أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العقل / الذاكرةعلم الاجتماع

أُحييِّكم! قولُك شكراً مفيدٌ لك ولمن حولَك

أُحييِّكم! قولُك شكراً مفيدٌ لك ولمن حولَك

بقلم:سوزانا مارتينيز- كوندي

ترجمة: مايا سليمان

كان تدوين امتنانك في مذكراتك اليومية الخاصة في يوم ما صيحةَ العصر، لكن تبين أن التعبير عن شكرك للآخرين يضاعف الفوائد.

لا أقصد أن أبدو جاحدة، لكنه خمود ما بعد الاحتفال: بطاقات الشكر المروعة. لعلك تعاني وأنت تحاول أن تجعل كل بطاقة صادقة. وقد تستمر في تأجيل المهمة حتى تفقد الاهتمام أو قد تشعر ببساطة أنها مضيعة للوقت عفا عليها الزمن. بعد ذلك نأتي إلى مهارة حشد رسائل الشكر الزائفة المقنعة على الهدايا غير المرغوب فيها.

فإذا كانت كتابة رسائل الشكر مهمةً تتجاهلها دون تردد، فأنت لست وحيدا في ذلك. إذ يبدو أننا، بعكس افتراضنا، نادراً ما نعبر به عن امتناننا. وبمعزل عن شعورك تجاه بطاقات الأعياد هذه، فقد حان الوقت لتشمر عن ساعديك؛ لأن الشكر قد يكون أفضل هدية تهديها لنفسك وللآخرين.

لطالما أكّدت مختلف الاتجاهات الفكرية، الدينية منها والفلسفية، فوائد الامتنان. وفي السنوات الماضية بدأ العلم باللحاق بالركب: فقد أثبت أن الأشخاص الأكثر شعوراً بالامتنان يحصلون نتيجة هذا على دفعة سيكولوجية. كما أنهم أكثر رضاً عن حياتهم وأقل زيارة للأطباء ويتمتعون بنوم أفضل. وأدى هذا إلى جعل الامتنان جزءاً من روح العصر الثقافية، وملهماً لانتشار مذكرات الامتنان Gratitude journals؛ إذ تدون ما أنت مُمتنّ له، وممارسات التأمل تركز أفكارك على هذه الأخيرة. كما أنها أعادت إحياء الاهتمام بعلم أعصاب وسيكولوجيا الامتنان (انظر: العقل الممتن).

وفوائد التعبير عن هذا الامتنان لم تحظَ بالاهتمام نفسه، لكن تواتر الأدلة يتزايد. وحاليا تُظهِر الأدلةُ أن تحويل امتناننا الداخلي إلى فعل قد يُحسِّن حياتنا.

مثلاً، يمكن لتعبير بسيط عن الشكر أن يبني علاقات حتى مع الغرباء. خذ على سبيل المثال الأفراد الذين يتلقون ملاحظات شكر من زميل (أو زميلة) غريب على أشياء قاموا بها. فاحتمال تبادلُ هؤلاءِ بياناتِ التواصل مع هذا الشخص في محاولة منهم لمتابعة العلاقة أكبر مقارنة بمن يتلقون ملاحظاتٍ لا يتخللها أي شكر. شكر بسيط قد يكون بمثابة إشارة على دفء في الشخصية.

ويغير التعبير عن الامتنان لصديق أيضاً نظرتك إلى هذه العلاقة؛

فيجعلها تبدو أكثر متانة. ففي عام 2010 وجد ناثانيل لامبيرت Nathaniel Lambert ، من جامعة ولاية فلوريدا  Florida State University ، وزملاؤه أن الأفراد الذين تدور في أذهانهم أفكار ممتنة تجاه صديق أو حتى يشتركون في تفاعلات إيجابية معه؛ لا يختبرون الآثار نفسها.

لكن الفوائد تتخطى مجرد تعزيز العلاقات الاجتماعية نحو التأثير في الصحة أيضاً. فقد وجدت دراسة أجريت على أكثر من 200 ممرض وممرضة في مستشفيات إيطالية أن الامتنان الذي يُعبِّر عنه المرضى قد يحمي الممرضين والممرضات من الإرهاق. وينطبق هذا بشكل خاص على غرفة الطوارئ، حيث يكون التفاعل الشخصي مع المرضى أقصر ولا يولِّد إلا قدراً ضئيلاً من الرضا. فقد قلَّلَ التعليق الإيجابي من المرضى الشعورَ بالإرهاق والتهكم بين الممرضين والممرضات، كما تقول مارا مارتيني Mara Martini ، من جامعة تورين University of Turin، التي أجرت هذه الدراسة.

كل هذا منطقي من وجهة نظر تطورية. الامتنان شعور اجتماعي جدا. إذ يرسل هذا إشارة إلى الآخرين تخبرهم بأننا نُقدّر ما قاموا به وأننا لا نعتبر مساعدتهم لنا من المُسلَّمات. كما أنه قد يدلُّ على أننا نعتزم ردّ الجميل.

على ضوء ما تقدم، قد تتوقع أننا نبذل قصارى جهدنا للتعبير عن شكرنا في حياتنا اليومية. غير أن الواقع يثبت العكس: فنحن بالكاد نحاول.

تحويل امتناننا الداخلي إلى فعل قد يُحسِّن حياتنا

لفهم كيفية تعبير الأشخاص عن امتنانهم على أرض الواقع، أجرى  الأنثروبولوجي سيميون فلويد Simeon Floyd  وزملاؤه، من مؤسسة ماكس بلانك لللسانيات النفسية Max Planck Institute for Psycholinguistics  في هولندا، دراسةً متعددة الثقافات تمتد عبر خمس قارات وتشمل ثماني لغات هي الإنجليزية والإيطالية والبولندية والروسية واللاوية، ولغات غير مدونة كالتشابالا المحكية في الإيكوادور والمورين-باثا المتداولة في شمال أستراليا والسيوو المحكية في غانا. وشملت التفاعلات تلك المحكية وغير المحكية للامتنان كالابتسام والإيماءة بالرأس.

ووضع فريق فلويد كاميرات في المنازل ومناطق التجمعات التقطت أكثر من 1500 حالة تفاعل اجتماعي طلب فيها شخص أمراً ما ولبّى آخر طلبه.

ووجد فريق فلويد أن الأشخاص من جميع الثقافات غالبا ما لبّوا الطلبات، لكن التعبير عن الامتنان -بقول “شكرا” أو بإيماءة شكر- كان نادراً بشكل ملحوظ، ولم يتخط 5.5 % من الحالات.

والمتحدثون باللغة الإنجليزية والإيطالية سجّلوا نسبة تعبير عن الامتنان أعلى بقليل من غيرهم، 14.5 % و13.5 % تباعا، لكنها نسبة منخفضة على نحو مثير للدهشة إذا أخذنا بعين الاعتبار المثل الغربية حول التهذيب، كما يوضح فلويد. “لا يختلف المتحدثون باللغة الإنجليزية كثيرا عن غيرهم، فيختارون غالباً عدم التعبير عن الامتنان في السياقات غير الرسمية،” كما يقول فلويد.

أما متحدثو التشابالا؛ فقد سجلوا أقل نسبة في التعبير عن الامتنان، فلم تُسجل أي حالةٍ شكر خلال 96 تفاعلاً مرصوداً.  لكن الأمر يصبح منطقيا عندما نعلم أن اللغة هذه لا تحوي طريقة سهلة لقول “شكراً.”

وعبّر ديفيد بيترسون David Peterson، عالم اللسانيات الذي ألّف اللغة المُركَّبة دوثراكي Dothraki في المسلسل التلفزيوني لعبة العروش Game of Thrones، عن تعجبه من نتائج البحث؛ فلغته هي الأخرى لا تحوي أي كلمة للشكر، وهو أمرٌ لم يتوقع بيترسون حدوثه، ويقول: “ظننت أنه يجب أن توجد كلمة للتعبير عن الامتنان.”

الإفراط في التفكير

أحد العوامل التي تفسر غياب الشكر من بعض اللغات هو فهمٌ ضمني لواجباتنا الاجتماعية في السياقات غير الرسمية، كتلك التي نمضيها مع الأصدقاء المقربين والعائلة؛ مما يجعل الشكر الصريح أقل أهمية.

أو قد يكون السبب أننا ببساطة لا نعي الأثر الذي يتركه قول “شكراً” في الآخرين. وفي سلسلة من ثلاثة اختبارات في جامعة شيكاغو University of Chicago  عام 2018، طلب آميت كومار Amit Kumar  ونيكولاس إيبلي Nicholas Epley إلى متطوعين كتابة رسائل تعبر عن امتنانهم، وتَوَقُع ما إذا كان المتلقون سيشعرون بالدهشة أو السعادة أو عدم الارتياح. بعد ذلك سألا المتلقين عن شعورهم بعد تلقيهم الرسائل. وجاءت النتائج باعثة على الإحباط: فقد بالغ كاتبو الرسائل في تقديرهم لشعور المتلقين من حيث مقدار عدم الارتياح، في حين قلَّلوا من تقدير الأحاسيس الإيجابية والدهشة من الرسائل وما تحويها. وبعبارة أخرى، على الرغم من أن الأشخاص يحبون تلقي رسائل الامتنان، فنادرا ما نقوم أنفسنا بإرسالها بالقدر المطلوب؛ لأننا نستهين بفوائدها.

وينصح كومار بتجنب التفكير في الشكر أكثر من اللازم، فيقول: “أحد الأمور التي لاحظناها هي أن المعبرين يفرطون في قلقهم حول كيفية تعبيرهم عن الامتنان، كم سيكون تعبيرهم واضحاً وإذا ما كانوا يستخدمون الكلمات الصائبة.” لكن أولئك الذين هم على الطرف المتلقي لا يهتمون بذلك كثيراً. ويضيف قائلاً: ” قول أي عبارة بغض النظر عن دقة تعبيرك عنها قد يُحسِّن من صحتك أنت والطرف الآخر.”

إنه الوقت المثالي لنبذ الحجج جانباً واستكمال كتابة بطاقات الشكر تلك.

الدماغ الممتن

أحد السبل لتحديد مصدر الامتنان وفوائده يكمن في تعيين موضعه في الدماغ.

في إحدى أولى هذه الدراسات، أجرى غلين فوكس Glenn Fox من جامعة سوثورن كاليفورنيا University of Southern California  وزملاؤه مسحاً ضوئياً لأدمغة متطوعين كانوا قد حرّضوا فيهم شعوراً بالامتنان عبر عرض أعمال إحسان حصلت أثناء الهولوكوست كما رواها ناجون.

وأظهر تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI تداخلاً قويًّا بين منطقة الدماغ النشيطة أثناء الشعور بالامتنان وتلك المرتبطة بنظرية العقل Theory of mind، أي قدرتنا على وضع أنفسنا مكان الآخرين. وكثيرا ما نقول إن أهمية الهدية تكمن في نيَّتها، والنتائج تدعم هذا القول كما يشير فريق البحث.

فقد وُجدت صلة بين مناطق الدماغ المتعلقة بالامتنان وتلك المتعلقة بإطلاق الأحكام القيميِّة والعدل واتخاذ القرارات.

يتناسب هذا مع فكرة أن الامتنان يؤدي دوراً قويًّا، نشأ بفعل التطور غالبا، في الروابط والشبكات الاجتماعية.

ويبدو أن الشعور بالامتنان يتمحور حول استيعاب قيمة مساهمة شخص آخر في حياتنا، ودوافعنا لمساعدة الآخرين، والارتياح الذي نحسُّ به عندما يأتي أحد لنجدتنا، كما يقول فوكس.

نبذة عن الكاتب

سوزانا مارتينيز- كوندي Susana Martinez-Conde: عالمة أعصاب تدرّس طب العيون والجهاز العصبي وعلم وظائف الأعضاء والأدوية في مركز داونستيت الطبي Downstate Medical Center بجامعة ولاية نيويورك State University of New York، حيث تدير مختبر علم الأعصاب التكاملي.

©New Scientist

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى