أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئية

ما عدد الأشجار الموجودة على الأرض؟ بعثة علمية فضائية لقياس الكتلة الحيوية على الكوكب

الأشجار هي أكبر حليف لنا ضد التغير المناخي ــ لكننا لم نتأكد بعد من قوة تأثيرها -تكشف لنا تكنولوجيا فضائية جديدة قدراتها للمرة الأولى

بقلم: كريستين سوانسن

ترجمة: حازم محمود فرج

كانت الإثارة في الغرفة واضحة في صباح الخامس من ديسمبر عام 2018. في اليوم السابق، تأجل إطلاق الصاروخ فالكون 9 Falcon 9 التابع لشركة سبيس إكس SpaceX لتزويد محطة الفضاء الدولية International Space Station (اختصارًا: المحطة ISS) بالمؤن لمدة 24 ساعة. وكان هذا التأجيل قد أعقب اكتشاف وجود أغذية متعفنة على متنهاـــ لم تُرسل لغرض إطعام طاقم المحطة الفضائية، بل لتغذية بعض الفئران التي أعدت لتُرسل إلى المحطة. وتجمع حشد في مركز كينيدي الفضائي Kennedy Space Center بولاية فلوريدا لمتابعة عملية إطلاق الصاروخ في الموعد الجديد. وعُبئت الشحنة، إلى جانب العلف الطازج والفئران المرسلة، تجارب علمية بما في ذلك نظام استشعار عن بعد Remote – sensing system يسمى جيداي GEDI (اختصارًا: النظام GEDI) ـــ الذي يلفظ كما يلفظ اسم جيداي Jedi في سلسلة أفلام حرب النجوم Star Wars.

وتبين أن نظام GEDI ـــ الذي يعني دراسة ديناميكية النظام الإيكولوجي العالمي Global Ecosystem Dynamics Investigation ـــ هو شحنة علمية ثمينة على نحو خاص. إذ إن البعثة التابعة للوكالة ناسا صُممت لتمنح أول نظرة ثلاثيّة الأبعاد إلى غابات العالم. ومما يثير الدهشة، بالنظر إلى إنجازاتنا العلمية في الفضاء، أننا ما زلنا نحظى فقط بفكرة غير واضحة عن كمية المادة الحية على كوكب الأرض. نحن نعلم أن الأشجار تكوّن الجزء الأكبر منها، ونعلم أيضاً أن زراعة الغابات وإزالتها تساهمان في تباين تركيزات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. ولذلك، فإن المعلومات غير المسبوقة التي يجمعها النظام GEDI عن الأشجار ستكون مهمة جدا فيما يتعلق بفهمنا لآلية التغيّر المناخي.

ومثّل إطلاق صاروخ سبيس إكس البداية فقط. إذ إنّ النظام GEDI في طليعة موجة جديدة من المستشعرات Senors المبتكرة التي ستقيّم لنا الحياة النباتية في العالم والكيفية التي تتغيّر بها ـــ كم من غاز ثاني أكسيد الكربون، على سبيل المثال، يتبدد في الغلاف الجوي عندما تدمّر الأشجار نتيجة لأحداث كارثية مثل الحرائق الجامحة في الغابات، والأعاصير وقطع الأشجار. كما أن هذه العيون التي في السماء لن تُقدّر بثمن في جهود حماية الغابات وإعادة تجديدها. وأخيراً، بدأنا نحصل على صورة كاملة لكوكبنا الأخضر ـــ وما الذي نخاطر بفقدانه إذا لم نتحرك لإنقاذه.

إن فهم الآلية التي يتدفق بها غاز ثاني أكسيد الكربون بين المادة الحية والغلاف الجوي هو أمر مهم جدًا إذا أردنا معالجة الاحترار العالمي Global Warming الناتج عن زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون CO2. لكن عملية تتبع الكربون تكون معقدة. ونعلم أن انبعاثات غاز CO2 من الصناعة والمركبات ومصادر أخرى تطلق نحو عشرة بلايين طن من الكربون في الغلاف الجوي سنويًا. لكن هذه الكمية لا تبقى كلها هناك. وتقول لورا دنكانسن Laura Duncanson، من جامعة ميريلاند University of Maryland وعضو فريق بعثة النظام GEDI: “إن نحو نصف الكمية التي نطلقها في الغلاف الجوي تختفي لتعود إلى الأنظمة الأرضية في مكان ما… أين يقع ذلك المكان وما هي العمليات التي تحكم هذه الآلية، هذا لغز علمي كبير نحاول حله”. وحتى يحين ذلك، لا يمكننا رعاية مصرف الكربون Carbon sink الثمين هذا.

وما نعرفه فعلاً هو أن المحيطات تمتص نحو 25% من كمية الكربون التي نطلقها. وعندما يتعلق الأمر بنصيب بقية الكربون الذي يختفي من الهواء، تكون الغابات هي المشتبه فيه الرئيسي. ومع هذا، فقد بدا نقص معرفتنا بها جلياً في عام 2018 عندما حاول باحثون حساب الكتلة الكلية للحياة على الأرض لأول مرة. فباستخدامهم قياسات من مئات من الدراسات السابقة، قدروا أن الطبيعة تحتوي على ما يكافىء نحو 550 بليون طن من غاز الكربون. وتوقعوا أن تكون البكتيريا هي مصدر جزء كبير من هذه الكمية، لذا فقد كانت مفاجأة كبيرة عندما اكتشفوا أنها ليست كذلك. وبدلاً من البكتيريا، تبين أن النباتات الأرضية وحدها تطلق 80% من هذه الكمية، وأن معظم هذه الكتلة الحيوية Biomass عبارة عن أشجار.

تريليونات الأشجار

يقدر تقدير إحصائي من عام 2015 العدد الإجمالي للأشجار على الأرض بـنحو 3.04 تريليون شجرة، بما في ذلك 1.3 تريليون شجرة في الغابات الاستوائية وشبه الاستوائية، و0.66 تريليون شجرة في المناطق المعتدلة، و0.74 بليون في الغابات الصنوبرية الشمالية حول الكوكب تحت المنطقة القطبية الشمالية. وعلى الرغم من هذا، فإن معرفتنا الحالية بكمية الكربون التي توجد في الغابات ما زالت قليلة جدا، لدرجة أن تقديرات غابات الأمازون المطرية تتراوح ما بين 60 إلى 93 بليون طن، وهو فارق ليس ببعيد عن مجمل انبعاثات الكربون السنوية من العالم كله.

ولعل الطريقة الأدق لقياس كمية الكربون في شجرة تتمثل في قطعها ثم وزن جذعها وأغصانها وجذورها وكل شيء فيها. بالطبع، إن هذه العملية ستقتل الشجرة، لذا، بدلاً من ذلك، فنحن نأخذ قياسات ميدانية لأقطار الشجر، ثم نستخدم كثافات معروفة لغابات مختلفة من أجل حساب الكتلة الحيوية. تستغرق هذه الطريقة وقتاً طويلًا وهي مكلفة أيضاً. وقد تبين بالممارسة أنها شبه مستحيلة، خصوصا في المناطق الاستوائية حيث تكون الغابات كثيفة ويصعب التنقل فيها.

وتبدو عملية مسح الغابات من الجو أو من الأقمار الاصطناعية حلاً مناسبا. لكن ما تستطيع معظم أجهزة استشعار مراقبة الأرض فعله هو التقاط الصور للجزء الأعلى من الظلة Canopy فقط. أما النظام GEDI فهو مختلف: إذ إنه يستخدم تكنولوجيا الليدار Lidar، وهي آلية ترسل آلافا من نبضات الليزر في اتجاه سطح الأرض، لترتد منه عائدة إلى الفضاء بعد اصطدامها بأجسام صلبة. ومن خلال قياس الزمن الذي تستغرقه رحلة النبضة ذهاباً وإياباً، يمكن قياس المسافة. وبهذا يمكن استخدام أشعة الليزر التي تخترق غابة ما على أعماق مختلفة من الظلة نزولاً إلى الأرض لبناء خريطة ثلاثية الأبعاد للغابة.

“نحو نصف كمية الكربون الذي نطلقه في الغلاف الجوي للأرض

يختفي عائداً إلى أنظمة أرضية في مكان ما”

والنظام GEDI ليس أول جهاز استشعار يعمل بتكنولوجيا الليدار في الفضاء، لكنه جهاز مختلف. وبينما تؤدي الأنظمة الأخرى عملاً جيداً كمراقبة الصفائح الجليدية، جرى تطوير النظام GEDI ليمنحنا أكمل صورة ممكنة للغابة. ويقول رالف دوباياRalph Dubayah ‎، من جامعة ميريلاند والباحث الرئيسي في فريق النظام GEDI: “لقد صممنا الأدوات، وأجهزة الليزر والكاشفات، والأجهزة التكنولوجية الأخرى عليها، من أجل رؤية نافذة تسبر أغوار الغابات الاستوائية الكثيفة”.

يستخدم جهاز الليدار في النظام GEDI الضوء القريب من الأشعة تحت الحمراء، وهي تنعكس عن أوراق الشجر فتبدو ظلة الغابة أكثر سطوعاً منها في الضوء المرئي من الطيف. ومع ذلك، فلهذا النظام أوجه قصور: أولاً، لأنه سيكون على متن المحطة ISS، على مدى السنتين من بعثته، فسيتمكن من فحص جزء ضئيل فقط من سطح الأرض ولن يجمع بيانات من مناطق شمال خط العرض 52 تقريباً، وبذلك لن يغطي معظم مناطق الغابات الشماليةBoreal forest . إضافة إلى ذلك، لما كانت تكنولوجيا الليدار تستخدم الضوء في الجزء القريب من الأشعة تحت الحمراء فلن يتمكن من اختراق طبقات الغيوم. وبهذا لن يتمكن النظام GEDI من مسح جميع الغابات وحده. وهنا يمكن لأنظمة أخرى تستخدم الرادار أن تتدخل للمساعدة.

ترسل أنظمة الرادار أشعة من الموجات الميكروية (الدقيقة) Microwave radiation، تخترق الغيوم وتتشتت عندما تصطدم بجسم صلب. وبعد أن يرصد جهاز الاستشعار هذا الارتداد العائد، يمكن تحليل الأنماط التي تنتج عنه لتشكيل صور للمشهد الأرضي. ويتراوح مجال الموجات الميكروية ما بينمليمتر واحد إلى متر واحد طولاً، ويحدد طول الموجة التي يستخدمها رادار معين قدرته على الرصد. تستطيع الموجات الأقصر أن ترصد أجساماً أصغر. وتستطيع الموجات الأطول أن تخترق ظلة الغابة لترتد عن أجسام أكبر حجماً في الأسفل، مثل جذوع الأشجار وأغصانها. أما الموجات الأطول بكثير فهي تتشتت في الأيونوسفير (الطبقة المؤينة للأرض) ـــ وهو طبقة من الغلاف الجوي يمتد من ارتفاع من 60 فما فوق إلى 1000 كيلومتر ويحتوي على الكثير من الأيونات والإلكترونات الحرة.

ما نحتاج إليه هنا هو طول موجي ”غولديلوكس“ Goldilocks wavelength  (مناسب تماماً)، ليس طويلاً جداً وليس قصيراً جداً. والطول المناسب للغرض، الذي يبلغ 70 سم، يُعرف باسم النطاق -P (P-band). وللأسف، فإن هذا الطول الموجي لا يمكن استخدامه لعدة سنوات: فالأقمار الاصطناعية التي تحمل رادارات النطاق- P محظورة لأنها تتداخل مع العمليات الأرضية التي تستخدم الطول الموجي ذاته، بما في ذلك أنظمة الدفاع العسكرية. وعلى سبيل المثال، فإن البعثات الفضائية ــ بما فيها القمر الاصطناعي TanDEM-X التابع للقمر الاصطناعي الألماني لرصد الأرض German Earth German Earth observation satellite  ــ تستخدم أطوالا موجية أقصر بكثير، لذا فهي ليست حساسة بالدرجة الكافية لاستشعار الكتلة الحيوية.

إطلاق الرادار المطلوب

لكن الحظر الشامل المفروض على استخدام رادار النطاق- P في المدار رفع في عام 2004. ومنذ ذلك الحين، يطور شون كويغان Shaun Quegan ‎، من جامعة شيفيلد بالمملكة المتحدةUniversity of Sheffield ، بالتعاون مع زملائه، نظاما ليعمل بالطول الموجي المناسب لقياس الكتلة الحيوية من الفضاء. وأخيراً، اختارت وكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency في عام 2013 هذا النظام ـــ القمر الاصطناعي لقياس الكتلة الحيوية Biomass satellite (اختصارًا: القمر الاصطناعي Biomass)ـــ للتنفيذ. وقد تحدد موعد إطلاقه ليكون في عام 2022. وستمسح البعثة الغابات مسحًا منتظما لتغطي المناطق التي نحن في أشد الحاجة إلى توفير معلومات عنها، بما في ذلك غابات العالم الاستوائية ومعظم الغابات شبه الاستوائية والشمالية. ومع ذلك، ستمنع بقية مواقع الدفاع المحظورة القمر الاصطناعي Biomass من مسح ما نسبته نحو 22% من غابات الأرض الشمالية في كندا وآلاسكا.

خلال مرحلة الـ 14 شهرًا الأولى من فترة البعثة الممتدة خمس سنوات، سيعمل جهاز الاستشعار باستخدام وضعية المسح السطحي Tomography mode. وكما يحصل في جهاز التصوير المقطعي CAT scanner imaging الذي يصور الجسم البشري في شرائح، فإن القمر الاصطناعي Biomass سيرسم صورة ثلاثية الأبعاد للغابة. ولأنه يستخدم نظام تصوير يعمل بالموجة الطويلة، بدلاً من نظام GEDI القائم على أخذ عينات متقطعة Discrete، فسيكوّن صورة مختلفة: خريطة متصلة للأجزاء الخشبية من بنية الغابة التي ستكون محجوبة بالظلة لولا ذلك. ويقول كويغان: “عند هذه الأطوال الموجية، تصير ظلة الغابة شفافة، ويمكننا رؤية الأرض مباشرة”. وبعد ذلك، ينتقل القمر الاصطناعي Biomass إلى استخدام طريقة قياس التداخل Interferometry ـــ استخلاص المعلومات من نماذج التداخل ـــ ويتفقد المواقع ذاتها كل سبعة أشهر. وسيتيح هذا للعلماء تقدير الكتلة الحيوية لظلة الغابة وارتفاعها على أساس بيانات متكررة لبناء فهم أفضل لموت الأشجار وعودة نموها.

وهناك أيضاً مشاريع أخرى في مرحلة الإعداد. تشمل هذه المشاريع بعثة القمر الاصطناعي نيسار NISAR (اختصارًا: القمر الاصطناعي NISAR)، أول قمر اصطناعي للتصوير بالرادار باستخدام أطوال موجية مزدوجة، الذي من المقرر إطلاقه في عام 2021. وهذه البعثة هي نتاج تعاون بين وكالة الفضاء الأمريكية ناسا (اختصارًا: الوكالة NASA) ومنظمة أبحاث الفضاء الهندية (اختصارًا: الوكالة ISRO)، وصُمم لمراقبة وقياس نطاق من العمليات الطبيعية بما في ذلك التسونامي والزلازل وانهيارات صفائح الجليد، واضطرابات النظام الإيكولوجي. والمعلومات من الأقمار الاصطناعية الحالية في المدار، إضافة إلى التي ستقدمها GEDI وBiomass وNISAR وغيرها ستجمع معاً لتعطي أول صورة كاملة لغابات العالم. ويقول جون آرمستون John Armston، من جامعة ميريلاند الذي يعمل على مشروع بعثة القمر الاصطناعي GEDI: “يبدو أنّ التعاون مكونٌ فريد لما يجري في بعثات الكتلة الحيوية”.

ما يعنيه كل هذا هو أنه في غضون عدة سنوات سيكون لدينا فكرة أفضل بكثير عن المكان الذي تذهب إليه تلك الكمية المفقودة من الكربون ـــ أو على الأقل سنعرف كم تمتص الأشجار منها. ستساعد الأقمار الاصطناعية الجديدة أيضاً على الكشف عن التبادل المتباين للكربون بين الأشجار والغلاف الجوي. وعلى سبيل المثال، في العام الماضي (2018)، أزالت الأعاصير التي ضربت جنوب وشرق الولايات المتحدة مساحات شاسعة من الغابات، فيما أحالت حرائق الغابات الكبيرة التي اجتاحت ولاية كاليفورنيا أعداداً لا تحصى من الأشجار إلى رماد، وأطلقت مخزونها الكربوني فعليًا بصورة دخان. ومن المرجح أن مثل هذه الأحداث القاسية ستغدو أكثر تكراراً مع ازدياد درجات الحرارة عالميا. وفي المستقبل، مع مجموعة من أجهزة الاستشعار عن بعد، سنكون قادرين على تقييم الضرر الذي أحدثته هذه الكوارث تقييما دقيقا. وسنحصل أيضاً على قياس أكثر دقة لحجم الغابات التي نخسرها بفعل قطع الأشجار، وذلك لأن الجيل الجديد من أجهزة التصوير سيكون قادراً على رصد تضاؤل مساحة الغابات إضافة إلى ما تستطيع أجهزة التصوير التقليدية التقاطه من عمليات الإزالة الكاملة لمساحات من الغابات.

كما أن أجهزة الاستشعار عن بعد أيضاً قادرة على المساعدة على حفظ الغابات وإعادة إحيائها. وقد تضمنت اتفاقية باريس المناخية Paris climate agreement لعام 2015 برنامج REDD+، الذي صُممَ لمساعدة البلدان الأفقر على حفظ سلامة غاباتها من خلال تقديم حوافز مالية لخفض انبعاثات الكربون  نتيجة عمليات إزالة الغابات وتدهورها. ويقول جونا بوش Jonah Bosch، كبير الاقتصاديين في المعهد الابتكاري للأرض Earth Innovation Institute: “من أجل أن يحقق البرنامج REDD+ أهدافه، من المهم جداً أن يكون الأفراد قادرين على مراقبة مقدار انبعاثات الكربون بدقة وموثوقية”. ولفعل هذا فهم بحاجة أولاً إلى معرفة محتوى غاباتهم من الكربون. في الوقت الحالي، يجري تقدير هذا من خلال استخدام صور الأقمار الاصطناعية وتقديرات الكتلة الحيوية بحسب المنطقة. وستقدم أجهزة الاستشعار الجديدة قياسات دقيقة، لتضع المشروع على أرضية أكثر تجريبية.

تُقطع نحو 15 بليون شجرة تقريباً في جميع أنحاء العالم في كل عام -وقد قُطعت أكثر من ثلاثة تريليونات شجرة منذ بدأت البشرية بالزراعة قبل نحو 10,000 سنة. والآن فإن التوسع الحضري قد يتيح فرصة كبيرة لعكس هذا الاتجاه السائد. وبالفعل، كشف بحث علمي نشر في شهر يوليو 2019 أن الأرض يمكنها دعم ما يكفي من الأشجار الإضافية لخفض مستويات الكربون في الجو بنسبة 25% ـــ مما يجعله أفضل حل متاح للتغير المناخي حتى الآن. وبالفعل تنفذ مشاريع تشجير كبيرة حالياً. فعلى سبيل المثال، زرعت الصين مساحة تعادل ربع حجم غابات الأمازون المطرية خلال العقدين الماضيين. ومع الموجة الجديدة من أجهزة الاستشعار عن بعد، سنكون قادرين على قياس مدى نجاح مشاريع مثل هذه، وتأثيرها على جهود التأكد من السيطرة الاحترار العالمي. وستكون هذه فعلاً قفزة ضخمة للبشرية.

التحول إلى الكربون الأزرق

يمكن لعملية إعادة تأهيل الأنظمة الإيكولوجية أن تكون سلاحاً حاسماً في جهودنا ومشاريعنا لتجنب كارثة مناخية. فبامتصاصها أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، تحبس النباتات غازات الدفيئة المسببة للاحترار العالمي. وتمثل عمليات زرع الغابات أعظم فرصة لنا لأن الأشجار تحفظ الكثير من الكربون، والعمليات التاريخية لإزالة الغابات تعني وجود مساحات كبيرة من الأراضي التي يمكن إعادة تأهيلها إلى نظام غابات. أما الموائل الساحلية فهي تقدم فرصة مماثلة ـــ ربما تكون مساحاتها المتاحة قليلة، لكن مردودها الكربوني أكبر.

تعتبر الأنظمة الإيكولوجية الساحلية، الغنية بأشجار القرم (المنغروف) Mangroves والأهوار ومروج الأعشاب البحرية، مستودعات لما يعرف بـاسم “الكربون الأزرق” Blue carbon. وبينما تحتفظ الغابات بمعظم كمية الكربون ضمن كتلتها الحيوية الخشبية، نجد النباتات الساحلية تسحب الكربون من الهواء وتنقله عبر جذورها عميقاً في التربة ــ لتدفنه هناك لفترات طويلة جداً، بافتراض دوام سلامة النظام. ونتيجة لذلك، يمكن للنباتات الساحلية امتصاص أضعاف كميات الكربون التي تمتصها الأشجار التي تغطي المساحة ذاتها. وعلى سبيل المثال، تحوي مروج الأعشاب البحرية ما بين 10 إلى 40 ضعفاً، تخزن نحو 95% منها بصورة رسوبيات. لكن المشكلة تكمن في تدهور هذه الأنظمة الإيكولوجية المائية. وغالبًا ما يجري إزالة أشجار القرم والأهوار لإفساح المكان لغرض تطوير المنشآت الساحلية، فيما تموت الأعشاب البحرية نتيجة لاستنفاد مستويات الأكسجين في المياه الساحلية بفعل التلوث. ويقدر أن نحو ثلث أنظمة تصريف الكربون الأزرق هذه اختفت فعلاً.

والآن، هناك جهود منسقة تُبذل لإعادة تأهيل الأنظمة الإيكولوجية الساحلية. وأحد أطول تلك المشاريع تنفيذاً هو مشروع خليج تشسابيك باي Chesapeake Bay  على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، حيث ازدادت مروج الأعشاب البحرية بنسبة 8% في عام 2018. ويحاول باحثون من جامعة جنوب الدنمارك University of South Denmark العمل على أفضل طريقة لزرع الأعشاب البحرية. وبخلاف الطحالب البحرية ـــ تتميز الأعشاب البحرية بكونها نباتات وعائية Vascular plants  ذات جذور وأزهار، لذا يمكن زراعتها من البذور أو كشتلات صغيرة. وقد اختبر الفريق أساليب زراعة متنوعة، ووجد أن زرع الشتلات الصغيرة كان أنجحها لأن تغيير طبيعة الشواطئ وتراكم الرسوبيات صعّبا من ثبات البذور فيها. ويرغب الفريق في رؤية أساليبهم تُعتمد على أوسع نطاق. ويشيرون إلى أن لدى الأعشاب البحرية قدرة على النمو في المياه الساحلية حول العالم كله، ما عدا القارة القطبية المتجمدة الجنوبية Antarctica.

وبذلك، يمكن لأنظمة تصريف الكربون الأزرق هذه أن تؤدي دوراً مهماً في جهود الحد من ظاهرة الاحترار العالمي ـــ فضلاً عن إضفاء مسحة من الجمال على سواحلنا.

© 2019, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى