أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بودكاست العلوم

الفوهات الحرارية المائية

في أواخر السبعينيات من القرن الماضي وبينما كان بعض العلماء من معهد سكريبس لعلوم المحيطات يقومون بدراسات روتينية لقاع المحيط في منطقة قريبة من جزر الجالاباجوس في المحيط الهادئ بواسطة الغواصة العلمية “ألفين” استطاعوا إماطة اللثام عن اكتشاف هائل هز المجتمع العلمي بأسره في ذاك الوقت. كان المشهد غريباً جداً على عمق 8000 قدم (2500 متر) تحت سطح البحر ودرجة حرارة منخفضة تصل إلى 2 درجة مئوية، حيث رأوا مشهداً غريباً في الظلام الدامس تناثرت فيه أشكال عمودية غريبة تشبه المداخن تنفث سحباً من الدخان الأسود. ويحيط بهذه المداخن نوعاً فريداً من النظم الإيكولوجية البيئية التي لم يشهد العلم لها مثيلاً من قبل.

كان الافتراض السائد حتى ذاك اليوم أن جميع أشكال الحياة على الأرض بما فيها الإنسان تحصل على طاقتها من الشمس فبالتالي كل أنواع الحياة تدين بوجودها بشكل أو بآخر للشمس. فالنباتات تقوم بتحويل أشعة الشمس إلى طاقة من خلال عملية البناء أو التمثيل الضوئي، ومن ثم توفر الغذاء لعدد لا يحصى من أنواع الحيوانات في شبكة معقدة من الحياة على سطح كوكب الأرض. ولكن في هذا المكان المظلم في قعر المحيط الهادئ اكتشف العالم ولأول مرة أن هناك كائنات حية تعيش بنظام بيئي متشابك ومعقد لا تدين بوجودها لضوء الشمس المباشر. فكان أن أكتشف العلم الفوهات الحرارية المائية في أعماق المحيط والتي تكونت بسبب قربها من أماكن نشطة بركانياً. وكنتيجة لتسرب المعادن الذائبة كالكبريت، النحاس، الزنك والحديد تصبح تلك الفوهات كالمداخن التي يصل ارتفاعها بعض الأحيان إلى 60 متراً حيث تصل درجة حرارة مياه هذه المداخن إلى 400 درجة مئوية. وتتميز هذه المداخن بوجود حياة مزدهرة معزولة تماماً عن عالم أشعة الشمس العلوي على سطح كوكب الأرض. حيث أن هذه الكائنات تحصل على غذائها ومصدر طاقتها من الفوهات الحرارية نفسها، ولا علاقة لضوء الشمس بها، وذلك عن طريق هو “البناء الكيميائي” وليس البناء الضوئي المعروف. ففي هذا الظلام السرمدي الدامس لا توجد نباتات أو طحالب، بل تقوم البكتيريا باستخلاص الطاقة اللازمة للتكاثر والانقسام عبر تحويل واستهلاك المكونات الكيميائية السامة والفتاكة، خصوصاً كبريتيد الهيدروجين التي يتم نفثها عبر هذه المداخن. وبهذه الخطوة تبدأ عتبة الحياة حيث تتشكل في هذه اللحظة أول حلقات السلسلة الغذائية ودورة الحياة العجيبة لهذا النظام الإيكولوجي الفريد، فقد تم العثور على عدد كبير من المخلوقات الغريبة حول هذه المداخن مثل الديدان اﻷنبوبية العملاقة ذات المترين طولاً والتي تتغذى على البكتيريا. وكذلك أنواع صغيرة الحجم من الروبيان عديم الأعين وسرطانات البحر التي تتغذى على الديدان اﻷنبوبية بالإضافة للكثير من أنواع القواقع. وتحتوي هذه المياه على تركيزات عالية من المغذيات إلى درجة أن الروبيان يتواجد حرفياً بالملايين حول تلك الفوهات راسماً عالماً غريباً ورائعاً في الظلام الأبدي لقيعان المحيطات السحيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى