أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الجينات والوراثة

الجينوم اللامرئي: جواهر بين السَّقَط

الجينوم اللامرئي: جواهر بين السَّقَط(*)

ما إن اعتقد البيولوجيون أنهم أدركوا تقريبًا كنه الدنا،

حتى بدؤوا يكتشفون في الصبغيات طبقتين(1) ضخمتين من المعلومات

 مخبأتين في هذه البنى تؤثران في الوراثة والتنامي والمرض.

<W .W. گيبس>

 قبل نحو عشرين عامًا، كان الفلكيون ـ آخذين بالحسبان قوانين الثقالة (الجاذبية) والبنية الأساسية للأجسام السماوية المرئية ـ مقتنعين بأن المجرات النائية تتحرك على نحو لا يوحي بأي معنى. ولكن كان عليهم أن يستنتجوا شيئًا فشيئًا أن الكون ليس فارغًا كما يبدو للعيان، وأن نوعًا من مادة معتمة (مادة خفية) dark matter لا بد أن تهيمن عليه. ومع أن أحدًا لم يكن يعرف طبيعة هذه المادة أو كيف تبدي فعلها، فإن العلماء كانوا يدركون ـ بسبب تأثيراتها ـ أنها موجودة فعلا. وعلى الرغم من أن تلمّس فهم المادة المعتمة [وحديثًا جدًا الطاقة المعتمة (الخفية) dark energy] انطوى على مراجعة نظريات معينة أو حتى استبدالها، فإن ذلك نشّط من جديد الفيزياء الفلكية والكوزمولوجيا (علم الكون).

ويتكشف للعيان الآن وضع مماثل في علم الوراثة الجزيئي. ففي العام 2003، احتفل البيولوجيون بالذكرى الخمسين لاكتشاف الحلزون المزدوج، وأعلن مسؤولو «مشروع الجينوم البشري» Human Genome Project  استكمال «المسودة النهائية» لتسلسل دنا DNA الإنسان Home sapiens. ومما لا لبس فيه أن العلماء فهموا الدنا في المختبر فهمًا كاملاً. ومع هذا، فكلما قارنوا الدنا لأنواع قصية القرابة، وكلما أنعموا النظر في الكيفية التي تعمل وفقًا لها الصبغيات (الكروموزمات) في الخلايا الحية، تبينوا أكثر فأكثر تأثيرات ليس باستطاعة النظريات الحالية تفسيرها.

 نظرة إجمالية/ الجينات المخبأة(**)

• لزمن طويل، ركز علماء الوراثة على قسم ضئيل فقط من الدنا؛ القسم الذي يحوي المخطط الأساسي (الطبعة الزرقاء) للپروتينات؟ وغالبًا ما صرفوا النظر عن البقية (وتبلغ في الإنسان 98 في المئة) التي اعتبرت سَقَطا. بيد أن اكتشاف كثير من الجينات المخبأة، التي تعمل عبر الرنا، وليس بوساطة الپروتينات، قلب هذا الافتراض رأسًا على عقب.

• وتنزع الجينات التي تنتج الرنا فقط إلى القِصر، ويصعب تعرفها. غير أن بعضها يؤدي أدوارًا رئيسية في صحة النباتات والحيوانات وفي تناميها.

• كما تساعد الأشكال الفعالة من الرنا على تنظيم طبقة أخرى مستقلة لاجينية epigeneticمن المعلومات القابلة للتوريث، تتوضع في الصبغيات، إنما خارج تسلسلات الدنا.

وتزدحم حاليًا صفحات المجلات العلمية وقاعات المؤتمرات بأدلة جديدة تتناقض والمفاهيم المعهودة التي ترى أن الجينات، تلك القطع من الدنا التي تكود للپروتينات، هي الأساس الوحيد للوراثة وأنها المخطَّط الأساسي (الطبعة الزرقاء) blueprint لجميع أشكال الحياة. وكما تؤثر المادة المعتمة في مصير المجرات، فإن الأجزاء المعتمة (غير المرئية) من الجينوم تتحكم في التنامي وفي الصفات المميزة لجميع الكائنات(2) من البكتيرة إلى الإنسان؛ فالجينوم مسرح لعدد من اللاعبين، أكثر بكثير من الجينات التي تكود للپروتينات.

ومع أن حجم هذا الجينوم غير المرئي مازال غير واضح المعالم، فإن طبقتين على الأقل من المعلومات توجدان خارج الجينات المعهودة المعروفة. الطبقة الأولى محبوكة عبر تسلسلات الدنا الضخمة «غير المكوِّدة»، التي تعترض الجينات وتفصل بينها. ومع أن هذه التسلسلات استبعدت وظيفيًا منذ زمن طويل كونها لا تنتج پروتينات ما، فإن كثرة من هذه القطع حُفظت سليمة تقريبًا عبر ملايين السنين من التطور. وهذا يوحي بأن لهذه التسلسلات وظيفة لا غنى عنها. وبالفعل، فإن عددًا كبيرًا منها ينتسخ إلى ضروب مختلفة من الرنا RNA، تؤدي طيفًا من الوظائف أوسع بكثير مما كان قد تصوره البيولوجيون. ويرتاب بعض العلماء بأن جزءًا كبيرًا مما يجعل شخصًا أو حتى نوعًا ما مختلفًا عن الشخص أو النوع الذي تحدر منه، هو اختلافات في الجواهر المخبأة داخل «سَقَط» الدنا الخاص بنا.

وبعيدًا عن تسلسلات الدنا، ثمة طبقة أخرى من المعلومات في الصبغيات، أكثر منها مطواعية بكثير. إنها «علامات لاجينية» epigenetic marks، تكون مسجَّاة في مزيج من الپروتينات والكيميائيات التي تحيط بالدنا وتدعمه وتلتصق به، وتعمل عبر كود خبيء وآلية غامضة. وخلافًا للجينات، فإن العلامات اللاجينية تنشأ روتينيا، ثم تمحى لتكتب من جديد، وذلك على نحو ناشط جدا. وفي حين أن الطفرات تدوم طوال الحياة، فإن الأخطاء اللاجينية ـ المتورطة في قائمة متزايدة من العيوب الولادية والسرطانات وأمراض أخرى ـ قد تكون عكوسة بفعل الأدوية. وفي الحقيقة، يختبر الأطباء مثل هذه المعالجات التجريبية على مرضى ابيضاض الدم (اللوكيميا).

http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI2004b20N2-3_H04_003355.jpg

يمكن للنقاط البُنية المعتمة في قزحية العين أن تكون إشارة توحي بأن الجينوم الخبيء يمارس عمله. إن خِلالاً معينة لا تنتقل عبر الجينات الاعتيادية، بل عبر تحويرات كيميائية تتناول الصبغيات: تغيرات تنظمها ـ جزئيا ـ كِسَر من «سقط» الدنا. وخلافًا للطفرات الوراثية، فإن هذه الخِلال القابلة للتوريث غالبًا ما تكون عكوسة، وتظهر في بعض الخلايا وتغيب في أخرى. (إن الكرة البيضاء التي تظهر على القزحية هي انعكاس للضوء الذي يلمع على العين.)

وأخذ الباحثون يدركون أيضًا أن أي شيء قابل للحدوث في الجينوم إنما يحدث بالفعل، كما يقول <C. ساپينزا> [من جامعة تمپل] (الذي بدأ بدراسة الظواهر اللاجينية في الوقت الذي استَبْعدها بعضهم على أنها ظواهر ثانوية شاذة). ويرى <ساپينزا>: «أنه قد تكون هناك آليات أساسية تنتظر الاكتشاف. أعتقد أننا في مستهل الحقبة الأكثر أهمية في تاريخ علم الوراثة.»

 مخاطر الدُّگمة(1)(***)

قد يستغرق الأمر سنوات، وربما عقودًا بكاملها، كي نبني نظرية مفصلة تفسر كيف أن الدنا والرنا والآلية اللاجينية تتوافق جميعها في منظومة متواشجة ذاتية التنظيم. بيد أنه لا يوجد أي شك بعد الآن، في أن هناك حاجة إلى نظرية جديدة لتحل محل الدُّگْمة المركزية التي شكلت الأساس لعلم الوراثة الجزيئي وللتقانة الحيوية منذ خمسينات القرن الماضي.

 إن الدُّگمة(3) المركزية، كما تصاغ عادة، بسيطة إلى حد بعيد: إن الدنا يصنع  الرنا، والرنا يصنع الپروتين، والپروتينات تنجز تقريبًا جميع الأعمال الفعلية في حقل البيولوجيا. وتتمثل الفكرة الأساسية في أن المعلومات مختزنة في السلم الحلزوني للدنا، وعلى وجه الخصوص في القواعد (الأسس) الكيميائية التي توسم عادة ب: A (أدنين) وT (تيمين) وG (گوانين) وC  (سيتوزين)، والتي تتشافع لتشكل درجات السُّلَّم. وليست الجينة سوى تسلسل خاص من القواعد على أحد جانبي السُّلَّم يحدد نوعية الپروتين.

 وتنص الدُّگمة على أن الجينات تعبِّر عن نفسها كپروتينات، تُصنع عبر أربع خطوات: يستقر أولا إنزيم على الصبغي، ثم ينزلق على طول الجينة، ناسخًا تسلسل إحدى شريطتي (طاقي) الدنا إلى شريطة أحادية من الرنا. في الخطوة الثانية، تُقص أيُّ إنترونات introns  (الأجزاء غير المكوِّدة من نسخة الرنا)، وتُجدَّل شدفُ التسلسل المتبقية لتشكل قطعة من الرنا المرسال mRNA. وتتحرك عندئذ رسالة الرنا من النواة إلى الجزء الرئيسي من الخلية، حيث تقوم ماكينات جزيئية بترجمته إلى سلاسل من الحموض الأمينية. وأخيرا، تلتوي كل سلسلة وتنثني لتأخذ شكلا معقدا ثلاثي الأبعاد.

إن هذه الأشكال الثلاثية الأبعاد هي التي تجعل الپروتينات على تلك الدرجة الاستثنائية من التنوع وتعدد الاستعمالات. فبعضها يشكل عضلات وأعضاء، وبعضها يعمل كإنزيماتٍ تحفز أو تستقلب أو تؤشر(4)؛ كما أن بعضها ينظم عمل الجينات من خلال رُسُوِّها في مقرات نوعية من الدنا أو الرنا. فلا عجب إذا، أن كثيرًا من البيولوجيين (والصحفيين) استعمل الدُّگمة المركزية لتعني، مع استثناءات قليلة جدا، أن تسلسلاً معينًا من الدنا لا يمكن اعتباره جينة إلا إذا كان باستطاعته أن ينتج پروتينا.

http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI2004b20N2-3_H04_003356.jpg

يمكن أن تنشأ فروق كبيرة في المظهر الخارجي وفي صحة الكائنات الحية نتيجة تغيرات ضئيلة تحدث في جينات بالغة الصغر وغير معهودة. فمثلا، لنبات أرابيدوپسس Arabidopsis السوي أوراق ملعقية الشكل (اليسار). ولكن عندما تدخّل العلماء في نشاط رنا ميكروي تنتجه جينة رنا فقط RNA-only gene، فإن نباتات أرابيدوپسس الطافرة أصيبت بعيوب جسيمة (اليمين). إن الرنا الميكروي يتحكم على ما يبدو في مستويات نشاط جينات عديدة.

 وكما يقول <M. جورج> [عالم الوراثة في جامعة لييج ببلجيكا]: «عندما يقول الناس عادة إن الجينوم البشري يحتوي على 27 ألف جينة أو نحو ذلك، فإنهم يشيرون بذلك إلى الجينات التي تكود للپروتينات.» ومع أن هذا الرقم مازال غير نهائي ـ إذ تراوح التقديرات ما بين 20 و40 ألف جينة ـ فإنه يؤكد عدم وجود توافق واضح بين تعقد بنية النوع وبين عدد الجينات في جينومه. وكما يلاحظ <S .J. ماتيك> [مدير معهد العلوم الحيوية الجزيئية في جامعة كوينزلاند في برِسْبان بأستراليا]: «إن لذبابة الفاكهة عددًا من الجينات المكوِّدة، يقل عما للدودة الخيطية (المدوَّرة)، ولنبات الأرُزّ عدد يفوق ما للإنسان. ولكن كمية الدنا غير المكوِّدة تتوافق على ما يبدو مع تعقد البنية.»

 ويوضح <ماتيك> أن الجينات في الكائنات الحية الراقية (كالإنسان) «تكون مجزأة (مشدفة) إلى قطع من التسلسلات المكوِّدة للپروتينات، يفصل بعضها عن بعض مَدات طويلة غالبًا من التسلسلات غير المكودة للپروتينات. وفي الواقع، فإن القطع المكودة للپروتينات، تشكل أقل من 2 في المئة من دنا صبغيات الإنسان. إن البلايين الثلاثة، أو نحو ذلك، من أزواج (أشفاع) القواعد التي تحويها كل خلية تقريبًا من خلايانا إنما موجودة لسبب آخر. ومع هذا فإن الإنترونات ضمن الجينات، والمدّات الطويلة من الدنا بين الجيني intergenic DNAـ كما يقول <ماتيك> ـ «اعتبرت على الفور سَقَطا تطوريا (خردة تطورية).»

 كان ذلك الافتراض متعجلاً جدًا. وكما يلاحظ <جورج>، «فإن إدراكنا يتزايد بأن هنالك مجموعة كبيرة من «الجينات» التي تؤدي وظيفة لا شك فيها، على الرغم من أنها لا تكود لأي پروتين، بل تنتج الرنا فقط.» لقد عُرِّف تعبير «الجينة» باستمرار على نحو غير دقيق بعض الشيء، وأتى مصطلح «الجينات التي تنتج الرنا فقط» RNA-only genes ليشوش المعنى أكثر فأكثر. وكما يقول <C. ڤالِشْتت> [من معهد كارولينسكا في السويد]، «فإننا ننزع، بغية تجنب الارتباك، إلى عدم التحدث بعد الآن عن «الجينات»، بل نشير إلى أي قطعة تُنتسخ [إلى رنا] على أنها وحدة انتساخية.»

 وبناء على مسحٍ تفصيلي لجينوم الفأر تناولَ مثل تلك العناصر جميعها، أعلن <ڤَالِشْتت> في المؤتمر الدولي لعلم الوراثة، الذي عُقِد في الشهر 7/2003 في ملبورن، «أننا نقدر أن هنالك ما بين 70 ألفًا و100 ألف جينة، نصفها على الأقل قد يكون غير مكوِّد.» فإذا ما صح ذلك، سيكون لكل تسلسل من الدنا يولِّد پروتينًا معينًا تسلسلٌ يعمل منفردًا عبر أشكال ناشطة من الرنا ـ أشكال لا تعمل كمجرد طبعات زرقاء (مخططات أساسية) blueprints وسيطة للپروتينات، بل  تُغير مباشرة سلوك الخلايا.

 وما يصح في ما يتعلق بالفأر قد يصح أيضًا في ما يتعلق بالإنسان والحيوانات الأخرى. لقد قام حديثًا فريق من العلماء [من المعهد الوطني لأبحاث جينوم الإنسان National Human Genome Research Institute  NHGRI] بمقارنة عينات مختارة من جينومات genomes الإنسان والبقر والكلاب والخنازير والجرذان وسبعة أنواع أخرى. وتَبيَّن من التحليل الحاسوبي أن 11944 قطعة لا تبدي في أنواع عديدة سوى تغيرات ثانوية، وهذا دليل قوي على أن هذه التسلسلات تسهم في الملاءمة التطورية للنوع. ومما فاجأ الباحثين أن 244 قطعة فقط من القطع المدروسة، تقع ضمن مَدة من مدَّات الدنا المكودة للپروتينات. وفي حين أن قرابة ثلثي التسلسلات التي حفظت تقع ضمن الإنترونات، فلقد تبعثر الباقي بين سَقَط الدنا بين الجيني.

 إن الإخفاق في تعرف أهمية الإنترونات «قد يُسجل على

أنه واحد من أكبر الأخطاء في تاريخ البيولوجيا الجزيئية»

ويقول <ماتيك>: «أعتقد أن هذا سيصبح قصة كلاسيكية توضح كيف أدى معتقد قديم إلى إخراج التحليل الموضوعي للحقائق عن مساره المعهود، وهو أمر دام ربع قرن. إن الإخفاق في تعرَّف المضامين العميقة لهذا الأمر ـ وبخاصة حقيقة أن التسلسلات المتداخلة غير المكودة، يمكن أن تَنقل معلومات موازية في صورة جزيئات رنا ـ قد يسجل على أنه واحد من أكبر الأخطاء التي حدثت في تاريخ البيولوجيا الجزيئية.»

أكثر من مجرد مرسال(****)

أما وقد وجه البيولوجيون الآن اهتمامهم إلى الرنا، فهم يكتشفون أن هذا الجزيء قادر على إنجاز مجموعة مذهلة من التفاعلات الكيميائية الخلوية. وكما هي الحال في ما يتعلق بالپروتينات، فإن بعض نسخ الرنا RNA transcripts تستطيع أن تتآثر مع كسر صغيرة أخرى من الرنا، ومع الدنا، ومع الپروتينات، وحتى مع مركَّبات كيميائية صغيرة. بيد أن الپروتينات تُعَدُّ جزيئات تماثلية، تترابط بأهدافها بطريقة تشبه كثيرًا تطابق المفتاح مع القفل. ويؤكد <ماتيك> قائلا: «يتمثل وجه الجمال في الرنا في أنه يحوي تسلسلاً نوعيًا، فهو رقميdigital كالرمز البريدي zip code.» إن بمقدور كسرة من الرنا أن تحوم هنا وهناك حتى تلتقي مصادفة بدنا (أو برنا آخر) ذي تسلسل متمم، فيترابط عندئذ نصفا السلم أحدهما بالآخر، ليشكلا الدرجات. وتكون القطعتان متتامتين عندما تتزاوج جميع قواعد السيتوزين (C) بقواعد الگوانين (G) وجميع قواعد التيمين (T) أو اليوراسيل (U) بقواعد الأدينين (A).

 وكمثال على أهمية الرنا التي لم تُقَدَّر حق قدرها، لنأخذ الجينات الكاذبةpseudogenes. فلقد بينت مسوح تناولت دنا الإنسان أن فيه عددًا متساويًا تقريبًا من الجينات والجينات الكاذبة، التي هي نسخ معيبة من الجينات العاملة. ولعقود من الزمن، وصمت الجينات الكاذبة بأنها أحافير جزيئية ـ بقايا جينات مزقها التطفّر وهجرها التطور. بيد أن مجموعة من علماء الوراثة اليابانيين، يقودها <S. هيروتسون> [من كلية سيتاما الطبية]، نَشرت في الشهر 5/2003 اكتشافها أولَ جينة كاذبة عاملة.

 دليل الجينات غير المعهودة(*****)

http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI2004b20N2-3_H04_003357.jpg

وفقًا للمعرفة المعهودة، إن الجينات هي تلك القطاعات من الدنا التي تكود لپروتينات وظيفية، ولكن هذه التسلسلات تشكل فقط 2 في المئة من الجينوم البشري. إن بقية جينوم الإنسان مليئة بدنا «غير مكوِّد»، ولكنه ليس عديم الجدوى. يكتشف العلماء حاليًا جينات كثيرة غير مكودة، تنشئ أنواعًا من الرنا ذات فاعلية مدهشة، بما في ذلك ضروب بوسعها إسكات الجينات المعهودة أو تنظيم عملها.

يتشكل الرنا المضاد الدلالة من شريطة الدنا المتممة، التي تتوضع في الحلزون المزدوج مقابل الجينة المكودة للپروتين. وبوسع الرنا المضاد الدلالة أن يعترض الرنا المرسال (الرسيل) الذي ينتسخ من الجينة، ليمنعه من أن يترجم إلى پروتين.

يترابط الرنا المضاد الدلالة بالرنا المرسال المتمم، محصرًا (معيقا) آلة ترجمة الپروتين

تحتوي الجينات المكودة للپروتينات على قطاعات غير مكودة تعرف بالإنترونات. وتُقَصُّ الإنترونات من نسخة الرنا الاستهلالية، ثم تجدل القطاعات المكودة لتنشئ رنا مرسالاً ناضجًا. ومع أن كثيرًا من الإنترونات يتقوض، فإن بعضها يحوي عناصر فعالة، كأنواع الرنا الميكروية التي تستثمر تأثير «التدخل الرناوي»، لتضبط فاعلية جينات أخرى.

إن آلية التدخل الرناوي تعالج الرنا الميكروي …

… وتستعمله لتخرب الرنا المرسال، الذي صُنع من قبل جينات معينة، فتكظمها بكفاية عالية.

http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI_index_2004b20N2-3_H04_003358.jpg

لقد تم اكتشاف المحولات الريبية riboswitches منذ فترة قصيرة جدا، وهي أشكال من الرنا تعمل كمحولات جينية بالغة الدقة. وينثني المحول الريبي (الذي يُنتَج في حالات كثيرة من قبل الدنا غير المكود الذي يقع بين جينات معروفة) ليأخذ شكلاً معقدًا. إن بوسع جزء من الرنا المنثني أن يرتبط بپروتين مستهدف نوعي أو بجزيء كيميائي. أمَّا الجزء الآخر فيحوي الكود الرناوي لمنتَج پروتيني. ويصبح المحول الريبي في حالة «التشغيل»، وينتج الپروتين الذي يكوده، فقط عندما يوجد معه هدفه.

كان <هيروتسون> يهندس ـ جينيًّا ـ فئرانًا، لتحمل إحدى جينات ذبابة الفاكهة، المعروفة بالجينة المميتة المرتبطة بالجنس sex-lethal. ومع أن معظم الفئران أبدت تكيفًا جيدًا مع الجينة الغريبة، فإن الجينة كانت، في ذرية من الذراري، وفيّة لاسمها، حيث تسببت في موت الفئران جميعها في سن الرضاع. ولدى تمحيص الأمر، اكتشف العلماء أن الجينة sex-lethal  انغرزت في تلك الفئران في وسط جينة كاذبة، معطِّلة إياها. وهذه الجينة الكاذبة (التي سميتmakorin 1-p1) ليست سوى نسخة مختزلة (قصيرة) جدًّا عن الجينة makorin 11،  وهي جينة عتيقة تتشارك فيها الفئران مع ذباب الفاكهة والديدان وأنواع كثيرة أخرى. ومع أن الباحثين يجهلون ما تقوم به الجينة makorin 11، فإنهم يعرفون بالتأكيد أن الفئران لديها الكثير من جينات makorin 11 الكاذبة، وإن أيًا منها لا يستطيع صنع پروتينات. فإذا كانت الجينات الكاذبة لا تؤدي أي وظيفة، فلماذا ماتت تلك الفئران عندما فقدت واحدة منها؟

لسبب ما، فإن الجينة makorin 1 ـ وmakorin 1 فقط على ما يبدو ـ تكاد تتعطل عندما تتعطل جينتها الكاذبة p1. وبمعنى آخر، فإن الرنا الذي تصنعه الجينة الكاذبة، يتحكم في تعبير الجينة «الحقيقية»، التي تحاكيها في تسلسلها، هذا على الرغم من أن الجينتين تقعان على صبغيين مختلفين. فلا شيء كاذبًا في ذلك.

إنه من المبكر جدًا القول ما إذا كان هنالك كثير من الجينات الكاذبة تقوم بتشكيل رنا فعال. ولكن هنالك مقدارًا وافرًا من المصادر المبعثرة هنا وهناك حول الأجزاء المعتمة من الجينوم. فمثلا، لكل جينة سوية (تصنع پروتينا) تسلسلُ دنا متمم، يتوضع على الجانب الآخر من السلم ولا ينتسخ عادة إلى رنا. ويميل البيولوجيون إلى الاعتقاد بأن هذه النسخة من الجينة هي نسخة احتياطية، ذلك أن بوسع الخلية استعمالها لإصلاح التلف الذي قد يلحق بالجينة.

وللجينة الاحتياطية في بعض الحالات برنامجها الخاص بها. ففي حين أن الجينة تقوم بإنتاج رسالة رناوية محسوسة sensible (ذات دلالة)، فإن نسختها المعدلة(5) تستطيع أن تتمخض عن رنا مضاد الدلالة (المعنى) antisense ذي تسلسل متمم. وحيثما تتقابل نسخة الرنا ذات الدلالة مع النسخة المضادة للدلالة المتتامة معها، فإن الشريطتين تتواشجان(6) لتشكلا سلمًا مزدوج الشريطة خاصًا بهما؛ وبذا تعوقان بفعالية قدرة الجينة على التعبير عن الپروتين الخاص بها.

لقد عرف البيولوجيون أن بوسع البكتيرات والنباتات أن تنتج رنا مضاد الدلالة. ولكن معظمهم اعتقد أن الثدييات نادرًا ما تقوم بذلك. غير أن <G. روتمان> وزملاءها [من الشركة كومپو جن CompuGen؛ وهي شركة تِقانة حيوية في تل أبيب] دحضوا هذا الافتراض في الشهر 4/2003. فقد مسحوا قواعد بيانات الجينوم البشري، واستنتجوا أن 1600 جينة على الأقل (وربما أكثر من ذلك بكثير) لها رفقاؤها mates التي تنتج رناوات مضادة الدلالة.

ويمكن لهذه الرناوات التنافسية أن تكظم الجينة عن طريق تقييد رناها المرسال فحسب. بيد أن <روتمان> تتوقع أن أنواع الرنا هذه تستعمل نظام رقابة مبنيًا داخل الجينوم، يعرف بآلية التدخل الرناوي RNA interference (RNAi)machinery. ومازال العلماء مفتونين منذ سنوات عديدة باكتشاف هذا المخطط، حيث يتم وفقًا له إسكات الجينات إسكاتًا إفراديًا وانتقائيًا. فعندما يتشكل في الخلية رنا مزدوج الشريطة، تقوم الإنزيمات بتقطيعه، ثم تفصل الشريطتين إحداهما عن الأخرى، وتستعمل شدفة واحدة من هذا الرنا في البحث عن أي رسائل رنا أخرى يمكن أن ترتبط بتسلسلها، ومن ثم تقوم بتدميرها. ويحمي هذا النظام الخليةَ من الڤيروسات التي غالبًا ما تلقي بحمولتها داخل الخلية على شكل رنا مزدوج الشريطة. بيد أن نظام الرقابة هذا يزود العلماء بطريقة هينة لإسكات أي جينة من الجينات ساعة يشاؤون أيضًا [انظر في هذا العدد: «نُظُم رقابة الجينوم»].

غير أنه ليس بوسع الجينات الكاذبة ولا أنواع الرنا المضادة الدلالة أن تفسر تشكل الأوراق الجَعِدة، التي شاهدها في صيف 2003 <D. ڤايگل> ومساعدوه [من معهد «ماكس پلانك» لبيولوجيا التنامي في توبنگن بألمانيا] في نبات أرابيدوپْسِس Arabidopsis. إن هذه الأعشاب (التي تنتمي إلى الفصيلة الصليبية) تتميز عادة بأوراقها الملساء الملعقية الشكل. ولقد بينت مجموعة <ڤايگل> في مجلة نيتشر Nature (في الشهر 8/20033) أن المنحنيات المتناسقة الوئيدة التي تميز أجزاء النبات إنما ترجع ولو جزئيًا إلى نوع فعال من الرنا، يسمى الرنا الميكروي microRNA.

«إن ما اعتبر على أنه سَقَطٌ بسبب عدم فهمنا لوظيفته، قد يتضح

أنه في واقع الأمر الأساس الفعلي لتعقيد تركيب الإنسان»

لقد لوحظ الرنا الميكروي أول مرة منذ سنوات قليلة في الديدان الخيطية (المدورة) كتسلسلات قصيرة من الرنا غير مكوِّدة، تنثني على نفسها لتأخذ شكل دبوس الشعر. يزدوج الرنا الميكروي المسمى JAW في نبات أرابيدوپْسِس، ويؤسر عندئذ بوساطة آلية التدخل الرناوي، تمامًا وكأنه خرج للتو من فيروس. بيد أن تسلسل JAW سرعان ما يتطابق مع بضع جينات مختلفة تصنع الپروتينات، وتعد هذه الجينات أفرادًا في عائلة تتحكم في شكل النبات وحجمه. ويعمد عندئذ جهاز الرقابة إلى كظم (تثبيط عمل) كل جينة من هذه الجينات بتقطيعه معظم (وليس كل) الرنا المرسال الذي تنتجه. وهكذا، فإن الجينة JAW ـ وهي جينة بالغة الصغر مختصة بإنتاج الرنا فقط(7) تشكل الآلة الرئيسية التي تتحكم بوساطتها خلايا الأرابيدوپسس في حجم مجموعة من الجينات المهمة المنتجة للپروتينات. فعندما هندست مجموعة <فايگل> النباتات بحيث لا يتمكن الرنا الميكروي من أداء عمله، أصبحت النباتات مريضة ومشوهة.

عودة إلى الوراثيات المباشرة(******)

منذ أن جعل ابتكارُ تِقانة الدنا المأشوب الهندسةََ الجينية أمرًا ممكنًا، فإن معظم الأبحاث في علم الوراثة كانت تمارس «بطريقة ارتدادية» reverse. تبدأ هذه الطريقة بجينة معينة، تشكل محور اهتمام الباحث، «يعبث» العالم بتلك الجينة في مستنبت خلوي أو في كائن حي، ويراقب ما يحصل؛ ثم يحاول أن يستنتج وظيفة الجينة. إنها مقاربة اختزالية معهودة، يمكن أن تكون فعالة جدًا.

لكن الإدراك التدريجي بأن الجينوم يحتوي على جينات مخبأة ـ تسلسلات وظيفية صنفت خطأ على أنها سقط ـ ركز الانتباه على مشكلة رئيسية في الوراثيات الارتدادية، فهي قد تؤدي إلى رؤية ضبابية مقيدة. وهكذا، فإن عددًا من علماء الوراثة وجهوا اهتمامهم شطر الممارسة القديمة المتمثلة بالوراثيات «المباشرة» forward كطريقة لتعرف الجينات التي لا يعرفون عنها شيئًا، سواء في ذلك الجينات المعهودة وغير المعهودة.

إن فينومكس Phenomix شركة للتقانة الحيوية في لاهويا بكاليفورنيا، أسسها في العام 2002 مجموعات عديدة من علماء الوراثة البارزين. وتأمل الشركة أن توظف هذه المقاربة في عمل تجاري، ولذا أقامت نوعًا من خط الإنتاج يهدف إلى إنتاج فئران طافرة. لقد عَطّلت الطفرات في نقاط عشوائية من جينوم كل مجموعة من مجموعات الفئران، ليس فقط الجينات المعيارية المكودة للپروتين، بل أيضًا الجينات المخبأة التي لا تصنع إلا أشكالاً من  الرنا الفعال.

وتستهل «فينومِكس» أبحاثها على الفئران، الصحيحة منها والمصابة بأمراض تماثلية لما هو شائع لدى الإنسان، كالداء السكري والربو والتهاب المفاصل وداء پاركنسون. وتحفز بعض الطفرات في الفئران أعراض هذه الاضطرابات أو تخفف منها. يقوم الباحثون عندئذ بمسح وراثي لتعيين الطفرة المسؤولة عن التأثير. ومع أنه ينبغي التريث لمعرفة ما إذا كانت هذه المقاربة ستوحي بتصميم عقاقير أفضل، فإن الوراثيات المباشرة اكتشفت فعلاً  بعض الظواهر الوراثية، مثل جينة كاذبة ذات وظيفة محددة functional pseudogene  (انظر  المتن الرئيسي)، وهو أمر لم يكن بوسع أحد اعتباره ممكنا.

وفي خلال الثلاث سنوات التي انقضت منذ أن شرع الباحثون في النظر بجدية في مئات من الرناوات الميكروية، وجدوا أكثر من 150 نوعًا في الإنسان وحده. وتبدو أنواع الرنا الميكروي كوسيلة راسخة، تستعملها الكائنات في ضبطها للجينات. ويظهر أيضًا نحو نصف أنواع الرنا الميكروي في الإنسان، بأشكال مثيلة تقريبا، في دنا السمكة المنتفخة pufferfish، هذا على الرغم من أن النوعين افترقا منذ 400 مليون عام تقريبا.

إن ما تقوم به هذه الأنواع من الرنا الميكروي (التي يفوق عددها المئة والخمسين) في أفراد البشر، يبقى لغزًا محيرًا. وتظن <M .A. كريشيڤسكي> [من كلية طب جامعة هارڤارد] في أنها تؤدي، إلى جانب وظائف أخرى، دورًا مهمًا في تنامي الدماغ. لقد استعمل مختبرها «شيپة جينية» لإجراء مسح لعصبونات الفأر، بحثًا عن 44 نوعًا مختلفًا من الرنا الميكروي. وبينت <كريشڤسكي> في الشهر 9/2003 أن تراكيز تسعة أنواع متميزة ـ على الأقل ـ من الرنا الميكروي تُنظَّم بدقة في الفئران في أثناء نمو أدمغتها. بيد أن الصلة ما زالت غير مباشرة، ولكن، كما لاحظت <D. بانرجي> [من جامعة ييل] في بحث استعرضت فيه مخرجات علم الرنا الميكروي نشر عام 2002: «يبدو أننا على تخوم انفجار في المعرفة الخاصة بهذا الموضوع.»

http://oloommagazine.com/images/Articles/20/SCI2004b20N2-3_H04_003359.jpg

هذه الفئران هي فعلاً مستنسخات ـ رفاق الولدة (البطن الواحد) ـ منحدرة من سلالة عالية النقاوة دام استيلادها داخليا inbred، وتتشارك كلها في دنًا واحد. ومع هذا، فإن ألوان شعرها تنتمي إلى طيف يتراوح بين الأصفر الذهبي والبني الماهوگاني (الضارب إلى الحمرة)، وذلك بسبب الاختلافات في الارتباطات الكيميائية «اللاجينية» التي يبديها كل منها مع قطعة بعينها من الدنا، تقع خارج أي جينة معروفة. إن ألوان شعر هذه الفئران لا يمكن التنبؤ بها من خلال النظريات الوراثية الحالية.

النظامان الرقمي والتماثلي(*******)

قد تكون الپروتينات هي أحصنة الجر في الخلية، ولكن الرنا الفعال هو الذي يمسك بالسوط ويتحكم فيه أحيانا. كما تبين أن أنواعًا كثيرة من الرنا تقوم بأعمال شاقة أيضا؛ فهي تحفز وتؤشر وتفعِّل وتعطل بكفاءة لا تقل عن كفاءة أي پروتين. وفي الواقع، فإن بعض الأمراض الموروثة أربكت الباحثين، ذلك أنهم في بحثهم الحثيث عن پروتين طافر، تجاهلوا الرنا الفعال الماثل أمام أعينهم.

فمثلا، جَهِد الأطباء لأكثر من تسع سنوات كي يتعرفوا بدقة الجينة المسؤولة عن نقص التَّنَسُّج الشَّعري الغضروفي cartilage hair hypoplasia. لقد تم تعرف هذا المرض المتنحي أول مرة في الأميش(8) Amish، حيث إن واحدًا من كل 19 شخصًا منهم يحمل نسخة من الجينة المعيبة، التي تسبب نوعًا غير عادي من القزامة. فالأناس الذين يحملون الجينة CHH ليسوا فقط قصيري القامة، بل هم أيضًا في خطر كبير للإصابة بالسرطان وباضطرابات مناعية مختلفة. ولقد حدد عالم الوراثة <M. ريدَنْپا> [من جامعة هلسنكي] مكان الجينة في الصبغي التاسع، ثم سلسل منطقة كبيرة من هذا الصبغي، ثم انتقل إلى تفحص الجينات العشر (المصنِّعة للپروتينات والموجودة في تلك المنطقة) جينة فجينة. فوجد أن أيًا منها لا يسبب المرض.

وأخيرا، وفي العام 2001، تعرَّف <ريدنپا> ومساعدوه الجزيء المتهم: جينة مختصة بإنتاج رنا فقط (RNA-only gene)؛ تدعى الجينة RMRP. إن الرنا المنتسخ من هذه الجينة يترابط بپروتينات معينة، ليشكل إنزيمًا يعمل داخل مولِّدات الطاقة في الخلية (الميتوكوندرات mitochondria). إن تغيرًا يتناول قاعدة واحدة فقط في نقطة حرجة على هذا الرنا، يمكن أن يعني الفرق بين حياة صحية وامتلاك قامة طبيعية (سوية) وبين حياة مختصرة بقامة قصيرة (هذا إذا ما تم توريث الطفرة ذاتها من كلا الأبوين). ولقد اكتُشِف حديثًا أن مثل هذه الأنواع من «الرنا التماثلي» analog RNA ـ الذي ينثني ليأخذ أشكالاً معقدة، تمامًا كما تفعل الپروتينات ـ أساسي لعمل بعض الإنزيمات التي تحمي الصبغيات، وتلك التي تحرس الپروتينات الإشارية المفرزة، مرافقة إياها حتى تغادر الخلية عبر كواتها.

ولعل أكثر أشكال الرنا (التي اكتشفت حتى الآن) إثارة للاهتمام تتمثل في المحوّل الريبي riboswitch، الذي عزل في العام 2002 في مختبر <R .R. بريكر> [في جامعة ييل]. فلقد تساءل هذا الباحث وآخرون غيره لزمن طويل: كيف أفلحت، قبل بلايين السنين، الطلائع الكيميائية الأولى للحياة في أن تشكل عالم الرنا، وذلك قبل أن يكون هناك دنا وپروتين. لقد خمّنوا أن مثل هذه الكائنات الأولية، كانت تحتاج إلى استعمال الرنا كأنظمة رقابة وتحويل، كي تستجيب إلى التغيرات التي تطرأ على بيئتها وعلى استقلابها (أيضها). ولاختبار هذه الفكرة، حاول الفريق إنشاء (تخليق) أنواع من الرنا تتمتع بهذه القابلية.

ويتذكر <بريگر> قائلا: «لقد أفلح مختبرنا بإنتاج عدد من أنواع الرنا التركيبي synthetic ذي الوظيفة التحويلية.» إن أنواع هذا الرنا ذات التسلسلات الطويلة (التي سميت بالمحولات الريبية) تمتلك في آن واحد نهاية مكوِّدة وأخرى غير مكوِّدة. وما إن ينثني الرنا على نفسه، حتى تتحول النهاية غير المكوِّدة إلى مستقبل حساس لهدف كيميائي بعينه. ويؤدي الاصطدام بالهدف إلى نتق flipping  المحول، الأمر الذي يجعل النهاية الأخرى (التي تحوي مخططا أساسيا blueprint معياريّا للپروتين) تغير شكلها. وهكذا، فإن المحول الريبي ينتج الپروتين على نحو يماثل كثيرًا ما تقوم به الجينة، ولكن فقط عندما يتحسس هدفه.

وشرعت مجموعة <بريكر> عندئذ في البحث عن محوِّلات ريبية في أرجاء عالم الحياة، وسرعان ما وجدتها متوارية في دنا بين جيني. ويتم حاليا استخلاص هذه المحولات الجينية البالغة الدقة من أنواع تنتمي إلى ممالك عالم الحياة الثلاث. ويجادل <بريكر> قائلا: «إن هذا يعني أن وجودها في السلف الأخير المشترك، أمر محتمل» بعد بداية التطور بمدة غير طويلة.

وأعلن <بريكر> ومساعدوه في الشهر 8/2003 أن عائلة من المحولات الريبية تنظِّم تعبير 26 جينة على الأقل في العُصيَّة Bacillus subtilis، وهي بكتيرة المطبخ الشائعة. ويرى أنه لا يمكن اعتبار هذه الجينات جينات عَرَضية ظهرت مرة واحدة في حقبة مديدة من الزمن، بل هي جينات تعوِّل عليها البكتيرة في استقلابها لموادها الخام الأساسية، مثل: الكبريت والحموض الأمينية. ويقدر <بريكر> أن العصية B. subtilis لها 68 جينة على الأقل (أي ما يقارب 22 في المئة من كامل الجينوم)، تقع كلها تحت سيطرة المحولات الريبية. وقد شرع مختبر <بريكر> فعلا في هندسة الجزيئات الرقمية-التماثلية الهجينة، بهدف أن تؤدي أعمالا مفيدة، كقتل الجراثيم قتلاً انتقائيًا.

الصورة الكبيرة(********)

وكلما تمعّن البيولوجيون أكثر فأكثر في أنواع جديدة من جينات الرنا الفعال المخبأة في الإنترونات وفي مدَّات الدنا بين الجيني التي أهملت لزمن طويل، ازداد إدراكهم أن العلم مازال بعيدًا عن وضع قائمة كاملة بمكونات الإنسان أو أي نوع آخر راق. وخلافًا للجينات المصنِّعة للپروتين ذات الكود المعياري الذي يتضمن إشارتي «البدء» و«التوقف» البسيطتين، فإن جينات الرنا فقط RNA-only genes على درجة كبيرة من التفاوت، بحيث إن البرامج الحاسوبية لا تستطيع أن تميزها من بقية تسلسلات الدنا تمييزًا يمكن الوثوق به. وبغية النهوض بهذه التقانة، فإن المعهد الوطني لأبحاث جينوم الإنسانNational Human Genome Research Institute NHGRI أطلق في خريف  2003 مشروعًا طموحًا بقيمة 36 مليون دولار لإنتاج «موسوعة عناصر الدنا»Encyclopedia of DNA Elements. ويهدف المشروع إلى فهرسة كل نوع من أنواع الرنا والپروتين، التي تصنع من جزء منتقى من جينوم الإنسان مقداره 1 في المئة فقط، في مدة ثلاث سنوات.

ولا يعلم أحد حتى الآن تفاصيل الصورة الكبرى لعلم الوراثة، التي ستتضح عندما تصبح هذه الطبقة المخبأة من المعلومات مرئية. ويوحي <ماتيك> قائلا: «وبالفعل، فإن ما اعتبر على أنه سَقَطٌ بسبب عدم فهمنا لوظيفته قد يتضح في حقيقة الأمر أنه الأساس الفعلي لتعقيد تركيب الإنسان.» وهنالك من البيانات ما يدعو إلى الاعتقاد أن للجينات الكاذبة وللمحولات الريبية ولكل ما طرح جانبًا في الماضي، وظيفة حقيقية حاسمة. ويتضح الآن شيئًا فشيئًا دور الرنا الفعال، الذي يساعد على ضبط البنية المُجْمَلة للصبغيات وبعض التحويرات الكيميائية الحاسمة التي تصيبها؛ إنها طبقة من معلومات لاجينية توجد في الجينوم؛ طبقة تختلف كليًا عن المعلومات الوراثية المعهودة.

إن تحرّي هذه الطبقة من المعلومات اللاجينية، سيفسر تلك الأحجيات القديمة: كيف استطاع الإنسان أن يبقى على قيد الحياة بجينوم مركوم على نحو رهيب بكسر دناوية، هي ظاهريًا عديمة النفع وطفيلية؟ لماذا يصعب استنساخ حيوان بالغ، في حين يسهل كثيرًا استنساخ الجنين؟ لماذا تتخطىskip صفات معينة أجيالاً من البشر على نحو لا يمكن ظاهريًا التنبؤ به؟ وتضم خاتمة هذه المقالة تقريرا عن أحدث الاكتشافات المتعلقة بالكيفية التي تعمل وفقًا لها طبقة الصبغيات الخاصة بالظواهر اللاجينية، وعن المحاولات الاستهلالية لاستثمار علم الوراثة اللاجينية epigenetics في الطب والتقانة الحيوية.

 المؤلف

W. Wayt Gibbs

 كاتب أول في هيئة تحرير ساينتفيك أمريكان.

مراجع للاستزادة

Non-Coding RNA Genes and the Modern RNA World. Sean R. Eddy in Nature Reviews Genetics, Vol. 2, pages 919-929; December 2001.

An Expanding Universe of Noncoding RNAs. Gisela Storz in Science, Val. 296, pages 1260-1263; May 17, 2002.

Widespread Occurrence of Antisense Transcription in the Human Genome. Rodrigo Yelin et al. in Nature Biotechnology, Vol. 21, pages 379-385; April 2003.

Challenging the Dogma: The Hidden Layer of Non-Protein-Coding RNAs in Complex Organisms. John S. Mattick in BioEssays, Vol. 25, pages 930-939; October 2003.

Scientific American, November 2003

(*) THE UNSEEN GENOME: GEMS AMONG THE JUNK

(**) Overview/ Hidden Genes

(***) The Perils of Dogma

(****) More Than a Messenger

(*****)A Bestiary of Unconventional Genes

(******) Moving genetics forward

(*******) Digital and Analog

(********) The Big Picture

(1) طبقة layer: مجموعة فرعية من البيانات ترتبط ببعضها بصورة منطقية.

(2) organisms أو متعضيات. (التحرير)

(3) dogma: التسليم بمبدأ من دون دليل ثابت. (التحرير)

(4)signal

(5) its alter ego

(6) mesh

(7) RNA-only gene

(8) الأميش نسبة إلى <J. أمَّن>، وهو أسقف سويسري هرب (نتيجة الاضطهاد الديني) مع جماعته عام 1693 إلى الولايات المتحدة. ويعيش أفراد هذه الجماعة حتى الآن في قرية بولاية پنسلفانيا، محتفظين بتقاليدهم المتوارثة منذ ذلك العام، ويتزاوجون حصرًا فيما بينهم. ونتيجة ذلك، تُلاحَظ لديهم خلالٌ وراثية معينة (كالاكتئاب مثلا)، وكذلك أمراض وراثية محددة، كما ورد في المتن على سبيل المثال. (التحرير)

    [catlist content=yes]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى