أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الحيوان

النمل وفنون الحرب

http://oloommagazine.com/Images/none.gif
 
النمل وفنون الحرب(*)

تشبه معارك النمل بشكل مذهل العمليات العسكرية لدى البشر.

<W.M. موفيت>

 

باختصار

  يعيش بعض أنواع النمل في مستعمرات مؤلفة من آلاف أو ملايين الأفراد التي تذهب لمحاربة مستعمرات أخرى للحصول على الموارد كالأرض أو الغذاء.

وتستخدم مختلف الحشرات أساليب القتال التى يمكن أن تكون مماثلة على نحو لافت للنظر، لتلك المستخدمة من قبل البشر والتي يمكن أن تختلف وفقا للحالة.

وما يعزز قدرة النمل في الحرب هو ولاؤه المطلق لمستعمرته.

 

ينتشر المقاتلون الشرسون على جميع الجوانب، وتمتد المعركة – إلى ما وراء مجال رؤيتي – بعنف لا يمكن إدراكه. فيستمر اجتياح عشرات الآلاف من المقاتلين الانتحاريين الشديدي العزم في التقدم إلى الأمام الملتزمين بأداء الواجب، ولا يحيد المقاتلون عن المواجهة ولا يتراجعون حتى في وجه الموت. فالاشتباكات قصيرة ووحشية. فجأة، يقبض ثلاثة من المشاة على أحد الأعداء ويقيدونه في مكانه حتى يتقدم أحد المحاربين الأكبر حجما ليقطع أوصال جسد الأسير تاركا إياه نازفا ومحطما.

رجعت إلى الوراء مع كاميرتي، لاهثا في الهواء الرطب لغابات ماليزيا المطيرة، مذكِّرا نفسي بأن المتقاتلين نمل وليسوا بشرا. أمضيت أشهرا أوثّق حالات الموت هذه، من خلال كاميرا ميدانية أستعملها كميكروسكوب(1)، إلا أنني ومازلت أجد أنه من السهل أن أنسى أنني أشاهد حشرات صغيرة، وقد كانت في هذه الحالة نوعا من النمل يدعى النمل الغازي Pheidologeton diversus.

لطالما عرف العلماء أن أنواعا معينة من النمل (والنمل الأبيض) تشكل مجتمعات متماسكة يصل تعدادها إلى الملايين وأن هذه الحشرات تأتي بسلوكيات معقدة. هذه الممارسات تشمل أمورا مثل إدارة المرور، ومجهودات الصحة العامة، وتدجين المحاصيل، وقد يكون السلوك الأكثر إثارة هو الحرب: اشتباك مستعِرٌ بين مجموعتين تخاطر فيه كلتاهما بالدمار الشامل. وفى الحقيقة، ومن هذا الجانب وغيره من الجوانب، فإننا – أي الإنسان الحديث – أكثر تشابها بالنمل مقارنة بأقرب أقربائنا من الأحياء: القرود التي تعيش في مجتمعات أصغر بكثير. ومع ذلك لم يدرك الباحثون إلا مؤخرا إلى أي مدى تعكس استراتيجيات الحرب عند النمل استراتيجياتنا. فقد اتضح أن الحرب تتضمن عند النمل كما عند البشر مجموعة مذهلة من الخيارات التكتيكية حول طرق الهجوم والقرارات الاستراتيجية فيما يخص متى وأين تُشَنّ الحرب.

الصدمة والترويع(**)

ومما هو لافت للنظر أنه على الرغم من الاختلافات الحادة بين النمل والبشر بيولوجيا وفى البنية الاجتماعية، إلا أنه توجد تشابهات بينهما فى الحرب. تتألف مستعمرات النمل بشكل أساسي من إناث عقيمة تعمل كشغّالات workersأو كجنود، وأحيانا بعض الذكور القصيري العمر drones الذين يقتصر دورهم على التلقيح، إضافة إلى ملكة خصبة أو أكثر. ويعمل الأفراد من دون وجود تراتبية هرمية للسلطة أو قائد دائم. فمع أن الملكات تشكل مركز الحياة فى المستعمرة لأنهن يتكاثرن، إلا أنهن لا يقدن الجنود أو ينظمن العمل. بل تكون المستعمرات لامركزية بشغالات، كل منها منفردة تعرف القليل عن اتخاذ قرارات المعركة، ولكنها كمجموعة تثبت كفاءتها ومن دون إشراف – وهو ما يعرف بذكاء السرب(2) swarm intelligence. وعلى الرغم من أن النمل والبشر لهما طرق حياتية مختلفة فإنهم يخوضون حروبهم للعديد من الأسباب الاقتصادية المتشابهة؛ تتضمن الحصول على مناطق للسكن أو المقاطعات أو الطعام، وحتى القوة العاملة حيث يختطف بعض أنواع النمل منافسيهم ليكونوا عبيدا.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/05-06/2012_05_06_31_b.jpg
يهاجم النمل الغازي Marauder ants من إحدى المستعمرات فردا من مستعمرة منافسة ممزقا أوصاله ببطء.

 

إن التكتيكات التي يستخدمها النمل في الحرب تعتمد على ما هو على المحك. فبعض أنواع النمل تنجح في المعركة من خلال الهجوم المتواصل، مذكرة بالجنرال الصيني <سان تزو> الذي أكد في كتابه «فن الحرب»(3)  وفي القرن السادس قبل الميلاد بأن «السرعة هي جوهر الحرب». في أنواع النمل المحارب، من الأنواع التي تعيش في المناطق الدافئة حول العالم، وبعض الأنواع الأخرى كالنمل الغازي الآسيوي، تتقدم بهيجان مئات بل حتى ملايين الأفراد ضمن كتيبة محكمة، مهاجمة الفرائس والأعداء التي تقع عليها. وقد شاهدتُ في غانا ما يشبه سجادة هائجة من شغالات النمل المحارب من النوع Dorylus nigricansتقوم معا بتقصي مساحة بعرض 100 قدم. هذا النمل المحارب الأفريقي – الذي يتحرك في صفوف عريضة، في أنواع مثل Dorylus nigricans، ويدعى «النمل الجرار» driver ants – يُشرّح اللحم بفكين كالشفرات، ويستطيع أن يقضي في عجلة على ضحايا يبلغ حجمها ضعف حجمه آلاف المرات. ومع أن الفقاريات عادة ما تستطيع الهرب من النمل، فقد رأيت مرة في الغابون بقرة وحشية واقعة في شرك تؤكل حية من قبل مستعمرة من النمل الجرار. يُبعِد كل من النمل المحارب والنمل الغازي النملَ المنافس عن الطعام، فعدد جنودهم الكبير يستطيع التفوق على أي منافس في السيطرة على مصادر غذائها. ولكن النمل المحارب يعمد دوما تقريبا إلى الاصطياد ضمن جماعات لأهداف أكثر خبثا، كاقتحام مجتمعات النمل الأخرى للاستيلاء على يرقات وعذارى المستعمرة كطعام.

تذكرنا الكتائب المتقدمة للنمل المحارب والغازي بالتشكيلات القتالية التي استخدمها الإنسان منذ عهود السومريين القديمة وحتى الجبهات المنظمة في الحرب الأهلية الأمريكية. حيث تتقدم هذه الكتائب دون وجهة محددة – كما يفعل البشر أحيانا – مما يجعل كل غارة أشبه بالمقامرة إذ قد تتقدم عبر أراض قاحلة ولا تجد فيها شيئا. وترسل أنواع أخرى من النمل مجموعات صغيرة من الشغالات تدعى بالكشافة، تخرج من العش لتبحث فرادى عن الطعام. وبانتشارها في مناطق واسعة، بينما تظل بقية أفراد المستعمرة في العش، تلاقي فرائس وأعداء أكثر.

ولكن المستعمرات التي تعتمد على الكشافة قد تَقْتل – فى المجمل – أعدادا أقل من الأعداء، إذ يتعين على الكشاف أن يعود إلى العش لتشكيل قوة مقاتلة (ويفعل ذلك عادة بإفراز مادة كيميائية تسمى «فيرومون» pheromone) لكي تتبعها القوات الاحتياطية. وبينما يذهب الكشاف لاستدعاء المقاتلين للمعركة، قد ينسحب العدو أو يعيد تجمعه. وعلى العكس من ذلك فإن شغالات النمل الغازي أو المحارب تستطيع استدعاء أي مساعدة مطلوبة، حيث يمشي خلفها مباشرة عدد وفير من المساعدين، والنتيجة هي تحقيق أقصى قدر من الصدمة والترويع.

توزيع القوات(***)

لا تنتج القوة المميتة للنمل الغازي والمحارب من العدد الضخم للمقاتلين فحسب، حيث أظهرت أبحاثي عن النمل الغازي أن المحاربين يتم نشرهم بطريقة تزيد الفعالية وتنقص التكلفة على المستعمرة. وتعتمد الكيفية التى ينتشر بها الأفراد على حجم الأنثى، حيث إن حجم شغالات النمل الغازي يختلف فيما بين أفراده أكثر من أي نوع نمل آخر. وتتحرك الشغالات الصغريات(4)  (جنود المشاة التي تمت الإشارة إليهم في الافتتاحية) بسرعة إلى الخطوط الأمامية، وهي منطقة الخطر التي يجري أول مرة فيها مواجهة مستعمرات النمل المنافس أو الفريسة. ولا تمتلك الشغالة الصغرى منفردة فرصة للنجاة أكثر من فرصة فرد مساوٍ لها في الحجم من أفراد الكشافة في أنواع النمل الصياد lone-hunting species، ولكن أعدادها الكبيرة على الجبهة تشكل متراسا كابحا. ومع أن بعضها قد يموت في أثناء ذلك، إلا أن الشغالات الصغريات تتمكن من إبطاء العدو أو جعله عاجزا حتى وصول الشغالات الأكبر حجما التي تُعرف بالأواسط والكبريات والتي توجه الضربة المميتة. ومع أن الشغالات الكبريات أقل عددا بكثير من الشغالات الصغريات إلا أنهن أشد خطرا حيث يصل وزن بعض أفرادها إلى خمسمئة ضعف الشغالة الصغرى.

تقلل تضحيات الشغالات الصغريات من نسبة موت الشغالات الأواسط(5)والكبريات والتي تتطلب من المستعمرة موارد أكثر لتنشئتها والحفاظ عليها. فتعريض المقاتلين الأقل تكلفة للخطر الأكبر تكتيك معروف عبر التاريخ. لقد مارست المجتمعات القديمة التي عاشت على ضفاف الأنهار هذا التكتيك بتجنيد المزارعين المتوفرين بأعداد كبيرة وبثمن بخس، حيث يتم تحميلهم العبء الأكبر من الحرب، بينما تقبع النخبة من الجنود الذين تلقوا أفضل التدريب وأفضل الأسلحة والعتاد بأمان نسبيا ضمن هذه الجحافل. وكما تهزم الجيوش البشرية أعداءها من خلال الاستنزاف محطمين العدو وحدة تلو الأخرى بدلا من الهجوم دفعة واحدة – وهي استراتيجية حربية معروفة بـ«الهزيمة على التتابع» defeat in detail – كذلك يحصد النمل الغازي أعداءه شيئا فشيئا مع تقدم الغارة بدلا من الاشتباك مع العدو بكامل قوته.

في الميدان: تمسك بعض شغالات النمل الحائك weaver ants بشغالة أقوى من النمل المحارب ساحبات إياها حتى تقطعها إلى أشلاء (1). تقف نملة العسل honeypot ant الصغيرة على حصاة لتبدو أكبر حجما (2). وفي خدعة انتهازية تروع عدوها الأكبر حجما تقف شغالة نمل صغيرة (وليدة) من النوع المحارب على رأس شغالة يافعة من النوع نفسه، وتقوم الشغالات الصغيرات بإمساك العدو بينما تقوم الكبيرة بقتله (3). تمزق نملة المفجر الانتحارية suicide bomber ant الحمراء نفسها مطلقة غراء أصفر ساما على عدوها فيموت الاثنان فورا (4).

 

إضافة إلى قتل أنواع أخرى من الأعداء والفرائس، يدافع النمل الغازي بشدة عن المناطق المحيطة بالعش والطعام ضد مستعمرات النمل الغازي الأخرى، حيث تبقى الشغالات الأواسط والكبريات في الخلف، بينما تمسك كل شغالة صغرى بأحد أطراف الخصم. وتدوم هذه المواجهات لساعات وهي أكثر فتكا من مواجهات النمل الغازي مع منافسيه الآخرين، حيث تشتبك مئات من النمل الصغير على مساحة بضعة أقدام مربعة مقطعة بعضها إربا.

وتشكل هذه الصورة من قتال الحشرات وجها لوجه الطريقة الشائعة في القتل عند النمل. فالموت حتمي تقريبا مما يعكس رخص اليد العاملة في المستعمرات الكبيرة. وفي حين تستخدم أنواعُ النمل الأكثر اكتراثا بخسارة المحاربين أسلحةً طويلة المدى تمكنها من إيذاء العدو أو إعاقته من بعيد؛ فمثلا، تشتيت عدوها برش رذاذ يشبه الرماح كما يفعل نمل الخشب Formica wood antsفي أوروبا وأمريكا الشمالية، أو بإلقاء أحجار صغيرة على رؤوس العدو كما يفعل النمل Dorymyrmex bicolor في أريزونا.

وتظهر أبحاث يقوم بها <N. فرانكس> [يعمل حاليا في جامعة بريستول بإنكلترا] مع زملائه أن العنف المنظم الذي يمارسه النمل الغازي والمحارب ينسجم مع قانون مربع لانكستر Lanchester’s square law، وهو واحد من المعادلات التي طورت في الحرب العالمية الأولى من قبل المهندس <F. لانكستر> لمحاولة فهم الاستراتيجيات والتكتيكات المحتملة للقوات المعادية. فقد أظهرت معادلاته الرياضياتية أنه عندما يندلع العديد من الاشتباكات في وقت واحد في ميدان صراع، يتفوق العدد على قوة القتال الفردية. لذلك لا تعرِّض شغالات النمل الأكبر حجما نفسها للخطر إلا عندما يكون الخطر كبيرا، على سبيل المثال، تندفع الشغالات من جميع الأحجام للمشاركة في الدفاع عندما يُقدِم عالم حشرات ساذج بما فيه الكفاية على نبش عشها، حيث تُسبب الشغالات الكبريات اللسعات الأكثر ضراوة.

ومع ذلك، فإن قانون مربع لانكستر لا ينطبق على جميع حالات البشر المتحاربين، وكذلك لا يصف جميع سلوكيات النمل في القتال. ويقدم النمل الـُمسترِقُّ(6) slave-making ants استثناء مذهلا. يسرق بعض مسترقي النمل  صغارَ مستعمرتهم المستهدفة ليقوموا بتنشئتها كرقيق فى عش النملة المسترقة. ويمنح الدرع القوي، والذي يتمثل بالهيكل الخارجي، والفكوك الشبيهة بالخناجر، مسترقي النمل قدرات قتالية فائقة. إلا أن أعدادها أقل كثيرا عن النمل المستهدف في المستعمرات التي تُغير عليها. ولتحاشي الإبادة فإن بعض مسترقي النمل يطلق مادة كيميائية «دِعائية» تشيع الفوضى في المستعمرة المغار عليها مانعة شغالاتها من مهاجمتهم.

 

وكما أوضح بعد ذلك <فرانكس> [كان وقتها في جامعة باث] وتلميذه <L. بارتريدج> فإن النمل يتبع بذلك استراتيجية أخرى من استراتيجيات لانكستر، والتي قد تنطبق أحيانا على البشر أيضا. ويقول هذا القانون الذي يدعى بالقانون الخطّيّ: إنه في حالة الاشتباكات الفردية – وهو ما تسمح به المادة الكيميائية الدعائية – يكون النصر مؤكدا للمقاتلين الأقوى، حتى عندما يكونون الأقل عددا. وفي الحقيقة فإن المستعمرة المحاصرة من قبل النمل المسترق غالبا ما تسمح للغزاة بالسلب دون أي قتل أو قتال.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/05-06/2012_05_06_34.jpg
إغلاق باب الدخول: تقوم نملة من جنس Stenamma (في الوسط) بإغلاق باب العش بحصاة لمنع النملة المحاربة (في اليمين) من دخول عشها.

 

تعتمد قيمة المقاتل عند النمل فى مستعمرته على المخاطر التي يواجهها، فكلما كان أكثر قابلية لأن يضحى به زاد احتمال أن يوضع في وجه المخاطر. وعلى سبيل المثال يجري استخدام شغالات عجائز أو مقعدات كحراس لمسارات الرعي في النمل الغازي، التي غالبا ما تصارع للبقاء منتصبات بينما تندفع بقوة نحو المتطفلين. وكما أوردت <D. كاسيل> [من جامعة جنوب فلوريدا] في مجلة Naturwissenschaften عام 20088، فإن الشغالات الأكبر عمرا (بالشهور) فقط من النمل الناري fire ant تنخرط في القتال، بينما تهرب الشغالات بعمر أسابيع، وتتظاهر الأفراد بعمر أيام بالموت مستلقية دون حركة، وذلك عندما تتعرض للهجوم. فمن وجهة نظر النمل قد يبدو أن تجنيد الصغار الأصحاء كما يفعل البشر عمل عبثي. ولكن علماء الأنثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان) وجدوا بعض الأدلة على أنه على الأقل في بعض الثقافات يُخلِّف المحاربون الناجحون ذرية أكثر. وهذه الأفضلية التكاثرية قد تجعل القتال مجزيا في مقابل المخاطر بالنسبة إلى المحاربين الشباب، وهي ميزة تفتقدها شغالات النمل التي لا تتكاثر.

سيطرة أرضية(****)

تظهر مراقبة النمل الحائك weaver ants استراتيجيات حربية أخرى مشابهة لاستراتيجيات البشر. يحتل النمل الحائك جزءا كبيرا من الغصون العالية في الغابات الاستوائية في إفريقيا وآسيا وأستراليا حيث قد تمتد المستعمرات عبر عدة أشجار وتحوي أكثر من نصف مليون فرد مما يشبه التجمعات الهائلة لبعض النمل المحارب. كما يتشابه النمل الحائك والمحارب في العدائية العالية، ومع ذلك فإن للنوعين أساليب عمل مختلفة تماما. فبينما لا يدافع النمل المحارب عن أراضيه لأنه يبقى متراصا في أثناء بحثه عن أنواع النمل الأخرى ليهاجمها طلبا للطعام، تبقى مستعمرات النمل الحائك متحصنة في موقع واحد، ناشرة شغالاتها على اتساع المكان لإبقاء المنافسين خارج كل بوصة من أراضيها.

ويسيطر النمل الحائك ببراعة على مناطقه بين الأشجار من خلال الدفاع عن بعض النقاط الحرجة، كمنطقة التقاء جذع الشجرة بالأرض. أما الأعشاش/الثكنات الكثيفة الأوراق فتقام استراتيجيا على قمة الشجر موزِّعة الجنود إلى الأماكن التي تكون أكثر حاجة إليهم.

كما تتمتع شغالات النمل الحائك باستقلالية أكبر من شغالات النمل المحارب. إذ يؤدي النمل المحارب وظيفته بتجريد شغالاته من استقلاليتها. ولأن مقاتلي النمل المحارب يبقون قرب مجموعاتهم المتقدمة فإنهم يحتاجون إلى إشارات اتصال قليلة نسبيا، وهم يستجيبون لوجود الأعداء والفرائس بطريقة عالية التنظيم. وعلى العكس من ذلك فإن شغالات النمل الحائك تتجول بحرية أكبر، مبدية استجابات أكثر تنوعا في مواجهة الفرص والتهديدات. تذكرنا هذه الاختلافات في الأسلوب بالفروقات بين صرامة جيوش <فردريك الأعظم>، ومرونة وحركية قوات <نابليون بونابرت>.

وكالنمل المحارب، يتخذ النمل الحائك إجراءات مماثلة عند التعامل مع العدو أو الفريسة، وفي كلتا الحالتين يفرز النمل الحائك فيرومون تجنيد قصير المدى من غدته القصّية sternal gland لاستدعاء التعزيزات القريبة لتضطلع بالقتل،  بينما تختص مراسلات النمل الحائك الأخرى بحالة الحرب. فعندما تعود شغالة من معركة مع مستعمرة أخرى فإنها تهز جسمها هزا عنيفا عند المرور بنملات أخريات لتحذيرهن للمعركة القائمة، وفي الوقت نفسه فإنها تطلق رائحة مختلفة على طول الطريق، وهي فيرومون يفرز من غدة المستقيم rectalgland لإرشاد رفيقاتها في المستعمرة إلى موقع المعركة. إضافة إلى ذلك ولاحتلال منطقة خالية، تستخدم الشغالات إشارة أخرى، وذلك بالتبرز في المنطقة، تماما كما تعرف الكلاب منطقتها بالتبول فيها.

مسألة حجم(*****)

في كل من النمل والبشر يرتبط الميل إلى خوض حرب حقيقية، بشكل عام على الأقل، بحجم المجتمع. فنادرا ما تخوض المستعمرات الصغيرة حروبا طويلة إلا في حالة الدفاع. ومثل مجتمعات الجمع والالتقاط البشرية، وهم في الغالب من الرحَّل، والذين يميلون إلى العيش كفافا، فإن مجتمعات النمل البالغة الصغر والتي تتألف فقط من بضع عشرات من الأفراد لا تقيم بنى تحتية ثابتة من مسارات ومخابئ طعام أو أماكن إيواء تستحق الموت من أجلها. وفي أوقات النزاعات الحادة بين المجموعات سوف يختار هذا النمل كنظرائه من البشرِ الهربَ على القتال.

وقد تمتلك المجتمعات الصغيرة الحجم موارد أكثر لتدافع عنها، إلا أنها تبقى صغيرة بما يكفي لتفضل سلامة جنودها على التضحية بهم. ويعيش نمل العسل honeypot ants في جنوب غرب الولايات المتحدة في مستعمرات  متوسطة الحجم تحوي بضعة آلاف من الأفراد، ويعطي مثالا لتجنب هذه الحشرات للخطر. وللفوز بفريسة قريبة دون منافسة، تقوم المستعمرة بإجراء مناورة اتقائية بجوار عش قريب لإلهاء العدو بدلا من المخاطرة بمعارك مميتة. وخلال هذه المناورة يقف المتنافسون عاليا على أطراف أرجلهم الست ويدور أحدهم حول الآخر في دوائر. يعكس هذا السلوك الذي يشبه الاستعراض بالمشي على العصي في الاستعراض الاحتفـــالي للقــوة الــذي يحصل دون إراقة للــدمـاء والشائع بين العشــائر البشــريــة الصغيـرة. وكما اقتــرح البيولوجيان <B. هولدوبلر> [من جامعة ولاية أريزونا] و <E .O. ويلسون> [من جامعة هارڤارد] أنه وبشيء من الحظ يمكن للمستعمرة ذات النمل المستعرض الأصغر حجما – والتي غالبا ما تكون من المستعمرة الأضعف – الانسحاب دون خسارة أفراد منها، ولكن الجانب المنتصر قد يستغل الفرصة إذا أتيحت له مُلْحِقا أضرارا فادحة بأعدائه، ملتهما صغارها، ومختطفا شغالات تدعى بالممتلئات لانتفاخها بالطعام الذي تجترّه عند الحاجة من أجل رفقاء العش الجوعى. ويسحب نمل العسل المنتصر الشغالات الممتلئات إلى عشه حيث يبقيها كعبيد. ولتجنب هذا المصير تقوم الشغالات المستطلعات بتقصي المناورة والتأكد من أن الأعداء لا يتفوقون بالعدد، وتتخذ القرار بالانسحاب عند الحاجة.

تشيع المعارك الكاملة بين أنواع النمل ذات المستعمرات الناضجة والتى تتكون من مئات الآلاف أو أكثر من الأفراد. ويميل العلماء إلى اعتبار أن مجتمعات هذه الحشرات الاجتماعية الكبيرة غير فعالة لأنها تنتج ملكات جديدة وذكورا بنسبة أقل مما يتم في المجموعات الأصغر. وبدلا من ذلك أراها، منتجة للغاية بحيث لديها الخيار لتستثمر ليس فقط في التكاثر وإنما أيضا في قوى العمل التي تقوم بأكثر من متطلبات العمل المعتادة – تشبه كثيرا استثمار أجسامنا للأنسجة الدهنية والتي نلجأ إليها عند الحاجة. وقد افترض عدة باحثين أنه كلما زاد حجم المستعمرة قل حجم العمل على أفراد النمل مما يترك العديد من الشغالات دون عمل تقوم به في وقت ما. ومن ثم يتيح نمو المستعمرات تخصيص جيش أكبر قد يستفيد من قانون مربع لانكستر بشكل أفضل في مواجهاته مع الأعداء. وبشكل مشابه يرى العديد من علماء الأنثروبولوجيا أن الحروب قد ظهرت فقط بعد الانفجارات السكانية والمحفّزة باختراع الزراعة.

متعضيات فائقة ومستعمرات فائقة(******)

في نهاية الأمر تنشأ القدرة على الأشكال المتطرفة للحرب عند النمل من الوحدة الاجتماعية التي توازي وحدة الخلايا في متعضٍ organism ما. وتتعرف الخلايا بعضها من خلال دلائل كيميائية على سطحها، ويهاجم جهاز المناعة السليم أي خلية ذات دلائل مختلفة. وفي معظم المستعمرات السليمة، يتعرف النمل أيضا بعضه الآخر من خلال دلائل كيميائية على سطح أجسامه، في حين يتجنب أو يهاجم الغرباء ذوي الرائحة المختلفة. ويحمل النمل هذه الرائحة كعَلَمٍ وطني موشوم على جسمه، ويعني استدامة الرائحة أن حرب النمل لايمكن أن تنتهي أبدا إذا استولت إحدى المستعمرات على مستعمرة أخرى. فتبديل الولاء في منتصف الطريق مستحيل بالنسبة إلى النمل البالغ. وربما في ما عدا بعض الاستثناءات النادرة – فإن كل شغالة تكون جزءا من المستعمرة التي ولدت فيها حتى تموت، (ولا يعني ذلك أن مصالح النمل والمستعمرة تكون دائما متناغمة، حيث تحاول الشغالات في بعض الأنواع التكاثر – وتُحبط محاولتها – وهذا يشبه كثيرا ما يمكن أن يحدث من تعارض المصالح بين الجينات في متعضٍ ما.) وهذا التماهي مع مستعمرته هو كل ما يمتلكه النمل لأنه يشكل مجتمعات غير متمايزة: ففي ما عدا قدرتها على التمييز بين طبقات الجنود والملكات، فإن شغالات النمل لايمكنها تعرّف بعضها الآخر كأفراد. والتزامهن الاجتماعي المطلق هو الميزة الجوهرية للعيش كجزء من متعضٍ فائق superorganism يكون فيه موت شغالة ليس أكثر من جرح إصبع. وكلما زاد حجم المستعمرة، تضاءل الشعور بهذا الجرح الصغير.

والمثال الأكثر إثارة للدهشة على الولاء للمستعمرة في عالم النمل هو المتمثل بالنمل Linepithema humile. ومع أن موطنه الأرجنتين إلا أنه انتشر في أجزاء أخرى كثيرة من بقاع العالم عبر السفر على وسائل الشحن لدى الإنسان. وتمتد أكبر هذه المستعمرات الفائقة supercolonies في كاليفورنيا من سان فرانسيسكو وحتى الحدود المكسيكية، وقد تضم أكثر من تريليون من الأفراد الحاملة للهوية الوطنية نفسها. وفي كل شهر تموت ملايين من النمل الأرجنتيني على جبهات المعارك التي تمتد إلى أميال حول سان دييگو، حيث تحدث الصدامات مع ثلاث مستعمرات أخرى في حروب ربما تواصلت منذ وصول هذه الأنواع إلى الولاية قبل قرن مضى. وينطبق هنا قانون مربع لانكستر بحدة في هذه المعارك، حيث تتم الاستعاضة عن الكائنات البالغة الصغر عند انهيارها بإمدادات غير قابلة للنفاد من التعزيزات الدائمة. وتصل كثافة شغالات الأرجنتين في المتوسط إلى بضعة ملايين في مساحة فناء من أفنية الضواحي، متفوقة بأعدادها على أي أنواع محلية تواجهها. لذلك فإن المستعمرات الفائقة تسيطر على مناطق كاملة، قاتلة كل منافس تقابله.

ما الذي يمنح هذا النمل الأرجنتيني قدرة قتالية لا هوادة فيها؟ تظهر عدة أنواع من النمل مثل بعض المخلوقات الأخرى بما فيها البشر تأثير «العدو القريب» والذي يعني أنه بعد فترة من الصراع تقل معدلات الموت بشكل حاد عندما يستقر الطرفان المتنازعان على حدود حيادية – وغالبا ما يتم ذلك فى أراض غير مأهولة لا يعبرها أحد فيما بين الطرفين. ففي السهول الفيضية حيث نشأ النمل الأرجنتيني يتعين على المستعمرات المتحاربة إيقاف القتال في كل مرة يرتفع الماء مجبرا النمل على اللجوء إلى أراض مرتفعة. وهذا الصراع لا يستقر أبدا، ولا تنتهي المعركة أبدا. وهكذا لا يتم حسم حروبها بل تستمر إلى عقود.

يذكر الانفجار العنيف لمستعمرات النمل الفائقة بالقوى الاستعمارية البشرية العظمى التي أبادت في وقت ما المجموعات الأصغر منها من السكان الأصليين في أمريكا إلى السكان الأصليين في أستراليا. ولحسن الحظ لا يشكل البشر متعضيات فائقة بالمعنى الذي وصفته: حيث يمكن للولاء البشري أن يتغير عبر الزمن مما يفسح المجال للمهاجرين، ويسمح للأمم بأن تعرّف نفسها بمرونة. ومع أنه لا مفر من الحرب عند كثير من النمل، إلا أنه، بالنسبة إلينا، يمكن تجنبه.

 

رسالة من المراجع العلمي لهذا المقالينعى فيها
الأستاذ «عبدالحافظ حلمي محمد» (رحمه الله):

  قليل أولئك الذين يبذلون العطاء دون انتظار مردود له، وقليل أولئك الذين يعتصرون فكرهم من أجل عملهم دون انتظار تكريم أو تقدير، وقليل أيضا أولئك الذين يقدمون خلاصة تجاربهم إلى أجيال جديدة ويغرسـون فيهم حـب الولاء والانتماء من أجل الحفاظ على الأصالة. هكذا كان فقيدنا العزيز.

أستاذنا عبدالحافظ حلمي محمد… إليك في عالم بلا ألقاب أو نعوت أو أحقاد، إليك يا من فرضت نفسك علينا بالتواضع الجم، وعفة اللسان، ودماثة الخلق… إليك يا من خلّفت وراءك هذا الرصيد العظيم من المحبة والعطاء والوفاء والعلم والعمل الطيب… أقول لك… إنك باق بهذا كله وحيٌّ في قلب كل من سَعِدَ بالقرب منك، إنك باق معنا بذكراك الطيبة ومآثرك الخالدة. وندعو الله لك بحسن الجزاء ففيك يعز العزاء.

تلميذك
محمد عبدالحميد شاهين
أستاذ متفرغ بقسم العلوم البيولوجية
كلية التربية – جامعة عين شمس

 

المؤلف

   Mark W. Moffett
زميل باحث في المتحف السميثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي، يدرس سلوك النمل. زار المناطق الاستوائية في الأمريكتين وآسيا وإفريقيا لتوثيق مجتمعات النمل واكتشاف أنواع جديدة لكتابه «مغامرات بين النمل Adventures among Ants» (مطبوعات جامعة كاليفورنيا، 2011). http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/05-06/2012_05_06_31_a.jpg

  مراجع للاستزادة

 

The Ants. Bert Holldobler and Edward O. Wilson. Belknap Press, 1990.
Individual versus Social Complexity, with Particular Reference to Ant Colonies.
C. Anderson and D. W. McShea in Biological Reviews, Vol. 76, No. 2, pages 211-237; May 2001.
Arms Races and the Evolution of Big Fierce Societies. Graeme P. Boswell et al. in Proceedings of the Royal Society B, Vol. 268, No. 1477, pages 1723-1730; August 22, 2001.
Supercolonies of Billions in an Invasive Ant: What ls a Society? Mark W. Moffett in Behavioral Ecology (in press).

(*)ANTS AND THE ART OF WAR

(**)SHOCK AND AWE

(***)ALLOCATING THE TROOPS

(****)TERRITORIAL CONTROL

(*****)A MATTER OF SIZE

(******)SUPERORGANISMS AND SUPERCOLONIES

(1) مجهر: microscope.
(2) ذكاء السرب: هو الذكاء الجمعي للأنظمة اللامركزية الذاتية التنظيم سواء أكانت طبيعية أو اصطناعية. (التحرير)
(3) The Art of War

(4) medias

(5) minor workers

(6) نملة مسترِقَّةُ : نملة تغزو أوكار نمل من نوع آخر فتحمل منها يرقاناتها لتنشئتها في عشها وتتخذ منها رقيقا. (التحرير)

http://oloommagazine.com/Images/none.gif

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى