أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلك وعلم الكونيات

جبهة جديدة في معركة بناء تلسكوب عملاق في هاواي

يحاول معارضو التلسكوب TMT كسب تأييد فلكيين آخرين في مسح العَقد لتحديد الأولويات الفلكية

بقلم: دانييل كليري في هونولولو وعلى سفوح مونا كيا في هاواي

ترجمة: صفاء كنج

على الطريق المبلل بالمطر المؤدي إلى قمة مونا كيا Mauna Kea في جزيرة بيغ آيلاند بهاواي، يمكن سماع أصوات الغناء وقرع الطبول على الرغم من شدة صفير الريح. وتحت غطاء من الأشجار يحتفل العشرات بصلتهم بالجبل ثلاث مرات في اليوم منشدين أغانيهم الأصلية وترنيماتهم وهم يرقصون، مواصلين ما بدأوه قبل سبعة أشهر. فالعديد من الخيام المنتشرة في حقل من الحمم البركانية غير مشغول خلال الهدأة الشتوية هذه، لكن السكان الحاليين يهتمون جيدًا بالموقع الذي تتوفر فيه خيام للطعام والرعاية الطبية وأخرى تنظم فيها فصول دراسية. ويبدو أنهم سعداء بالبقاء قدر ما يتطلب الأمر إلى أن يتخلى علماء الفلك عن مشروع بناء تلسكوب عملاق على قمة الجبل الذي يقدسونه.

مثل جيوش القرون الوسطى التي كانت تدعو إلى وقف الحرب في فصل الشتاء، وافق الطرفان المتنافسان على أحقية مونا كيا (في ديسمبر 2019) على هدنة مدتها شهران: لن يحاول التحالف الذي يريد بناء التلسكوب ذي  الثلاثين متراً Thirty Meter Telescope  (اختصاراً: التلسكوب TMT) في هذا المكان البدء بأعمال البناء، فيما نقل سكان المخيم – الذين يعدون أنفسهم حماة الجبل أو كياي Kia’i باللهجة المحلية – خيامهم من الطريق، لإتاحة الطريق دون عوائق للوصول إلى أعلى الجبل وأسفله. ويقول غريغوري تشان Gregory Chun، المحاضر في علم النفس في جامعة هاواي University of Hawaii ، في هيلو، “إن تنفيس الاحتقان أمر جيد … لا أعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك”. ويقدم تشان المشورة إلى إدارة الجامعة حول التعامل مع قضية مونا كيا.

وراء الكواليس يجتمع أعضاء مجلس الإدارة وممولي بناء التلسكوب TMT مع قادة سكان هاواي الأصليين – وبعضهم يدعم المشروع – لكن هذا لم يثمر بعد عن أي حلول. وقلة هم من يمكنهم أن يتنبؤوا بما قد يحدث عندما تنتهي الهدنة في أواخر فبراير (2020)، لكن ما من أحد لديه شك في أن الكياي سيعودون بأعداد كبيرة إذا حاول الكونسورتيوم المشارك في المشروع البدء  ببناء التلسكوب، كما يقول أحد قدماء الكياي ويعرف باسم العم سباركي Uncle Sparky. ويقول العم سباركي: “إذا أطلقنا نداء، سيحضر ألف شخص إلى هنا في غضون ساعة”.

 “إذا أطلقنا نداء؛ فسيحضر ألف شخص إلى هنا في غضون ساعة”

والآن، يواجه مشروع التلسكوب TMT الذي تقدر تكلفته بنحو 1.4 بليون دولار، وتدعمه ست دول وجامعات ثرية، جبهة أخرى في معركته ليكون واحدًا من ثلاثة تلسكوبات عملاقة جديدة – والوحيد في نصف الكرة الشمالي. ويسعى معارضو بناء التلسكوب – بما في ذلك بعض علماء الفلك – إلى كسب تأييد مجتمع الفلكيين الأوسع لوقف المشروع.

وخلال مؤتمر صحافي خارج قاعة الاجتماع السنوي للجمعية الفلكية الأمريكية American Astronomical Society (اختصاراً: الجمعية AAS) في هونولولو بالنصف الأول من يناير 2020، أعلنت مجموعة من الباحثين من هاواي تقديم ثماني ورقات بيضاء White papers لمسح العقد في علم الفلكDecadal survey in astronomy  ، المعروف بأسترو2020 (Astro2020)، وهو مسح يستخدم لتحديد الأولويات ويؤثر في هيئات التمويل الأمريكية. ويريد الباحثون من أسترو2020 ضمان عدم استخدام أموال فيدرالية للبناء على أراضي الدولة دون موافقة السكان الأصليين المحليين. والمال الفيدرالي هو ما يحتاج إليه التلسكوب TMT. وفي بادرة مشتركة مرفوعة لأسترو2020، فإن مشروع التلسكوب TMT مع أحد منافسيه وهو تلسكوب ماجلان العملاق Giant Magellan Telescope  بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في تشيلي، طلب أموالاً من شأنها أن تملأ ثغرات في الميزانية وتمنح علماء الفلك الأمريكيين وقتاً للرصد والملاحظة.

وتفصّل الأوراق البيضاء الأهمية الثقافية لمونا كيا والأثر السلبي للمراصد الفلكية في السكان الأصليين وقدرتهم على ممارسة الشعائر الثقافية على الجبل. وتتحدث إحداها عن عقود من المقاومة – عبر القضاء وعبر الحراك المباشر – لبناء تلسكوبات على مونا كيا. فقد سيطرت السلطات على الجبل وغيره من الأراضي في جميع أنحاء جزر هاواي التي كانت ذات يوم بيد حكام هاواي بعد الإطاحة بهم في عام 1893 لتصير أرضًا حكومية عندما مُنحت هاواي وضع ولاية أمريكية في عام 1959. وتقول شيللي مونيوكا Shelley Muneoka، خبيرة علم الاجتماع في تحالف هاواي البيئي Hawaiian-Environmental Alliance والمشاركة في كتابة العريضة “إنها مسألة تتعلق بحقوق ملكية الأراضي وبالسلطة واتخاذ القرارات”.

وفي يوليو 2019، بعد التغلب على التحديات القانونية، كان مسؤولو مشروع التلسكوب TMT جاهزين أخيراً للبدء بالبناء. وعندما وصلت الشرطة بهدف تأمين مرور شاحنات البناء الثقيلة ، كان الكياي قد قيدوا بالفعل أنفسهم بحاجز للماشية على الطريق المؤدي إلى قمة الجبل. وخلال الفوضى التي شهدتها الأيام القليلة اللاحقة، ألقت الشرطة القبض على 38 شخصًا، عدد كبير منهم من كبار السن في المجتمع، ممن يعرفون بكوبونا Kupuna – مما زاد من حدة المعارضة على سفح الجبل وجذب اهتمامًا أكبر، بما في ذلك من ممثلين ومشاهير انضموا إلى الاحتجاجات. وتقول روزى أليغادو Rosie Alegado، خبيرة علم المحيطات من جامعة هاواي في مانوا المعارضة لبناء التلسكوب: “إن إلقاء القبض على كبار السن غيّر بالفعل رأي الناس”.

ويقول مسؤولو المشروع إنهم لا يمكنهم القبول باستخدام القوة لبناء التلسكوب. ويقول علماء الفلك الكنديون إن كندا، أحد شركاء التلسكوب TMT، قلقة بوجه خاص بسبب تاريخها المتقلب مع السكان الأصليين. سوف يستغرق البناء أكثر من عقد من الزمن ويتطلب أكثر من ألفي رحلة بالشاحنات إلى أعلى الجبل. وإذا استمر المحتجون بتحركهم بالزخم نفسه، فلن يكون هناك مفرٌ من وقوع حادث.

ووجد 3,500 من علماء الفلك الذين حضروا اجتماع الجمعية AAS في يناير أنفسهم في موقف حرج بين رغبتهم في توفير الأفضل لعلم الفلك وحساسيتهم تجاه مشاعر المعارضة القوية لدى سكان الجزر إزاء البناء على قمم جبالها. وعلى حد تعبير أحد مندوبي الجمعية AAS ؛ فإن التلسكوب TMT هو: “المشكلة الكبيرة التي لا يريد أحد في القاعة مواجهتها”.

لم ير المندوبون إلى المؤتمر الآلاف من المتظاهرين المحتجين على بناء التلسكوب، مثل الحشد الذي استقبل الاتحاد الفلكي الدولي International Astronomical Union  عندما وصل إلى المكان نفسه في عام 2015. وبدلاً من ذلك، دعي عدد من الكياي للانضمام إلى المناقشات والتحدث في بعض الجلسات. وقال الزعيم نوي نوي ونغ-ولسون Noe Noe Wong-Wilson  خلال جلسة أسترو 2020 حول التنوع: “إن بناء التلسكوب على جبل مونا له وقع شديد يصيبنا في صميمنا. … نطلب إلى المشروع TMT عدم بناء التلسكوب. الأمر لا يتعلق بالعلم. بالنسبة إلينا هذا الجبل مقدس”.

كما سمع المندوبون أصوات بعض سكان هاواي الأصليين ونشطاء من غير الفلكيين من مؤيدي مشروع التلسكوب TMT. إذ يتعلق الأمر بالنسبة إليهم باستحداث وظائف فنية ذات أجور جيدة في ولاية تكاليف المعيشة فيها مرتفعة والفرص المتاحة ضئيلة. فالسياحة التي تعد مصدراً رئيسياً للوظائف، تعرضت لضربة في السنوات الأخيرة بسبب ارتفاع تكاليف الوقود والأزمات المالية والانفجارات البركانية. وتقول ماليا مارتن Malia Martin، مؤسسة جمعية  imua TMT (imua تعني إلى الأمام)، “سيكون العِلمُ دائمًا مستقرًا”. وهي ترى أن بناء تلسكوب على مونا كيا “فرصة للسكان الأصليين لقيادة قطاع عالمي”. وتقول عضوة الجمعية أمبر إيماي-هونغ Amber Imai-Hong ، مهندسة فضاء في مختبر الطيران الفضائي Hawaii Space Flight Laboratory في جامعة هاواي، إن المعارضين: “عبروا عن احتجاجهم وخسروا، وعليهم أن يتقبلوا ذلك “.

ولا يزال العديد من علماء الفلك يرغبون بشدة في بناء التلسكوبTMT، ويتصدون للمعلومات المضللة التي ينشرها بعض المعارضين على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك الادعاءات بأنه سيلوث المياه الجوفية في الجزيرة وسيعمل بالطاقة النووية وأنه سلاح يعمل بالليزر صممته الصين. ولكن الكثيرين يرفضون التعليق علانية. كما أحجم مسؤولو مشروع التلسكوب TMT عن الإكثار من التعليقات خلال الاجتماع، ولم يتحدثوا علناً إلى الصحافيين وعندما فعلوا، عقدوا لقاءات غير علنية وقالوا إن تصريحاتهم ليست للنشر.

ويشعر روبرت ماكلارين Robert McLaren، مدير معهد علم الفلك Institute for Astronomy في جامعة هاواي، بالقلق من أن معارضة النشاط الفلكي قد تهدد نحو عشرة مراصد كبيرة أخرى موجودة بالفعل على مونا كيا. تدير الجامعة قمة الجبل بموجب عقد إيجار مع الدولة يجب تجديده قبل نهاية عام 2033. ويعمل المعهد على تطبيقه منذ خمس سنوات، ويجري مسحا للأثر البيئي ومراجعة خططه الإدارية، كما يقول مكلارين. وهو لم يشعر بعد بأن المعارضين يستهدفون تجديد عقد الإيجار، لكنه يقول إنه بالنسبة إلى البعض على الأقل، “فإن هدفهم النهائي هو عدم الإبقاء على أي شيء هناك”.

أما الجانب الآخر المقلق؛ فيتعلق بالتمويل. لا تدفع المراصد سوى دولار واحد في السنة مقابل إيجارها من الباطن، لكنها تتقاسم التكاليف اليومية مثل صيانة الطرق وإزالة الثلوج وتشغيل مركز الزوار. ومع ذلك، تجود جامعة أوهايو بمليوني دولار في السنة – وهو عبء غير مستدام، كما يقول ماكلارين. وتتوقع المراصد أن تدفع إيجاراً أعلى بعد عام 2033، لكن إنشاء التلسكوب TMT قد يُجهد مواردها المالية. ولإرضاء المعارضين، فقد دعا حاكم الولاية ديفيد آيج  David Ige في عام 2015 جامعة هاواي إلى وقف التلسكوبات الأقدم والأقل إنتاجية عن العمل. والجامعة حالياً بصدد تحديد خمسة منها لإغلاقها، وهذا يعني تخفيف عبء مشاركتها في تشغيل الموقع. ويسأل ماكلارين: “كم عدد الذين سيحضرون حفلة دفع الفواتير؟”.

أما بالنسبة إلى التسلكوب TMT نفسه؛ فما عليه سوى الانتظار. ويتعين على الجهات الممولة للمشروع وهي معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology وجامعة كاليفورنيا University of California واليابان والصين والهند وكندا، أن تقرر المدة التي يمكنها الانتظار قبل النظر في موقع لا بالما كبديل في جزر الكناري الإسبانية. بالنسبة إلى علم الفلك، الموقع أقل ملاءمة، لكنه لا يحمل تبعات سياسية. وكل شهر يمر تزداد التكاليف. إذ تنتظر الألواح الزجاجية التي تمثل أكثر من 60% من مرايا التلسكوب البالغ عددها 574 مرآة بعرض 1.4 متر في المستودعات. فقد بدأ صقل المرايا في الولايات المتحدة واليابان وسيبدأ قريبًا في الهند والصين. وصارت التصاميم الخاصة بهيكل التلسكوب ومنشأته جاهزة، لكنه طُلب إلى المقاولين الانتظار.

يقول جون إيفانز John Evans، وهو من الكياي في مخيم مونا كيا، إنه سعيد بأن يستمر بالانتظار. فقد تعلم الرجل النحيل البالغ من العمر 68 عامًا وله لحية بيضاء مؤخرًا رقص سكان هاواي، ويريد مواصلة الرقص. ويقول عن مشروع التلسكوب: “أتمنى لهم التوفيق. … ولكن في مكان آخر”.

© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى