أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء نظريةميكانيكا الكم

العيش في عالم كمومي


العيش في عالم كمومي(*)

لا يختص الميكانيك الكمومي بالجسيمات الدقيقة، فهو يُطَبّق على
.أشياء من مختلف الحجوم: طيور، مزروعات, وقد يطبق على البشر أيضا

<V. ڤيدرال>

 

باختصار

يعرف الميكانيك الكمومي بكونه نظرية الأشياء الميكروية: الجزيئات، الذرات، والجسيمات تحت الذرية.

ومع ذلك يرى جميع الفيزيائيين تقريبا أنه يطبق على كل شيء أيا كانت الحجوم. ونزوع صفاته المميزة إلى التخفي ليس مجرد مسألة أبعاد هذه الحجوم.

وخلال السنوات العديدة الماضية، شاهد المجربون مفاعيل كمومية في نظم ماكروسكوبية تزداد أعدادها.

والمفعول الكمومي هو في جوهره تشابك يمكن أن يحصل في نظم واسعة وكذلك في نظم حارة – بما فيها متعضيات (كائنات حية)organisms – مع أنه من المتوقع أن يعرقله  ارتعاش جزيئي.

 

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/01-02/2012_01_02_30.jpg

 

إن الميكانيك الكمومي، حسب ما تقوله عنه الكتب المدرسية الاعتيادية، هو نظرية العالَم الميكروسكوبي (المجهري). فهو يُوصِّف الجسيمات والذرات والجزيئات تاركا للفيزياء التقليدية العادية المستويات الماكروسكوبية (الجهرية)، التفاح، الناس والكواكب. وتتوقف غرابة السلوك الكمومي وتبدأ الفيزياء التقليدية المألوفة في مكان ما يفصل بين التفاحات والجزيئات. لقد تسلسل هذا الشعور باقتصار الميكانيك الكمومي على العالم الميكروسكوبي وانتشر في فهم الجمهور للعلم. فعلى سبيل المثال، كتب الفيزيائي <B. گرين> [من جامعة كولومبيا] في الصفحة الأولى من كتابه الواسع الانتشار (والممتاز في آن واحد) الكون الأنيق(1): إن «الميكانيك الكمومي» يزودنا بالإطار النظري لفهم الكون في «أصغر الأبعاد» هذا في حين تعالج الفيزياء التقليدية التي تحتوي على جميع ما هو غير كمومي، بما في ذلك نظريات <ألبرت آينشتاين> في النسبية، أكبر الأبعاد.

إلاّ أن هذا التقسيم للكون، على فوائده، لا يعدو كونه وهما. فبعض الفيزيائيين الحديثين يرى أن وضع الفيزياء التقليدية لا يقل عن وضع الميكانيك الكمومي. فهي ليست سوى تقريب مُجْدٍ لعالم كمومي في جميع الأبعاد. ومع أن رؤية المفاعيل الكمومية أكثر صعوبة في العالم الماكروسكوبي، فإن السبب هو طريقة تفاعل النظم الكمومية فيما بينها ولا علاقة له بالحجوم بحد ذاتها. وحتى العقد الأخير، لم يستطع المجربون، إثبات استمرار السلوك الكمومي في الأبعاد الماكروسكوبية. ولكنهم اليوم يفعلون ذلك بشكل روتيني. فالمفاعيل الكمومية منتشرة بشكل يتجاوز جميع التوقعات، ويمكنها أن تؤثر في خلايا أجسامنا.

ومع ذلك، فإن على ممتهني دراسة هذه المفاعيل استيعاب ما تكشفه لنا عن كيفية عمل الطبيعة. فالسلوك الكمومي يتهرب عن الرؤية وعن الحس المشترك. ويجبرنا على إعادة التفكير في نظرتنا للكون وعلى قبول صورة جديدة وغير مألوفة لعالمنا.

رواية معقدة(**)

إن الفيزياء التقليدية في نظر الفيزيائي الكمومي هي صورة بالأبيض والأسود لعالم متعدد الألوان. وتعجز معها جماعاتنا التقليدية عن التقاف كل ما في الكون من ثراء. ففي نظر كتب الفيزياء القديمة يُمحى تدرج الألوان بازدياد الحجوم. فالجسيمات بمفردها كمومية؛ وهي تقليدية ككل(2). وترجع الأدلة الأولى على عدم أداء الحجوم دورا أساسيا إلى إحدى أشهر التجارب الذهنية في الفيزياء: قطة شرودينگر(3).

لقد طرح <E. شرودينگر> هذا السيناريو الرهيب عام 1935، ليوضح كيفية اقتران العالمَين الميكروي والماكروي أحدهما بالآخر بشكل يجعل من المستحيل رسم خطوط تفصل بينهما. يقول الميكانيك الكمومي إنه يمكن للذرة المشعة أن تكون مضمحلة(4)  وغير مضمحلة في آن واحد. فإذا كانت هذه الذرة موصولة بقارورة سم للقطط فستموت القطة إن اضمحلت الذرة، وعندئذ تبقى القطة في نفس الحالة الكمومية الانتقالية للذرة. وغرابة إحداهما تصيب الأخرى ولا شأن للأبعاد في هذا الشأن. والأحجية هي لماذا لا يرى أصحاب القطة قطتهم إلا في إحدى الحالتين: حية أو ميتة.

ومن وجهة النظر الحديثة، يبدو الكون تقليديا لأن التفاعلات المعقدة بين الشيء وما يحيط به تتواطأ لحجب المفاعيل الكمومية عن نظرنا. فالمعلومات عن الحالة الصحية للقطة، على سبيل المثال، تتسرب بسرعة إلى البيئة على شكل فوتونات وتبادل حراري. وتتضمن جميع الظواهر الكمومية المتباينة اتحادات combinations حالات تقليدية مختلفة (ميت وحي مثلا) وهي اتحادات لا تلبث أن تتبدد. وتسرب المعلومات هو جوهر السيرورة المعروفة باسم حل الترابط(5) [انظر: «مئـة عـام من الأسـرار الكمومية»، ، العددان 2/3 (20033)، ص 78].

تنزع الأشياء الكبيرة إلى خط الترابط بطواعية أكبر من طواعية الأشياء الصغيرة؛ وهكذا فلن تكلف الفيزيائيين غاليا نظرتهم للميكانيك الكمومي كنظرية للعالم الميكروي. إلا أنه من الممكن إبطاء أو إيقاف تسريب المعلومات في حالات عديدة ويتبدى لنا الميكانيك الكمومي عندئذ في أوج مجده. والمفعول الكمومي هو في جوهره تشابك entanglement، وهي كلمة سبكها شرودينگر عام 1935 في المقال الذي قدم فيه قطته للعالم. فالتشابك يربط جسيمات منفردة جاعلا منها كلا لا ينقسم. أما النظام التقليدي فهو قابل للتقسيم دائما، من حيث المبدأ على الأقل؛ وأيا كانت الخصائص الجماعية لهذا الكل، فإن منشأها المركبات المتمتعة بذاتها ببعض الخصائص. إلاّ أنه لا يمكن تكسير نظام متشابك على هذا النحو، إذ يترتب على التشابك نتائج غريبة. وتسلك الجسيمات المتشابكة سلوك كائن فرد حتى وإن كانت بعيدة عن بعضها، مما أدى بـ <آينشتاين> إلى تسميته الشهيرة «فعل شبحي عن بعد»(6).

 

[مفارقة كمومية]

رصد الراصد(***)

  إن الفكرة القائلة بتطبيق الميكانيك الكمومي على كل شيء في الكون، بما في ذلك علينا نحن بني البشر، يمكن أن تؤدي إلى نتائج غريبة. خذ مثلا هذه الرواية المختلفة لتجربة قطة شرودينگر الذهنية – والتي صار ينظر إليها كأيقونة – جاء بها عام 1961 <P.E.فيگنر> الحائز على جائزة نوبل، وعالجها مفصلا <D. دوتش> [من جامعة أكسفورد] عام 1986.

لنفترض أن فيزيائية تجريبية ماهرة، <آليس>، وضعت صديقها <بوب> في غرفة برفقة قط، ووضعت في الغرفة ذرة مشعة وسُمَّ قط ينطلق عندما تضمحل الذرة. والمهم في وجود إنسان هنا هو قدرتنا على التواصل معه. (فليس من السهل الحصول على أجوبة من القط). وما يعني <آليس> هو أن الذرة تدخل في حالة تكون فيها مضمحلة وغير مضمحلة معا والقط حي وميت معا. إلا أن بإمكان <بوب> مراقبة القط مباشرة ورؤيته في إحدى الحالتين. وتزلق <آليس> ورقة تحت الباب تسأل <بوب> فيها عما إذا كان القط في حالة معينة، فيجيب بنعم.

لنلاحظ أن <آليس> لم تسأل عما إذا كان القط حيا أم ميتا، لأن هذا سيعني بالنسبة إليها لزوم النتيجة أو كما يقول الفيزيائيون انهيار collapse الحالة. إنها تكتفي بملاحظة  أن صديقها يرى القط إما حيا أو ميتا ولا تسأل أيهما.

ونظرا لأن <آليس> تجنبت انهيار الحالة، يعتبر الميكانيك الكمومي أن زلق الورقة تحت الباب عمل عكوس reversible. فبإمكانها إلغاء الخطوات التي قامت بها: فإذا كان القط ميتا، فهو الآن حي ولا يزال السم في القارورة، وقد لا تكون الذرة اضمحلت وقد لا يتذكر <بوب> أنه رأى قطا ميتا على الإطلاق.

ومع ذلك فهناك أثر باق: قطعة الورق. يمكن ل<آليس> إلغاء الرصد على نحو لا تلغي معه الكتابة على الورقة التي تبقى دليلا على أن <بوب> رأى القط وبدقة حيا أو ميتا.

وهذا يقود إلى نتيجة في منتهى الغرابة. لقد كان بمقدور <آليس> عكس الرصد (المشاهدة) لأنها تجنبت، فيما يخصها، انهيار الحالة. ف<بوب> بالنسبة إليها كان في نفس الحالة الوسيطة للقط. ولكن صديقها في الغرفة يظن أن الحالة انهارت فعلا. فقد رأى نتاجا محددا والورقة دليل على ذلك. وهكذا تبين هذه التجربة مبدأين يبدوان متناقضين. ف<آليس> تعتقد أن الميكانيك الكمومي يطبق على الأشياء الماكروية: ليس القط وحده في حالة غامضة وإنما <بوب> أيضا. ويعتقد <بوب> أنه لا يمكن للقطط إلا أن تكون إما حية أو ميتة.

وقد لا يجرؤ أحد على القيام بمثل هذه التجربة على إنسان كامل، ولكن الفيزيائيين يحققون الشيء نفسه على نظم أكثر بساطة. لقد قام <A. زيلينگر> وزملاؤه في جامعة ڤيينا بقذف فوتون على مرآة كبيرة. ترجع المرآة إلى الوراء في حال انعكاس الفوتون عليها ولكنها تبقى ثابتة إذا ما اجتازها الفوتون. ويؤدي الفوتون هنا دور الذرة المضمحلة؛ ويمكن أن يوجد في آن واحد في أكثر من حالة. وتؤدي المرآة المؤلفة من بلايين الذرات دور القط و<بوب> معا. يماثل رجوع المرآة أو عدم رجوعها حياة أو موت القط ورؤية <بوب> لما يحدث. ويمكن هنا أيضا أن تصبح السيرورة عكوسة بجعل الفوتون ينعكس إلى الوراء أمام المرآة. وقد تحقق ذلك في الأبعاد الصغيرة بعكس عملية قياس أيونات مهتزة في مصيدة أيونات.

وفي تطويرهم لهذه التجربة الذهنية المتلوية، سار <ڤيگنر> و<دوتش> على خطى <شرودينگر> و<آينشتاين> وفيزيائيين نظريين آخرين الذين حاجّوا في ضرورة فهم الفيزيائيين للميكانيك الكمومي بعمق. إلاّ أن أغلب الفيزيائيين لم يبدوا، ولعقود طويلة، اهتماما يذكر بذلك لأنه لم يكن للقضايا النظرية الأساسية تأثير في تطبيقاتها العملية. أما الآن وقد استطعنا القيام فعلا بهذه التجارب. فإن مهمة فهم الميكانيك الكمومي صارت ملحة جدا.

 

يتحدث الفيزيائيون عادة عن تشابك أزواج من الجسيمات الأولية، كالإلكترونات. ويمكن، من دون إحكام، أن نتمثل هذه الجسيمات بخذروفين(7) صغيرين يدوران إما في اتجاه عقارب الساعة أو في الاتجاه المعاكس، ويأخذ محوراهما جميع الاتجاهات الممكنة في الفضاء: اتجاه أفقي أو عمودي أو مائل بـ 45 درجة، إلخ. وعلينا لقياس سپين الجزيء(8) اختيار اتجاه ما في الفضاء والنظر فيما إذا كان الجسيم يلف حول هذا الاتجاه.

من أجل البرهان، نفترض أن سلوك الإلكترونين تقليدي. يمكننا جعل أحد الإلكترونين يدور أفقيا باتجاه عقارب الساعة والآخر أفقيا أيضا ولكن بالاتجاه المعاكس لعقارب الساعة. والنتيجة أن السپين الكلي يساوي الصفر. لنفترض أن محوري الإلكترونين ثابتان في الفضاء، فتتوقف نتيجة أي قياس نقوم به على اختيارنا للاتجاه؛ هل نقيس في اتجاه محوري الجسيمين أم لا. فإذا أجرينا القياس أفقيا لرأيناهما يدوران في اتجاهين متعاكسين، أما إذا أجريناه عموديا فلن نكشف عن أي دوران لأي منهما.

إلاّ أن وضع الإلكترونين الكموميين مختلف ويدعو إلى الاستغراب. يمكنك أن تعدّ الإلكترونين بحيث يكون مجموع سپينهما صفرا حتى ولو لم تحدد سپين كل منهما على حدة. وعندما تقيس أحد الجسيمين فستراه يدور عشوائيا في اتجاه عقارب الساعة أو في الاتجاه المعاكس، فكأن الجسيم يقرر بنفسه الاتجاه الذي سيأخذه. ومع ذلك، وأيا كان اتجاه المحور الذي اخترته لقياس الإلكترونين، على أن يكون المحور نفسه لكليهما، فإنهما سيدوران دائما بشكل متعاكس، أحدهما حسب اتجاه عقارب الساعة والآخر بالاتجاه المعاكس. ولكن ما الذي يجعلهما يتصرفان على هذا النحو؟ إنه سر حقيقي. أضف إلى ذلك أنك لو قمت بقياس جسيم أفقيا والآخر عموديا فإنك ستكشف عن وجود سپين لكل منهما. ويبدو إذن أنه ليس للجسيمات محاور دوران ثابتة. ولذا فإن نتائج القياس تتعدى حدود ما يمكن للفيزياء التقليدية تفسيره.

العمل يدا واحدة(****)

تتضمن أغلب براهين التشابك حفنة من الجسيمات على الأكثر؛ إذ من الصعب عزل جموع أكبر منها عن محيطها لأن جسيماتها أقرب إلى التشابك مع جسيمات هائمة مما يحجب النور عن صلاتها الأصلية؛ أو بلغة حل الارتباط (قطع الاتساق) تتسرب معلومات كبيرة جدا إلى البيئة وتفرض سلوكا تقليديا للنظام. وصعوبة الحفاظ على التشابك هي التحدي الأعظم الذي يجابهه العاملون على استغلال هذه المفاعيل الجديدة في استعمال عملي، كالحواسيب الكمومية.

وقد بينت تجربة بارعة في عام 2003 أنه يمكن للنظم الكبيرة أن تبقى، هي أيضا، متشابكة عندما يُخفض التسرب أو يُمنــع مفعـــوله بشكل أو بآخــر. لقد أخذ <G. إبلي> [من يونڤرسيتي كوليج لندن] وزملاؤه قطعة من ملح فليوريد الليتيوم ووضعوها في حقل مغنطيسي خارجي. يمكنك أن تتصور الذرات في الملح كمغانط صغيرة تدور وتحاول أن تصطف في اتجاه الحقل، وفق ما يعرف باسم الطواعية المغنطيسية(9). والقوى التي تطبقها الذرات بعضها في بعض تعمل كنوع من الضغط بين زوجين لتسريع اصطفافهما في اتجاه الحقل. وقد استطاع الباحثون بتغييرهم شدة الحقل المغنطيسي قياس هذا التسريع في الاصطفاف؛ ووجدوا أن استجابة الذرات أسرع بكثير مما توحي به الشدة الناتجة من التفاعل زوجا زوجا. مما يعني بوضوح أن مفعولا إضافيا ساعد الذرات على العمل جماعة، وقد وضعه الباحثون على عاتق التشابك. وإذا كان الأمر كذلك فإن 1020 ذرة من الملح شكلت حالة متشابكة هائلة.

 

[التشابك الماكروسكوبي (الجهري)]

ملح كمومي(*****)

  كان الفيزيائيون يعتقدون أن الظواهر الكمومية المميزة لا تتبدى إلا على مستوى الجسيمات المنفردة؛ بينما تسلك عناقيد الجسيمات الكبيرة سلوكا تقليديا. وقد بينت التجارب الحديثة خلاف ذلك. فعلى سبيل المثال، تتجه الذرات في بلورة ملح إلى جميع الاتجاهات لا على التعيين (يسارا أدناه) وتصطف في اتجاه واحد عندما يطبق الفيزيائيون حقلا مغنطيسيا عليها وتصطف بسرعة أكبر مما تستطيع الفيزياء التقليدية بمفردها فعله (الوسط أدناه). واضح أن ظاهرة التشابك الكمومية – «الفعل الشبحي» The spooky action – الذي ينسق خواص الجسيمات المقذوفة بعيدا عن بعضها بعضا – تساعد على تحقيق الاصطفاف (يمينا أدناه). يُكشَفُ عن دور التشابك بقياس خواص البلورة المغنطيسية (الرسم البياني).

  كيف يتحدى الملح التوقعات التقليدية

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/01-02/2012_01_02_34.jpg

 

ولتجنب المفاعيل المشوشة للحركات العشوائية المرتبطة بالطاقة الحرارية، فقد أجرى <إبلي> وفريقه تجاربهم في درجات حرارة جد منخفضة – بضعة ميليكلڤن. ولكن <M. دوسوز> وزملاءه [في المركز البرازيلي للبحث الفيزيائي في ريودوجنيرو] تمكنوا بعد ذلك من اكتشاف التشابك الماكروسكوبي في مواد مثل كاربوكزيلات النحاس في درجة حرارة الغرفة وفي درجات أعلى أيضا. وإن تفاعل سپينات الجسيمات في هذه النظم قوي إلى حد يجعله يقاوم الشواشchaos الحراري. وقد شاهد الفيزيائيون التشابك في نظم تتزايد أحجامها وترتفع حرارتها بدءا من أيونات واقعة في شرك حقول كهرمغنطيسية إلى ذرات في غاية البرودة في شبيكات lattices إلى بتات كمومية فائقة الموصلية (الناقلية)(10) [انظر الجدول في هذه الصفحة].

 

[تجارب رائدة]

ارتفاع حرارة التشابك(******)

  لا تقتصر المفاعيل الكمومية على الجسيمات تحت الذرية، إذ تظهر أيضا في تجارب على نظم كبيرة وحارة.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/01-02/2012_01_02_35.jpg

 

تشبه هذه النظم قطة شرودينگر. لننظر إلى ذرة أو أيون. ويمكن أن توجد الإلكترونات قرب النواة أو بعيدا عنها – أو في الحالتين في آن واحد. ويتصرف مثل هذا الإلكترون كتصرف الذرة المشعة التي اضمحلت أو لم تضمحل في تجربة شرودينگر الذهنية. وتتحرك الذرة ككل بشكل مستقل عما يفعله الإلكترون، لنقل يمينا أو يسارا. وهذه الحركة تؤدي دور القطة الميتة أو الحية. هذا وقد تمكن الفيزيائيون، باستعمال الليزر، الجمع بين الخاصتين: جعل الذرة، التي يقع الإلكترون فيها قرب النواة تتحرك نحو اليسار مثلا، في حين أن الأخرى ذات الإلكترون البعيد عن النواة، تتحرك نحو اليمين. وهكذا فإن حالة الإلكترون متشابكة مع حركة الذرة، وذلك على غرار تشابك الاضمحلال الإشعاعي مع حالة القطة. وتقلد حركة الذرة نحو اليمين واليسار معا حالة القطة الميتة والحية في آن واحد.

وقد انطلقت تجارب أخرى من هذه الفكرة الأساسية، بحيث يتشابك عدد هائل من الذرات ويدخل في حالات تُعدّ مستحيلة في الفيزياء التقليدية. وإذا كان بإمكان الأجسام الصلبة أن تتشابك حتى ولو كانت كبيرة وحارة، فإن قفزة خيال صغيرة تحملنا على التساؤل عن إمكانية حدوث ذلك لنوع خاص جدا من النظم الكبيرة والحارة: الحياة.

طيور شرودينگـر(*******)

إن أبا الحناء Robins طير أوروبي صغير وفطن. تهاجر هذه الطيور كل عام من إسكندناڤيا إلى سهول إفريقيا الاستوائية الحارة وتعود في الربيع عندما يصبح مناخ الشمال مقبولا. وتقطع بسهولة، في رحلة الذهاب والإياب هذه، مسافة 000 13 كم.

وكان الناس يتساءلون عما إذا كانت بوصلة ما في هذه الطيور وغيرها من الحيوانات. في السبعينات من القرن الماضي، التقط <W. فولفگانگ> وزوجته [من جامعة فرانكفورت في ألمانيا] طيورا مهاجرة نحو إفريقيا ووضعوها في حقول مغنطيسية اصطناعية. والغريب أنهما وجدا أن هذه الطيور لا تحس بعكس اتجاه الحقل المغنطيسي مما يشير إلى عدم قدرتها على تحديد الشمال من الجنوب؛ ولكنها تحس بميل الحقل المغنطيسي الأرضي – بالزاوية التي تعملها خطوط هذا الحقل مع السطح. وهذا هو جميع ما تحتاج إليه هذه الطيور في الملاحة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنها لا تتحسس بالحقل المغنطيسي إطلاقا عندما تُغطى عيونها، مما يدل على أنها تشعر بالحقل بشكل أو بآخر عبر عيونها.

وفي عام 2000 وجد <Th. ريتز> [وهو فيزيائي من جامعة ساذرن فلوريدا آنذاك، يهوى الطيور المهاجرة] مع زملائه في هذه الجامعة أن مفتاح اللغز هو التشابك. ويقول اقتراحهم، المبني على بحث لـ <K. شولتن> [من جامعة إلِّينوي]: إن في عين الطائر جزيئات ذات طابع خاص يشكل فيها إلكترونان زوجا متشابكا ذا سپين كلي معدوم. وهو وضع لا شبيه له على الإطلاق في الفيزياء التقليدية. وعندما يمتص الجزيء الضوء المرئي ينفصل الإلكترونان أحدهما عن الآخر بفضل الطاقة التي يتلقيانها ويصبح خضوعهما للتأثير الخارجي ممكنا بما في ذلك الحقل المغنطيسي الأرضي. ويُحدِث عدم التساوي هذا تغييرا في التفاعل الكيميائي الذي يخضع الجزيء له. وتترجم المسالك الكيميائية في العين هذا الاختلاف إلى دفعات عصبية تولد صورة للحقل المغنطيسي في دماغ الطير.

كان الفيزيائيون يعتقدون أن صخب الخلايا الحية قد يحجب ظواهر كمومية. والآن يجدون أنه يمكن للخلايا تغذية هذه الظواهر ويستغلونها.

 

ومع أن التحقق من آلية <ريتز> ظرفي، فقد أُجريت دراسة مختبرية (نقيضة دراسة الحيوانات الحية) لجزيئات شبيهة بجزيء <ريتز> قام بها <J .Ch. روجرز> و<K. مايد> [من جامعة أكسفورد] أثبتا من خلالها إرجاع تحسس هذه الجزيئات بالحقل المغنطيسي إلى التشابك الإلكتروني. ووفق الحسابات التي قمت بها مع زملائي فإن المفاعيل الكمومية تستمر في عين الطير 100 ميكروثانية – وهي فترة طويلة في هذا السياق. فالرقم القياسي لنظام سپين – إلكترون معمول اصطناعيا هو نحو 50 ميكروثانية. ولا ندري حتى الآن كيف يستطيع نظام طبيعي حفظ المفاعيل الكمومية لهذه الفترة الطويلة، ولكن الإجابة عن هذا التساؤل قد تزودنا ببعض الأفكار عن كيفية حماية الحواسيب الكمومية من حل الترابط (قطع الاتساق).

وهناك سيرورة بيولوجية أخرى يمكن للتشابك أن يدخل فيها وهي التركيب الضوئي(11)، وهي السيرورة التي يتحول فيها نور الشمس إلى طاقة كيميائية. فالضوء الوارد يقذف بإلكترونات في خلايا النبات، وعلى هذه الإلكترونات أخذ مسارات تقودها إلى التجمع في موضع واحد هو مركز التفاعل الكيميائي حيث تتيح طاقتها انطلاق التفاعلات الكيميائية التي تغذي خلايا النبات. وتعجز الفيزياء التقليدية عن شرح هذه الفعّالية القريبة من الكمال.

لقد أوحت تجارب عديدة أن الميكانيك الكمومي يفسر الفعّالية الكبيرة لهذه السيرورة؛ وقد قامت بهذه التجارب مجموعات عديدة في جامعتي كاليفورنيا وتورونتو. فالميكانيك الكمومي لا يُلزم الجسيم بأخذ مسار واحد في لحظة معينة بل يمكِّنه من أخذ جميع هذه المسارات في آن واحد. إلاّ أن بعض هذه المسارات يعدم الواحد الآخر بفعل الحقل الكهرطيسي داخل خلايا النبات، في حين تتقاوى بعض المسارات الأخرى؛ وهذا ما يقلل من فرص أخذ الإلكترون طريقا غير مجد، ويزيد من فرص توجهه مباشرة نحو مركز التفاعل.

وقد يدوم التشابك جزءا من الثانية ويشمل جزيئات لا يتجاوز عدد ذراتها المئة ألف. فهل توجد أمثلة أخرى في الطبيعة لتشابك أكبر وأكثر استدامة؟ لا ندري، إلا أن في السؤال ما يكفي من الإثارة للدفع نحو إنشاء اختصاص جديد: البيولوجيا الكمومية quantum biology.

المعنى لهذا كله(********)

لقد كان توقع إمكانية وجود القطط حية وميتة معا منافٍ للمنطق في نظر شرودينگر؛ وما من نظرية تتنبأ بحدث من هذا النوع إلا وتكون نظرية خاطئة بكل تأكيد. وقد شعرت أجيال من الفيزيائيين بهذا الحرج، وتصورت أن تطبيق الميكانيك الكمومي يتوقف عند المقاييس الكبيرة. واقترح <R. پينروز> [من أكسفورد] أنه قد يكون بمقدور الثقالة جعل الفيزياء التقليدية تحل محل الميكانيك الكمومي في أشياء تتجاوز كتلتها 20 ميكروغرام، ورأى ثلاثة فيزيائيين إيطاليين <T. فيبر> [من جامعة تريستا] و<آلبروتوريميني> وآخر من جامعة بافيا أن الجسيمات تسلك بشكل عفوي السلوك التقليدي عندما تكون بأعداد كبيرة. ولكن التجارب لم تعد حاليا تترك مجالا لهذا النوع من السيرورات. ويبدو أن الفصل بين العالمين الكمومي والتقليدي لم يعد أساسيا. إنه مسألة مهارة تجريبية ليس إلا؛ ويظن عدد قليل من الفيزيائيين أن الفيزياء التقليدية ستعود دوما في الواقع أيا كانت المقاييس. إلا أن الاعتقاد السائد هو أنه إذا ما حلت يوما ما نظرية أعمق من الفيزياء الكمومية، فإنها ستبين لنا أن الكون أبعد ما يكون عن الحدس مما رأيناه حتى الآن.

وهكذا فإن واقع تطبيق الميكانيك الكمومي على جميع المقاييس يجبرنا على مواجهة أعمق أسرار النظرية. ولن نستطيع بجرة قلم القول إنها مجرد تفاصيل لا قيمة لها إلا في المقاييس الصغيرة جدا. فالزمان والمكان، على سبيل المثال، هما من المفاهيم التقليدية الأساسية، لكنهما ثانويان في الميكانيك الكمومي. والتشابكات هي أولية. فهي تربط النظم الكمومية من دون الرجوع إلى الزمان والمكان. ولو وجد خط فاصل بين العالمين الكمومي والتقليدي لاستعملنا الزمان والمكان التقليديين كإطار لتوصيف السيرورات الكمومية. ولكننا نُضيع هذا الإطار لعدم وجود هذا الخط الفاصل؛ وفي الواقع، لعدم وجود عالم تقليدي بحق. ويجب علينا تفسير المكان والزمان كانبثاق – على نحو ما – من فيزياء بلا مكان ولا زمان.

ويمكن لعمق الرؤية هذه أن يساعدنا على التوفيق بين الفيزياء الكمومية وبين هذا الركن الآخر الكبير للفيزياء. نظرية النسبية العامة لآينشتاين، التي تصف قوة الثقالة بدلالة هندسة الزمكان(12) spacetime. والنسبية العامة تفترض أن الأشياء تحتل أوضاعا معرفة تماما ولا تحتل إطلاقا أكثر من مكان في لحظة معينة – في تعارض مباشر مع الفيزياء الكمومية. ويعتقد فيزيائيون عديدون، من أمثال <S. هوكينگ> [من جامعة كامبريدج] أن على نظرية النسبية أن تدع نظرية أعمق منها تحل محلها، نظرية لا يوجد فيها مكان وزمان. وينبثق الزمكان من تشابكات كمومية عبر سيرورة حل الترابط (قطع الاتساق).

وهناك إمكانية أخرى أجدر بالاهتمام ترى أن الثقالة ليست قوة بذاتها وإنما بقايا ضوضاء منبثقة عن التجمد الكمومي(13)  للقوى الكونية الأخرى. ترجع فكرة «الثقالة المستحثة» هذه إلى الفيزيائي النووي والسوڤيتي المنشق <A. زاخاروڤ> في ستينات القرن الماضي. وإذا كان الأمر كذلك فلن تهبط الثقالة من رتبتها كقوة أساسية فحسب بل ستبدو جهود «تكميم» الثقالة في غير محلها. وقد لا يكون للثقالة وجود على المستوى الكمومي.

إن ما يتضمنه كون الأشياء الماكروسكوبية، ونحن منها، في غموض كمومي مثير ومحير، كافٍ لوضعنا نحن الفيزيائيين في حالة تشابك من الارتباك والإعجاب.

المؤلف

  Vlatko Vedral
اشتهر <ڤيدرال> بتطويره طريقة جديدة في تكميم التشابك وتطبيقها على النظم الفيزيائية الماكروسكوبية (الجهرية). درس المرحلتين الجامعيتين بالآمبريال كوليج في لندن. ومنذ الشهر 6/2009 يعمل أستاذا بجامعة أكسفورد وجامعة الأمم المتحدة في سنغافورة. http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/01-02/2012_01_02_32.jpg

 

  مراجع للاستزادة

 

Entangled Quantum State of Magnetic Dipoles. S. Ghosh et al. in Nature, Vol. 4254, pages 48-51; September 4, 2003. Preprint available at arxiv.org/abs/cond-mat/0402456

 

Entanglement in Many-Body Systems. Luigi Amico, Rosario Fazio, Andreas Osterloh and Vlatko Vedral in Reviews of Modem Physics, Vol. 80, No. 2, Pages 517-576; May 6, 2008.

arxiv.org/abs/quant-ph/0703044

 

Decoding Reality: The Universe as Quantum Information. Vlatko Vedral. Oxford University Press, 2010.

 

(*)LIVING IN A QUANTUM WORLD

(**)A TANGLED TALE

(***)Observing the Observer

(****)ACTING AS ONE

(*****)Quantum Salt

(******)Entanglement Heats Up

(*******)SCHRÖDINGER’S BIRDS

(********)THE MEANING OF IT ALL

(1)The Elegant Universe نقله إلى العربية: د. نضال شمعون & د. عبدالحليم منصور الناشر: مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (2005).
(2)  en masse
(3) انظر: «إحياء قطة شرودينگر»، ، العدد (1997) 12، ص 48. ولمزيد من التفصيل حول تجربة قطة شرودينگر وموضوعات أخرى وردت في هذه المقالة راجع كتاب «العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء»، لمؤلفه روجيه بنروز – ترجمة: محمد وائل الأتاسي وبسام معصراني، دار طلاس – دمشق 1998.

(4) decayed: أو مفككة.

(5) أو: قطع الاتساق.
(6)  spooky action at a distance
(7) spinning tops: خذروف.

(8) particle’s spin

(9)magnetic susceptibility
(10)  superconducting quantum bits
(11) photosynthesis

(12) زمكان: نحت من زمان-مكان.

(13)the quantum fuzziness

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى