب سريرية موسعة على الناس، سيكون نجاحه مضمونا واقعيا.

 

كيف تعمل اللقاحات

تفاصيل حول الدفاع(**)

   يتمثّل نجاح اللقاح بقدرته على تحفيز الجهاز المناعي على بناء دفاع قوي ضدّ ڤيروس مُعيّن أو بكتيريا أو مُمْرِض آخر قبل حدوث الإنتان بهذا العامل. وتُطلق أفضل مركبات اللقاحات (سواء كانت محضَّرة من ڤيروس كامل أو من ڤيروس مُعَطّل أو من قطع من الڤيروس) عددا من التفاعلات المتتابعة في فرعين من الجهاز المناعي، هما الجهاز المناعي الذاتي والجهاز المناعي التكيفي. ويوضح هذا الشكل الخطوات الرئيسة في تحضيرات ميدان الحرب المعقدة. وثمة مجموعة جزئية من المدافعين في الجبهة الأمامية من الخَلاَيا التَغَصُّنِيَّة the dendritic cells، وهي خلايا غير متخصصة، تستجيب سريعا بعد دخول اللقاح إلى الجسم، وتبتلع هذه الخلايا جزيئات اللقاح قبل تسليمها المهمة التالية إلى خلايا أكثر تخصصا – وهي الخلايا التائية والخلايا البائية المنتجة للأضداد antibodies – وذلك كي تتذكر العامل الغازي وتحضِّر الجسم لردع أي هجمات مُستقبلية يشنها عليه أعداؤه من المِيكروبات ذاتها أو الميكروبات المشابهة لها.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_34.jpg

   (1) استجابة مناعية ذاتية:
تمتص الخلايا المناعية المعروفة بالخلايا التغصنيّة شظايا اللقاح (المُستضدات) التي تساعد الجهاز المناعي على تحديد كيفية الاستجابة المطلوبة.

   (2) استجابة مناعية تكيفية:
تنتقل الخلايا التغصنيّة إلى العقد اللمفاوية حيث تعرض الخلايا شظايا المستضدات أمام خلايا أخرى لتستَحِثّ بذلك عمل الجهاز المناعي التكيفي.

   (3) استجابة الخلايا التائية:
تتحول بعض الخلايا في الجهاز المناعي التكيفي إلى خلايا تائية قاتلة تتعرف في الأنسجة المصابة الإنتانَ وتدمره. بينما تتحول خلايا تائية أخرى إلى «خلايا ذاكرة» تبقى في الجسم لسنوات لحراسة أنسجته السليمة.

   (4) استجابة الأجسام المضادة:
تُطلق الخلايا التائية المُساعدة المُنشّطَة مواد كيميائية تؤثر في الخلايا التائية القاتلة؛ وتتفاعل الخلايا التائية المُساعدة أيضا مع الخلايا البائية مولدة أضدادا ضد مستضدات اللقاح. ويستمر وجود عدد من الخلايا البائية في الجسم تعرف بالخلايا البائية الذاكرة.

   (5) استجابة مناعية تكيفية لاحقة:
تنطلق خلايا الذاكرة التائية والبائية فورا إلى العمل عندما تحاول العوامل الغازية للجسم التي تحمل مستضدات تشابه المستضدات الموجودة في اللقاح مهاجمة الجسم في وقت لاحق.

 

حتى وقت قريب، لم يكن العلماء يمتلكون الأدوات أو الخبرة التي تجعلهم قريبين إلى هذه الرؤية vision. فقد كانت ثمة حاجة إلى وجود فِرَق متعددة الاختصاصات قادرة معا على فهم علم المناعة وبيولوجيا الميكروبات، وكيفية وضع نماذج تمَثُّل النظم البيولوجية المعقدة، وتعرف الأنماط المفيدة ضمن كم هائل من البيانات. كذلك، كانت ثمة حاجة إلى وجود تقانة قادرة على القيام بقياسات متعددة ومتزامنة للتغيرات الحاصلة في الأنشطة الجينية، ومستويات البروتينات، والسلوك الخلوي(2)، وفي غير ذلك من سمات الاستجابات المناعية – إضافة إلى الحواسيب وبرامجها التي تستطيع معالجة جميع هذه البيانات.

ومع ذلك، يقوم الآن عدد من الباحثين العاملين في حقل يطلق عليه اسم بيولوجيا النُّظُم systems biology بتشكيل مثل هذه الفرق، واتخاذ الخطوات  الأولى لتطوير الأدوات، التي يمكنها أن تحسن بشكل كبير من طرق تصميم اللقاحات. وقد بدأنا العمل الآن، كجماعة، بتفكيك تفصيلي لشفرة(3)الاستجابات المناعية المطلوبة لحماية الإنسان من الڤيروس HIV. كما يجري حاليا استخدام مقاربات بيولوجيا النُّظُم لتطوير لقاحات ضد الإيدز والدرن (السل) والملاريا والإنفلونزا.

حالة اختبارية(***)

إن جميع اللقاحات، سواء ما تم تحضيره بالطريقة التقليدية أو بناء على أبحاث بيولوجيا النُّظُم، تحتوي على قطع صغيرة من الڤيروسات أو من البكتيريا أو من الطفيليات التي تحفز استجابات مناعية نوعية جدا. وفي بعض الأحيان، تكون هذه القطع الصغيرة، التي يسميها العلماء المُستَضِدّاتantigens، جزءا من ڤيروس كامل مُضْعَف (وهذا ما كان عليه الحال منذ 200 عام، عندما قام <E. جينّر> بتلقيح صبي يافع بلقاح الجُدَري مستخدما القيح الذي أخذه من صديد من بثرة مرض جدري البقر ظهرت على جلد إحدى العاملات في حلب الأبقار المصابة بالمرض). وفي أحيان أخرى، تكون المستضدات جزءا من ڤيروس كامل – ولكنه مُعَطّل تماما – مستخلص من عامل مسبب للإنتان (مثل نسخة سولك Salk من لقاح شلل الأطفال)، أو أن تكون جزيئات المستضد بحد ذاتها هي اللقاح نفسه (كما في اللقاحات المضادة للخناق (الدفتريا)، والشاهوق (السعال الديكي)، والكزاز (التيتانوس). وقد تتضمن بعض اللقاحات مواد مساعدة، وهي مواد تحفز الأنشطة المناعية بشكل عام. وعندما تسير جميع الأمور على ما يرام، يستجيب الجهاز المناعي لمستضدات اللقاحات بسلسلة موجهة ومنظمة من الأحداث الخلوية والجزيئية التي تسمح للجسم بإحصار block  أي إنتان مستقبلي ڤيروسي أو بكتيري يحمل المستضدات ذاتها أو ما يشابهها. ويكمن السر في قدرة مطوري اللقاحات على إيجاد التوليفة الصحيحة من المواد المستضدية والمواد المساعدة التي توفر التحصين الأقوى.

وعلى الرغم من أنّ لقاح الحُمّى الصفراء، المعروف باللقاح YF-17D، قد طُوِّر بالطريقة التقليدية، فإنه قد نجح في تحقيق المرجو منه بدقة. فهو واحد من أكثر اللقاحات التي أُنتجت حتى الآن فاعلية. إنّ حقنة واحدة من هذا اللقاح توفر المناعة للجسم خلال أسبوع واحد فقط وحماية تدوم 30 عاما على الأقل. قدّم هذا النجاح فرصة لاختبار بعض الأفكار والطرق المتبعة في بيولوجيا النُّظُم، ودفع إلى الشروع فورا في دراسة ذلك، وقد قاد هذه الدراسة <B. پولندْرَن> [من جامعة إيموري] بمساعدة فريق <رافي أحمد> [من جامعة إيموري أيضا ومن فريق في معهد بيولوجيا النظم (ISB)] ولأننا نعلم أنّ اللقاح فعّال، اعتقدنا أنه سيكون بمقدورنا تعرف المرتسم التفصيلي للتغيرات الجزيئية والخلوية(4)  التي ينتج منها نجاح التحصين لدى الأشخاص الذين لقّحوا به. وقد عثرنا على هذه البصمة وانطلقنا نبني على الخبرات المكتسبة لتعرف سبب فشل لقاحات الڤيروس HIV في إطلاق المناعة المطلوبة للوقاية من الإنتان.

لقد بدأنا تجربة الحمّى الصفراء من خلال تلقيح 25 متطوعا أصحاء، بلقاح الحمّى الصفراء YF-17D. ومن ثم أخذنا عينات دم من المتطوعين على مراحل متعددة: عينة عند التلقيح، وأخرى بعد ثلاثة أيام منه، وأخرى بعد سبعة أيام، وأخرى بعد 21 يوما. ثم وضعت كلّ عينة من العينات في جهاز الكشف الآلي لتعرف أي من الجينات جرى تنشيطها. وبالطبع، لا تقوم الجينات بشكل مباشر بإنتاج البروتينات التي تحتاج إليها الخلية. ففي البداية يتم استنساخ جزيئات الدنا إلى جزيئات من الرنا المرسال messenger RNA التي تستخدم بدورها كنموذج لبناء البروتينات. وهكذا فإنه من خلال تعرف مستويات الرنا، نستطيع تعرف، ليس فقط الجينات التي تم التعبير عنها (أي التي استخدمت لإنتاج البروتين)، بل يمكن أيضا تعرف مدى فعالية تلك الجينات.

وكما توقعنا، فإنّ اللقاح YF-17D يقوم أوّلا بتفعيل الجهاز المناعي الذاتي،  وهو الجهاز المناعي الأقدم (من وجهة النظر التطورية) من بين الفرعين الدفاعيين في الجسم. فالجهاز المناعي الذاتي يقوم بالمواجهة الفورية ضد جميع أشكال الممرضات. كما تقوم خلايا المناعة الذاتية باستيعاب معظم المتعضيات الميكروية microorganisms وقتلها. ومع أنّ الاستجابة الذاتية تكفي عادة للتعامل مع التهديد الخارجي، فإن الجهاز المناعي الذاتي يقوم بإصدار التعليمات إلى الجهاز المناعي التكيفي الأحدث ظهورا لتوليد استجابات نوعية ذات مواصفات محددة تناسب المُمْرِض المهاجم، مما يجعل الضرر محدودا ويتم احتواؤه بشكل أسرع في حال تكرُّر حدوث الإصابة بالإنتان.

بعد عشرة أيام من التلقيح، قام الجهاز المناعي الذاتي لدى المتطوعين بتنبيه الجهاز المناعي التكيفي للتفاعل بطلقتين متتابعتين من التنبيهات. تولد في الأولى بروتينات خاصة تعرف بالأضداد (الأجسام المضادة)(5)antibodies لمختلف أجزاء ڤيروس الحُمّى الصفراء، وبعد ذلك تفعل مجموعة من الخلايا المناعية تعرف بالخلايا التائية القاتلة Killer T cells، التي تقوم بدورها بتعرّف الخلايا المصابة بالإنتان في الجسم وتُدمّرها. ومن خلال إجراء عدد من التحليلات، تعرفنا 65 جينا أدت دورا أساسيا في استجابة الجسم للقاح YF-17D. وأظهر تحليل أكثر عمقا أنّ نمطا نوعيا يتضمن تلك الجينات قد دلّ بشكل خاص على تفعل كل من الأضداد القوية والخلايا التائية القاتلة. وبعبارة أخرى، تمكنّا من إثبات وجهة نظرنا في هذا الصدد. وقد استطعنا أن نقيس بدقة متناهية، وأن نحدّد بالضبط أي الجينات في الجهاز المناعي بدأت بالعمل وتلك التي توقفت عن العمل خلال عملية الاستجابة المناعية القوية للقاح YF-17D. ومن ثم توصل <رفيق-بيير سيكالي> [من معهد للقاحات والمعالجة الجينية – فلوريدا (VGTI)] بشكل منفصل، إلى نتائج مشابهة، وقد أكد توافق الدراستين على صحة النتائج.

 

طريقة جديدة لتصميم اللقاحات

بصمات النجاح(****)

   بغض النظر عن المقاربة التي يتبعها العلماء في تطويرهم للّقاحات، فإن عليهم البدء بإجراء أبحاث أولية على عدد من الصيغ التجريبية. ويوضح الشكل هنا، لقاحا واحدا فقط من بين أربعة لقاحات تجريبية نجح في اجتياز الاختبارات العامة في استثارة الجسم لتوليد أضداد وخلايا تائية، كما تميّز هذا اللقاح بسلامته للاستخدام على البشر.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_36.jpg

  (1) لما كان الباحثون قد اختاروا مسبقا الصيغة التي تطلق الاستجابة المناعية المثلى، فإنه يمكن للتجربة النهائية أن تستغرق وقتا أقل وتكون الأكثر نجاحا في غالب الأحيان.

 (2) مقاربة تقليدية:
لما كان الجهاز المناعي ينتج الأضداد والخلايا التائية بآلاف الطرائق- وليس جميعها طرقا فعّالة – فإنه ينبغي تجربة صيغ اللقاحات التي تنجح في الاختبارات الأولية على عدد كبير من الأشخاص. في هذه الحالة، كانت نتائج التجارب السريرية الأولية مخيبة للآمال؛ غير أنّ المحاولات اللاحقة التي استغرقت وقتا أطول أظهرت أنّ إضافة مُركبين يعرفان بأنهما من المواد المساعدة أدت إلى إطلاق الوقاية المثلى.

   (3) مقاربة بيولوجيا النظُم:
جرى تجربة صيغة اللقاح الناجحة على عدد من المتطوعين. وقامت أجهزة التحليل الأوتوماتيكية بتكوين بصمات نوعية للاستجابات المناعية من خلال قياس إنتاج الرنا (الحمض النووي الريبي) RNA (عدد جزيئات الرنا التي نسخت من كل جين مُنَشَّط)، وقياس مستويات البروتينات الفردية والمُستقلبات (المَئيضات) – وهي المواد الناتجة من تفكيك المنتجات – وكذلك التغيرات الوراثية. يقوم الباحثون باختبار صيغة اللقاح ومن ثم تعديله وإعادة تجربته من جديد وتعديله عددا من المرات حتى تتمكن صيغة اللقاح الأخيرة من إطلاق بصمة لاستجابة فعّالة تتميز بمستوى عال من الأمان.

 

والأمر الذي يبعث الرضا بشكل خاص عن هذه النتائج هو إمكانية قياس بصمة التحصين في مجرى الدم، والناجمة عن الاستجابة الموضعية للمناعة عند موضع التطعيم. فمن حيث المبدأ، تعني هذه الاكتشافات أنه من الممكن تطوير فحص تشخيصي بسيط كأخذ عينة دم من رأس الأصبع لمعرفة درجة جودة عمل اللقاح. ولا يتطلب الأمر سوى القليل جدا من التدريب أو الأجهزة المعقدة لجمع وتحليل البيانات – وهذا أمر مهم عند الأخذ في الحسبان أنّ الڤيروس HIV والملاريا والسلّ تؤثر أكثر ما تؤثر في أكثر الأماكن فقرا في العالم.

التصدّي لڤيروس عوز المناعة البشرية المكتسب (HIV)

 ومتلازمة عوز المناعة المكتسب (الإيدز)(*****)

بعد البرهان على أنّ أسلوب بيولوجيا النُّظُم يمكنه أن يقدّم صورة مفصّلة عن تأثير اللقاحات الناجحة في الجهاز المناعي، اشتركتُ مع مجموعة من الزملاء للتصدّي لمشكلة الڤيروس HIV. ولعل أفضل الخطوات التالية التي كان يمكن اتخاذها هي المقارنة بين تركيب عدد من اللقاحات لمعرفة ما إذا كان أحدها يؤدي إلى استجابة مناعية نموذجية. ولكننا لم نعرف ولا نعرف ذلك حتى الآن. ففي الحقيقة كيف تبدو الاستجابة المناعية النموذجية للڤيروس HIV، لذا فإن معرفة مثل هذه البصمة هي من أهم الأهداف الرئيسة لنا في الوقت الحاضر. وقد بدأنا بالبحث عن بعض الأدلة في الحيوانات.

أظهرت التجارب أنّه يمكن للقردة أن تُصاب بالإنتان بڤيروس عوز المناعة القردي(6) (SIV)، والذي يتشابه في أوجه كثيرة مع الڤيروس HIV. وهذه القابلية مهمة لأننا نستطيع أن نَتَعَمّد نقل الإنتان إلى القردة عند إجراء الدراسات، في حين لا يمكننا فعل ذلك من الناحية الأخلاقية مع البشر.

وبالتعاون مع <L. پيكر> [من جامعة أوريگون للصحّة والعلوم]، و<R. سيدر> [من المعاهد الوطنية للصحة] يقوم حاليا باحثون في معهد سياتل للبيولوجيا الطبية باختبار عدد من لقاحات الڤيروس SIV  على القردة، للتعرّف بشكل أكبر على سمات مناعية ترتبط باستجابة مناعية قوية ضد ذلك الڤيروس. وقد تمكنّا حتى الآن من تعرف بصمات عدة من الاستجابات المناعية الذاتية والمبكرة التي يمكنها أن تتوقع أي الحيوانات التي جرى تلقيحها هي التي سوف يحوي دمها كمية أقل من الڤيروسات، بعد أن يتم تعريضها بالتتابع للڤيروسات SIV.

وتظهر هذه الجينات – التي يرتبط التعبير عنها بارتفاع قدرة الجسم على محاربة الڤيروس – كأنها مجموعات من العقد الشديدة الترابط عند تمثيلها في رسم بياني يُظهر استجابة الجسم المناعية؛ فالعقد تمثل جينات منفردة، وتمثل الصلات بين العقد تأثير هذه العقد في أنشطة بعضها بعض [انظر الإطار في الصفحتين 36 و 37]. ولما كانت القردة والبشر يتشاركان في الكثير من الجينات ذاتها، فإن سمات الاستجابة المثلى لدى القردة قد تعطينا فكرة عن كيف يجب أن تبدو بصمة الاستجابة القوية ضد الڤيروس HIV، كما قد تستخدم هذه البصمة أيضا في تقييم مقدرة عدد من اللقاحات المختلفة على العمل في البشر.

يُتابع الباحثان <پيكر> و<سيكالي> إحدى المسائل المرتبطة بذلك. فهما يُطبِّقان مقاربات مستويات النُّظُم لمعرفة السبب الذي يجعل اللقاحات المصنوعة من الڤيروسات SIV  المضعفة جيدة في حماية الرئيسيات من غير البشر من أي إنتان لاحق. ومع الأسف، فحتى استخدام الڤيروسات المضعفة من الڤيروسHIV  يشكل خطرا كبيرا. فمع مرور الوقت، قد تمتزج هذه الڤيروسات المُضعفة في ڤيروسات قوية وتؤدي إلى الإصابة بالمرض الذي كان من المفترض أن تحمي الناس منه. (لهذا جرى استبعاد الأشكال الحية من لقاح شلل الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية)، وينبغي أن يرشدنا النجاح إلى طرق إحداث استجابة مناعية في الجسم مماثلة للمناعة التي تُحدثها الڤيروسات المُضعفة من دون المخاطرة باستخدام هذه الڤيروسات في اللقاح.

تعلّم من الإخفاق(******)

والآن، أثبت العلماء من مختلف المؤسسات العلمية إمكانية نجاح مقاربة النُّظُم(7) في العديد من مراحل تطوير اللقاح. فقد طورنا البصمة المناعية للقاحYF-17D الذي يوفر وقاية كاملة. وقد طورنا السمات المناعية لقردة تم تطعيمها بنجاح. ولكن ما زال هناك عدد آخر من الأسئلة المحيرة التي نأمل بحلها قبل الشروع في تطوير لقاح جديد للڤيروس HIV. ومن بين هذه الأسئلة: هل يمكننا أن نشرح بدقة سبب إخفاق اللقاح الذي طورته شركة ميرك ضد هذا الڤيروس في عام 2007 – وهو إخفاق صدم مجتمع الإيدز، وأصاب في مقتل ما بدا أنه أكثر اللقاحات المرجوة المرشحة لمواجهة هذا المرض؟

فاللقاح الـذي طـورته شركة ميرك والمُسمى MRKAd5/HIV-1، لم يكن بالطبع اللقاح الأوّل الذي جُرّب ضد الڤيروس HIV. فقد ركزت التجارب السريرية السابقة على تحفيز استجابة بأضداد فعّالة تمحو بالكامل جميع جُسيمات الڤيروس قبل أن تتمكن من السيطرة على الجسم. ومع الأسف، فإنّ استراتيجيتين اثنتين من أصل الاستراتيجيات الثلاث الرئيسة لتوليد مثل هذا اللقاح لم تكن متاحة. فاستخدام نسخة مُضعفة من هذا الڤيروس كان مشوبا بخطر كبير، بينما فشلت استراتيجية استخدام جسيمات مُعطّلة بالكامل من الڤيروس في إنتاج الأنواع الصحيحة من الأضداد. وبقيت الاستراتيجية الثالثة وهي استخدام شذرات متناثرة من الڤيروس HIV إما مستقلة عن غيرها وإما مُرتبطة بڤيروس آخر (وذلك من أجل تحريض النشاط المناعي). وللأسف، حتى هذه الأنواع من اللقاحات لم تستطع حتى الآن إنتاج استجابة ضدّية(8)  فاعلة ومؤكدة. (وقد أظهرت النتائج التي نشرت في عام 20099 عن تجربة اللقاح في تايلاند استجابة ضدّية متواضعة الفعَّالية لم تكن فوائدها عامة بما يكفي لحماية كل الأفراد، ممّا دعا جميع الباحثين إلى الاقتناع بأنّ هذا اللقاح يحتاج إلى تحسين).

وقد غيّر المشروع MRKAd5/HIV-1 من مساره. فعوضا عن محاولته إثارة استجابة ضدّية قوية، فإنه هدف إلى تنشيط الخلايا التائية القاتلة في الجهاز المناعي التكيفي. وكما كانت الحال في المحاولات السابقة، استخدم اللقاح الذي طورته شركة ميرك مستضدات نوعية للڤيروس HIV تم تركيبها للحصول على ڤيروس أكثر أمانا – فقد اختير النمط 55 من الڤيروسات الغدّانية الذي أطلق عليه الرمز Ad5 – تجنبا للمشكلات التي ترتبط باستخدام جُسيمات كاملة للڤيروسHIV (والڤيروسات الغدّانية من المسببات الشائعة للزكام). وقد أدرك علماء المناعة أنّ جهودهم – حتى ولو نجحت بالكامل – لن تستطيع أن تمنع الڤيروس من إصابة الخلايا؛ كما ينبغي وجود الأضداد لتحقيق ذلك الهدف. لكن جهودهم سوف تتمكن على الأقل من الإبقاء على تكاثر الڤيروسات في حدّه الأدنى، وذلك بقتلها الخلايا المُصابة. ومن الناحية النظرية، سوف يسمح اللقاح لكل من يتعرض للإصابة بالڤيروس HIV أن يحارب الڤيروس ويوقفه إلى أجل غير مُسمّى.

وقد كان هذا الأسلوب يمثل آخر ما توصلت إليه الأبحاث، إذ سوف تكون هذه الدراسة أوّل تجربة تجرى على نطاق واسع للقاح صُمِّم نوعيا لتفعيل الخلايا التائية لقتل الخلايا المصابة بإنتان الڤيروس HIV. وقد أشارت الدراسات الرائدة التي أجريت على الرئيسيات غير البشرية بقوة إلى أنّ هذا اللقاح سوف يقدّم مستوى ما من الحماية للبشر.

وكان من غير المتوقع أن يخفق اللقاح الذي طورته شركة ميرك. فعلى الرغم من نجاح اللقاح في تحريض استجابة الخلايا التائية بدقة ضد الخلايا المصابة بإنتان الڤيروس HIV في أكثر من 755 في المئة من الأشخاص الذين أجري عليهم الاختبار (وهي نتيحة مدهشة بحق)، أظهرت التحاليل الأولية للبيانات عدم اختلاف نسبة الإنتان بالڤيروس ومستويات الڤيروسات في الجسم بين المجموعة التي أعطيت اللقاح والمجموعة التي أعطيت مادة غُفلاPlacebo. ومما أثار قدرا أكبر من الدهشة، أنّ المشتركين الذين تناولوا اللقاح، وهم ممن يحملون أضدادا لـلڤيروس الغدّاني Ad5 (نتيجة لتعرضهم السابق لإنتان بالڤيروس الغداني من النمط 5 غير ذات صلة بالڤيروس HIV)، أظهروا ميلا إلى الإصابة بالإنتان أكثر من الأشخاص في المجموعة التي تلقت المادة الغُفل.

لقد قمنا بتشكيل فريق مشترك مع <J. ماكيلراث> من [مركز فرِد هاتشنسون لأبحاث السرطان في سياتل] لتحليل اللقاح الذي طورته شركة ميرك. وقد اتفقنا معا في تحليلنا على أنّ التعرّض للقاح MRKAd5/HIV-1 قد فعّل عمل آلاف الجينات خلال الـ 244 ساعة الأولى بعد التلقيح. وتنسجم هذه الاستجابة على نحو استثنائي بتفعيل نسبة عالية من الخلايا التائية. وقد توصلنا أيضا إلى معرفة أنّ هذه الجينات تتضمن جميع الأطراف الرئيسة المعنية في الجهاز المناعي الذاتي. ولكن عندما قمنا بفحص عينات الدم المأخوذة من الأشخاص المشتركين في الدراسة، والذين يحملون أضدادا للڤيروس الغدّاني Ad5 (وهم من  المجموعة نفسها من الأشخاص الذين أظهروا معدلا أكبر للإصابة بإنتان الڤيروس HIV بعد تعرضهم للتلقيح)، وجدنا أنّ تحفيز عمل الجهاز المناعي الذاتي قد أضعف بشدة.

الاحتمال الأكبر هنا، أنّ ضعفا خطرا – لم يكن متوقعا على الإطلاق – قد جعل من أولئك المتطوعين في الدراسة عرضة للإنتان عندما مارسوا الجنس مع شركاء مصابين بالڤيروس HIV، أو تشاركوا معهم في الحُقن الملوثة. ونقوم حاليا بإجراء دراسات جديدة لنرى ما إذا كنا قادرين على تأكيد هذه الفرضية وتفسير سبب إخفاق الاستجابة القوية للخلايا التائية في توفير الحماية لأيّ من الأشخاص المشتركين في الدراسة.

خطوات تالية(*******)

في الوقت الحاضر يبدو أن المقاربة القائمة على النُّظُم هي أفضل ما يناسب الاختبارات التجريبية للّقاحات بعد تشكيلها من أجل التحقّق من قدرتها على توفير حماية فاعلة. غير أنّ الهدف المنشود في النهاية هو تصميم لقاحات بأسلوب جديد من البداية إلى النهاية، بحيث نعرف مسبقا أنّها سوف تحفز الاستجابات المناعية المرجوة.

لقد تمكن العلماء من إحراز تقدم ملحوظ في هذا المسار- مثل، التقدم في فهم آلية تأثير بعض المواد المُساعدة في اللقاحات في الجهاز المناعي. وقام فريق <A. أديريم> بدراسة الشبكات الجينية التي جرى تفعيلها بمنظومة واسعة من المواد المساعدة، ومن الواضح أنّ بعض المواد المساعدة المناعية قد أطلق triggerعمل بعض الجينات التي تقوم باستثارة استجابات الخلايا التائية، بينما قامت شبكات جينية أخرى بحرف مسار الشبكات المناعية نحو إنتاج الأضداد. ولكن من الممكن جدا أن نتوصل إلى استمثال optimize إنتاج لقاحات خاصة ضد مُمْرِضات معينة، وذلك من خلال دمج معارفنا التفصيلية حول المواد المساعدة في معرفتنا بالبصمات الجزيئية الدقيقة والخاصة باستجابة مناعية معينة.

وفي جميع الأحوال، أشارك زملائي اعتقادهم أن المقاربة المستندة إلى النُّظُم تمنح الأمل الأكبر للتوصل إلى تصميم لقاح أكثر استهدافا ويمكن التنبؤ بنتائجه. وإنّ الفهم الأفضل للجهاز المناعي هو السبيل الوحيد لابتكار لقاحات فاعلة ضد هجمات الأمراض الضارية مثل الإيدز والملاريا والسل. وقد تمكنت هذه المُمْرِضات التي تسبب مثل هذه الجائحات الوبائية حتى الآن، من إحباط أقصى الجهود التي بذلناها لتطوير اللقاحات بالطريقة التقليدية. ولكننا ببساطة، لا يمكن أن نسمح بموت عشرات الملايين من الأشخاص من الأجيال القادمة بمثل أمراض الطواعين العالمية هذه.

المؤلف

   Alan Aderem
 <آديريم> هو اختصاصي في علم المناعيات والبيولوجيا الخلوية يتمتع بشهرة عالمية، وشارك في تأسيس معهد بيولوجيا النُّظُم في سياتل عام 2003. وهو حاليا مدير معهد سياتل للبيولوجيا الطبية الذي يهتم بشكل رئيسي في تطوير اللقاحات. http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_33_b.jpg

  مراجع للاستزادة

 

The Failed HIV Merck Vaccine Study. A Step Back or a Launching Point for Future Vaccine Development? Rafick-Pierre Sekaly in Journal of Experimental Medicine. Vol. 205. No. 1, pages 7-12; January 21, 2008. http://jem.rupress.org/content/205/1/7.full

 

Alan Adrem: From Molecules to Megabytes. Nicole LeBrasseur, ibid, pages 4-5

 

Systems Biology Approach Predicts Immunogenicity of the Yellow Fever Vaccine in Humans. Troy D. Querec et al. in Nature Immunology. Vol. 10, No. 1, pages 116-125; January 2009

 

Published Online November 23, 2008. http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/19029902

 

(*)FAST TRACK TO VACCINES

(**)Defense in Depth

(***)TEST CASE

(****)Signatures of Success
(*****)TACKLING HIV / AIDS

(******)LEARNING FROM FAILURE

(*******)NEXT STEPS

(1) أو العوامل المسببة للمرض. (التحرير)
(2) cellular behavior

(3) decipher

(4) cellular: خلوي أو خليوي. (التحرير)

(5) antibody: جسم مضاد أو ضد، وجمعها أجسام مضادة أو أضداد. (التحرير)

(6) simian immunodeficiency virus
(7) systems approach

(8) antibody response

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى