أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم الطبيعية

مجهر ألماسي يكشف أسرارَ مغناطيسية للصخور القديمة

بدقة رائعة يكشف مستشعر الكم عن أدلة حول تكتونية الصفائح وتكوين الكوكب وتغير المناخ

بقلم:   بول فوسن

ترجمة:  صفاء كنج

على منضدة داخل المختبر المحمي مغناطيسياً، حيث يعمل روجر فوRoger Fu، وهواختصاصي بعلم الكواكب من جامعة هارفارد Harvard University، يوجد جهاز متواضع يمكنه نبش قصص الماضي الجيولوجي السحيق. ويتكون مجهر الألماس الكمي Quantum diamond microscope (اختصاراً: المجهر QDM) من عدد من الملفات الكهرومغناطيسية Electromagnetic coils الملفوفة حول كاميرا وليزر صغير وما يشبه شريحة اختبار وردية اللون. ولكن الشريحة ليست من الزجاج وإنما من الألماس المعالج بعيوب Defects حساسة للمجالات المغناطيسية الصغيرة. وباستخدام هذا المجس الماسي يمكن للمجهر رسم خريطة للمجالات المطبوعة Imprinted في الحبوب الصخرية بمقاييس أصغر من عرض شعرة الإنسان، مما يسمح للجيولوجيين باستخراج تاريخها الذي تغفله التقنيات الأقل حساسية.

ويستخدم مختبر فو المجهر لفحص النيازك للحصول على أدلة حول الأيام الأولى لتكوين المجموعة الشمسية؛ وتاريخ هطول الأمطار قبل آلاف السنين من هوابط الكهوف. وكما هو موضح في مقال نشرته خلال الأسبوع الرابع من أبريل مجلة ساينس أدفانسز Science Advances، اكتشاف بعض أقدم حركات صفائح الأرض التكتونية في الحمم القديمة. يقول فو: “إنه مبدأ جديد تماماً في علوم الأرض”.

واليوم يحظى هذا بمزيد من الاهتمام. إذ موَّلت مؤسسةُ العلوم الوطنية National Science Foundation الأمريكية فريقَ فو لتصميم مجاهر في جامعة كاليفورنيا University of California، في بيركلي، وجامعة مينيسوتا University of Minnesota، بينما مولت وكالة ناسا NASA بناء مجهر ثالث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology. وهو يصمم مجهراً آخر لمختبر هولندي. ويقول رونالد والزورث Ronald Walsworth، الفيزيائي في جامعة ميريلاند University of Maryland، في كوليدج بارك، الذي كان رائد تكنولوجيا الألماس قبل نحو 15 عاماً: “روجر هو بمثابة الرائد جوني أبلسيد في مجال المجهر QDM “. [جوني أبلسيد Johnny Appleseed  شخصية فولكلورية أدت دوراً ريادياً في غرس أشجار التفاح على مساحات شاسعة في أمريكا].

يعتمد الميكروسكوب على عيوب صغيرة في الألماس تُستحدث عندما تطرح Knocks ذرة نيتروجين ذرتي كربون من الشبكة البلورية؛ يمكن أن نجد الشوائب في الطبيعة، ويمكن أيضاً إحداثها. وتكون النتيجة إحداث فراغ بجوار النيتروجين الذي يحجز الإلكترونات ذات الحالات الكمية Quantum states الحساسة: يمكن لضوء الليزر والأشعة الميكروية Microwaves والمجالات المغناطيسية Magnetic fields أن تعالج مستويات طاقتها وحالات دورانها. فالعيوب الماسية هي تقنية واعدة لاستضافة الكيوبتات Qubits وهي العناصر المنطقية Logical elements في الحواسيب الكمية. ولكن لإجراء تجارب في الفيزياء الأساسية، فقد  تكون حساسيتها المغناطيسية الحادة مزعجة، كما يقول والزورث. ويضيف قائلا: “من ثم بدأنا نفكر، ’إذا كانت حساسة جداً فربما هي ميزة فيها وليست عيباً؟’”. اتصل والزورث أخيراً بفو الذي كان حريصاً على استغلال تلك الميزة.

حلّلت التجربة الأولى بلورات الزركون Zircon التي يزيد عمرها على أربعة بلايين سنة في مرتفعات جاك هيلز في غرب أستراليا. إذ كانت القياسات المغناطيسية القديمة Paleomagnetic measurements باستخدام أجهزة استشعار فائقة التوصيل قد وجدت مجالات ضعيفة محفوظة في الزركون، وهو دليل على أن الأرض كان لديها مجال مغناطيسي أبكر بنصف بليون سنة مما كان متوقعا. ولكن أجهزة الاستشعار فائقة التوصيل يمكن أن تقيس فقط متوسط المجال Average field عبر الزركون، وهي بمثل صِغر ذرات الغبار. ولفحص عينات جاك هيلز على مستوى أدق، وضعها فو على الشريحة الماسية وأضاء الشريحة بالليزر الأخضر. واستجابت نقاط العيوب أو مراكز الشواغر النيتروجينية المحضَّرة بفضل اللفات الكهرومغناطيسية، عن طريق انبعاث ضوء أحمر اعتمد مدى سطوعه على مغناطيسية العينة.

أظهرت الدقة المكانية Spatial resolution التفصيلية  للمجهر QDM أن المجالات لم تأت من الداخل من البلورات، ولكن من حواف الحديد التي يُفترض أنها تشكلت بعد فترة متأخرة جداً في تاريخها. يقول فو إن المجالات “لم تولد مع الزركون”، مثيراً الجدل حول مزاعم بأن المجال عمره أربعة بلايين سنة.

حالياً، طبَّق فو وزملاؤه هذه التقنية على الصخور المعروفة باسم هني إيتر البازلت Honeyeater Basalt من غرب أستراليا وعمرها 3.2 بليون سنة. باستخدام أجهزة الاستشعار فائقة التوصيل التقليدية التي ما زالت تتفوق على المجهر QDM  في درجة حساسيتها بصورة عامة، قاسوا شدة المجال المغناطيسي واتجاهاته الملتقطة في 235 عينة من الصخور. لكنهم لم يتمكنوا من التأكد من أن هذه المجالات كانت موجودة فيها منذ البداية: على امتداد عمرها، تغيرت صخور هاني إيتر البازلتية ودفنت تحت قاع البحر، حيث كان من الممكن أن تسمح المياه والضغوط الهائلة لمصادر مغناطيسية لاحقة بتلويثها. وكان يتعين على المجهر QDM أن يستنتج ما إذا كان مجالها المغناطيسي أصيلاً أم لاحقا.

ويقول أليك برينر Alec Brenner، المؤلف الرئيسي للدراسة المنشورة في مجلة ساينس أدفانسز وطالب الدكتوراه الذي يعمل مع فو إن الخريطة المغناطيسية الدقيقة التي أنتجها الجهاز بينت أن المجالات لم تأت من الحبوب المعدنية، ولكن من هالات محيطة بها تكونت تحت الماء على الفور تقريباً بعد أن تدفقت الحمم البركانية من شقوق في قاع البحر. ويضيف قائلًا: “هذا يعني نظرياً أنها لم تتشكل مع الصخور”. ولكن لأغراض عملية، يمكن أن نعتبر أن الهالات كانت قديمة مثلها؛ ويمكن للفريق أن يقول بثقة إن المجالات عمرها 3.2 بليون سنة.

وتنحدر خطوط مجال الأرض المغناطيسي في الأرض بزوايا تتزايد قياساتها من خط الاستواء إلى القطبين. لذا، فإن اتجاهات المجالات المحفوظة في عينات بازلت هاني إيتر تكشف عن خط العرض الذي تشكل البازلت عنده. وفي العقد الماضي حلل فريق آخر من الجيولوجيين المغناطيسية القديمة في صخور عمرها 3.35 بليون عام لإظهار أنها تشكلت عند “خط عرض قديم” مختلف. ومن الاختلاف في خطوط العرض، حسب فريق فو أن قشرة الأرض تحركت، على الأقل، نحو 2 سم في السنة خلال هذه الفترة الممتدة على 150 مليون سنة. يقول برينر: “هذا مشابه تقريبا لحركة الصفيحة الحديثة”.

يقول جون كوريناغا Jun Korenaga، اختصاصي علم الجيوفيزياء من جامعة ييل Yale University إن النتيجة “هي في حد ذاتها إنجاز كبير”، ويقترح أن دراسات الصخور الأقدم يمكن أن تبيِّن متى بدأت حركة الصفائح التكتونية. والحجج ذات المصداقية التي تستند إلى مدى سرعة تبريد الأرض الفتية حددت البداية بين نحو 4.5 بليون سنة، بعد فترة وجيزة من تكوين الأرض، وثلاثةبلايين سنة مضت. يقول كوريناغا: “إذا استطاعوا متابعة هذا الاتجاه والتعمق أكثر في الماضي، سيكون ذلك مهماً”.

يقول فو إن النيازك، وهي مثل كبسولات زمنية وصلتنا من عهد المجموعة الشمسية المبكرة، هي موضوع طبيعي آخر يمكن فحصه بفضل المجهر QDM . وفي دراسة جديدة حظيت بالموافقة على نشرها في مجلة الأبحاث الجيوفيزيائية جورنال أوف جيوفيزيكال ريسرتش:بلانيتس Journal of Geophysical Research: Planets: استخدم فو المجهر لفحص الحواف الكبريتية لقطرة بلورية متشكلة من ذوبان بدائي داخل نيزك من المحتمل أنه تشكل في مكان أبعد من المشتري. والحواف التي لا يتجاوز عرضها 100 ميكرومتر هي صغيرة جداً، بحيث لا يمكن للتقنيات القديمة عزلها وقياسها، لكن المجهر الماسي الكمي كشف عن مغناطيسية قديمة ضعيفة فيها. وبالاقتران مع المقاييس السابقة لمجال أقوى في نيزك تشكل في مكان أقرب إلى الشمس، تشير النتائج إلى أنه قبل 4.6 بليون عام، ربما كان لقرص المواد الذي تشكلت منه الكواكب مجال مغناطيسي غير مكتمل. يقول فو إن ذلك يشير إلى أن المغناطيسية، وليس فقط ديناميكيات الجاذبية، ربما اضطلعت بدور في انصهار الكواكب خارج القرص.

وعلى الأرض درج العلماء منذ فترة طويلة على استخدام تكوينات الكهوف لقياس هطول الأمطار استناداً إلى نسب نظائر الأكسجين المتبقية في الهوابط Stalactites والصواعد Stalagmites المتشكلة بفعل تسرب المياه. ولكن قد  تكون نسب النظائر مؤشراً غير موثوق بها. فمن المعروف أيضاً أن الماء يودع حبيبات مغناطيسية مجهرية تُلتقط من التربة والصخور بكميات تختلف مع هطول الأمطار. في عينات جُمعت من الغابات المطيرة البرازيلية، وجد فريق فو، كما يقول، أن المجهر QDM   يبدو قادراً على قياس وفرة الحبيبات هذه بمرور الوقت كبديل لهطول الأمطار. ويقول جوشوا فاينبرغ Joshua Feinberg، اختصاصي علم الجيولوجيا من جامعة مينيسوتا، في توين سيتيز، إن ذلك من شأنه “توفير مصدر جديد تماماً للبيانات حول التغيرات البيئية السابقة”.

وعلى الرغم من أنه انتقل إلى عدد قليل من المختبرات حتى الآن، إلا أن المجهر QDM  قد يكون  أداة شائعة الاستخدام لحل أي مزاعم مثيرة للجدل حول مغناطيسات العصر القديم، كما تقول كلير نيكولز Claire Nichols، الجيولوجية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT. كتبت نيكولز عن العثور على مجالات مغناطيسية في صخور عمرها 3.7 بليون عام من غرينلاند، الأمر الذي يمثل علامة أخرى على ديناميكية مغناطيسية مبكرة على الأرض. وستعزز خريطة المجهر QDM هذا الطرح. وتقول إن المجهر QDM”سيصبح حالياً المعيار الأساسي الذي يستخدمه الجميع”.

© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى