أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الدماغ

عقل خارج الجسد


عقل خارج الجسد(*)

يناقش أحد علماء الجهاز العصبي الرواد فكرة مفادها أن
التحكم في الآلات بواسطة موجات الدماغ سوف يُمكّن
المصابين بالشلل من المشي ويبشّر بمستقبل يُتيح خلط العقول
ونسخ الأفكار، وذلك في مقطع حصري من كتابه الجديد.

<L .A .M. نيكوليليس>

 

باختصار

   لقد ثبُت بالفعل أن الإشارات الموجهة مباشرة من الدماغ قادرة على التحكم في الحواسيب وفي آلات أخرى.

الهيكل الخارجي هو طقم صنعي لكامل الجسم يوصل في نهاية الأمر مباشرة بالدماغ أيضا.

إن التحكم في الأطقم الصنعية الخارجية والحواسيب بواسطة موجات الدماغ يَعِدُ بعصر التحكم الآلي، تُنقل فيه الأفكار كما لو كانت برقيات عقلية.

 

خلال العقود الثلاثة المنصرمة كان يتعين عليّ في كل مرة تقريبا تُعاد لي فيها إحدى مخطوطاتي العلمية بعد عملية مراجعة الزملاء الإلزامية أن أستجيب للتوصيات التي لا مفر من التقيد بها والقاضية بتنقية هذه المخطوطات من جميع الأفكار المبنية على التأمل النظري، بما فيها ما يتعلق بقدرتنا على وصل الأدمغة بالآلات. إلاّ أن علماء الجهاز العصبي الذين راجعوا هذه الأوراق قبل نشرها لم تكن لديهم الرغبة، في معظم الحالات، في تقبل فكرة أن هذه الأبحاث قد تدعم أحلاما علمية أكثر جرأة في المستقبل. وقد كنت خلال مراجعاتي الذهنية المؤلمة أطلق العنان لخيالي، وأحلم باليوم الذي سأتمكن فيه من إنقاذ تلك التأملات النظرية وإيصالها للآخرين، كي يتمكنوا من أخذها بعين الاعتبار والتفكير فيها مليّا. وها قد حان الوقت الآن – بفضل التقدم الذي أُحرِز في المختبرات – لإخبار الآخرين بذلك.

وبينما كنت أواجه هذه الثقافة الأكاديمية المتشددة في تحفظها، كان عدد من كُتّاب الخيال العلمي والمخرجين السينمائيين يتنبؤون بلا تحفظ – بل كانوا في بعض الأحيان يبالغون كثيرا في تصوراتهم الخيالية. ففي عام 2009 فقط أُنتج فيلمان عملاقان في هوليود هما البدلاء Surrogates وآڤاتار(1) Avatar عُرضت فيهما صورة نمطية عن علماء يسيطرون على الناس ويلحقون الأذى بهم ويقتلونهم ويقهرونهم بواسطة مهاراتهم التقانية. وفي هذين الفيلمين كانت الوصلات الدماغية-الآليّة brain-machine interfaces تمنح الكائنات البشرية القدرة على العيش والحب والقتال عبر «وكلائهم» proxy. وكانت الأڤاتاراتavatars تقوم بالنيابة عن سادتها من البشر بشتى الأعمال الشاقة، كالتجوال في الكون والعمل على إبادة جنس كامل من الغرباء في بعض الأحيان.

دعوني أقدم الآن وجهة نظر بديلة عن عصر الآلة القادم. بعد عمل مضن وطول تفكير في الآثار التي ستتركها علينا تلك الإنسالات (الروبوتات) المُسيّرة بموجات الدماغ(2) والتي تُسمى في معظم الأحيان «الوصلات الدماغية-الآليّة»، أرى مستقبلا يدعو إلى التفاؤل الواقعي والمليء بالترقب الحماسي، لا بالغم والمحن. وربما لأننا غير قادرين على تصور سوى النزر اليسير من أبعاد المستقبل بصورة مؤكدة، فإنني أشعر بنزعة قوية تدفعني إلى الترحيب بالفرص المذهلة التي يمكن أن يقدمها لجنسنا البشري تحريرُ أدمغتنا من قيودها الجسدية الأرضية. كما أنني أستغرب في واقع الأمر كيف يمكن للإنسان، أيا كان، أن يفكر بصورة مغايرة، إذا ما أتيحت له فرصة تعرف الآفاق الإنسانية الواسعة التي تبشر بها أبحاث «الوصلة الدماغية-الآليّة».

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/11-12/2011_11_12_21_a.jpg

 

فتحرير الدماغ البشري من القيود المادية التى يفرضها عليه الجسد ربما يمكّن المعاقين من النهوض من كراسيهم المدولبة. بل هناك المزيد، إذ إن بوادر عصر الشبكات العصبية الاجتماعية أخذت تلوح في الأفق. وداعا للرسائل النصية والتغريدات عبر التويتر. ففي هذا المستقبل المتمحور حول الدماغ قد يكون بإمكانك أن تتواصل دماغيا مع زميل لك في العمل يجلس في غرفة مجاورة أو مع ملايين المريدين عبر وسيط جديد أسميه «شبكة الأدمغة». أما موقع فليكر فسوف يكون حدثا ماضيا. والصورة الذهنية للغسق الوردي أو لفريق بلدتك الذي فاز ببطولة العالم سوف يتم نقلها نقلا مباشرة بالتتابع عبر التردد الشعاعي لموجات الدماغ إلى جهاز بنتابايت(3) محمول.

أي طقم إنسالي عليّ أن أرتدي؟(**)

مع ذلك فإن التأملات الحالية بشأن محاكاة الدماغ بكامله في الحاسوب، أو تنزيل نسخة منه إليه، أمر لا يمكن تحقيقه إطلاقا. فالذي يجعل من <نلسون مانديلا>، مثلا، ذلك الإنسان المتميز هو جوهر شخصية الإنسان وهذا الجوهر لا يمكن نقله إلى قرص صلب أبدا. إلا أن التجارب على القوارض وانسانيس والبشر تبين لنا كيف يمكن ربط الأدمغة مباشرة بالآلات في مختبرات معدة لذلك. والنتائج التي توصلنا إليها بهذا الخصوص تجعلني أتوقع مستقبلا مثيرا.

إن الوصلات الدماغية-الآليّة التي ستُبنى في العقدين القادمين – سوف تربط كتلا كبيرة من أدمغتنا بعضها ببعض عبر وصلة ثنائية الاتجاه قد تكون قادرة على ترميم العطب الذي سببته بعض الأمراض العصبية المدمرة لدى المصابين. ومن المرجح أن تتمكن هذه الوصلات من إعادة الوظائف العصبية لملايين البشر الذين أفقدتهم هذه الأمراض مقدرة السمع أو اللمس أو الإمساك بالأشياء أو المشي أو التكلم. بل قد يصبح هؤلاء المصابون قادرين على أداء مهام لا يمكن تصورها حتى هذه اللحظة كالتحاور مع الآخرين عبر موجات الدماغ وحدها.

لقد قام اتحاد بحثي عالمي اشتركت في تأسيسه يدعى «مشروع العودة إلى المشي» بإعطاء لمحة عن هذا المستقبل. وهو مشروع تم التفكير فيه قبل عدة سنوات عندما أثبت فريق العمل الذي أنتمي إليه إمكانية ربط أنسجة الدماغ الحية بأدوات اصطناعية مختلفة. ويهدف هذا المشروع إلى تطوير وتصنيع أولى الوصلات الدماغية-الآليّة القادرة على إعادة الحركة لكامل جسم المرضى الذين يعانون شللا شديدا ناشئا عن آفة رضية في الحبل الشوكي أو عن خلل عصبي تنكسي.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/11-12/2011_11_12_22.jpg
الهيكل الخارجي هو طقم اصطناعي يمكّن المعاقين من المشي، وقد يتم التحكم فيه يوما ما بواسطة موجات الدماغ.

 

ولتحقيق هذا الهدف نقوم حاليا بتصميم جهاز اصطناعي عصبي لتمكين المشلولين من استخدام «وصلة دماغية-آليّة» تتحكم في حركة «الهيكل الخارجي لكامل الجسد»، وهو إنسالة يتم ارتداؤها لتمكين المرضى من التحكم الإرادي في أطرافهم العلوية والسفلية، ويدعم أجسادهم ويحملها. ويقوم هذا الإنجاز الهندسي العصبي على مبادئ الفيزيولوجيا العصبية المنبثقة من تجاربنا التي أجريناها على «الوصلة الدماغية-الآليّة» لدى النسانيس الريصية والكثير من غيرها من الحيوانات.

في هذه التجارب تعلمت نسناسة ريصية اسمها «أورورا» كيف تنقل أفكارها عبر «الوصلة الدماغية-الآليّة» عن الموضع الذي يجب وضع مؤشر شاشة الحاسوب فيه، فغدت تمتلك مهارة تمارسها بصورة عادية وسلسة، كما لو كانت تقوم بأداء المهمة ذاتها بواسطة ذراع ألعاب الحاسوب «جويستيك». ومن ثم قمنا بعدئذ بإجراء التجربة نفسها بنجاح على مرضى يعانون حالات متفاقمة لداء باركنسون. بعد ذلك تعلم أحد النسانيس في مختبري بجامعة ديوك كيف ينقل إشارات دماغه لمسافة تبلغ آلاف الأميال عبر الإنترنت ويتحكم بفضلها في حركة ساق إنسالة في اليابان.

بدأنا الآن نعمل في الاتجاه المعاكس وأخذنا ننقل إشارات مباشرة إلى قشرة دماغ أحد النسانيس نخبره فيها أن هناك وليمة من كريات الطعام تنتظره في صندوق معيّن وليس في صندوق آخر. وسوف نسعى في تجربة قادمة إلى تمكين نسناس من التواصل مع آخر ليخبره بمكان الطعام. أما الأجيال الجديدة من الأطراف الصنعية العصبية، فيجب أن تكون مصممة بطريقة تتيح لها التواصل مع العالم الخارجي في الاتجاهين أي منه وإليه، بحيث يكون على دماغ من يرتدي طرفا صنعيا ويحمل قدما آليّة أن يوجه هذه القدم نحو صعود درجة السلم التالية من جهة، وأن يتلقى إشعارا ارتجاعيا من جهة أخرى، يخبره أن طرفه الصنعي قد لامس فعلا سطحا صلبا قبل أن يرسل أمرا برفع قدمه الأخرى.

وباستخدام روابط الوارد والصادر مع العالم الخارجي – المتاحة حاليا – فإننا نقف على عتبة مستقبل أعضاء الجسم الآلية. وسوف يتم دمج الوصلات الدماغية مع الأطراف الإنسالية الأكثر تعقيدا التي يتم اختبارها حاليا. كما سيتم وصل الأذرع والسيقان الإنسالية مع جذع مُصنّع بيولوجيا، ومفصلتها معا على نحو يشبه ما يحدث في لعبة الليگو. وعندئذٍ سوف يتمكن هذا الطقم الإنسالي أو الهيكل الخارجي الذي يكسو صاحب الجسم الذي لا يقوى على الوقوف من التواصل المستمر مع القشرة الدماغية بوصفها المركز الرئيسي لإصدار الأوامر في الدماغ.

لا يمكن تحقيق هذه الرؤية vision المتعلقة بهيكل خارجي مزود بوصلة دماغية-آلية يستخدمه المعاقون من غير تقانات أكثر تقدما. سيتطلب ذلك جيلا جديدا من الأقطاب الكهربائية الدقيقة العالية الكثافة التي يمكن غرسها بشكل آمن في الدماغ البشري لتعطينا تسجيلات موثوقة طويلة الأجل ومتزامنة للنشاط الكهربائي لعشرات الآلاف من العصبونات المتوزعة على عدة مواقع في الدماغ. ولكي تكون الوصلات الدماغية-الآلية قابلة للتطبيق في المجال الطبي ومَيْسورة التَّكْلِفَة‎، يجب أن تبقى هذه التسجيلات واسعة النطاق، لنشاط الدماغ الكهربائي مستقرة لعقد من الزمن على الأقل، من دون أن تكون هناك حاجة إلى تدخل جراحي لإصلاحها.

كما سوف يتم زرع الشيپات العصبية neurochips المصممة حسب الطلب بصورة دائمة كي نتمكن من تكييف ومعالجة النماذج الكهربائية للدماغ وتحويلها إلى إشارات قادرة على التحكم في الهيكل الخارجي. وللحد من خطر العدوى أو إلحاق الأذى بقشرة الدماغ سيكون علينا تزويد هذه الشيپات العصبية بتقانات لاسلكية متعددة القنوات لا تحتاج إلى طاقة كهربية كبيرة تستطيع نقل المعلومات التي تم تجميعها من آلاف الخلايا الدماغية إلى وحدة معالجة محمولة بحجم الهاتف الخلوي الحديث. وسوف تكون هذه الوحدة مسؤولة عن القيام بنمذجة حوسبية لآليات عمل الدماغ الداخلية ومصممة على نحو يتيح التوصل إلى أفضل النتائج في عملية الاستخلاص الفوري لإشارات الدماغ الكهربائية المسؤولة عن ابتدار الحركة.

سوف تكون تجمعات العصبونات الموزعة على مناطق عدة في الدماغ هي المكان الذي تؤخذ منه عينات لتغذية الوصلات الدماغية-الآلية. حيث يتم استخلاص إشارات رقمية من الإشارات الكهربائية الخام الصادرة عن الجزء الضابط للحركة في الدماغ وقيام هذه الإشارات الرقمية بإرسال أمرها بالحركة إلى الأجزاء المُحرِّكة في مفاصل الهيكل الإنسالي الخارجي. وسوف تتآثر الإشارات العصبية مع الهيكل الإنسالي، فتتم محاكاة وظائف الحبل الشوكي البشري. بفضل تلك الأوامر ويتمكن المريض من التحرك بخطى متتالية والتحكم بسرعة هذه الخطى، فيبطئها أو يسرّعها وقتما يشاء ويكون قادرا على الانحناء أو صعود درجات السلم. ويمضي الدماغ والآلة – بصورة عامة – في متابعة حوارهما الانسيابي عبر الإرسال والاستقبال. وسوف تستحدث هذه التقنيات تفاعلا تبادليا متواصلا بين إشارات الدماغ والمنعكسات الإنسالية robotic reflexes.

إضافة إلى ما سبق، فإنني أستطيع أن أتصور حاسّات sensors للضغط والشد يجري توزيعها على امتداد الهيكل الخارجي، وتكون قادرة على توليد تيار متواصل من إشارات التغذية الارتجاعية الخاصة باللمس الاصطناعي والحس العميق (الإحساس بوضعية الطقم الصنعي الإنسالي) بغية تحديث المعلومات في دماغ المريض. كذلك قد تنشّط الإشارات البصرية القنوات الأيونية الحساسة للضوء الموظفة مباشرة في القشرة الدماغية للمريض. وبناءً على تجاربنا السابقة التي أجريناها على النسانيس في مجال الوصلات الدماغية-الآلية، فإنني أتوقع أن دماغ المريض سوف يكون قادرا بعد عدة أسابيع على التآثر، والتعامل مع الهيكل الخارجي بكامله على أنه امتداد حقيقي لصورة جسم المريض. وحينئذٍ يغدو المريض قادرا على استخدام الهيكل الخارجي المسيّر بالوصلة الدماغية-الآلية للتحرك في محيطه بحرية واستقلالية.

آفاق التطبيقات العصبية(***)

ماذا يمكن أن يحدث خلال بضعة عقود إذا أضحينا ضليعين في مجال التقانات التي تُمكّن البشر من استخدام نشاط أدمغتهم الكهربائي للتآثر مع جميع أنواع أجهزة الحاسوب؟ بدءا من الحواسيب الشخصية الصغيرة المحمولة – أو ربما المزروعة داخل أجسادنا – التي نصطحبها للتحكم من بعد في الشبكات المنتشرة حولنا لخدمة لتآثراتنا الاجتماعية الرقمية، فإن حياتنا اليومية، والحال كذلك، سوف تتخذ مظهرا مختلفا عما هي عليه اليوم، وتجعلنا نحس بها على نحو مغاير تماما لما نشعر به حاليا.

إن تآثر الأفراد المبتدئين مع نظام تشغيل الحاسوب الشخصي وبرمجياته سوف يصبح على الأرجح مغامرة كبرى عندما نبدأ باستخدام نشاط أدمغتنا للإمساك بأشياء افتراضية وإطلاق برامج وكتابة الملاحظات، وفي المقام الأول للتواصل بحرية مع أعضاء آخرين في شبكتنا المُفضلة من شبكات الأدمغة بوصفها نسخة مُحسنة عن شبكات التواصل الاجتماعية على الإنترنت. وتجدر الإشارة إلى أن اهتمام شركات إنتل وگوگل ومايكروسوفت بالوصلة الدماغية-الآلية وتأسيس أقسام خاصة تؤكد على واقعية هذه الفكرة. إن العقبة الأساسية هي تطوير طريقة لأخذ عينة من النشاط الدماغي لا تحتاج إلى تدخل جراحي وهذا هو ما نحن بحاجة إليه بالتحديد لتحويل هذه الوصلات الدماغية-الآلية إلى أمر واقع. وأنا متأكد شخصيا من أننا سوف نجد حلا لهذه المشكلة في السنوات العشرين القادمة.

حينها يصبح ما كان يبدو خارج حدود الخيال أمرا روتينيا، وذلك عندما يأخذ عدد الأشخاص المرتبطين بمختلف بيئات التحكم من بعد في التزايد بصورة ملحوظة من خلال الآڤاتارات والأدوات الاصطناعية المُسيَّرة بالأفكار وحدها. وسعيا وراء طموحاتنا الجامحة في اكتشاف المجهول سوف يتوسع مدى الفعل البشري ليصل إلى أعماق المحيطات وتخوم السوپرنوڤا بل حتى إلى الأثلام الصغرى داخل خلايا أجسادنا. وفي هذا سياق، أتنبأ بأن أدمغتنا سوف تكمل في آخر الأمر رحلتها الملحمية التي بدأتها في أجسادنا الأرضية البالية وسكنتها لملايين السنين، بحيث تغدو – من خلال استخدام وصلات ثنائية الاتجاه تدار بواسطة التفكير وحده – قادرة على تشغيل أدوات نانويةnanotools  لا يُحصى عددها ستكون بمثابة عيوننا وآذاننا وأيدينا الجديدة في العوالم الدقيقة المتعددة التي صنعتها الطبيعة.

أما على مستوى الأمور الكبرى فأعتقد أنه من المحتمل أن نتمكن من القيام بعمليات تقوم على تقنية التحكم من بعد لتشغيل مبعوثين دبلوماسيين وسفراء وإنسالات ومركبات فضائية بأشكال وأحجام مختلفة لاكتشاف الكواكب والنجوم الأخرى في زوايا الكون البعيدة نيابة عنا، حيث يكون هؤلاء الوكلاء قادرين على وضع هذه البلاد الغريبة والمشاهد الخلابة في متناول أناملنا العقلية.

إن كل خطوة تخطوها البشرية إلى الأمام في مسيرتها الاستكشافية، تعني مواصلة عملية الاستيعاب الذهني للأدوات التي ابتكرها أفراد سلالتها أثناء هذه الرحلات العقلية، وهي أدوات تمثل استطالات لذواتنا تحدد رؤيتنا للعالم وتشكل وسيلة للتآثر معه. هذه الرؤية وتلك الوسيلة تتجاوزان حدود كل ما نقدر على تخيله اليوم. إن هذه الفكرة تثير في نفسي شعورا هائلا من الابتهاج والرعب في الآن ذاته، وهو شعور يشبه العواطف الجياشة التي يمكن أن يكون قد أحس بها بحار برتغالي قبل خمسمئة عام عندما وجد نفسه – بعد رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر – يحدّق بالشواطئ الرملية البراقة في العالم الجديد.

هل يمكن أن يقودنا التحرير التام للدماغ إلى طمس أو ربما إزالة الحدود المادية الحصينة التي تحدد ماهية الفرد البشري؟ هل يمكننا يوما ما في المستقبل البعيد أن نختبر ما يعنيه أن نكون جزءا من شبكة واعية من الأدمغة؛ شبكة أدمغة حقيقية تفكر بطريقة جماعية؟ وبافتراض أن شبكة الأدمغة هذه أصبحت أمرا واقعا، فهل سيتمكن الأفراد المشاركون فيها ليس فقط من التواصل فيما بينهم بطريقة تبادلية عبر التفكير وحده، بل أيضا من الإحساس بما يشعر به ويدركه نظراؤهم، باعتبار أن الطرفين ملتحمان بصورة انسيابية بهذا الخليط الواقعي للعقول؟ لعل نزرا يسيرا من البشر فقط سيختار الخوض في هذه البحار المجهولة، ولكننا لا نعرف قطعا كيف ستكون عليه استجابة الأجيال القادمة إذا ما أتيحت لها فرصة اختبار هذه التجربة التي هي «مُجفّلِة للعقول».

إذا ما تقبلنا أن جميع تلك السيناريوهات المدهشة يمكن أن تتحقق بالفعل ثم سلّمنا بحصول إجماع على قبول هذا الخليط الجمعي للعقول بمثابة وسيلة أخلاقية تعتمدها أجيال المستقبل لنظم علاقاتها التبادلية وتحديد مشتركها الإنساني، فهل يمكن أن يستفيق أولئك الأحفاد يوما ما ليدركوا بلا عناء أنهم قد ابتكروا – معا وبصورة سلمية – نوعا بشريا جديدا؟ ليس صعبا علينا أن نتخيل أن ذريتنا قد تحشد مهاراتها وتقاناتها والقيم الأخلاقية اللازمة لتأسيس شبكة أدمغة وظيفية حقيقية؛ كوسيط يمكن لبلايين الكائنات البشرية من خلاله أن تقوم بالتراضي بإقامة علاقات تواصلية مباشرة عابرة مع إخوتهم في الإنسانية من خلال التفكير وحده.

في الوقت الحاضر، لايمكن لي ولا لغيري، وضع تصور عن الشكل الذي سيتخذه هذا الصرح الهائل من الوعي الجمعي ولا تخيل المشاعر التي سوف يثيرها هذا الوعي. وقد يقودنا هذا الأمر – من غير أن نتوقع ذلك – إلى تجربة إدراكية إنسانية استثنائية عندما نكتشف أن أيّا منا لا يحيا بمفرده، وأن أفكارنا الأكثر حميمية، وخبراتنا، وقلقنا وعواطفنا ورغباتنا – وهي الأمور البدائية التي تجعل منا بشرا – يمكن أن يشاركنا فيها بلايين من إخوتنا وأخواتنا.

لا يتطلب الأمر سوى وثبة خيال صغيرة كي ندرك أن ذريتنا – في ظل ما تم اكتسابه مؤخرا من حكمة – قد تقرر مجددا أن تعبر نقطة اللاعودة في التاريخ الملحمي لجنسنا البشري وأن تناضل لتوثيق غنى الإرث البشري وتنوعه، لصالح الأجيال القادمة، ولمن سيخلفنا في هذا الكون. مثل هذا الإرث البشري كنز لا يقدر بثمن لا يمكن تجميعه إلا من خلال – كما أعتقد – الحفاظ على كل ما لا يمكن الاستغناء عنه؛ انطلاقا من الرواية الذاتية لكل فرد ولقصة حياة كل شخص وذلك عبر تخزين ذكرياتنا تخزينا رقميا. هذا الفعل سيقوم بحماية القصة الفريدة لوجودنا الزائل، فتلك القصة التي يتم تخزينها في عقل كل واحد منّا بصورة مؤقتة يطويها النسيان ولا يمكن استرجاعها بعد انتهاء حياتنا في هفوة مسرفة من نوادر الطبيعة.

يحدوني الأمل قبل أن تنتهي حياتي المهنية بأن يساعد السعي نحو الأحلام الكبيرة على تحقيق هذه الرؤية، وهي رؤيا يرتسم مسارها على شكل طريق يمتد من التحكم الحالي للدماغ في الحواسيب إلى الهياكل الخارجية وربما الرسائل النصية العصبية في آخر الأمر. وسوف تكون حقا تذييلا ممتعا لوقتي الذي قضيته في خنادق العلم إذا ما تمكنت أخيرا من الرد على زميل مراجع كثير التشكي من أن أبذر في قشرة دماغه السمعية ذلك النوع من الردود التي ما زلت لعقود أنوي توصيلها.

 

المؤلف

   Miguel A. L. Nicolelis
<نيكوليليس> رائد في مجال الأطراف الصنعية العصبية وأستاذ كرسي <W .A. دين> للعلوم العصبية بجامعة ديوك ومؤسس مركز ديوك للهندسة العصبية. http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/11-12/2011_11_12_21_b.jpg

  مراجع للاستزادة

 

Controlling Robots with the Mind. Miguel A. L. Nicolelis and Johm K. Chapin in Scientific American Vol. 287, No. 4, pages 24-31; October 2002.

 

Seeking the Neural Code. Miguel A.L. Nicolelis and Sidarta Ribeiro in Scientific American Vol. 295, No. 6, pages 48-55; December 2006.

 

(*)MIND OUT OF BODY

(**)WHICH ROBO SUIT SHOULD I WEAR?

(***)THE PROSPECT OF NEURAL APPS

(1) لفظة سنسكريتية، تشير في الميثولوجيا الهندوسية إلى الصورة التي يتقمصها الإله عند نزوله إلى الأرض وحلوله في جسد آخر. وقد استخدمت اللفظة كذلك في علم الحاسوب للإشارة إلى التصوير الگرافيكي لشخص ما يستخدم لتمثيله على الإنترنت. أما في الخيال العلمي والفيلم المشار إليه (فيلم آڤاتار)، فالآڤاتار مخلوق مهجّن من حمض نووي بشري وغير بشري، يُتحكَّم به من بعد من خلال عقل الإنسان المماثل له وراثيا.
(2) brain-wave-controlled robots ،إنسالات: ج إنسالة، وهذه نحت من إنسان-آلي.

(3) بنتابايت = 1024 گيگابايت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى