أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تحليل

جامعة علوم للمواطنين المحليين

 
جامعة علوم للمواطنين المحليين(*)

إن الطريقة المثلى لتعليم الطلبة المنغمسين في وسائل التواصل الإلكتروني اليوم تتمثل في إلغاء فرعي الجيولوجيا (علم الأرض) والبيولوجيا (علم الأحياء).

<M .M كرو >

 

 

باختصار

   

إلى حد بعيد، تقع مسؤولية ما آلت إليه حال المعرفة العلمية اليوم على مؤسسات التعليم العالي، وهي الجهات التي تتولى تخريج المدرسين.

يلاحظ أن معظم الطلبة الجامعيين يرسبون في مساقات (مقررات) العلوم والتقانة والهندسة والرياضيات (STEM، اختصارا)، لأسباب منها أن اعتماد مناهج أكاديمية جافة يجعل الإقدام على دراسة هذه المساقات المعرفية عبئا بغيضا ومنفرا.

استبعدت جامعة ولاية أريزونا الأمريكية عددا من التخصصات الأكاديمية كالبيولوجيا والجيولوجيا، واعتمدت المنهج «المتعدد الحقول» بديلا منها.

في العقد الماضي، تضاعف عموما عدد الطلبة الجامعيين الذين اختاروا العلوم والتقانة والهندسة والرياضيات موضوعات تخصصية لدراساتهم في جامعة ولاية أريزونا، وكان التزايد ملحوظا بصفة خاصة في عدد الإناث والأقليات من الطلبة.

 

 

 

من حين إلى آخر، يدق أرباب التجارة والصناعة والحكم، ناقوس الخطر من تضاؤل الخبرة العلمية والتقانية الأمريكية عموما، ويهيبون بالأوساط الأكاديمية لتخريج مزيد من الطلبة. ومن ثم، فإن رعاة التعليم على المستوى الجامعي يشيرون بإصبع الاتهام إلى المدارس الابتدائية والثانوية لتخريجها طلبة ذوي قدرات متدنية، وإلى الطلبة أنفسهم لقلة اهتمامهم بالعلوم. على أن المسؤولية الحقيقية تقع أولا وبالذات على الجامعات، إذ إنها هي الجهة التي خرَّجت أولئك المعلمين الذين جعلوا – هم أنفسهم – من تعلم الرياضيات والعلوم تجربة قاسية جدا، لا يجتازها سوى قلة قليلة من الأفذاذ المتفوقين.

 

والأســلوب الســــائـــــد لــتــعـــليـــــم العلوم science أو التقانة technology أو الهندسة engineering أو الرياضيات mathematics (STEM، اخـــتـــصــــارا) لا يصــلح عمــومــــا إلا لتعـــزيـــز قـــــدرات الطلبة الموهوبين من أصحاب الميول الفطـــريـــة إلى العـلــوم والريـــاضــيــات دون غيـــــرهـــم. ولئــــن كــــان حــــري بهذه النخبــــــة الصغيــــــرة مــــن الطلبــة أن تكون مبعث سرور وتشجيع لأساتذتها، فإن 90 في المئة من الطلبة الآخرين يغبنون؛ ذلك أن العلوم والرياضيات من المباحث الأساسية للفنون العقلية (الحرة)(1) liberal arts، وهي أيضا مرتبطة بالمتطلبات المتزايدة الصرامة لأسواق العمل الحديثة. ومع ذلك، عندما يواجه الطلبةُ المتوسطو القدرات الأساليبَ الجامدة، بل المتحجرة، للجامعة في التعامل مع هذه التخصصات المهمة، فإنهم سرعان ما يُعْرِضون عنها بأعداد كبيرة. فلا غرو إذن في انخفاض مستوى الأداء في الرياضيات على مختلف مستويات مجتمعنا، وهذا يشمل مئات آلاف الأساتذة الذين يجدون أنفسهم مفتقرين إلى الوسائل التي تبعث الإثارة والحياة في هذه الميادين المعرفية، وصولا بها إلى المستويات اللازمة لتنافسنا الوطني في الاقتصاد العالمي.

 

وثمة اليوم أعداد كبيرة جدا من الطلبة المتوسطي القدرات يتحاشون الاضطلاع بمساقات (بمقررات) التخصصات STEM الدراسية، اللهم إلا بالقدر المطلوب لتخرجهم. ومن هنا تبرز ضرورة استنباط نموذج يعينهم على التخلص من عقدة الخوف من العلوم – ذاك الخوف المدمر ثقافيا، الذي حذر منه <.C ساگان >(2)، ولاسيما فيما يتصل باجتذاب الطلبة وحملهم على الاستمرار في مساقات التخصصات STEM. وهذا أمر على جانب كبير من الأهمية لجهة تطوير المهارات وأساليب التفكير الناقد لدى الناس بصورة عامة.

 

ومن المعلوم أن الفتيان الذين يدخلون الجامعات اليوم هم من المتعلمين المفرطين في الانغماس البصري في وسائل الاتصال المتعددة المهام؛ فقد نشؤوا على التقانات المعلوماتية العميمة الانتشار، التي تتيح النفاذ إلى كم هائل من المعلومات لا حدود له. وبات هؤلاء الطلبة، بحكم انغماسهم في الثقافة المعلوماتية، أقل استعدادا – فيما يبدو – للتأمل العميق وإعمال الفكر في خوارزميات تتناول – على سبيل المثال – الاستمثال المركب combinatorial optimization(3)  أو القصور الحراري لغاز مثالي أحادي الذرة، وذلك من دون وجود سياق إضافي أو فهم للغرض المقصود. ومن ثم، فإن التعليم الموحد المتسلسل سيكون دوما على طرفي نقيض مع  مقارباتهم اللاخطية المتعددة المهام في التعلم. ومع ذلك تستطيع التقانات الحديثة، إذا ما وجهت التوجيه الصحيح، أن تساعد الطلبة على دمج وإتقان طيف واسع من المعلومات المستمدة من فروع معرفية علمية معقدة ومترابطة فيما بينها.

 

ومن الإنصاف القول إن من أسباب إعراض الطلبة عن دراسة العلوم والتقانة تحول اقتصادنا نحو قطاع خدماتي يهيمن عليه المرئي والمسموع. على أن ثمة سببا آخر مهما يتمثل في رفض العلماء الأكاديميين الاقتناع بأن طلبتنا اليوم مختلفون جوهريا عن أسلافهم من طلبة العقود الماضية. والمشكلة هي أن معظم الأساتذة الجامعيين قد درجوا على التفكير بلغة البيولوجيا والكيمياء وغيرهما من الاختصاصات الأكاديمية الجامدة التي تعوزها المرونة، علما أن هذا النموذج بالذات من التعليم العالي قد أخفق في حفز الجيلين الماضيين من الطلبة أو استنهاضهم.

 

وهذا ما حدا بنا إلى إعادة النظر في برنامج التخصصات STEM المطبق في جامعة ولاية أريزونا على مدى السنوات العشر المنصرمة، وذلك في إطار حملة أوسع نطاقا لإعادة تشكيل مفاهيم الجامعة ككل. وكان غرضنا البحث عن طريقة لتوفير أفضل تعليم ممكن لطلبة ولاية أريزونا، وابتكار نموذج جديد يليق بجامعة البحوث الأمريكية؛ فقد تميزت جامعة ولاية أريزونا، بحكم كونها أكثر مؤسسات البحوث الأمريكية حداثة، بانعتاقها من قيود التزمت التقليدي، فأسهم ذلك في إطلاق أيدينا لاستحداث مؤسسة راقية تؤمن بالمساواة وتلتزم بدرجة عالية من التميز الأكاديمي والإحاطة بالتأثيرات الديموغرافية (السكانية) العريضة والمجتمعية في حدودها القصوى. وقد أطلقنا على هذا النموذج اسم «الجامعة الأمريكية الجديدة».

 

وإذكاء لروح الإبداع والابتكار، أدخلنا مجموعة من «مطامح استشرافية» design aspiractions – وهي ثمانية مبادئ مترابطة تعتمد أغراضا يسعى إلى تحقيقها من مثل: تغيير بنية المجتمع والتأكيد على الأساليب المتعددة الفروع المعرفية واتخاذ البحث منهجا بالنظر إلى ما ينطوي عليه من فائدة وتشجيع روح المخاطرة الخلاقة.

 

ومنــــذ أن بــــدأنـــــــا مســاعــيــنـــــا بالتخصصات STEM قبل عشر سنوات، كان هدفنا الأول مضاعفة عدد التخصصات الدراسية الرئيسية بأقصر زمن ممكن، وكذلك – وعلى نطاق أعم – تخريج طلبة يتحلون بروح جديدة للتعاطي مع مستقبل علمي وتقاني. ولتحقيق مقاصدنا في هذا السبيل، أتحنا لهيئتنا التدريسية الفرصة لتصميم منصات للتعليم والتعلم والاكتشاف ضمن مجالات التخصصات STEM، ومنحناها حرية التفكير والتصرف، فلم نلزمها بأي قيود على الإطلاق فيما يتصل بالحدود الفلسفية والتربوية.

 

وفي السنوات القليلة الماضية، أعدنا تشكيل عدد كبير من الوحدات الأكاديمية، من بينها أكثر من اثنتي عشرة مدرسة متعددة فروع التخصص، كانت في الأصل وحدات أكاديمية تقليدية، دمجت وأعيد تنظيمها. وفي الوقت نفسه استبعدنا عددا من الأقسام العلمية التخصصية القديمة المحدودة الفائدة وعادت غير ذات فائدة تذكر، ومنها أقسام علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والجيولوجيا وعلم الاجتماع، إضافة إلى عدد من تخصصات علم الأحياء.

 

فعلى سبيل المثال، تجمع مدرسة استكشاف الأرض والفضاء(4) بين البحث العلمي والهندسي والتربوي، سعيا إلى تطوير مدى إدراكنا لكوكبنا وللكون كله. وتحاول المدرسة إضفاء لمسة من المرونة المتعددة المساقات إلى برامج الجيولوجيا وعلم الفلك القديمة، مشجعة التعاون بين علماء الأرض وعلماء الفلك وعلماء الفيزياء الفلكية وعلماء الكون؛ في حين يقدم المهندسون المرتبطون بها الخبرة التقانية اللازمة لتطوير الآلات والأجهزة العلمية الدقيقة ونشرها على كوكب الأرض وفي الفضاء. ويمثل موضوع الاستكشاف (أو السَّبْر) خلاصة بحثنا لاستكشاف نشأة الكون، ولتوسيع مدى إدراكنا لمفاهيم الفضاء والمادة والزمن.

 

وتضم مدرسة التطور البشري والتغير الاجتماعي(5) أعضاء من الهيئة التدريسية لقسمي علم الإنسان وعلم الاجتماع السابقين، وبذلك تتيح للطلبة منهاجا دراسيا متكاملا في العلوم الاجتماعية والسلوكية والطبيعية، يركز على تطور الجنس البشري، ومسارات المجتمعات والحضارات الإنسانية (صعودا وهبوطا). وخلافا للمعهود في الأقسام العلمية التقليدية، فإن للأساتذة وطلبة الدراسات العليا كامل الحرية في تنظيم أنفسهم لمواجهة المشكلات العالمية الشائكة ومعالجتها على أفضل وجه.

 

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأقسام المتعددة المساقات تتمم مؤسساتنا البحثية الواسعة النطاق، التي نذكر منها: معهد التصميم البيولوجي (الأحيائي)(6)، والمعهد العالمي للتنمية المستدامة(7)، علما بأن هذا الأخير يشمل أيضا مدرسة التنمية المستدامة(8)، الأولى من نوعها.

 

ولكي نوسع نطاق برامجنا الهندسية، نوفر لطلبتنا مقاربتين منفصلتين – نظرية وعملية؛ فمدارس إيرا فلتون الهندسية(9) موزعة في خمسة أقسام مكثفة البحث، من بينها: مدرسة هندسة النظم البيولوجية والصحية(10)، ومدرسة الحوسبة والمعلوماتية وهندسة نظم صنع القرارات(11)، ومدرسة الهندسة المستدامة والبيئة المشيدة(12). ومن ناحية أخرى، تهتم كلية التقانة والابتكار(13) التابعة لمعهدنا العالي (الپوليتكنيك) بمجال البحث «الترجمي»(14) المستلهم من الممارسة، وتهيئ للطلبة الراغبين في الانضمام المباشر إلى القوة العاملة بيئة تعلم عملية. ومن شأن «منصات التعلم المتمايزة(15)» هذه أن توفر للطلبة مستويات متفاوتة من التحضير لتحقيق التميز في المجال التربوي المتقدم لبرنامج التخصصات STEM.

 

لقد شهدنا تزايدا مطردا في عدد الخريجين ذوي الاختصاصات الأساسية كالفيزياء والكيمياء.

 

لقد كانت النتائج مشجعة؛ فقد شهدنا تزايدا مطردا في عدد الخريجين وتنوع توجهاتهم في الاختصاصات التقليدية الأساسية كالفيزياء والكيمياء. وقد تحقق تحسن ملحوظ في اكتساب المعرفة الكمية في شتى فروع الجامعة عن طريق الابتكار وإيجاد حلقات وصل مع الحقول المعرفية الأخرى، كما تشير إلى ذلك تقديرات التقويم التعلمي؛ فقد بلغ عدد المسجلين في مساق علوم الحياة وحدها نحو 4600 طالب، مقارنة بـ1675 طالبا عام 2001. ولدينا اليوم زهاء 10000 طالب يدرسون الهندسة والتقانة، في حين كان العدد أقل من 5000 قبل عشر سنوات. وكذلك تزايد عدد المسجلين على المستوى الجامعي في شتى اختصاصات STEM فقارب 16000، أي بتضاعف العدد على مدى السنوات العشر الفائتة. أما عدد المسجلات من الإناث في اختصاصات STEM الرئيسية، فقد قارب الضعف، في حين ازداد عدد الطلبة المسجلين من الأقليات بنسبة 141 في المئة.

 

وحري بالمساعي التي تبذل للدفع قدما بتعليم التخصصات STEM أن تذكرنا دوما بأن إعادة صوغ العلوم والتقانة لتكون حقول دراسة أكاديمية، ربما تحمل آثارا عميقة على الحصيلة التعلمية برمتها. ومن واجب مجتمعنا الأكاديمي اعتماد الأسلوب المتعدد المساقات (المقررات) في التعليم والبحث والتميز الخلاق الذي يركز اهتمامه على التحديات الكبرى لزماننا.

 

 

المؤلف

Michael M. Crow
 

رئيس جامعة ولاية أريزونا.

a1012Crow01.psd

  مراجع للاستزادة

 

New American University: http://newamericanuniversity.asu.edu

(*) CITIZEN SCIENCE U

(1) كاللغات والآداب والعلوم الإنسانية.

(2) (1996–1934) Carl Sagan: فلكي أمريكي اشتهر بمؤلفاته العلمية وبرامجه التلفزيونية. (التحرير)

(3) فرع من الاستمثال الرياضياتي mathematical optimization يعنى بإيجاد كائن أمثلي من مجموعة محدودة من الكائنات الرياضياتية. له علاقة ببحوث العمليات والنظرية الخوارزمية. وتطبيقاته مهمة في مجالات عديدة كالذكاء الصنعي والتعلم الآلي وهندسة البرمجيات.

(4) School of Earth and Space Exploration

(5) School of Human Evolution and Social Change

(6) Biodesign Institute

(7) Global Institute of Sustainability

(8) School of Sustainability

(9) The Ira A. Fulton Schools of Engineering

(10) School of Biological and Health Systems Engineering

(11) School of Computing, Informatics and Decision Systems Engineering

(12) School of Sustainable Engineering and the Built Environment

(13) College of Technology and Innovation

(14) translational research: بحث علمي يرمي إلى تحويل النتائج المتحصلة إلى تطبيقات عملية، ولاسيما في العلوم الطبية والسلوكية والاجتماعية، ومن ثم الدفع بالعلوم التطبيقية قدما عن طريق إسهامه في تعزيز التعاون المتعدد المساقات.

(15) differentiated learning platforms

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى