أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الأحياء التطوريعلم الإنسان

أسلاف الإنسان تزاوجوا بغرباء

يعتقد أن هومو إريكتوس وغيره من الأنواع العتيقة جدا تزاوجت ببشر قدامى

بقلم:  آن جيبونز

ترجمة:  صفاء كنج

تحفل قصة التطور البشري بعلاقات رومانسية منذ القدم. إذ أظهرت جينات أخذت من أحافير أن أسلاف العديد من البشر الأحياء تزاوجوا ببشر آخرين من النياندرتال Neanderthals والدينيسوفان Denisovans، والأخيرة مجموعة غامضة من البشر المنقرضين الذين عاشوا في آسيا. و حالياً تشير مجموعة من الأوراق البحثية إلى أن أسلاف المجموعات الثلاث اختلطوا مرتين على الأقل بسلالات أقدم منهم وغامضة يُطلَق عليها “الشبح” Ghost وهم هومينين (أشباه البشر)  Hominins منقرضون. وأحد الأزواج المحتملين هو هومو إيركتوس (الإنسان المنتصب) Homo erectus، وهو من البشر الأوائل الذي غادر إفريقيا قبل 1.8 مليون سنة وانتشر في جميع أنحاء العالم، ويعتقد أنه تزاوج بموجات لاحقة من أسلاف الإنسان.

وتعتمد الدراسات الجينومية الجديدة على نماذج معقدة من التوارث والاختلاط بين المجموعات البشرية السالفة، ويشوبها العديد من أوجه عدم اليقين، ليس أقلها معرفة الهويات الدقيقة للغرباء من أزواج أسلافنا والمكان والزمان الذي حدثت فيه هذه اللقاءات. ولكن كل هذه الدراسات مجتمعة تؤسس لفرضية قوية مفادها أنه حتى قبل أن يغادر الإنسان الحديث إفريقيا، لم يكن من غير المألوف أن يلتقي أسلاف البشر المختلفون وأن يتزاوجوا. ويقول موراي كوكسMurray Cox ، اختصاصي علم الأحياء الحاسوبي من جامعة ماسي Massey University بنيوزيلندا في توريتيا، الذي لم يشارك في الدراسات الجديدة: “من الواضح الآن أن التهجين بين مجموعات مختلفة من البشر يعود إلى الماضي البعيد”.

ويعتمد الكشف عن التزاوج بالبشر القدماء على سلسلة الحمض النووي DNA القديم المستخرج من أحافير المجموعة القديمة، ثم البحث عن آثار له في الجينومات الحديثة. فقد فعل الباحثون ذلك بالضبط باستخدام جينومات إنسان نياندرتال ودينيسوفان يصل عمرها إلى 200 ألف عام من أوراسيا. لكن لم يستطع أحد استخراج جينومات كاملة من أسلاف البشر الأقدمين. لذلك طور علماء مختصون بالوراثيات السكانية Population genetics أدوات إحصائية للعثور على الحمض النووي القديم الموجود بشكل غير اعتيادي في جينومات أشخاص أحياء. بعد ما يقرب من عقد من المشاهدات المحيِرة ولكن غير المثبتة، يبدو أن العديد من فرق البحث تتلاقى حالياً للتكهن بوجود حلقتين متميزتين على الأقل من التزاوج بين الأقدمين.

وفي مجلة ساينس أدفانسز Science Advances في الأسبوع الثالث من فبراير 2020، تعرَّف اختصاصي علم الوراثيات السكانية من جامعة يوتا University of Utah، في سالت لايك سيتي، آلان روجرز Alan Rogers وفريقه على اختلافات في مواقع التطابق بجينومات مجموعات بشرية مختلفة، بمن فيهم أوروبيون وآسيويون ومجموعات نياندرتال ودينيسوفان. واختبر الفريق ثمانية سيناريوهات حول الكيفية التي تتوزع بها الجينات قبل وبعد الاختلاط بمجموعة أخرى، لمعرفة أي سيناريو يحاكي الأنماط المرصودة على أفضل وجه. وخلصوا إلى أن أسلاف إنسان نياندرتال ودينيسوفان – الذين يسمونهم النياندرسوفان Neandersovans – تزاوجوا بمجموعة سكانية “موغلة في القدم” انفصلت عن سائر البشر قبل نحو مليوني سنة. من المحتمل أن يشمل المرشحون أعضاء أقدمين من جنسنا، مثل هومو إيركتوس أو أحد معاصريه. ويُحتمل أن الاختلاط حدث خارج إفريقيا؛ لأن هذا هو المكان الذي ظهر فيه كل من النياندرتال والدينيسوفان، ومن الممكن أنه حدث قبل 600 ألف عام على الأقل.

يقول روجرز: “أعتقد أن المجموعات العتيقة جدا Super-archaics  كانت ضمن الموجة الأولى من  الهومينيدات Hominids التي غادرت إفريقيا. … لقد مكثوا في أوراسيا معزولين إلى حد كبير عن الأفارقة، حتى قبل 700 ألف عام عندما غادر النياندرسوفان إفريقيا وتزاوجوا بهم”.

ويقول روجرز إن هذه المرحلة التي حدثت في وقت أبكر بكثير من لقاءات البشر المعاصرين مع النياندرتال والدينيسوفان، هي “أقدم مرحلة تزاوج معروفة بين البشر القدامى والتوسع خارج إفريقيا”. ويقول كوكس إن دراسات أخرى ألمحت إلى مثل هذا الاختلاط بين القدماء، لكن تحليل روجرز “على درجة كبيرة من الإقناع”.

بينما يقول آخرون إن طرح روجرز الجريء يحتاج إلى اختبار. ويتمثل أحد التحديات  بالتوفيق بينه وبين النتائج الجديدة التي توصل إليها باحثون آخرون وتظهر أن أسلاف الإنسان المعاصر اختلطوا بمجموعات عتيقة جدا في إفريقيا في فترة أحدث. وفي الأسبوع الثاني من فبراير على سبيل المثال، تعرَّف اختصاصي علم الوراثيات السكانية سريرام سانكارارامان Sriram Sankararaman  وطالبه آرون دورفاسولا Arun Durvasula من جامعة كاليفورنيا University of California بلوس أنجلوس على علامات على حلقة تزاوج منفصلة أحدث. فقدحلل الباحثون جينومات 405 أشخاص من أربع مجموعات سكانية فرعية في غرب إفريقيا تضمنها مشروع الألف جينوم 1000 Genomes Project، وهو مُسرد للجينومات من جميع أنحاء العالم. فقد وجدوا العديد من التنويعات الجينية Gene variants التي لم تظهر لدى النياندرتال أو الدينسوفان وخلصوا إلى أن أفضل تفسير لذلك هو أن التنويعات جاءت من إنسان عتيق منقرض.

قد يكون هذا النوع Species  الغامض الذي يسميه العلماء “الشبح” من الهومو إيركتوس أو هومو هايدلبرغينسيس H. heidelbergensis الذي ظهر في وقت متأخر، أو قريب من أقربائهما. وتقترح الجينومات الحديثة أن واحداً أو أكثر من الأعضاء الذين ظلوا على قيد الحياة لفترة متأخرة من هذه المجموعة القديمة التقوا وتزاوجوا بأسلاف الأفارقة الأحياء في وقت ما خلال الـ124 ألف سنة الماضية.

وفي يناير الماضي سجلت ورقة بحثية أخرى التعرف على الحمض النووي DNA لنياندرتال في جينوم أفارقة أحياء، وذلك على الأرجح من خلال هجرة الأوروبيين الأوائل إلى إفريقيا حاملين معهم حمض نياندرتال النووي DNA (Science, 31 January, p. 497). ويعتقد سانكارارامان أن بعض الحمض النووي القديم الذي اكتشفه لدى الأفارقة قد يكون من إنسان نياندرتال، لكن معظمه عائد لإلى أنواع شبح عتيقة. يقول: “أعتقد أن الصورة الحقيقية هي مزيج من كل من مجموعة من القدامى الذين لا صلة لهم بإنسان نياندرتال وكذلك من أسلاف على صلة بإنسان نياندرتال”.

وفي ديسمبر 2019 وجدت دراسة أخرى تلميحات إلى مجموعة “الشبح” المنقرضة في جينوم أفارقة أحياء، على الرغم من أنها لم تذكر شيئاً حول هوية “الأشباح” ومتى اختلطوا بأسلافنا. وحلل اختصاصي علم الوراثيات السكانية جيف وال Jeff Wall من جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو وزملاؤه 1667 جينوماً من مجموعة متنوعة من الأفراد في كونسورتيوم GenomeAsia 100K. وأبلغوا عن أقوى إشارة إلى فصيلة “الشبح” لدى شعب خوازان Khoisan ولدى الجامعين الصيادين بوسط إفريقيا الذين عرفوا سابقاً بالأقزام Pygmies. لكن وال وآخرون يحذرون من أن منهجيتهم لا يمكن أن تستبعد أن “الأشباح” يمكن أن يكونوا مجموعة أو عدة مجموعات من البشر المعاصرين لبعضهم في إفريقيا والتي انفصلت عن غيرها من المجموعات المعاصرة لها لفترة طويلة حتى بدت جيناتهم “قديمة” عندما التقت المجموعات في النهاية واختلطت ببعضها بعضا. ويقول جوشوا آكي Joshua Akey من جامعة برينستون Princeton University: “إن فهمنا لتاريخ السكان في إفريقيا على وجه الخصوص، متخلف كثيراً”.

وحتى إن اختلفت الدراسات حول التفاصيل، فإنها تؤكد أنه بعد فترة طويلة من ظهور سلالات جديدة من البشر، ظل بإمكانهم الاختلاط بالآخرين المختلفين تمامًا عنهم. فقد أظهرت الأنواع الأخرى، مثل دببة الكهوف والماموثات النمط نفسه من التطور المتباعد Divergence والاختلاط فيما بعد، كما يقول اختصاصي علم الوراثيات السكانية بونتوس سكوغلاند Pontus Skoglund من معهد فرانسيس كريك Francis Crick Institute في لندن: “نحن نتخلى عن فكرة أن الفصل بين المجموعات بسيط ويؤدي إلى العزلة الفورية”. وقد يؤدي هذا التزاوج بين مجموعات ظلت معزولة لفترة طويلة إلى إدخال جينات جديدة قيِّمة (Science, 18 November 2016, p. 818). فعلى سبيل المثال، بعض الأليلات Alleles القديمة التي وجدها سانكارارامان في الأفارقة كانت لجينات تثبط الأورام وتنظم عمل الهرمونات.

وليس لدى هومو سابينيس H. sapiens اليوم إمكانية الاستحواذ بسرعة على شحنة من التنوع عن طريق التزاوج بمجموعة أخرى: ربما لأول مرة في تاريخنا، نجد أننا البشر الوحيدون على هذا الكوكب. وتقول كارينا شلبوش Carina Schlebusch من جامعة أوبسالا Uppsala University، إنه سبب آخر يجعلنا نشتاق إلى أبناء عمومتنا المنقرضين. وتوضح: “إن وجود مثل هذا النوع الكبير الكثيف الانتشار مع … القليل من التنوع الجيني … هو وضع خطير”.

© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى